تفسير سفر إشعياء ٤٦ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السادس والأربعون
الله حَامل أثقالنا
الله الذي سمح لشعبه بالسبي البابلي يرفعه خلال كورش، معلنًا رعايته لأولاده حاملاً أثقالهم وأتعابهم. لا يوجد أثقل من حياتنا بخطاياها وذاتيتها، لكنه هو يحملها عنا خلال عمله الخلاصي بالصليب.
في مقارنة تصويرية رائعة يكشف النبي عن الفارق بين الحياة في المسيح والحياة خارجها؛ في المسيح نصير محمولين به كما بأجنحة الروح، خارجه نكون كالوثنيين تحتاج آلهتهم من يحمل أثقالها ويحرسها!
يقارن الله بين آلهة بابل وبينه، الأولى تحتاج إلى من يحملها، أما هو فحامل حياتنا بكل متاعبها، إذ يقول:
“قد جثا بيلُ انحنى نَبو، صارت تماثيلها على الحيوانات والبهائم؛ محمولاتكم محمّلة حملاً للمُعيى. قد انحنت جثت معًا لم تقدر أن تُنجّي الحمل وهي نفسها قد مضت في السبي” [1-2].
اهتز الإلهان الرئيسيان لبابل أمام كورش، سجدا له، فصار المعبودان عبدين، حُملا بكل تماثيلهما على الحيوانات بلا قوة، إذ الكل عاجز عن المشي بل وعن الحركة، سُلبت كل الجواهر التي تزين التماثيل بواسطة وجاء كورش وأُخذ الكل إلى السبي… فهل يستطيع هذان المعبودان أن يُنجيا أحدًا ماداما عاجزين حتى عن خلاص نفسيهما؟!
“بيل“: اسم أكادي يُقابل الاسم العبري “بعل” ويعني “السيد”؛ ربما هو بعينه الإله مردوخ (إر50: لا2؛ 51: 44)؛ هو إله الشمس وإله الربيع. له شكل رجل عظيم على رأسه تاج وله سبعة قرون ثور، يُقدَّم له طعام وشراب بكميات كبيرة كل مساء، وكانوا يعتقدون أنه يأكلها ويشربها حتى كشف دانيال النبي للملك عن وجود باب سري في الهيكل خلاله يدخل الكهنة بعائلاتهم ليلاً ليأكلوا الطعام ويشربون خفية، كما ورد في قصة بيل في تتمة دانيال.
“نَبو“: اسم بابلي معناه “مذيع”، إله العلم والمعرفة؛ كانت بورسيبا، قرب بابل، مركز عبادته؛ وكان ملوك بابل يتباركون به، ويحملون اسمه مع أسمائهم الأصلية مثل نبوخذ ناصر ونبوخذ راصر ونبوزرادان ونبو شربان.
انكشف هذا الإلهان وانفضح عجزهما عن الحركة أو عن حماية زينتهما أمام كورش، أما الله الحيّ فهو مخلص شعبه، يحمل أثقالنا ونحن بعد لم نتشكل في رحم أمهاتنا حتى نبلغ الشيخوخة، إذ يؤكد لنا “أنا هو… أنا أحمل” [4]. وكأنه يقول: لديَّ ربوات الملائكة والخليقة السماوية وكثير من الأنبياء والكهنة والخدام… لكنني أضع نفسي بين يديْ شعبي لأحمل بنفسي أتعابهم، وأرفع عنهم خطاياهم، واسندهم في كل مسئولياتهم… أنا أحملهم بنفسي كما على كتفيّ.
هذا ما يؤكده الله عبر الأجيال قائلاً: “هأنذا أسأل عن غنمي وافتقدها… أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرب، وأطلب الضال واسترد المطرود وأجبر الكسير وأعصب الجريح وأبيد السمين والقوي وأرعاها بعدل… أخلص غنمي فلا تكون من بعد غنيمة وأحكم بين شاة وشاة ” (حز 34: 11-22). هكذا يؤكد: “أنا هو… أنا أحمل“.
لا يكف الله مخلصنا عن دعوتنا إليه لكي يحمل أثقالنا، قائلاً: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت 11: 28). لذا قيل عنه: “لكن أحزاننا حملها” (إش 53: 4)؛ “حمل خطية كثيرين” (إش 53: 12)؛ “يحملنا إله خلاصنا” (مز 68: 19).
جاء ربنا يسوع كمخلص ليس فقط ليحمل أثقالنا وخطايانا مكفرًا عنها، وإنما ليحملنا نحن فيه، يسبينا بحبه ليرفعنا معه إلى مجده. نزل إلينا ليحملنا فيه فنصعد فيه وبه إلى ملكوته.
نعود إلى حديثه في سفر إشعياء: “قد فعلت وأنا أرفع وأنا أحمل وأنجي” [4].
قد فعلت، أي سمحت بالسبي البابلي لفضح ضعفاتكم.
وأنا أرفع، أنزع عنكم هذا العار وأدبر تحرركم من السبي.
وأنا أحمل، أقوم بحمل أتعابكم بنفسي… أنا الإله المحتجب.
وأنا أنجي، أدخل بكم إلى الحرية وأردكم إلى أرض الموعد، وأخلصكم.
هذا هو عمل الله المخلص: يفعل، ويرفع، ويحمل، ويخلص. إنه يسمح أن يكشف خطايانا لندرك إننا مأسورون لا في سبي بابل وإنما تحت سبي إبليس وأعماله الشريرة، وهو يرفع إذ ينزع هذا العار عنا بتدبيره الإلهي لخلاصنا؛ وهو يحمل إذ رفع الدين بنفسه عنا ولم يأتمن ملاكًا أو رئيس ملائكة أو نبيًا على خلاصنا؛ وأخيرًا يخلص حيث يحملنا إلى سمواته ويهبنا شركة أمجاده الإلهية.
يقول الرسول بولس: “قُدم مرة لكي يحمل خطايا الكثيرين” (عب 9: 28). لقد أحنى السيد المسيح ظهره ليحمل خطايا العالم كله، إذ مات عن الجميع، لكنه يُحسب مخلصًا للمؤمنين وحدهم، هؤلاء الذين قبلوا أن يرفع عنهم ثقل خطاياهم، فيُحملوا أبرارًا فيه ويدخل بهم إلى حضن أبيه.
لقد مات من أجل الكل، هذا من جانبه، فإن هذا الموت كان المقابل ضد هلاك كل البشرية، لكنه لم يحمل خطايا كل الناس لأنهم لم يريدوا[484].
v حمل موسى (الفصح) لم يحمل في الحال خطايا أحد ما، أما هذا الحمل فحمل خطايا العالم كله، فانه إذ كان العالم في خطر الهلاك أسرع فخلّصه من غضب الله[485].
v لقد سمعوا أنه يحمل خطايا العالم (يو 1: 36)، وللحال جروا إليه، قائلين: إن كان ممكنًا أن ينزع الاتهامات الموجهة ضدنا فلماذا نتأخر؟ هنا يوجد ذاك الذي يُخلص دون تعب من جانبنا[486].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v بالصليب أعطى الخلاص للعالم.
ليس إنسان في التاريخ بلغ العظمة التي تؤهله أن يرفع خطية العالم كله، لا أخنوخ ولا إبراهيم ولا إسحق، وإن كان قد قدم نفسه للموت، لكنه حُفظ إذ لم يكن قادرًا على إزالة وسخ الخطية.
فمن هو هذا الرجل العظيم الذي بموته تموت الخطية؟! هذا لا يمكن أن يكون من البشر… لكن الله اختار الابن، ابن الله الذي فوق الكل، وهو الذي يمكن أن يُقدم عن خطايا الجميع!
لقد كان يلزم أن يموت، لأن بغلبته على الموت يقدر أن ينقذ الآخرين الذين هم كقتلى مضطجعين في القبور.
لقد كسر عبودية الشهوات، ولم تقدر قيود الموت أن تمسكه!
القديس أمبروسيوس[487]
v حِل آلامي بالآمك؛ اشِف جراحاتي بجراحاتك؛ طهر دمي بدمك، وامزج في جسدي رائحة الحياة التي لجسدك المقدس!
الشيخ الروحاني[488]
حمل الرب خطايانا بكل ثقلها في جسده لكي يهبنا بره فينا، فصرنا نحن أنفسنا محمولين فيه بروحه القدوس كي يرفعنا إلى سمواته. إنه ذاك الذي سبق فحمل شعبه القديم من أرض العبودية بكل ثقلها ومرارتها ليدخل بهم إلى أرض الموعد، بل وليدخل بهم إليه. “وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليّ” (خر 19: 4)؛ “رأيت كيف حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في كل الطريق التي سلكتموها حتى جئتم إلى هذا المكان” (تث 1: 31).
لقد أكد الله حبه الفائق لنا، يحملنا ونحن في الأحشاء ويبقى حاملاً إيانا حتى الشيخوخة [3-4]، يفوق حب الأم التي تقدر أن تحمل جنينها في الأحشاء أو الرضيع وإلى حدٍ ما حين يصير طفلاً صغيرًا في السنوات القليلة الأولى من حياته… تحمله جسديًا وتحمل بعض متاعبه لكنها تعجز عن إدراك كل أسراره الخفية لتشاركه متاعبه، أما الله فيحملنا حتى الشيخوخة، يحمل كل أتعابنا الظاهرة والخفية، وكما يقول المرتل: “أبي وأمي قد تركاني والرب يضمني” (مز 27: 10).
ليس لله في حبه شبيه لا الوالدين ولا الآلهة الأخرى المحتاجة إلى من يصنعها ويرفعها على الكتف ويقيمها في موضع ويحرسها حتى لا تُسرق، يصرخ إليها عابدوها فلا تُجيبهم وقت الشدة [5-7].
- دعوة كورش من المشرق:
هذه هي مسرة الله [10]، أنه صنع في القديم ولازال يعمل ويبقى عاملاً من أجل خلاص شعبه. حمل أثقالهم في أيام موسى عند خروجهم من مصر ويحملها أثناء ردهم من السبي البابلي ولا يزال يحملها خلال ذبيحة الصليب القائمة.
دُعي كورش – رمز السيد المسيح – بالطائر الكاسر [11] لأنه سريع الحركة، قوي ينقضّ على بابل ليخطفها كفريسة، يخطف آلهتها وكنوزها… إنه رمز للسيد المسيح الذي انقضَّ على عدو الخير وحطم مملكته ليرد للإنسان كرامته وحريته وغناه الروحي.
“من أرض بعيدة رجل مشورتي” [11]، رمز السيد المسيح القادم من السماء ليصير “ابن الإنسان” (رجل مشورتي) الذي يُحقق إرادة الآب فيه بمسرة.
يرى إشعياء النبي المخلص قادمًا من بعيد فيدعو الأمم البعيدين للقرب منه والتمتع ببره وخلاصه: “اسمعوا ليّ يا أشداء القلوب، البعيدين عن البر، قد قربت برّي، لا يبعد وخلاصي لا يتأخر” [12-13].
ربما يوجه حديثه هنا إلى البابليين قساة القلوب معلنًا لهم أن مقاومتهم لبرّ الله ولخلاصه لن تدوم، فقد اقترب وقت الخلاص.
ولعله يتحدث مع الأمم قساة القلوب حتى يقبلوا برّ الرب وخلاصه بلا مقاومة.