تفسير سفر إشعياء ٤٨ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثامن والأربعون

الخرُوج الجَديد

تضم الأصحاحات (48-49) أحاديث عن الخلاص مثل الأمر بالرجوع إلى الوطن، الصلاة كمصدر القوة في الخلاص، بهجة الخلاص.

بعد تقديم كلمة عتاب لشعبه الذي اتسم بالرياء مع قساوة القلب والانحراف إلى الوثنية، كشف لهم الله عن مقاصده بتسليمهم للسبي البابلي، وأخيرًا يعلن عن إصدار الأمر المفرح بالخروج السريع المصحوب بالفداء.

  1. الله يعاتب شعبه                   [1-8].
  2. قصد الله من السبي               [9-19].
  3. الخلاص السريع المبهج          [20-22].
  4. الله يعاتب شعبه:

في الأصحاح السابق فضح الله بابل العذراء سيدة الممالك التي انجرفت إلى حياة اللهو مع التشامخ والعنف فانهارت تمامًا، الآن قبل أن يعلن عن خروج شعبه أو تحريره من السبي في عتاب أبوي، صريح يكشف عن ضعفاتهم وخطاياهم وأيضًا عن مقاصده من السماح بسبيهم حتى لا يعودوا إلى خطاياهم مرة أخرى.

لعل أخطر خطية تواجه المؤمنين أصحاب المعرفة الروحية هو الرياء مع الشكلية في العبادة. الله لا يريد إذلالهم إنما رفعهم إلى مركز ساٍم وأعطاهم إمكانيات روحية للحياة معه، أهمها:

أ. دعاهم “إسرائيل[1]، بكونهم شعبه المختار.

ب. شعب ملوكي “خرجوا من بيت يهوذا[1].

ج. دعى عليهم اسم الله: “الحالفين باسم الرب والذين يذكرون إله إسرائيل“، لكنهم يصنعون هذا “ليس بالصدق ولا بالحق[1] مع إدراكهم أنه هو الله الواحد الحقيقي الذي يتعبدون له لكن في شكلية وبحرفية دون روح.

د. تمتعوا بمدينة القدس [2] كمدينة الله المقدسة التي تضم هيكله.

هـ. “يُسْنَدون إلى إله إسرائيل[2]، يفتخرون بمواعيده ويعترفون بعهده ويتكئون عليه (مى 3: 11)…

و. تمتعوا بالنبوات الإلهية، إذ كان الله يخبرهم بالآتيات، أي بالأمور المقبلة [3]. أما سرّ تقديم هذه النبوات فهو تثبيتهم في الإيمان به وتصديق كلماته ومواعيده. لقد عرف أنهم قساة القلوب، عنقهم من حديد وجباههم من نحاس، يصعب عليهم تصديق الكلمات النبوية لذا قدم لهم نبوات تتحقق في المستقبل القريب حتى يصدقوا النبوات، وأيضًا للتمييز بين الله والأوثان [5].

مع كل ما قدمه الله لشعبه من هذه الإمكانيات عاشوا في شكلية العبادة بروح فريسية مملوءة رياء، كما خلطوا بين عبادة الله والأوثان، وتجاهلوا الكلمات النبوية واحتقروها ولم يفهموا أسرارها، لذا يوبخهم قائلاً: “لم تسمع ولم تعرف ومنذ زمان لم تنفتح أذنك، فإني علمت أنك تغدر غدرًا ومن البطن سميت عاصيًا[8].

لقد انشغل إشعياء النبي بالحديث عن البصيرة الروحية والأذن الداخلية المقدسة، فإن حديثه عن المخلص يبدو لكثيرين في عصره أو للغالبية أمرًا يكاد يكون مستحيلاً.

لقد جاء المخلص ومع ذلك يرفضه كثيرون بالرغم من تحقيق النبوات التي وردت في العهد القديم في شخصه وخلال أعماله الخلاصية، لذا فالعالم لازال يحتاج إلى البصيرة الحقة والأذن المقدسة. حتى الذين آمنوا به وقبلوه يحتاجون إلى ذلك للتمتع بأسرار أعمق وإدراك الأمجد السماوية الداخلية الخفية.

نحتاج جميعًا أن يرافقنا رب المجد ويتحدث معنا ليُقدس أعماقنا فنقول مع تلميذي عمواس: “ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟!” (لو 24: 32).

v   إلهي… أنت نوري، افتح عن عيني فتُعاينا بهاءك الإلهي، لأستطيع أن أسير في طريقي بغير تعثر في فخاخ العدو.

v   أنت النور، الذي أنار عقل يعقوب، فكسف لأولاده عن الأمور المختلفة.

القديس أغسطينوس[493]

  1. قصد الله من السبي:

يقدم الله لشعبه أسباب السماح بسبيهم:

أ. “من أجل اسمي أُبطئ غضبي، ومن أجل فخري أمسك عنك حتى لا أقطعك[9]… بمعنى آخر كان يلزم أن يهلك هذا الشعب تمامًا ويُقطع، لكن الله في غيرته على اسمه ومجده قدمهم للتأديب لعلهم يرجعون إليه فلا يهلكون. وكأن السبي هو “عطية” بكونه تأديب إلهي يقدم للمحبوبين بالرغم من عدم استحقاقهم لهذا الحب الأبوي التأديبي.

هذه نظرة روحية رائعة نحو التأديب، خلالها يدرك المؤمن أنه ليس أهلاً لهذا التأديب بكونه علامة حب أبوي. يقول الرسول: “لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله؛ إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين” (عب 12: 6-7).

v   إن كان عدم التأديب علامة خاصة بالنغول (عب 12: 8)، إذن يليق بنا أن نفرح بالتأديب كعلامة على شرعية بنوتنا!

القديس يوحنا الذهبي الفم[494]

v الأب لا يهذب ابنه لو لم يحبه، والمعلم لا يصلح من شأن تلميذه ما لم ير فيه علامات نوال الوعد. عندما يرفع الطبيب عنايته عن مريض، يكون هذا علامة يأسه من شفائه.

القديس جيروم[495]

v   “افتقد بعصا معصيتهم، وبضربات إثمهم” (مز 89: 32).

إنها رحمة (الله) ليس فقط أن يدعوهم وإنما أيضًا أن يؤدبهم ويجلدهم. لتكن يّد أبيك عليك، فإن كنت ابنًا صالحًا لا تتذمر على التأديب… ليؤدبه مادام لم ينزع رحمته عنه؛ ليضربه عندما يخطئ مادام لا يمنعه من أن يرث.

إن كنت تدرك مواعيد أبيك حسنًا لا تخف من جلداته بل خف لئلا لا ترثه…

ليت الأبناء الأتقياء لا يقولون: “إن كنت تأتينا بعصا فلا تأتِ قط. فانه من الأفضل أن تتعلم بعصا الآب عن أن تهلك باهتمام اللص بك[496].

v   الرب الحافظ الصغار (مز 116: 6) يجلد هؤلاء الذين عندما يصيرون ناضجين، يطلب أن يكونوا ورثة (له)…

لقد أعانني إذ كنت في ضيق، فان الألم الذي يسببه الطبيب بمشرطه ليس للعقوبة بل للتكريم[497].

القديس أغسطينوس

ب. للتنقية: “هانذا نَقيَّتك وليس بفضة، اخترتك في كور المشقة[10]. نحن فضة الرب وذهبه، يهتم بتنقيتنا في كور التعب والألم.

v   مغبوط هو الإنسان الذي يؤدب في هذه الحياة مرتين، فإن الرب لا يُعاقب عن شيء مرتين (نا 1: 9 LXX).

القديس جيروم[498]

ج. الله الذي يسمح بالتأديب لتنقيتنا هو يرفعه عنا عندما يحقق هدفه. لقد دعا السموات والأرض، لتجتمع كل الخليقة وترى خلاص الله العجيب. لقد أحب كورش ليُحقق هدفه ويكون ذراعه على الكلدانيين [14].

ما يحققه كورش ليس من عندياته بل من قبل الله مخلص شعبه: “أنا أنا تكلمت ودعوته، أتيت به فينجح طريقه[15]منذ وجوده أنا هناك، والآن السيد الرب أرسلني وروحه[6].

أُرسل كورش بواسطة الرب وبروح الله القدوس، كرمز للسيد المسيح الذي جاء بارادته وفي نفس الوقت مرسلاً من الآب والروح القدس… كيف؟

هنا وحدة عمل الثالوث القدوس؛ الثالوث القدوس كأقانيم غير منفصلة جوهر إلهي واحد يعمل لخلاص البشرية.

الآب يحب البشرية، وفي حبه أرسل كلمته غير المنفصل عنه، حاسبًا ذبيحة المسيح عطاء من جانب الآب، وكما قال السيد المسيح نفسه: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16). الآب محب البشر ارسل ابنه ذبيحة حب.

الابن من جانبه قدم نفسه للبذل في طاعة للآب، وأيضًا بكامل ارادته، إذ يقول الرسول: “الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي” (غل 2: 20).

أما الروح القدس فلم يقف في دور سلبي بل كان له دوره الايجابي في كل العمل الخلاصي؛ به تحقق التجسد الإلهي في أحشاء البتول (لو 1: 35)، وهو الذي أصعد يسوع ليُجرب، وهو الذي يشهد للسيد المسيح (يو 15: 26).

و. لممارسة الطاعة لله، فان السبي لم يحدث مصادفة ولا قضاءً وقدرًا إنما هو ثمرة طبيعية للعصيان، بدونه ما سقطوا تحت السبي. لهذا وجب عليهم عند عودتهم أن يمارسوا الطاعة فيتمتعوا ببّر الله وخيراته. “ليتك أصغيت لوصاياي فكان كنهر سلامك وبرك كلجج البحر. وكان كالرمل نسلك وذرية أحشائك كأحشائه، لا ينقطع ولا يُباد اسمه من أمامي[18-19].

لو أنهم أطاعوا الله ليس فقط لم يسقطوا تحت السبي البابلي، وإنما لأفاض سلام الله كنهر متسع وعميق ودائم الجريان ومُروي للكثيرين.

  1. الخلاص السريع المبهج:

يقدم الله دعوة للخروج: “اخرجوا من بابل، اهربوا من أرض الكلدانيين[20].

إن كان الله قد أرسل كورش لخلاصهم، لكنه لا يلزمهم بالخروج بغير ارادتهم، إنما يدعوهم ويحثّهم على ذلك… وبالفعل خرج 40.000 شخصًا على يدي زربابل (نح 9: 36، 39).

إنها دعوة مستمرة لخروجنا تحت قيادة مخلصنا من كل موضع معثر، حتى نتحرر بروح الله من نيرها، كما دُعى لوط وعائلته لترك سدوم وعمورة.

الهروب من الشر ليس ضعفًا ولا سلبية وإنما هو عمل مِقدام فيه يعلن الإنسان بروح الله عن نصرته على أعماقه التي تشتاق أو تستطيب للمواضع المعثرة.

هذه الدعوة يصحبها فرح وتهليل بعمل الله الخلاصي: “بصوت الترنم أخبروا نادوا بهذا” [20].

إذ يتطلع إشعياء النبي إلى التحرر من السبي كخروج ثانٍ يشبه خروج الشعب من عبودية فرعون على يدي موسى حيث أخرج لهم ماءً من الصخرة في البرية كي لا يعطشوا، هكذا في هذا الخروج الجديد يتمتعون بذات العطية: “ولم يعطشوا في القفار التي سيَّرهم فيها، أجري لهم من الصخر ماءً، وشق الصخر ففاضت المياه[21]. لقد تحقق هذا إذ ارتبط خلاص السيد المسيح بعطية الروح القدس في عيد العنصرة كينبوع مياه حية فاضت في كنيسة المسيح.

أخيرًا فإن هذا الخلاص اختياري، من لا يقبله يحرم من سلام الله الفائق، إذ قيل: “لا سلام قال الرب للأشرار[22].

v   قيل لنا: “ابطل صوت الطرب وصوت الفرح من أفواههم” (إر 7: 34). نعم فانه أعياد الأشرار هي ويلات.

v   إذ يعتزل الجاحدون الصلاة والشكر يحرمون أنفسهم من ثمر الفرح.

البابا أثناسيوس الرسولي[499]

جاءت الترجمة السبعينية “لا فرح قال الرب للأشرار”. وقد ميز القديس أغسطينوس[500] بين فرح الشرير المؤقت والمرتبط بالزمنيات يزول بزوالها، أما الأبرار فيفرحون حتى في قيودهم، فقد فرحت الشهيدة كريسبينا Crispina عندما قُيدت وعندما أُقتيدت للمحاكمة، كما عندما سُجنت وعندما صدر الحكم ضدها… كان فرحها أمام الملائكة، كقول المرتل: “أمام الملائكة أُسبح لك” (مز 138: 1).

زر الذهاب إلى الأعلى