تفسير سفر إرميا ٤٧ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السابع والأربعون

سيف الرب على الفلسطينيين الوثنيين

والقوات المتحالفة معهم

بدأ إرميا النبي نبواته ضد الأمم بمصر بكونها ترمز لحياة الرخاوة والتهاون كأول باب ينفتح للخطايا كي تتسلل إلى النفس وتفسدها. الآن يتحدث عن الفلسطينيين  الوثنيين حيث كانوا يحملون عداوة ضد الله الحيَّ وضد شعبه. كأن هذه النبوات موجهة ضد خطية العنف والعداوة لله وللناس.

غالبًا ما برهن المصريون أنهم أصدقاء باطلون، قدموا وعودًا بالخلاص، فدفعوا شعب الله إلى الاتكال على الذراع البشرى العاجز، أما الفلسطينيون فغالبًا ما حملوا روح العداوة و المقاومة، ومما يزيدهم خطورة أنهم كانوا من ألصق الجيران لهم.

بدأت العداوة بدخول الإسرائيليين أرض الموعد حيث احتلوا بعض مدنهم بعد موت يشوع (قض 1: 18)، ولكن الفلسطينيين استردوا مدنهم وسقط العبرانيون فى قبضتهم (قض 10: 6-7) ثم أُنقذوا. عاد فأذل الفلسطينيون العبرانيين أربعين عامًا حتى أنقذهم شمشون (قض 14-16)، وفى عهد صموئيل النبي استولوا على تابوت العهد (1 صم 14-16)، ثم عاد فهزمهم صموئيل النبي بعد عشرين عامًا. دخلوا فى حرب مع إسرائيل فى أيام شاول الملك، وأُخضعوا فى أيام داود النبي، لكنهم برزوا ثانية للمقاومة حتى جاء نبوخذنصر الذي حطمهم مع بقية الأمم المجاورة.

تخلل هذه النبوات نبوة عن الحلفاء مع الفلسطينيين: قوات صور وصيدا [4].

  1. نبوات ضد الفلسطينيين [1-7].
  2. نبوات ضد صور وصيدا[4].
  3. نبوات ضد الفلسطينيين الوثنيين:

“كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي عن الفلسطينيين قبل ضرب فرعون غزة” [1].

نعرف القليل جدًا عن الزمن الذي يقصده هنا الخاص بضرب فرعون غزة، ربما يقصد أحد المواقف التالية:

v     عندما اتجه نخو نحو حاران عام 609 ق.م[641].

v     عندما كان فرعون نخو فى الشمال [2] بين 609 و 605 ق.م يترقب الدخول فى معركة حاسمة مع نبوخذنصر على نهر الفرات، مؤكدًا فى ذلك الحين سلطانه على الفلسطينيين[642].

v     ربما ضرب فرعون نخو غزة عند عودته بعد غلبته على يوشيا فى موقعة مجدو (2 أي 35: 20).

v     عند عودته من محاولته الفاشلة لانقاذ أورشليم من الكلدانيين، ضرب غزة حتى لا يظن أحد أنه عاد إلى بلده فاشلاً.

يتحدث عن انهيار الفلسطينيين هكذا:

“هكذا قال الرب:

ها مياه تصعد من الشمال وتكون سيلاً جارفًا فتغشي الأرض وملأها،

المدينة والساكنين فيها،

يصرخ الناس ويولوِل كل سكان الأرض” [2].

أ. يصعد الجيش البابلي الذي زحف بقوة عليهم بعد غلبته على المصريين فى كركميش كمياه تنهار عليهم من الشمال [3]؛ هنا لا يقصد بـ”الشمال” الاتجاه الجغرافي فحسب، لكنه يرمز للقوة المضادة أيا كان مصدرها.

ب. يحل الجيش المهاجم عليهم كسيلٍ جارفٍ [2] يغرق الأرض وكل ملئها، المدينة والساكنين فيها [2]. يشبه الكلدانيون بالسيل الجارف أو فيضان مياه كثيرة تصدر عن نهرهم أي الفرات. كثرة المياه تعني كثرة الجماهير التي تحل على موقع ما كفيضان.

للشيطان طرق كثيرة، يعرف كيف يحل بالنفس كسيلٍ جارفٍ يسقط عليها فجأة ليحوط بها من كل جانب، فيشل كل حركتها، ويفقدها التمتع بأية معونة خارجية، وأحيانًا يتسلل خفية إلى النفس ليدخل إلى أعماقها ويتسلم عجلة قيادتها.

مع كل ما لعدو الخير من حيل وخبرات طويلة وقدرات خطيرة، لا يحمل سلطانًا عليها للتسلل إلى داخلها ما لم يكن الباب مفتوحًا، ويجد في الداخل من يتجاوب معه. كما ليس له سلطان أن يحل بالنفس فجأة ويسيطر عليها إن كانت فى يد الله، محفوظة بنعمته. في هذا يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم أنه ليس لعدو الخير سلطان علينا، ولن يقدر أن يؤذينا ما لم يؤذِ الإنسان نفسه بنفسه[643].

ج. يغطي السيل الجارف الأرض وملأها [2]، لكنه لا يستطيع أن يقترب من السماء ولا أن يصل إليها. فإن كانت النفس أرضًا تغرق بسيول الخطايا، أما التي صارت سماءً بسكنى السماوي فيها فلا تقدر الخطية أن تقترب إليها.

د. “يصرخ الناس ويولول كل سكان الأرض” [2]. إذ اختاروا الأرض لا السماء مسكنًا لنفوسهم لا يختبروا فرح السماء وتهليلاتها بل الصراخ والولولة. مسكين الانسان الذي يحرم نفسه من بهجة الخلاص فلا يختبر الفرح الداخلي حتى وسط تسلياته ونجاحة الزمني، ومطوَّب هو ذاك الذي يجلس مع الرسول بولس فى السماويات (أف 2: 6)، فإنه وإن دخل فى ضيقات كثيرة يفرح ويتهلل بالله مخلصه، الذي يحول أتون الضيق إلى ندى السماء، كما فعل مع الثلاثة فتيه الغرباء.

هـ. “من صوت قرع حوافر أقويائه،

من صرير مركباته،

وصريف بكراته،

لا تلتفت الآباء إلى البنين بسبب ارتخاء الأيادي” [3].

 يفقدون حتى العواطف الطبيعية التي تربط الوالدين بأبنائهم، إذ لا يلتفت الآباء إلى بنيهم حيث ترتخي أياديهم بسبب صوت الجيش المرعب الصادر عن حوافر الخيول والمركبات العسكرية والبكرات. ليس لديهم الشجاعة ولا القوة للعودة إلى الخلف لإنقاذ أبنائهم الذين تركوهم. 

حقًا إذ تدخل الخطية إلى القلب ترهبه فلا يبالي الإنسان بخلاص نفسه وخلاص بنيه… لا يلتفت إليهم، بل يصير فى رعبٍ ورعدةٍ.

و. “بسبب اليوم الآتي لهلاك كل الفلسطينيين لينقرض من صور وصيدُون كل بقية تعين،

لأن الرب يُهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور” [4].

 يحطم المتحالفين معهم، صور وصيدا [4] ويُهلك الفلسطينيون فى جذورهم إذ يشير إليهم فى جزيرة كفتور، وهي تشير فى العهد القديم إلى جزيرة كريت، الأرض التي جاء منها الفلسطينيون أصلاً (عا 9: 7). ربما قصد بالكريتيين هنا جماعة من الفلسطنيين كانوا قد قدموا من جزيرة كريت في الربع الأول من القرن الثاني عشر ق.م[644].

ز. “أتي الصلع على غزة” [5].

 تشبه فلسطين بسيدة أو فتاة قصت شعرها حتى القرع، وجرحت جسمها. هذه وسائل وثنية تستخدم للتعبير عن الحزن الشديد (لا 19: 28)، خاصة عند موت الأقرباء جدًا (16: 6؛ 41: 5)، أو هو وصف يعبر عن مسح غزة من كل إنسانٍ كما بموسي فلا يُترك فيها أحدٌ. ربما يقصد بالصلع أن العدو سلبهم كل ممتلكاتهم من ذهبٍ وفضةٍ وحجارةٍ كريمة فصاروا كالقرع بلا زينة.

ح. “أُهِلكت أشقلون مع بقية وطائهم” [5].

أشقلون: هي إحدى المدن الفلسطينية الخمس الرئيسية، مكانها اليوم مدينة عسقلان. كان لها ميناء بحري فى العصور الغابرة. اسم الإلهة الرئيسية فى اشقلون دركتو، لها وجه انسان وجسم سمكة.  تقع على بعد عشرة أميال شمال غزة. وفى عصر العمارنة كان يحكمها ملك مصري (تث 2: 23). وفى التواريخ الأشورية عرفت بـ As-qa-en-na.

ط. تُصاب النفس بالجراحات إراديًا، فمن يخضع للخطية يحطم نفسه بالجراحات الداخلية، لذا يُقال لها بروح التوبيخ:

“حتى متى تخمشين نفسكِ؟!

آه يا سيف الرب حتى متى لا تستريح؟!

أنضم إلى غمدك، أهدأ وأسكن.

 كيف يستريح والرب قد أوصاه؟!

على أشقلون وعلى ساحل البحر هناك واعده[5-7].

يُسمى سيف بابل هنا “سيف الرب”، لأنه يشبه المنجل فى يد الله، به يحصد سكان المدن الذين كمل شرهم وسقطوا تحت الغضب الإلهي.

كما أن كلمة الله لا ترجع فارغة حتى تحقق رسالتها، هكذا سيف الرب (أو تأديبه) لا يتوقف حتى يتمم ما أُرسل لأجله.

  1. نبوات ضد صور وصيدا:

“لينقرض من صور وصيدُون كل بقية تعين” [4].

صور وصيدُون: صور” اسم سامي معناه “صخر”، ربما لأنها قامت على جزيرة صخرية، إلا أن القديس جيروم يرى أن كلمة “صور” فى العبرية تعني “محنة”، ولذا يرى سكانها يمثلون الساقطين تحت محنة الشيطان وبلاياه[645]. كما يفسر اسمهم: “موت بسبب جرعةٍ سامةٍ”[646]، لذلك كانوا فى رأيه يمثلون الذين يشربون كأس غواية الشيطان فيسقطون سريعًا.

أما “صيدون” فتعني “أرض صيد سمك”، اشتركت مع صور فى السخرية من يهوذا عند سبيها. اتسمت صور وصيدا بالغنى الشديد خلال تجارتهما العالمية مع الانحلال والفساد.

فى سفر إشعياء النبي يشبه الله “صور” بزانية تزني مع كل ممالك البلاد على وجه الأرض (إش 23: 17)، لكنها إذ تتمتع بالإيمان الحيّ “تكون تجارتها وأجرتها قدسًا للرب” (إش 26: 18).

نالت كل من صور وصيدُون (صيدا) نصيبهما من الجيش البابلي لمنع أية قوة عسكرية فينيقية تهب لنجدة فلسطين من أيدى البابليين. قدم حزقيال النبي نبوات ضد صور وصيدا (حز 26، 27)، وقد سبق لنا التعليق عليها فى دراستنا لسفر حزقيال.

 


 

من وحي إرميا 47

من ينقذني من سيول خطاياي الجارفة؟!

v     إنقذني من سيول خطاياي الجارفة

التي حلت بأرض قلبي فغطتها بمياهٍ مهلكةٍ،

غرَّقت كل زرعٍ مقدسٍ في داخلي!

v     حوِّل أرضي إلى سماء

فلا تقدر مياه كثيرة أن تقترب إليها!

عوض الصراخ يمتلىء قلبي تهليلاً!

عوض جفاف العاطفة يتسع قلبي بالحب للجميع!

عوض معونة الناس أترقب غنى نعمتك!

عوض القبح اسكب جمالك فيّ!

v     لا يعود سيف الرب يجرح ويقتل أعماقي،

إنما كلمته كسيف تهلك الشر،

وتهبني حياة أبدية‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

 

زر الذهاب إلى الأعلى