تفسير سفر إرميا ٦ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السادس
اقتراب التأديب

يختم الله حديثه على لسان نبيه وهو يحدثهم في الأذن عن اقتراب موعد التأديب الناري. إذ أشاع المخادعون نبوات كاذبة، قائلين: “سلام سلام” [14]، يحذرهم الله من الاستسلام لهذه الكلمات المخادعة، مؤكدًا كذبهم واقتراب موعد التأديب. إنه يقدم وصفًا نبويًا عن خراب أورشليم الذي تم بعد ذلك في أيام إرميا نفسه. إنه يعلن أن العدو على الأبواب، ويحذرهم مرة تلو الأخرى، مؤكدًا أنه لا طريق للهروب إلا التوبة فيتحدث عن:

العدو على الأبواب [1-5].

وقف إرميا النبي كرقيب يضرب بوق كلمة الله، وجرس الخطر معلنًا أن العدو على الأبواب، قائلاً:

“اهربوا يا بني بنيامين من وسط أورشليم،

واضربوا بالبوق في تقوع،

وعلى بيت هكاريم ارفعوا علم نار،

لأن الشر أشرف من الشمال وكسر عظيم” [1].

أ. إن كان الشعب الجاهل قد أصيب بعدم الفهم، وحُرموا من البصيرة والقدرة على الاستماع لصوت الرب (5: 21) كما نُزع عنهم خوف الرب وخشيته (5: 22)، ولم يعرفوا لأنفسهم حدودًا أو ناموسًا كالبحر والأمطار (5: 23-24)، وصاروا بلا حصاد أو ثمر (5: 21)، واقتنوا لبيوتهم الداخلية مكرًا وخداعًا (5: 27) وقد ظنوا أنهم عظماء وأغنياء وأصحاء ومملوئين جمالاً (5: 27-28)، هوذا الآن يفقدون سلامهم وحريتهم.

في الأصحاح الرابع يطلب منهم أن يهربوا من القرى إلى أورشليم ليحتموا فيها (4: 6)، لكن إذ اقترب الخطر جدًا لم تعد أسوار أورشليم قادرة على حمايتهم، لهذا يسألهم أن يهربوا من أورشليم ليختفوا في كهوف الجبال.

يرى البعض أنه بقوله “بني بنيامين” لم يقصد كل أهالي أورشليم، إذ لم يكن جميعهم من سبط بنيامين، لكن النبي نفسه عاش في أرض بنيامين (1: 1)، أو ربما وجّه الحديث إليهم لأنهم كانوا أقل فسادًا من الباقين، وقد وفدوا إلى أورشليم من القرى مؤخرًا، فلم يوغلوا في الفساد كما أوغل أهل المدينة الأصليون.

ذكر “تقوع” و “بيت هكاريم“، كلاهما في الطريق جنوب أورشليم ويمكن أن ينظرهما سكان العاصمة، وهما في طريق الهروب أمام زحف العدو القادم من الشمال. وهناك يوجد كثير من الأودية والكهوف (1 صم 22: 1).

تقوع“، موطن عاموس النبي (عا 1: 1)، تبعد حوالي 12 ميلاً جنوب أورشليم، وحوالي 5 أميال جنوب بيت لحم.

بيت هكاريم” مكان يناسب رفع العلم، إذ يبلغ علوه أكثر من 800 مترًا، وقد جاء ذكره في نحميا (3: 4). مرتفع في الطريق نحو بيت لحم، تسمى حاليًا رامة راحيل Ramat Rahel (نح 3: 14).

ب. إنهم يسقطون تحت تأديبٍ ناري، إذ يقول “ارفعوا علم نار”، علم كلمة الله الناري التي تحرق الأشواك بينما تنقي الذهب والفضة من الشوائب. إنها تحطم الخطية وتطهر الخاطى إن قبلها فيه وتجاوب معها بالتوبة.

ج. يتحقق هذا التأديب الناري بخطة إلهية محكمة وليس محض صدفة كما يظن البعض، إذ يقول: “قدسوا عليها حربًا [4]. وكأن هجوم البابليين على أورشليم هي “حرب مقدسة” في عيني الرب، لا لينتصر شعبه على أعدائهم، بل ليسقطوا تحت التأديب لعلهم يتقدسون، بعد أن كانوا متمسكين بالشر.

كأن الله يدعو الشعب الغريب أن يكرسوا وقتهم وطاقاتهم وكل إمكانياتهم لمحاربة شعبه، الأمر الذي – إن صح القول – ليس سهلاً بالنسبة له، إذ هو محب لشعبه.

كثيرًا ما يسمح الله للأشرار أن يثوروا على أولاده، فيظن الأشرار أنهم بقدرتهم يغلبون وينجحون، ولا يدركون أن ذلك بسماحٍ إلهي لبنيان أولاده المحبوبين لديه.

ربما يعني بالتقديس إجراء طقوس دينية من تقديم ذبائح وغيرها قبل الهجوم. ففي القديم كان الأمم يستدعون المنجمين لمرافقة الجيش وأخذ القرارات. وكأن الله الغيور على مجده يسمح للوثنيين أن يقدموا ذبائح ويمارسوا طقوسهم ويُنجح طريقهم مؤقتًا، حتى يظنوا أن آلهتهم قد غلبته… يسمح بهذا كله إلى حين ليؤدب شعبه، ثم يعود فيؤدب الوثنيين أنفسهم!

د. بقوله “إليها تأتي الرعاة وقطعانهم ينصبون عندها خيامًا حواليها يرعون كل واحدٍ في مكانه” [3] يقصد أن أورشليم العظيمة تتحول إلى مرعى غنم، حيث تأتي البلاد المحيطة بها والشامتة بغنمها، فتجدها خرابًا بلا بيوت، ينصبون فيها خيامهم كما في برية قفر، ويرعون كل واحد غنمه في طمأنينة وشماتة!

ربما يُقصد بالرعاة هنا قواد العدو الذين يسوقون جنودهم ليصنعوا بالمدينة كما يصنع الغنم بعشب الحقول، يأكلون كل ما يجدونه ولا يتركون فيها موضع عشب أخضر، كما جاء في إشعياء: “بالسهام والقوس يؤتي إلى هناك، لأن كل الأرض تكون شوكًا وحسكًا، وجميع الجبال التي تُنقب بالمعول لا يؤتي إليها خوفًا من الشوك والحسك فتكون لسرح البقر ولدوس الغنم” (إش 7: 25).

هـ. تأديب علني ومستمر، يتحقق في وسط النهار ويستمر حتى الليل.

“قوموا فنصعد في الظهيرة.

ويل لنا لأن النهار مال،

لأن ظلال المساء امتدت،

قوموا فنصعد في الليل ونهدم قصورها” [5].

كان الهجوم ليلاً أمرًا شاذًا، لا يُستخدم إلا في حالات نادرة جدًا، أما العدو فقد هجم في الظهيرة وتحقق النصر. دخلوا المدينة فلم يحتملوا أن يهدأوا بالليل بل قاموا بهدم القصور والحصون ليصيروا في مأمن من العودة إلى حرب جديدة في النهار القادم.

ماذا يعني الصعود في الظهيرة، إلا أن الله يسمح بالتأديب علانية حيث يشرق على النفس بتأديباته كما بمراحمه وترفقه. وكأن التأديب هو علامة اهتمام الله بنا وليس تجاهله لنا أو قسوته علينا. مع كل ضيقة يمكن للنفس أن تتوب فتتمتع بإشراقات شمس البر عليها. على  أي الأحوال إن لم يستطيعوا أن يهاجموا المدينة في النهار فالليل يجلب لهم النصرة الأكيدة.

في نفس الوقت يقول: “ويل لنا لأن النهار مال” [5]. ماذا يعني هذا إلا أن ما حلّ بنا من تأديبات إنما هو لرفضنا شمس البر فمال بنا النهار لنعيش تحت ظلال الخطية وظلمتها.

أعطى للعدو الشرير أن يقتحم أعماقنا التي صارت ليلاً دائمًا، ويهدم قصورنا التي كان يليق بها أن تكون مملكة لله ومسكنًا لروحه القدوس.

ليتنا نقبل خلال حب الله وتأديباته سكناه فينا وإشراقاته علينا، فنسمع صوت الرسول القائل: “وأما أنتم أيها الاخوة فلستم في ظلمة… جميعكم أبناء نور وأبناء نهار؛ ليس من ليلٍ ولا ظلمةٍ” (1 تس 5: 4-5).

 

شر أورشليم هو السبب [6-8].

وراء كل هذا شر أورشليم التي إن أصرت عليه يجفوها الله ويجعل أرضها خربة غير مسكونة [8]، كقول السيد المسيح: “ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤكٍ بمترسة ويحدقون بكِ ويحاصرونكِ من كل جهة ويهدمونكِ وبنيكِ فيكِ ولا يتركون فيكِ حجرًا على حجرٍ لأنكِ لم تعرفي زمان افتقادكِ” (لو 19: 41).

يبدو كأن الله ُيشارك الأعداء في استعدادهم للهجوم على أورشليم، إذ قيل:

“لأنه هكذا قال رب الجنود.

اقطعوا أشجارًا،

أقيموا حول أورشليم مترسة هي المدينة الُمعاقبة.

كلها ظلم في وسطها” [6].

إنه “رب الجنود” الذي يستطيع بقواته السماوية أن يحطم العدو، لكنه عوض أن يحطمه يأمره بأن يهاجم مدينته التي ملأها شعبه بالظلم. طالبهم بقطع الأشجار وإقامة مترسة حول المدينة لتعوق جيش يهوذا عن مواجهة العدو. ولعل أيضًا قطع الأشجار التي حول أورشليم يعني بها تحويل المنطقة إلى قفر ٌتحرم من أشجارها المثمرة أو التي تستخدم للظل، كما يعني أنه عند الضرورة يشعلون النيران حول المدينة كلها، فيصير الشعب كما في أتون، لا مفر منه.

يصف الله شر أورشليم، قائلاً:

“كما تنبع العين مياهها هكذا تنبع هي شرها.

ظلم وخطف يُسمع فيها.

أمامي دائمًا مرض وضرب” [7].

شرها كالعين الذي يفجر الماء بلا توقف، هكذا لا تعرف أورشليم لشرها نهاية… إنها مصدر شرٍ مستمرٍ. تقدم العين ماءً متجددًا بغير توقف، ويصدر عن أورشليم شرورًا جديدة واختراعات في الفساد.

إن ُقصد بالعين “البئر” فتكون أورشليم محتضنة شرها في داخلها كما تحتفظ البئر بمياهها.

“تأدبي يا أورشليم لئلا تجفوكِ نفسي،

لئلا أجعلك أرضًا غير مسكونة” [8].

يعلق العلامة أوريجينوس قائلاً:

[عندما يريد أن يكون رحيمًا يقول إنه غير راضٍ وفي غضبٍ…

إن فهمت هذه الكلمات، فإنها صوت الله الرؤوف عندما يغضب، والغيور عندما يجلب الآمًا وضربات، فإنه “يجلد كل ابن يقبله” (عب 12: 6) [150]].

 

أذنهم غلفاء[9-15].

هكذا قال رب الجنود:

تعليلاً يعللّون كجفنة بقية إسرائيل.

رُدّ يدك كقاطفٍ إلى السلال[9].

يكرر دعوة الله “رب الجنود” ليؤكد أن هزيمة أورشليم ليس عن ضعف أو عجز في القدرة الإلهية، إذ هو رب الجنود، الذي تخضع له السماء والأرض بكل ما فيهما كجنودٍ له، إنما ما حلّ هو بسبب غلف آذانهم وعدم الاستماع له.

إن كان شعبه يشبه كرمة، فإن العدو إذ قطف عنبها عاد إليها مرة ومرات لكي يعللها تعليلاً،  أي يفتش فيها لعله يجد ما قد تبقى، حتى يتركها عقيمةً تمامًا! لا يترك فيها بقية ما!

جاءت الوصية الإلهية: “وكرمك لا تعلله، ونثار كرمك لا تلتقط، للمسكين والقريب تتركه” (لا 19: 10). فإذ كسروا الوصية وكانوا يعللون كرومهم ويلتقطون نثارها ولا يتركونها للمساكين والأقرباء يتركهم الله ككرم يعللهم الأعداء ولا يتركون فيها ثمارًا قط… بل يصيرونها خرابًا.

لقد اتسخت آذان الكل بالخطية فصارت غلفاء، ليس من يقدر أن يسمع صوت الرب أو يستجيب لوصيته.

“ها إن أُذنهم غلفاء فلا يقدرون أن يصغوا.

ها إن كلمة الرب صارت لهم عارًا.

لا يُسرون بها” [10].

يوبخ العلامة أوريجينوس اليهودي الحرفي الذي يرفض التفسير الرمزي للكتاب المقدس قائلاً:

[خطأ عظيم موجه إليكم.

يُقدم إليكم اتهامكم: أنتم غلف في آذانكم،

ولماذا عندما تسمعون هذا لا تستخدمون الموسى لآذانكم وتقطعونها؟…

اقطعوا آذانكم، اقطعوا الأعضاء التي خلقها الله لاستخدام الحواس ولزينة الإنسانية، فإنكم بهذا تفهمون الكتاب المقدس[151]].

إذ تصير الأذن غلفاء لا يستعذب الإنسان صوت الرب بل يحسبه عارًا. يحسب وصية الله مخجلة، والتدين ضعفًا، والطاعة لله خنوعًا واستسلامًا. هكذا لا يختبر الإنسان عذوبة الكلمة الإلهية كقول النبي: “بفرائضك أتلذذ” (مز 119(118): 16)، “شريعة فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة” (مز 119(118): 71).

“وتتحول بيوتهم إلى آخرين،

الحقول والنساء معًا،

لأني أمد يدي على سكان الأرض يقول الرب” [12].

هذه إحدى ثمار العصيان، كما جاء في الشريعة: “تخطب امرأة ورجل آخر يضطجع معها؛ تبني بيتًا ولا تسكن فيه، تغرس كرمًا ولا تستغله” (لا 28: 30).

ما هو هذا البيت الذي يبنيه ولا يسكن فيه إلا الاستقرار الذي يطلبه للنفس لكنها لا تجد راحة مادامت خارج مسيحها؟!

وما هي المرأة التي يخطبها فيأخذها آخر إلا الحرمان من المُعينة أو الشعور بالوحدة والعزلة؛ ليس من يقدر أن يسنده ويشاركه آلامه ومشاعره؟!

وما هي الحقول التي يسلبها الآخرون إلا طاقات الإنسان ومواهبه وقدراته التي تحطمها الخطية، فلا تكون لبنيانه بل لهدمه؟!

أما كيف نهرب من هذه المرارة؟! يقول الرب: “لأني أمد يدي على سكان الأرض” [12]. لنصر سكان السماء فلا تمتد يد الرب علينا بل إلينا ولحسابنا. ما دام قلبنا مرتبط بالتراب نصير ترابًا ونفقد حياتنا، أما إن صرنا بروح الله القدوس سمائيين فنصير سماءً يسكننا السماوي القدوس إلى الأبد.

سبق فأعلن أنه لم يجد بارًا واحدًا في أورشليم فيصفح عنها (5: 1)، ويعلن هنا أن التأديب جماعي، يسقط تحته الأطفال والشبان والشيوخ، الرجال والنساء، الأنبياء الكذبة والكهنة.

إن كان الله يقدم الشفاء من الجراحات بأدوية التوبة، فإن الأنبياء الكذبة يتظاهرون كأطباء، يعالجون الجراحات بالكلمات الكاذبة الناعمة، قائلين: “سلام سلام” [14]. مع أن الواقع: “لا سلام[14]. يخطئون تشخيص المرض ليخدعوا المرضى، فعوض الشفاء يصير الجرح خطيرًا، يؤدي إلى الموت والهلاك الأبدي.

يرى البعض أن كلمات الأنبياء الكذبة هنا إنما تعني تقديم راحة نفسية للقادة والشعب، الذين اهتموا بالإصلاح الظاهري وتقديم تقدمات وذبائح مع انغماس في عبادة الأوثان ورجاساتها، قائلين: “سلام سلام”ما دام الله يُعبد وُيقدم له ما جاء في الشريعة، أما القلب ونقاوة الحياة وقدسيتها فهي أمور لا قيمة لها.

 

تركهم طريق الآباء[16-17].

“هكذا قال الرب:

قفوا على الطرق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة،

أين هو الطريق الصالح،

وسيروا فيه،

فتجدوا راحة لنفوسكم” [16].

يؤكد ضرورة العودة إلى طريق الآباء، مقارنين حياتنا بحياتهم لئلا نكون قد انحرفنا عن الطريق الملوكي، وكما جاء في سفر النشيد إذ تسأل النفس مسيحها: “إخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟” (نش 1: 8)، فيجيبها: “أخرجي على آثار الغنم وارعي جداءكِ عند مساكن الرعاة”.

يسألهم الرب أن يقفوا وسط ما يحل بهم من خرابٍ، لا ليندبوا حالهم، بل أن يراجعوا أنفسهم. ليتطلعوا إلى مصدر الشر الحقيقي، ألا وهو انحرافهم عن الحق، حتى يرجعوا فيرجع الرب إليهم، لذلك يقول لهم:

أ. قفوا على الطرق... أي كرِّسوا وقتًا للتأمل ومراجعة النفس لئلا تكونوا قد انحرفتم عن الطريق الملوكي.

ب. انظروا… أي تمتعوا بالبصيرة الداخلية أو استنارة الروح.

ج. اسألوا… أي لا تعتمدوا على فكركم الذاتي، بل أطلبوا مشورة الآباء لتدركوا “الطريق الصالح” الذي سارت فيه الكنيسة الأولى، طريق السيد المسيح الذي يدخل بالكنيسة إلى حضن أبيه.

د. سيروا فيه… لا تكفي مراجعة النفس ولا استنارة القلب ولا طلب المشورة الروحية، إنما يلزم أن يتحول ذلك كله إلى حركة حب، سير مستمر بلا توقف تحت قيادة الروح القدس. لهذا يكرر الرسول بولس كلمة “اسلكوا”.

“اسلكوا بالروح” (غل 5: 16)؛

“اسلكوا في المحبة” (أف 5: 2)؛

“اسلكوا كأولاد النور” (أف 5: 8)؛

“اسلكوا فيه (في يسوع الرب)” (كو 2: 6)؛

“اسلكوا بحكمة” (كو 4: 5).

“قفوا على الطرق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة” [16].

يعلق القديس جيروم على هذه العبارة قائلاً:

[توجد طرق كثيرة، تقود إلى الطريق الواحد… خلال الطرق الكثيرة نجد الطريق الواحد. هذا الفكر ذاته في الإنجيل (مت 13: 46) في شكل آخر وخلال رمز في مثل التاجر الذي له لآلىء كثيرة باعها واشترى لؤلؤة وحيدة ثمينة.

قف بجوار الطريق، أي لا تكن مالكًا للآلئ كثيرة.

قف في الطريق، واسأل عن طريق الرب الأبدي. ما أجمل الأبدية!

لا تظن أنه بمجيء المسيح قد انتهي الناموس والأنبياء بل لاحظ حسنًا. قف بجوار الطرق: لتضع ثقة كاملة في طريقٍ واحدٍ عوض الطرق الكثيرة، بل بجوار الطرق، اسأل عن طريق الرب الأبدية[152]].

[قف كما يقول إرميا في أكثر من طريق حتى تأتي إلى الطريق الحقيقي الذي يقود إلى الآب[153]].

v     أصدقائي الأعزاء، من يقدر أن يقودنا، إلا ذاك الذي ترددون اسمه معي، ربنا يسوع المسيح، القائل: “أنا هو الطريق” (يو 14: 6).

إنه ذاك الذي كتب عنه القديس يوحنا أنه “يحمل خطايا العالم” (يو 1: 29). إنه هو أيضًا الذي يطهر نفوسنا كما أخبرنا إرميا: “قفوا على الطرق وانظروا واسألوا… عن الطريق الصالح (البار) وسيروا فتجدوا تطهيرًا لنفوسكم”.

البابا أثناسيوس[154]

مرة أخرى إن كان الله قد سمح لهم بالتأديب الناري، فهو لا يزال يطلب بنيانهم لا هلاكهم. إنه يقيم لهم رقيبًا يضرب بالبوق ليدخلوا لا في معركة ظاهرة بل معركة القلب.

 

تقدماتهم بلا طاعة [18-25].

إذ لم يصغوا إلى صوته الإلهي، ولا قبلوا خبرة آبائهم في معاملات الله معهم استدعى الله الشعوب الوثنية وكل أمم الأرض لتشهد عليهم:

“لذلك اسمعوا يا أيها الشعوب،

واعرفي أيتها الجماعة ما هو بينهم.

اسمعي أيتها الأرض:

هأنذا جالب شرًا على هذا الشعب ثمر أفكارهم،

لأنهم لم يصغوا لكلامي وشريعتي رفضوها” [18-19].

هكذا يستدعى الله الأمم الوثنية لتشهد كيف استحق شعبه المتمرد التأديب الناري كثمرٍ طبيعي لأفكارهم وعصيانهم وكسرهم العهد معه. ربما استدعاء الأمم هنا يشير إلى أن شعبه قد اندفع إلى الشر حتى تبرر الوثنيون متى قورنوا بهم!

احدى علامات الطريق الخاطئ الرئيسية أو الانحراف عن طريق الآباء الملوكي هو عدم الإصغاء لصوت الرب وشريعته والاهتمام فقط بتقديم تقدمات وذبائح للرب.

“لم يصغوا لكلامي وشريعتي رفضوها.

لماذا يأتي لي اللُّبان من شبا؟

وقصب الذريرة من أرض بعيدة؟!

محرقاتكم غير مقبولة،

وذبائحكم لا تلذ لي” [19-20].

لا يريد الله اللُّبان وقصب الذريرة ولا المحرقات والذبائح، إنما يطلب الطاعة النابعة عن الحب. يبذلون كل الجهد فيأتون باللُّبان من شبا وقصب الذريرة من أرض بعيدة بينما يتجاهلون نقاوة قلوبهم وقدسية حياتهم الداخلية.

الله يطلب اللُّبان الداخلي، أي الصلاة الداخلية التي تُرفع كرائحة بخور في السمويات، وقصب الذريرة الداخلي. إنه يطلب محرقات داخلية حيث تقدم النفس حياتها ذبيحة مقدسة ملتهبة بالحب الإلهي، وذبائح مقدسة حيث تبذل ذاتها، خلال اتحادها بالمسيح الذبيح، مترنمة مع الرسول: “من أجلك نُمات كل النهار؛ قد حُسبنا مثل غنم للذبح” (رو 8: 36).

مصدر اللُّبان للعالم القديم هو شبا (إش 60: 6؛ حز 27: 22)، وهي تقع في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية بقرب مأرب.

إذ انشغل شعبه بالمظاهر الخارجية من تقديم لبان وقصب ذريرة وذبائح دون نقاوة القلب واستقامة السلوك، أيلم تعبر الحياة التعبدية الظاهرة عن صدق ما بالداخل لهذا يقول الرب لهم: “هأنذا جاعل لهذا الشعب معثرات، فيعثر بها الآباء والأبناء معًا، الجار وصاحبه يبيدان” [21]. ما هي هذه العثرات التي يقدمها الله إلا من عمل أيديهم و“ثمر أفكارهم” [19]؟! فيشربون من كأس العصيان التي ملأوها بإرادتهم، ظانين أن الله عنيف وقاس لأنه سمح لأمة وثنية أن تسبيهم وتحطم مدنهم وهيكلهم!

 

إصرارهم على الشر [26-30].

يكشف الله عن حبه الشديد لهم مع مرارة نفسه لأجلهم، إذ يدعوهم “ابنتي – شعبي” قائلاً:

“يا ابنة شعبي تنطقي بمسح وتمرغي في الرماد،

نوح وحيد اصنعي لنفسك مناحة مُرّة،

لأن المخرب يأتي علينا بغتة” [26].

ما أصعب على الإنسان أن يجد ابنته قد فقدت وحيدها، هكذا يرى الله شعبه الابنة المحبوبة لديه قد فقدت وحيدها فجأة الذي هو حياتها، فصارت ثكلى تنوح بلا انقطاع.

حقًا يحزن مسيحنا على المؤمن الذي بسبب الخطية يفقد خلاص نفسه، وحيدته التي قال عنها السيد المسيح: “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!” (مت 16: 26).

يُختتم الأصحاح بتقييم لشخص النبي إرميا وأمانته في تقديم الرسالة الإلهية، مع إصرار الشعب على العصيان، فصاروا رصاصًا يفنى بالنار وفضة مرفوضة. لقد رفضوا كلمة الله الفضة الممحصة بالنار وقبلوا خداعات الأنبياء الكذبة، الفضة المغشوشة، فصاروا هم أنفسهم فضة مرفوضة.

في قوله “احترق المنفاخ من النار، فنى الرصاص” [29]، يُشبَّه إرميا بمن يمتحن المعادن بالنار، والتأديب بالمنفاخ الذي يلهب النار، والشعب بالرصاص. فقد بذل النبي كل الجهد مستخدمًا كلمات الله للتأديب بطريقة نارية، فاشتدت النار جدًا حتى احترق المنفاخ، لكن للأسف لم يكن الشعب ذهبًا أو فضة حقيقية بل كان رصاصًا يفنى!

تستجيب المعادن للنار الممتحنة لها فتتنقى من الشوائب، أما شعب الله فلا يستجيب للنار الإلهية بل يُصر على شره، إن لم يزد عنادًا، فيدخل إلى الموت! لم يجد الله وسط أورشليم كلها قطعة فضة يستخلصها بنار تأديباته، إنما صار الكل رصاصًا. وقد سبق لنا الحديث في سفر الخروج كما في سفر زكريا عن الرصاص بكونه رمزًا للخطية التي تثقل النفس فتنزل بها إلى أعماق المياه لتغوص ولا تقوم (حز 15: 10؛ زك 5: 7).

v     ينوح الله عليهم لأنه قدم لهم التطهير بالنار، ولم ينتفعوا، متصلين في خطاياهم، فيبكيهم في شخص أورشليم التي تغلفت بالصدأ، إذ يقول: “ضعها فارغة على الجمر ليحمى نحاسها ويحرق فيذوب قذرها فيها ويفنى زنجارها. بمشقات َتِعبت ولم تخرج منها كثرة زنجارها. في النار زنجارها. في نجاستك” (حز 24: 11-13).

الأب ثيودور[155]

 

من وحي إرميا 6

حوٍّل رصاصي إلى فضة!

v     لتُقِم إرميا في أورشليمي الداخلية،

يضرب ببوقه ويرفع علم نار في قلبي،

لأرى العدو قادمًا لتحطيم نفسي الثمينة!

يقطع الأشجار ليحولني إلى أتون نار،

ويجعلني قفرًا بلا ثمر.

أدرك بالحق أن العدو على الأبواب،

من يقدر أن يخلصني سواك؟!

v     أعترف لك إني أنا علة هلاكي،

أذني صارت غلفاء، لم أستطع بعد أن أميز صوتك، وأنصت إلى وصيتك.

تركت طريق آبائي الملوكي.

انشغلت بالتجربة والمرارة، ولم أتطلع إلى أعماقي لأدرك شري.

انشغلت بشكليات العبادة ولم أبالِ بقدسية حياتي.

قدمت ذبائح وتقدمات، أما قلبي فمغلق تمامًا.

يا لشقاوتي!!!

v     صرت رصاصًا لا فضة!

أفنت النيران حياتي ولم أتنقَ.

من يحول رصاصي إلى فضة،

فأتطهر وأتقدس بنار روحك القدوس؟!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى