تفسير سفر إرميا ١١ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاحات 11-20

صراع إرميا النبي

إرميا 11-20

في الأصحاحات [7 إلى 10] يعلن الله عن ضرورة الإصلاح الداخلي، فإنه لا يقبل عبادتهم من أصوامٍ وتسابيح وتقدمات وذبائح دون نقاوة القلب والحياة المقدسة في الرب. أما هذا القسم (11-20) فيحتوي على منطوقات نبوية تكشف عن الرسالة الخاصة بهزيمة الجيش وما يلحق البلاد من دمار. غالبًا ما نُطق بها في أيام الملك يهوياقين (605-598 ق.م)[221].

شملت هذه النبوات مراثٍ، إذ كانت نفس النبي مرّة، يصارع بين حبه الشديد لشعبه وتطلعاته النبوية الخاصة بهلاكهم بسبب الشر. لقد رأى شعبه الذي نشأ وترعرع خلال العهد الإلهي الذي ُقدم لهم بواسطة موسى على جبل حوريب بسيناء ينهار بسبب كسرهم للعهد. يقوم هذا العهد على اختيار الله لشعبه ورغبته في السكنى في وسطهم والالتصاق بهم لتقديسهم، فيصيرون خاصته، ويقدم نفسه نصيبًا لهم ومخّلصًا وسندًا وشبعًا لكل احتياجاتهم، مقابل هذا يلتزم الشعب بالأمانة والإخلاص فيعبادتهم وسلوكهم ليتمموا إرادة الله فيهم بالطاعة لوصيته المملوءة حبًا!

في الأصحاحين (11، 12) يوضح الله سر غضبه على خطاياهم ألا وهو نقضهم للعهد معه. فهو يريد أن تكون معاملاته مع شعبه على مستوى الأب مع بنيه، والعريس مع عروسه المحبوبة لديه، الساكنة معه في بيته [15]، وليس كسيدٍ آمرٍ ناهٍ.

انصب دور الأنبياء، خاصة في العصور المظلمة على القيام بدور الوسطاء، يشفعون في الشعب بطلب مراحم الله ورفع غضبه عنهم، بكونهم ممثلين لهم. أما النبي الذي لا يكشف بوضوح خطة الله وإرادته، بل يداهن القيادات أو الشعب ليكسب ودهم أو مالهم، ولا يشفع فيهم، فهو نبي كذاب!

أصالة النبوة جعلت إرميا في صراع مرّ بين صراحته ووضوحه في الكشف عن غضب الله على شعبه وما يلحق هذا من تأديبات قاسية تكاد تدمرهم وبين قيامه بدور الممثل للشعب أمام الله يشفع بقلبه الذي يذوب كالشمع ودموعه التي لا تجف! هكذا كان قلب إرميا النبي يتمزق[222]!

 

الأصحاح الحادي عشر
العهد المكسور

يعتبر هذا الأصحاح مقدمة لهذا القسم، فيه يعلن أن الله وشعبه قد التزما بعهدٍ، فيه يقدم الله نفسه إلهًا لهم، يحميهم ويغنيهم، لكن ليس بدون التزام من جانبهم.

كسر العهد الإلهي  [1-17].

 إذ قارن في الأصحاح السابق بين عبادة الله الحيّ والعبادة الوثنية عاد بذاكرتهم إلى العهد الإلهي الذي قطعه الرب مع شعبه، حين دخل موسى في شركة مع الله لمدة أربعين يومًا، وقد التحف بسحابة القداسة السماوية وهو على قمة جبل سيناء. في ذلك الوقت لم يقف الرب عند عتقهم من عبودية مصر، وإنما أكّد لهم أنه يحقق لهم مواعيده لآبائهم، حيث يعطيهم أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً [5]. الآن بعد أن تمت المواعيد الإلهية، وعاش الشعب في أرض الموعد زمانًا هذه مدته، صدر عليهم الحكم الإلهي بتأديبهم، وطردهم من الأرض ليعيشوا تحت السبي في مذلةٍ وعارٍ، لأنهم فضلوا عنه عبادة البعل. لقد أُعطاهم فرصًا كثيرة لعلهم يتوبون فلا يستوجبون السقوط تحت التأديب. أما وقد أصروا على عدم التوبة فحتمًا يُؤدبون، وإن صرخوا لا ُيسمع لهم، لأن صراخهم غير صادرٍ عن شعور بالخطأ، ولا لطلب التوبة، وإنما لمجرد إنقاذهم من التأديب. لقد ارضوا ضمائرهم وبطونهم بتقديم ذبائح لله، لا للمصالحة معه وتجديد العهد معه، ولا لإعلان حبهم له.

بعد قرون طويلة تكرر الأمر في كنيسة كورنثوس حينما أساء الشعب استخدام الإفخارستيا وما يليها من وجبات الأغابي، إذ قيل: “فحين تجتمعون معًا ليس هو لأكل عشاء الرب، لأن كل واحد يسبق فيأخذ عشاء نفسه في الأكل، فالواحد يجوع والآخر يسكر. أفليس لكم بيوت لتأكلوا فيها وتشربوا؟ أم تستهينون بكنيسة الله وتخجلون الذين ليس لهم؟!” (1 كو 11: 20-22).

الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب قائلاً:

اسمعوا كلام هذا العهد،

وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم” [1-2].

 يرى البعض أن النبي يشير هنا إلى الملك يوشيا والشيوخ الذين أكدوا ولاءهم للعهد المُقام بين الله وشعبه على جبل حوريب بسيناء، العهد الذي سُجل في درج (كتاب)، وُوجد في الهيكل أثناء الإصلاح، وقد ارتبطوا به وتعهدوا أن يتمموا كلماته المكتوبة (2 مل 23: 3). فالحديث هنا موجه إلى مندوبين من قبل الملك.

يرى العلامة أريجانوس أن الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب هو الكلمة الإلهي، إذ يقول:

[إذا تأملنا في قصة مجيء ربنا يسوع المسيح كما وصفتها الكتب التاريخية، كان مجيئه في الجسد مرة واحدة فقط خلالها أنار العالم كله: “والكلمة صار جسدًا وحل بيننا”. كان بالفعل “النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسانٍ آتيًا إلى العالم، كان في العالم، وكوّن العالم به، ولم يعرفه العالم. إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله”.

مع ذلك يجب أن نعرف أنه جاء أيضًا قبل ذلك، وإن لم يكن بالجسد. جاء في كل واحدٍ من القديسين! كما أنه بعد مجيئه المنظور بالجسد يأتي إلينا أيضًا الآن.

إن كنت تريد دليلاً على هذا، انصت إلى هذه الكلمات: “الكلام (الكلمة) الذي صار إلى إرميا من قِبل الرب قائلاً: اسمعوا”.

ما هي إذًا تلك الكلمة التي صارت إلى إرميا أو إلى إشعياء أو حزقيال أو إلى غيرهم من الأنبياء، من قبل الرب، إلا الكلمة الذي كان عند الله منذ البدء؟ بالنسبة لي ، لا أعرف كلمة أخرى للرب إلا التي قال عنها يوحنا الإنجيلي: “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله”.

يجب علينا أيضًا أن نعرف هذا: كان مجيء الكلمة أيضًا على مستوى شخصي. لأنه ماذا يفيدني إن كان الكلمة قد جاء إلى العالم، بينما أنا لا أحمله؟ لكن على العكس، حتى لو لم يكن قد جاء بعد إلى العالم كله، وكنت أنا مثل الأنبياء، يجيء إليّ الكلمة. أقول مؤكِدًا أن السيد المسيح جاء إلى موسى وإلى إرميا وإلى إشعياء وإلى كل واحدٍ من الأبرار، وأن الكلمة التي قالها لتلاميذه: ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهرتحققت بالفعل قبل مجيئه. كيف كان لهؤلاء الأنبياء أن ينطقوا بكلام الله إن لم يكن كلمة الله قد جاء إليهم؟…

ماذا نسمع نحن أيضًا من هذا (الكلمة) الكلام؟

“اسمعوا كلام هذا العهد وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم”.

رجال يهوذا هم نحن، لأننا مسيحيون، وجاء المسيح من سبط يهوذا. إذا كنت قد أوضحت من خلال الكتاب المقدس أن كلمة يهوذا يُقصَد بها السيد المسيح، فإن رجال يهوذا في هذه الحالة لن يكونوا اليهود الذين لا يؤمنون بالسيد المسيح، وإنما نحن كلنا الذين نؤمن به.

 يخاطب الكلمة “رجال يهوذا” و “سكان أورشليم”.

يتعلق الأمر هنا بالكنيسة، لأن الكنيسة هي مدينة الله، ومدينة السلام، وفيها يتراءى ويعظم سلام الله المُعطي لنا، إذا كنا نحن أيضًا أبناء سلام.

“اسمعوا كلام هذا العهد وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم.

فتقول لهم هكذا قال الرب إله إسرائيل.

ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد الذي أمرت به آباءكم”.

مَن الذي يسمع أفضل لكلام العهد الذي أمر الله به الآباء؟ هل الذين يؤمنون به، أم الذين – بحسب الأدلة الموجودة عندنا – لا يؤمنون حتى بموسى حيث أنهم لم يؤمنوا بالرب؟ يقول لهم المخلص: “لو كنتم آمنتم بموسى لآمنتم بي أنا أيضًا، لأنه تكلم عني في كتبه، ولكن إن كنتم لا تؤمنون بكتاباته، فكيف تؤمنون بكلامي؟” إذًا لم يؤمن هؤلاء الناس بموسى، أما نحن، فبإيماننا بالسيد المسيح، نؤمن أيضًا بالعهد الذي ُأقيم بواسطة موسى،أي “العهد الذي أمرت به آباءكم”[223]].

“ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد” [3].

هزيمة الشعب (أو انهيار أورشليم) لا تعني أن الله قد نقض العهد، وإنما هي إعلان إلهي عن عدم وفاء الشعب بشروط العهد، فسقطوا تحت اللعنة، كما جاء في سفر التثنية: “ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها” (تث 27: 26)، “إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم تأتى عليك جميع هذه اللعنات وتدركك… يجعلك الرب منهزمًا أمام أعدائك. في طريق واحدة تخرج عليهم، وفي سبع طرق تهرب أمامهم، وتكون قلقًا في جميع ممالك الأرض” (تث 28: 15، 25). إنها دعوة موجهة إليهم لمراجعة أنفسهم وتجديد الميثاق معه بالتزامهم بالحياة الأمينة والعبادة الحيّة، أو بمعنى آخر الطاعة للوصية.

 يؤكد إرميا النبي مرارًا أن الشعب هو كاسر العهد بفشله في الطاعة لله، مقدمًا الشهادة الواضحة لذلك في كل مدينة، بل وفي حياة كل فرد حيث انتشرت عبادة الأوثان بينهم، إذ يقول: “لأنه بعدد مدنك صارت آلهتك يا يهوذا، وبعدد شوارع أورشليم وضعتم مذابح للخزي للتبخير للبعل” [13].

 صار الأمر خطيرًا للغاية، ولا مجال لإصلاحه إلا بقيام عهدٍ جديدٍ، وقد جاء هذا كمركز لنبوة إرميا الذي يفتح باب الرجاء (31: 31-34).

يتحدث هنا عن اللعنة التي يسقط فيها من لا يسمع كلام العهد الإلهي… هذه اللعنة حلت بالبشرية، لأنه لا يوجد من لم يكسر وصية إلهية؛ فجاء السيد المسيح يحمل عنها هذه اللعنة، وكما يقول الرسول: “المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب “ملعون كل من عُلق على خشبة” (غلا 3: 13، تث 21: 23).

يشرح لنا العلامة أوريجينوس كيف حمل مسيحنا اللعنة عنا قائلاً إن لدائرة اللعنة مدخلين، أحدهما كسر الوصية أو نقض الناموس، وقد، دخلت منه البشرية كلها، لأن الكل زاغوا معًا وفسدوا وأعوزهم مجد الله (مز 14: 3؛ 53: 3، رو 3: 12). والباب الثاني هو التعليق على خشبة (تث 21: 23)، وقد دخل منه السيد المسيح ليلتقي بنا هناك، لا عن طريق كسر الناموس، وإنما عن طريق التعليق على خشبة. لكن اللعنة لم تحتمله، ففجرها وكسر متاريسها، وحملنا معه من دائرة اللعنة إلى مجد أولاد الله المباركين.

v  ها أنتم ترون كيف يبرهن (الرسول بولس) أن الذين يلتصقون بالناموس هم تحت اللعنة، إذ يستحيل عليهم أن يتمموه (غلا 3: 10-11)، ثم كيف جاء الإيمان يحمل قوة التبرير…

مادام الناموس عاجزًا عن أن يقود الإنسان للبر، فالإيمان هو العلاج الفعّال الذي يجعل ما كان مستحيلاً بالناموس ممكنًا (رو 8: 3)…

استبدل المسيح هذه اللعنة بلعنة أخرى “ملعون كل من عُلق على خشبة” (تث 21: 23). إن كان من يُعلق على خشبة ومن يتعدى الناموس كلاهما تحت اللعنة، وكان من الضروري لذاك الذي يحرر من اللعنة أن يكون حرًا منها، إنما يتقبل لعنة أخرى، لذلك قَبِل المسيح في نفسه هذه اللعنة الأخرى لكي يحررنا من اللعنة… لم يأخذ المسيح لعنة التعدي، بل اللعنة الأخرى، لكي ينتزع اللعنة عن الآخرين. “على أنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش” (إش 53: 9). إذ بموته خلص الأموات من الموت، هكذا بحمله اللعنة في نفسه خلصهم منها.

القديس يوحنا الذهبي الفم[224]

كما أن المسيح بذاته لم يصر لعنة، إنما قيل هذا لأنه أخذ على عاتقه اللعنة لحسابنا، هكذا صار جسدًا لا بتحوله إلى جسدٍ، إنما إتخذ جسدًا من أجلنا وصار إنسانًا.

البابا أثناسيوس الرسولي[225]

v     صار خطية ولعنة لا لحسابه بل لحسابنا… صار لعنة لأنه حمل لعناتنا.

القديس أمبروسيوس[226]

“ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد” [3].

كأنه يقول يسقط تحت اللعنة من يكسر الناموس حتى إن كان مختونًا بالجسد، لأنه غير مختون الأذن. من ليس له الأذن المختونة يسمع بأذنيه الخارجيتين، فيكون لذلك صدى على النفس في الداخل، ولا يستجيب لكلمات العهد. أما من له الأذن المختونة فإنه يسمع ما يقوله الروح للكنائس (رؤ 3: 6). مثل هذا ليس فقط يُعتق من اللعنة، لعنة عدم الطاعة، وإنما يتمتع بالحياة المطوَّبة، حياة الطاعة في المسيح يسوع الذي تمم العهد الجديد بدمه، واهبًا إيانا روح الطاعة.

إن كانوا قد سقطوا في اللعنة بسبب عدم الطاعة للعهد، فإن العيب ليس في الناموس بل في عدم ختان آذانهم، أما العهد فليس ثقيلاً، والوصية ليست مستحيلة. العهد ممكن وعذب، يحمل الملامح التالية:

أولاً: عهد حرية

يقول: “يوم أخرجتهم من أرض مصر[4]، أخرجتهم من العبودية ليعيِّدوا بفرح وبهجة قلب (خر 5: 1). هو عهد خروج إلى حياة الحرية والفرح، فلماذا يكسرونه؟! هل يريد الإنسان العبودية؟! هذا هو العجب في الإنسان، فإنه كثيرًا ما يرفض وصية الله موضوع فرحه وبهجة قلبه، ليبذل كل جهده وطاقاته وأمواله في الفساد، ويعيش في مرارة العبودية الداخلية!

يقول العلامة أوريجينوس:

[إذًا لا تقع هذه اللعنة علينا نحن، وإنما تقع على أولئك الذين لم يسمعوا كلام العهد الذي أمر الله به الآباء،“يوم أخرجتهم من أرض مصر من كور الحديد.

نحن أيضًا، أخرجنا الله من أرض مصر[227]، ومن كور الحديد، خاصة إذا فهمنا ما هو مكتوب في سفر الرؤيا، أن الموضع الذي صُلب فيه الرب يُدعى روحيًا سدوم ومصر (رؤ 11: 8). إذًا إن كان يدعى روحيًا مصر، فمن الواضح أنه لو فهمت ما هو مقصود بالبلد التي ُتدعى روحيًا مصر والتي كنت تعيش فيها قبلاً، تكون قد خرجت من أرض مصر، وُيقال لك أيضًا بعد ذلك: “اسمعوا صوتي واعلموا به حسب كل ما آمركم به”[228]].

ثانيًا: عهد راحة

غاية هذا العهد أن ُيخرجهم كما من كور مصر، من وسط النيران ليدخل بهم إلى ندى راحته. عتقهم من المسخرين العنفاء، لا ليعيشوا في رخاوة بلا عملٍ، إنما لينالوا بركة العمل. بمعنى آخر خرجوا من كور المسخرين ليقبلوا العمل لحساب الله حسب إرادته، لا كثقلٍ يلتزمون به كرهًا، بل بركة من قبل الله. إذ يقول: “واعملوا به حسب كل ما آمركم به” [4]… يستبدل عمل السخرة المرّ بالعمل لحساب الله الممتع!

“يقول كلام هذا العهد الذي أمرت به آباءكم يوم أخرجتهم من أرض مصر من كور الحديد، قائلاً: اسمعوا صوتي” [4-5].

كور الحديد هي فرن ترتفع فيها الحرارة جدًا لصهر الحديد، الأمر الذي لا تحتاج إليه كثير من المعادن. بينما يُمكن صهر النحاس في درجة حرارة 800 ف، لا يُصهر الحديد إلا عند درجة 1535 ف.

استخدم حزقيال النبي ذات التشبيه، قائلاً: “من حيث إنكم كلكم صرتم زغلاً، فلذلك هأنذا أجمعكم في وسط أورشليم؛ جمع فضة ونحاس وحديد ورصاص وقصدير إلى وسط كور لنفخ النار عليها لسكبها كذلك أجمعكم بغضبي وسخطي وأطرحكم وأسبككم، فأجمعكم وانفخ عليكم في نار غضبى فُتسبكون في وسطها” (حز 22: 19-21).

يشبه خروجهم من مصر كمن يخرج من النار، من كور الحديد، لا ليعيِّرهم بأنه خلصهم من النار، وإنما بعد إخراجهم يطلب الدخول معهم في العهد. كأن الله لا يستغل ضيقتهم ليأمر وينهي، وإنما ليدخل معهم خلال الحوار الودي في عهد أبوي مملوء حبًا. في هذا العهد يقدم نفسه إلهًا منسوبًا لأولاده: “فتكونوا لي  شعبًا، وأنا أكون لهم إلهًا[4]

هنا نلاحظ أنه عندما يتفاهم مع شعبه يدعوهم: “شعبي” ويدعو أعيادهم “أعيادي”، وسبوتهم: “سبوتي”، لكن إذ يصرون على العصيان يقول لموسى: “شعبك”.

v     ما دامت مصر هي كور حديد (11: 4، تث 4: 20) فهي تشير رمزيًا إلى كل مجالٍ أرضي.

يليق بكل من يهرب من شر الحياة البشرية دون أن يحترق بالخطية أو يمتلئ قلبه بالنار ككورٍ أن يقدم تشكرات ليس بأقل من الذين يُختبرون بالنار كندى[229].

العلامة أوريجينوس[230]

يوجد وعد من الرب للذين يسمعون كلامه أنهم إذا فعلوا كل ما أمرهم به: “تكونوا لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا”. ليس كل شعب يُدّعى شعب الله يكون بالفعل شعبًا لله. ألم يقل الله لذلك الشعب الذي كان يتظاهر بأنه شعب الله،: “إنكم لستم شعبي” لأنهم: “أغاظوني بإله آخر، أغاظوني بأصنامهم، فأنا أيضًا أغيظهم بأمة أخرى… غبية”.

أصبحنا نحن الآخرون شعبًا لله، وقد أعلن بر الله للشعب الذي سيأتي (سيولد)، أي للشعب القادم من الأمم. في الواقع وُلِد هذا الشعب فجأة، وقد قيل في النبي: “هل يُولد شعب مرة واحدة؟!”، نعم وُلد شعب مرة واحدة حينما جاء المخلص، وحينما آمن خمسة آلاف رجل في يومٍ واحدٍ بالإضافة إلى ثلاثة آلاف نفس في يومٍ آخر. يمكننا أن نرى شعبًا بأكمله مولودًا من كلمة الله يسوع المسيح. فقد وَلَدَت العاقر التي لم تكن قبلاً تُنجب، والتي قيل عنها: “ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد. أشيدي بالترنم أيتها التي لم تتمخض، لأن بني المتوحشة (المتوحدة أو الوحيدة) أكثر من بني ذات البعل” (إش 54: 1)، إنها وحيدة، لأنها كانت محرومة من الشريعة ومن الله، أما الأخرى ذات البعل، أي الأمة اليهودية، فكانت كما هو معروف تتخذ من الشريعة الإلهية زوجًا لها.

بماذا إذًا يعدني الرب؟ “فتكونوا لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا”. إنه ليس إلهًا للجميع، وإنما فقط للذين يهبهم نفسه مجانًا كإلهٍ لهم. كما قال لأحد الآباء: “أنا هو إلهك”، وقال لآخر: “سأكون إلهك”، وقال أيضًا عن آخرين: “سأكون لهم إلهًا”. متى نصل نحن أيضًا إلى أن يكون الله إلهًا لنا؟

إن كنت تريد أن تعرف من هم الذين يكون الرب إلهًا لهم، يعطيهم شرف إضافة أسمائهم إلى اسمه، انظر قوله: “أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب”. وقد علق السيد المسيح على هذا بقوله: “ليس هو إله أموات بل إله أحياء”. من هو الإنسان المائت؟ الخاطئ، أو من لا يحمل في داخله الله القائل: “أنا هو الحياة”، وكل من يعمل الأعمال المائتة ولم يتب عنها حتى الآن.

إذًا، بما أن الله ليس إله أموات بل إله أحياء، وبما أننا نعرف أن الإنسان الحيّ هو الذي يحيا بحسب كلام السيد المسيح ووصاياه ويكون دائمًا ثابتًا فيه، فلو أردنا أن يصير الرب إلهًا لنا، نترك أعمال الموت، حتى يتمم لنا وعده: “فتكونوا لي  شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا لأقيم الحلف الذي حلفت لآبائكم أن أعطيهم أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً”. تأمل هذه الكلمات، فإن الرب يتحدث هنا كما لو لم يكن قد أعطاهم بعد هذه الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً. في الواقع الأرض التي أخذوها ليست هي التي كان يقصدها الله حينما قال “أرض تفيض لبنًا وعسلاً”، وإنما الأمر يتعلق بأرض أخرى قال عنها الرب في تعاليمه: “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض”.

العلامة أوريجينوس[231]

ثالثًا: عهد يلتزم به الله بقسم

لم يأتِ هذا العهد مصادفة، ولا يمثل أمرًا ثانويًا، لكنه موضوع يهم الله نفسه، فيقيم نفسه شاهدًا على العهد بقسمٍ. لم يقم خليقة سماوية أو أرضية للشهادة، ولا ائتمنهم على ذلك، بل أقسم بذاته أن يحقق وعوده، قائلاً: “لأقيم الحلف الذي حلفت لآبائكم…” [5]، ليبث فيهم روح الثقة أنه يحقق لهم وعوده الصادقة والأمينة.

رابعًا: عهد مبادرة بالحب

يقول: “مبكرًا[7]، وكأن الله هو المبادر بالحب، وهو الذي يبكر لتوقيع الميثاق، إنه لا يتأخر في تحقيق مواعيده. إن كان يتأخر فلأجل إعطائنا فرصة لرجوعنا إلى نفوسنا، ومراجعتنا لحساباتنا، وعودتنا إليه حتى لا نهلك، وكما يقول القديس بطرس: “لا يتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ، لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس، بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة” (2 بط 3: 9).

أمام هذا العهد الإلهي العجيب المملوء حبًا وحنوًا انحنى إرميا برأسه، بل وبكل كيانه ليردد مع آبائه “آمين يارب” [5]. هذا ما سبق أن نطق به الشعب حين سمع بركات الطاعة للوصية وقبول العهد، ولعنات العصيان وكسر العهد (تث 27). في خضوع انحنى إرميا ليقبل من يد الله تأديباته لشعبه حتى إن بدت قاسية.

“فأجبت وقلت: آمين يارب” [5].

ما أعجب شخصية إرميا الرقيقة كل الرقة خاصة نحو شعبه، إذ جدران قلبه توجعه، ورأسه ينبوع ماء لا يجف من أجل ما حلّ بهم، وقد جاءت كلمة الرب إليه تعلن تأديباته الحازمة، فكانت كنارٍ محرقة محصورة في عظامه لا يطيقها (20: 9)، كان لابد أن ينطق بها، وفي تسليمه الكامل وادراكه لمراحم الله الكلي الحب قال: “آمين يارب” [5]، وهو يتوقع خراب شعبه المحبوب لديه جدًا.

لا نعجب إن رأينا الكنيسة المنتصرة قد اقتنت نفس الروح، هذه التي تدربت على دروس الحب، بل اقتنت في داخلها مسيحها كلي الحب، فإنه إذ دان الله الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض بزناها وانتقم لدم عبيده من يدها ودخانها يصعد إلى أبد الآبدين، صرخت قائلة: “آمين هلليلويا” (رؤ 9: 1-3).

نحن أيضًا إذ نصلي في كل يوم، قائلين من كل قلوبنا: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض” تتحول صلواتنا إلى تسبحة مستمرة، خلالها يلهج قلبنا وفكرنا بالتسبيح: “آمين يارب!”

يقول العلامة أوريجينوس:

[إجابة على قول الرب: “ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد”، يقول النبي: “فأجبت وقلت آمين يارب”، ما معنى كلمة آمين يارب؟ أي: “آمين يارب أن الذي لا يسمع كلام هذا العهد يصير ملعونًا”.

“فقال الرب لي: نادِ بكل هذا الكلام في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم (وخارج أورشليم)” –إننا ننادى بكلام الرب حتى للذين هم في الخارج لندعوهم إلى الخلاص – “قائلاً: اسمعوا كلام هذا العهد واعملوا به… فلم يسمعوا… ولم يصنعوه. وقال الرب لي: توجد فتنة بين رجال يهوذا وسكان أورشليم”.

ألا يجب علينا نحن بالأولى أن نتوب عن خطايانا، بكوننا رجال يهوذا، أي رجال السيد المسيح، كما سبق لنا القول.

حيث يوجد بيننا أناس خاطئون وأناس يسلكون حسب الباطل، قال النبي: “توجد فتنة بين رجال يهوذا وسكان أورشليم” “قد رجعوا إلى آثام آبائهم الأولين”…

لم يقل مجرد “آثام آبائهم” فقط، وإنما أضاف كلمة الأولين. قلنا أن هذا الكلام موجه لنا وللخطاة الموجودين بيننا. كيف رجع هؤلاء الخطاة لا إلى آثام آبائهم فقط، بل إلى آثام آبائهم الأولين؟ أليس لأن لنا نوعان من الآباء، منهما نوع فاسد. قبل أن نقبل الإيمان كنا أولادًا للشيطان، كما يوضحه الإنجيل “أنتم من أب هو إبليس”، وعندما آمنَّا صرنا أولاد الله. ففي كل مرة نخطئ، نرجع إلى آثام آبائنا الأولين.

لكي نوضح أن آباءنا نوعان استعين بالمزمور 45، حينما يقول: “اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنيكِ وانسي شعبكِ وبيت أبيكِ”، إذ يقول لها: “اسمعي يا ابنتي” فهو أبوها، كيف إذًا يقول أب لابنته “انسي بيت أبيكِ”؟ لأن الآباء نوعان.

انسي بيت أبيك، أي أبيك الأول؛ إذا عدت للخطايا بعد أن تكوني قد نسيتي بيت أبيك الأول، تكونين أنتِ المقصودة بهذه الآية: “قد رجعوا إلى آثام آبائهم الأولين”.

قلت كان الشيطان أبانا، قبل أن يصير الله أبانا – إن لم يكن الشيطان أبانا حتى الآن – هذا نوضحه أيضًا من رسالة القديس يوحنا: “من يفعل الخطية فهو من إبليس (مولود من إبليس)” (1 يو 3: 8). وبما أن كل من يفعل الخطية مولود من إبليس، فإننا كنا مولودين من الشيطان عدة مرات حسب كل مرة نخطئ فيها.

مسكين الإنسان الذي يولد من الشيطان بلا توقف، وطوبى لمن يُولد من الله باستمرار.

لا أقول إن البار يولد من الله مرة واحدة فقط طوال حياته، إنما يولد من الله باستمرار في كل عمل صالح يقوم به…

وعندما أوضح لك بخصوص المخلص، كيف أن الآب لم يلد الابن بطريقة تجعله (أي الابن) يحتاج أن يولد منه مرة أخرى بعد ذلك، إنما يلده باستمرار، هكذا أيضًا بالنسبة للإنسان البار.

لنرى ما يخص مخلصنا: إنه يشع مجدًا، إشعاع المجد لم يحدث (لم يولد) مرة واحدة للأبد، وإنما طالما يتولد منه النور، فإن مجد الرب يشع باستمرار. مخلصنا هو حكمة الله؛ والحكمة هي “إشعاع النور الأبدي”. فإذا كان المخلص مولودًا باستمرار من الآب، هكذا أنت أيضًا إذا كان عندك روح التبني، فإن الله يلدك باستمرار في المسيح يسوع عند كل عمل من أعمالك وعند كل فكر من أفكارك. هكذا بميلادك تصير ابنًا لله بلا توقف، مولودًا في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين. آمين[232]].

“لأني أشهدت على آبائكم إشهادًا يوم أصعدتهم من أرض مصر إلى هذا اليوم مبكرًا، ومشهدًا، قائلاً:

اسمعوا صوتي.

فلم يسمعوا ولم يميلوا أذنهم،

بل سلكوا كل واحدٍ في عناد قلبه الشرير.

فجلبت عليهم كل هذا العهد الذي أمرتهم أن يصنعوه ولم يصنعوه” [7-8].

يعود بذاكرتهم إلى بدء إقامة العهد، حيث خانه الشعب منذ اللحظات الأولى، حين نزل موسى من الجبل يحمل معه لوحي العهد اللذين كتبهما الله بإصبعه. عوض السحابة المقدسة السماوية التي عاش فيها موسى أربعين يومًا نزل إلى جوٍ فاسدٍ حيث وجد الشعب يتعبد للعجل الذهبي، يسجدون له ويذبحون (خر 23: 7-8). عوض الموسيقى السماوية المبهجة للنفس سمع صوت غناء ورقص (خر 32: 18-19)، فلم يحتمل ذلك… ارتجفت يداه “وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل” (خر 32: 19). هكذا أعلن موسى النبي عن خيانتهم للعهد منذ اللحظات الأولى، وها هو إرميا يشهد على أبنائهم أنهم سلكوا طريق آبائهم: خيانة العهد.

 لعله أيضًا قصد بآبائهم أولئك الذين سلكوا في الشر قبل إصلاح يوشيا.

“توجد فتنة بين رجال يهوذا وسكان أورشليم” [9].

كسرهم للعهد ليس عن ضعفٍ مؤقت، ولا ثمرة إغراء خارجي، لكنه عن فتنة أو خطة مُحكمة وإصرار، وها هم يتشبهون بآبائهم الأولين في عصيانهم وكسرهم للعهد.

أدى عدم الطاعة إلى “كسر العهد” مرارًا، لهذا حلت بهم الشرور كثمرٍ طبيعي لاعتزالهم الله الذي لم يتدخل إلى حين حتى يكتشف الشعب عجز الأوثان عن إنقاذهم، ويدركوا أنها آلهة باطلة لا حول لها ولا قوة. حتى إرميا نفسه كنبي صار عاجزًا عن الشفاعة عنهم.

“هأنذا جالب عليهم شرًا لا يستطيعون أن يخرجوا منه، ويصرخون إليّ فلا أسمع لهم…” [11].

مع عجزهم عن الهروب من الضيقة (الشر) التي سقطوا فيها صرخوا لله لا للرجوع إليه بالتوبة، وإنما لمجرد مساندتهم، لهذا قيل “ويصرخون إليّ فلا أسمع لهم” [11]. تركهم يلجأون إلى الآلهة الغريبة ليدركوا عجزها، لهذا لم يسمع لهم، ولا سمح لإرميا النبي أن يشفع فيهم. “وأنت فلا تُصلِّ لأجل هذا الشعب، ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة، لأني لا أسمع في وقت صراخهم إليّ من قبل بليتهم” [14]. سبق فطلب منه ألا يصلي لأجلهم ولا يلح عليه (7: 16). وقد رأينا أن الله ُيسر بأن يرى قلب إرميا متسعًا بالحب، وألا يكف عن الصلاة بلجاجة من أجل شعب الله. لكنه يريد تأكيد أن الأمر قد صدر بتأديبهم، وهو لخيرهم وخلاصهم، فلا يطلب النبي رفع التأديب عنهم.

v  قال لإرميا: “لا تُصلِّ لأجل هذا الشعب… لأني لا أسمع”، لا ليوقف صلاته (لأن الله يتوق مشتاقًا إلى خلاصهم)، إنما لكي يرعبهم. وإذ رأى النبي ذلك لم يتوقف عن الصلاة[233].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يظهر ذلك بوضوح بقوله: “من قبل بليتهم[14]؛ كأن الله لا يرفض صلواتهم أو طلباتهم، ولا صلوات النبي عنهم، لكن يلزم تركيزها على توبتهم ورجوعهم إليه، ونموهم روحيًا، لا عن رفع البلية عنهم!

أظهر النبي شدة آلامه، إذ حلت به حالة احباط شديدة، لأنه عجز عن أن يدفع عن شعبه ما يحل بهم من انهيار، ولأنه غير قادر على الوساطة بالصلاة عنهم في هذا الأمر كما فعل موسى النبي قبلاً (تث 18: 15-22)، ليس عن ضعف في إرميا، وإنما لإصرار الشعب على العصيان. لقد تمررت نفس النبي حتى لعن يوم ميلاده (20: 14).

 

ما لحبيبتي في بيتي؟!  [15-17].

رفض الاستماع للشعب كما للنبي في أمرٍ ما لا يعني رفضه لشعبه، فهم بالنسبة له “المحبوبة” التي يريدها أن تقيم في بيته، لا أن تدنسه وتخربه. في وسط هذا المرّ يعاتبها مذكرًا إياها بمركزها الذي نالته خلال العهد الذي تحطمه بإرادتها، قائلاً لها:

“ما لحبيبتي في بيتي؟!

قد عملت فظائع كثيرة،

واللحم المقدس قد عبر عنكِ.

إذا صنعتِ الشر حينئذ تبتهجين” [15].

إن كنتِ تعتزين بالهيكل المقدس أنه في أورشليم، فإنكِ وأنتِ المحبوبة لي قد عملت فظائع كثيرة، من إقامة مذابح للأوثان وأصنام، وممارسة الرجاسات، وتقديم الأطفال محرقات للأوثان. هذا من جانب، ومن جانب آخر عوض تقديم الذبائح قدمتي لحمًا. إذ يقصد باللحم المقدس الذبائح التي ُتقدم في الهيكل، فإنها ليست في عينيه ذبائح للمصالحة أو محرقات حب، بل هي لحم للأكل، كما سبق فقال: “ضموا محرقاتكم إلى ذبائحكم وكلوا لحمًا” (7: 21). وعوض التوبة عن هذه الشرور تبتهجين وتفتخرين بالشر!

يكمل عتابه لمحبوبته، قائلاً:

“زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب اسمك.

بصوت ضجة عظيمة أوقد نارًا عليها فانكسرت أغصانها؛

ورب الجنود غارسك قد تكلم عليكِ شرًا من أجل شر بيت إسرائيل وبيت يهوذا الذي صنعوه ضد أنفسهم ليغيظوني بتبخيرهم للبعل” [16-17].

الضجة العظيمة هنا هي ضجة الجيوش المعادية المجتازة البلاد. إنه في مرارة يؤدبها كما بنارٍ.

 كان تشبيه الشعب بزيتونة خضراء جميلة غرسها الله بنفسه مألوفًا، حيث كان شجر الزيتون مغروسًا في دائرة الهيكل. مصدر هذا التشبيه هو (مز 52: 10)، وقد اقتبسه الرسول بولس في (رو 9).

 هذه التي غرسها الرب تحترق بنارٍ لأنها اعتزلته ورفضت عمله فيها.

إن كان الله لا يسمع لها ولا للنبي إرميا من أجل رفع التأديب، فإنه يقدم هنا الحجة تلو الحجة:

أ. إن الشر صادر لا عن شعبٍ غريبٍ ليس له خبرة معه، بل عن حبيبته التي اقتناها لنفسه. فالإنسان لا يبالي كثيرًا بالشر الصادر عن غريبٍ أو عدوٍ، لكنه يُجرح حين يصدر ممن اقتناه لنفسه حبيبًا! وكما جاء في سفر زكريا عن السيد المسيح الذي جرحته أمته، أو جرحه تلميذه: “جُرحت بها في بيت أحبائي” (زك 13: 6).

ب. الشر موجه إلى مقدساته، إلى بيته الذي فيه كان يجب أن يتقدسوا، إذ يقول: “ما لحبيبتي في بيتي؟!” [15]. من يقدر أن يعبر عن شرنا حينما ندنس هيكله الذي في داخلنا، فنحول إنساننا الداخلي من ملكوته إلى مركزٍ للخطية والشر، وعوض النور تحتله الظلمة؟!

ج. إنه ليس بالشر العابر نتيجة ضعف، إنما “قد عملتِ فظائع كثيرة” [15]. خطايا عن عمد، برغبة شديدة ، وبكثرة! إنها ليست مجرد ضعفات نصرخ منها، لكنها فظائع كثيرة نصمم عليها!

د. أفسدت العبادة التي كان يجب أن تكون سرّ مصالحة مع الله، لتصير أكلاً وشربًا؛ عوض الذبائح قدمت لحمًا للأكل [15].

هـ. عوض التوبة عما ترتكبه تبتهج وتفتخر بشرها: “إذا صنعتِ الشر حينئذ تبتهجين” [15].

و. أفسدت عمله فيها، وحولت الجمال والإثمار إلى قبحٍ وعقمٍ. إذ يقول “زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب اسمك… رب الجنود غارسك” [16-17]. أعطاها اسمًا جميلاً، وقدم لها إمكانية الإثمار بوفرة، غرسها بيمينه، لكنها في شرها أصرت أن تدنس اسمها، وتعيش بلا ثمرٍ روحي.

ز. تخضع الطبيعة له، فتأتي الزيتونة بثمارٍ كثيرة على كل فروعها، ورقها دائم الاخضرار العام كله، ُتقدم طعامًا ودواءً بزيت الزيتون، أما هي فعقيمة وجافة، جائعة ومريضة.

ح. أخيرًا فإنها تفعل ذلك لا لبهجتها فحسب وإنما لإغاظة الرب. قدم لها الحب والخير، فردت عليه بالبغضة والشر، بهذا قدمت الشر لنفسها لا لله. “قد تكلم عليكِ شرًا من أجل شر بيت إسرائيل وبيت يهوذا الذي صنعوه ضد أنفسهم ليغيظوني بتبخيرهم للبعل” [17]. فما تكلم به الرب عليهم إنما هو ثمر طبيعي للشر الذي صنعوه ضد أنفسهم.

تكررت العبارة “تكلم الله عليهم بالشر” ست مرات في إرميا (16: 10؛ 26: 19؛ 35: 17؛ 36: 31؛ 40: 2)، كما جاءت مرة في (1 مل 22: 23).

 

اعترافات إرميا  [18-20].

يدعو البعض هذه المراثي الشخصية لإرميا (11: 18، 12: 6) “اعترافات إرميا” وإن كان البعض يراها “شكاوى إرميا”.

يرى البعض أن اعترافاته شملت الآتي: (11-18، 12: 6؛ 15: 10-12، 15-21؛ 17: 9-10، 14-18؛ 18: 18-23؛ 20: 7-12، 14-18). ويضيف عليها البعض العبارات: (4: 19-21؛ 8: 18-23؛ 10: 19-23؛ 13: 17؛ 14: 17-18).

ينفرد إرميا النبي بين الأنبياء في حفظه مجموعة من الصلوات تقدم نظرة غير عادية عن حياة النبي الداخلية، كما لم يقدم أي سفر نبوي مجموعة من الشكاوي مثل هذا السفر. حقًا لقد عانى الأنبياء من الشعب، لكنهم لم يقدموا تفاصيل مثل إرميا:

صرخ موسى النبي إلى الرب قائلاً: “ماذا أفعل بهذا الشعب؟! بعد قليل يرجمونني” (خر 17: 4).

وقيل عن صموئيل الذي تألم من الشعب الرافض له: “وصرخ إلى الرب الليل كله” (1 صم 15: 11)، لكننا لا نعرف بماذا كان يصرخ.

واشتكى إيليا النبي الشعب لله فقال: “قد غرت غيرة للرب إله الجنود، لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقيت أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها” (1 مل 19: 10).

وعبر إشعياء النبي عن مرارة نفسه من جهة الشعب بعبارة فريدة: “إلى متى أيها السيد؟” (إش 6: 11).

يرى بعض الدارسين أن اعترافات إرميا بصيغة الفرد نطق بها باسم الشعب كله، تعبر عن مرارة نفوسهم وسط الآلام، إذ كانوا يستخدمونها في العبادة الجماعية.

إن كان إرميا النبي قد عبَّر في اعترافاته عن مرارة نفسه لكن لا يمكننا قبول ما يراه بعض الدارسين أن إرميا قد ظن أن الله لم يفِ بوعده بخصوص حمايته، إنما جاءت عباراته كبعض عبارات داود النبي التي يبدو كمن يطلب النقمة لنفسه، وقد سبق لنا الحديث عنها في شرحنا لسفر المزامير. إنها تعبر عن مشاعره البشرية كإنسان له ضعفاته يئن من شدة الألم دون أن يفقد ثقته في الله مخلصه. كما أنه لا يطلب نقمة شخصية، إنما يطلب تأديبًا لمقاومي كلمة الله التي يعلنها النبي. وأن ما نطق به هو نبوات تتحقق كثمرة لشرهم.

يبدأ إرميا النبي اعترافاته، قائلاً:

“والرب عَّرفني فعرفت.

حينئذ أريتني أفعالهم” [18].

كشف له الرب عن المؤامرة التي دبروها لهلاكه، كشفها له ذاك الذي سبق فأكد له وهو بعد ولد: “لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب” (1: 8).

كشف له الرب عن خطتهم وأفكارهم وكلماتهم وأعمالهم من نحوه كما عن قلوبهم وما في أعماقهم، لأنه هو فاحص الكلى والقلب [20]. كأنه يقول إن كانوا في خداع قد خططوا سرَّا لقتلي، لكن في واقع الأمر خدعوا أنفسهم لأنهم لم يدركوا أن الله فضح خطتهم لي، وما فعلوه ليس لهلاكي بل لهلاكهم. ذلك كما انخدع فرعون عندما خطط لإبادة إسرائيل بقتله الأطفال الذكور، وانخدع هيرودس حينما ظن أنه قادر على منع ظهور المسيا المخلص بقتله أطفال بيت لحم الذكور.

بمعنى آخر حسابات الأشرار خاطئة وخطيرة، لا على حياة الغير، بل على حياتهم، لأنهم لا يدركون إمكانيات الله الفاحص الكلى والقلب، والعارف بكل الأسرار الخفية، والقادر على تحويل شرورهم لبنيان ملكوت الله.

يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة السابقة مؤكدًا أن الله وحده هو المعلم.

[إذا كان الكلام الموجود في الناموس والأنبياء والأناجيل والرسل، هو كلام الله، فإن من يتعلم من هذا الكلام، يجب أن يخص الله بلقب “معلم”. لأن الذي ُيعَلِّم الإنسان المعرفة هو الرب، كما جاء في (مز 93: 10).

يؤكد المخلص أنه يجب ألا نعطى لقب “معلم” لإنسان على الأرض: “فلا تدعوا سيدي لأن معلمكم واحد هو المسيح(مت 23: 8-9). في الواقع، الآب الذي في السموات هو الذي يُعَلّم: إما بنفسه، أو بالابن السيد المسيح أو بالروح القدس، وأيضًا بواسطة بولس أو بطرس أو أي من القديسين الآخرين، بشرط أن يأتي روح الرب وكلمته ليُعَلِّما. لماذا قلت ذلك؟ لأن النبي يقول بالتحديد: “والرب عرَّفني فعرفتُ” أو “عرّفني يارب فأعرِف”.

لأنني لن أعرف شيئًا إذا لم تُعرِفني أنتَ.

عرفت لأنك عرَفتني “فحينئذ” سأرى “أفعالهم”، وأفهم سلوكهم ونياتهم[235]].

لم يعرف إرميا النبي أعمالهم فقط، وإنما ما هو أعظم عرف مركزه الجديد، أنه صار رمزًا لحمل الله الذي يُساق للذبح من أجل خلاص الغير، فيترنم قائلاً:

“وأنا كخروفٍ داجنٍ يُساق إلى الذبح،

ولم أعلم،

انهم فكروا عليّ أفكارًا، قائلين:

لنهلك الشجرة بثمرها،

ونقطعه من أرض الأحياء،

فلا يُذكر بعد اسمه” [19].

كلمة “خروف” في العبرية هنا استخدمت 116 مرة في العهد القديم، كلها فيما عدا خمس حالات اُستخدمت كذبيحة، لذلك ترجم البعض كلمة “يساق إلى الذبح” أو “يُساق كذبيحة” مع أن الكلمة العبرية تعنى الذبح العادي[236].

حسبوه حملاً وديعًا، يقتلوه فلا يُذكر بعد اسمه، ولم يدركوا أنه رمز للسيد المسيح الذي بقتله يملك على القلوب، ويمزق بصليبه الصك الذي كان علينا ويجرد الرياسات والسلاطين ويشهرهم جهارًا ظافرًا بهم في صليبه (كو 2: 15). صار رمزًا للسيد المسيح الذي قيل عنه: “والرب وضع عليه إثم جميعنا؛ ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامته أمام جازيها فلم يفتح فاه. من الضغطة ومن الدينونة أُخذ؛ وفي جيله من كان يظن أنه ُقطع من أرض الأحياء، أنه ُضرب من أجل ذنب شعبي” (إش 53: 6-8).

يقول العلامة أوريجينوس:

[يتكلم السيد المسيح عن نفسه: “وأنا كخروفٍ داجنٍ يُساق إلى الذبح ولم أعلم”. لم يذكر ما هو الشيء الذي لا يعلمه. فهو لم يقل: “ولم أعلم الخير” أو “ولم أعلم الشر” أو “ولم أعلم الخطية”، وإنما قال فقط: “ولم أعلم”. بذلك ترك لك مهمة البحث عن الشيء الذي لم يعلمه. لكي تعرف ذلك الشيء، تأمل هذه العبارة: “لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا” (2 كو 5: 21). معرفة الخطية معناها السقوط فيها، تمامًا مثل معرفة الحق أي ممارسته. من يتحدث عن الحق ولا يمارسه لا يعرف الحق[237]].

صار رمزًا للسيد المسيح، ليس فقط كحملٍ سيق إلى الذبح، ولكن كشجرة أيضًا يطلب الأشرار إهلاكها. بحسب الترجمة السبعينية “لنهلك الشجرة بجسدها” [19]. إذ قيل عن السيد المسيح: “اصلبه. اصلبه”. طلبوا أن يهلكوه بالجسد على شجرة أو على الصليب. أرادوا قطعه، قائلين: خير أن يموت واحد عن الشعب.

يقول العلامة أوريجينوس:

[“إنهم فكروا عليّ أفكارًا قائلين: هلم نلقى خشبًا في خبزه”.

إن كان اليهود قد صلبوه، هذا أمر مفروغ منه، ونحن نعلمه بكل تأكيد؛ ولكن كيف نربط بين هذا الأمر وبين العبارة: “إنهم فكروا عليّ أفكارًا قائلين: هلم نلقى خشبًا في خبزه”. إنه موضوع يصعب فهمه!

خبز السيد المسيح هو الكلمة والتعاليم التي نتغذى بها، وحينما رآه اليهود يُعَلِّم بين الشعب أرادوا أن يفسدوا تعاليمه بصلبهم إياه، فقالوا: “لنلقي خشبًا في خبزه”. إضافة صلب السيد المسيح إلى تعاليمه هي بمثابة إلقاء خشبٍ في خبزه. حينما اجتمع هؤلاء الناس فيما بينهم ليتآمروا عليه قالوا: “هلم نلقي خشبًا في خبزه”.

أما أنا فلي أيضًا – إلى جانب ذلك – رأى مختلف وهو: أن الخشب الُملقى في خبزه جعل هذا الخبز أكثر قوة وفاعلية. أذكر مثالاً لذلك من شريعة موسى: العصا “الخشب” المطروحة في المياه المرّة جعلتها عذبة (خر 15: 25). هكذا حينما أضيفت “خشبة” حب السيد المسيح إلى تعاليمه جعلت خبزه أكثر عذوبة ورقة. بالفعل قبل أن ضيف “الخشب” إلى “خبزه”؛ أي في فترة تعاليمه التي سبقت الصليب، لم تبلغ أقواله إلى أقصى المسكونة (مز 19: 5). لكن بعدما أخذ الخبز قوة من خلال “الخشب” المطروح فيه، بلغت أقوال تعاليمه إلى كل المسكونة.

كان الخشب قديمًا رمزًا لمحبة السيد المسيح التي بها صار الماء المرّ عذبًا، لأنني أعتقد أن الناموس إذا لم يُفهم بالمعنى الروحي يكون “ماءً مرًا”، لكن بمجيء خشب صلب السيد المسيح ومجيء تعاليمه، أصبح ناموس موسى عذبًا وحلوًا[238]].

ونقطعه من أرض الأحياء،فلا يُذكر بعد اسمه” [19].

ظنوا أن بقتله يقطعونه (السيد المسيح) من أرض الأحياء، فينساه العالم، ولا يُذكر اسمه بعد، ولم يدركوا أنه القيامة واهب الحياة، وأن بفعلهم هذا حوّل السيد أرضنا – وادي الموت – إلى أرض الأحياء، حيث اختبرنا قيامة النفس، القيامة الأولى، أو الحياة الجديدة في المسيح يسوع. يلاحظ أن تعبير “أرض الأحياء” لم ُيذكر في سفر إرميا سوى هنا، وقد ورد في مواضع أخرى في العهد القديم 13 مرة.

استحقوا – كشجرة زيتون – أن تُحرق أغصانها الجافة التي بلا ثمر، لكنهم حكموا عليه أنه شجرة يجب إهلاكها، ولم يدركوا أنه بالشجرة التي يصدر عنها العفو، وينالون بر المسيح فيهم، يصيرون أغصانًا روحية ثابتة فيه.

العجيب أن حمل الله سبق فاخبرنا: “ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب” (مت 19: 16)، تأكلنا الذئاب لتقطع ذكرانا أو ذكرى مسيحنا من أرض الأحياء، فإذا بالذئاب تتحول إلى خراف وديعة. كم حوّل الشهداء بدمائهم أو بشهادتهم للإنجيل العمل نفوس مضطهديهم إلى ملكوت سماوي؟! عوض أن يقطعهم الأشرار من أرض الأحياء تحولوا هم إلى حملان وديعة وانتقلوا من أرض الأموات إلى أرض الأحياء، يسكنها بر المسيح واهب الحياة!

يقول العلامة أوريجينوس:

[يضيفون بعد هذا القول: “ونقطعه من أرض الأحياء فلا يذكر بعد اسمه”. قال عن ذلك: “إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمرٍ كثير” (يو 12: 4). لو لم يكن قد صُلب المسيح ومات لبقيت حبة الحنطة وحدها ولم تكن الجموع قد أثمرت منه وتبعته. أما موته فأعطى ثمارًا تتمثل في جميع المسيحيين. إذا كان الموت قد جاء بكل تلك الثمار، فكم تكون بالأكثر القيامة؟![239]].

رفع إرميا قلبه نحو الله، قائلاً:

“فيارب الجنود القاضي العدل، فاحص الكلى والقلب،

دعني أرى انتقامك منهم،

لأني لك كشفت دعواي” [20].

سبق لنا الحديث عن طلبه الانتقام.

يدعو الله “فاحص الكلى والقلب” [20]، أي يعرف شخصية الإنسان في أعماقها (الكلي) ومشاعره (القلب). تشير الكلى إلى الشخصية بأسرارها الخفية، لأنها العضو الأعمق في الجسم، والمحمية بالعظام، كثيرًا ما ترتبط بالقلب (17: 10؛ مز 7: 10؛ 26: 2).

v  نضع ثقتنا فيه، إذ يعرف العواطف التي في خبايا نفوسنا عندما تتناغم معًا لكي ترضيه بكونه حاضرًا في كل عقل يراقبه ويتعهده، إذ هو فاحص القلوب والكلى (مز7: 9، إر 11: 20، 17: 10، رو 8: 27، رؤ 2: 23).

العلامة أوريجينوس[240]

“لذلك هكذا قال الرب عن أهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين:

لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بأيدينا.

لذلك هكذا قال رب الجنود:

هأنذا أعاقبهم.

يموت الشبان بالسيف،

ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع،

ولا تكن لهم بقية،

لأني أجلب شرًا على أهل عناثوث سنة عقابهم” [21-23].

يحاول الأشرار منع أولاد الله من الشهادة للحق، “قائلين: لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدِنا” [21]. وكما حدث مع القديسين بطرس ويوحنا إذ “دعوهما وأوصوهما أن لا ينطقا البتة ولا يُعلما باسم يسوع. فأجابهم بطرس ويوحنا وقالا: إن كان حقًا أمام الله أن نسمع لكم أكثر من الله فأحكموا، لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا” (أع 4: 18-20). هكذا حاول أقرباؤه – أهل عناثوث – منعه من الشهادة للحق، وقد أصروا على قتله، فإذا بهم يفقدون بنوهم وبناتهم بالسيف كما بالجوع!

يقول العلامة أوريجينوس:

[يؤخذ اسم “عناثوث” بالمعنى الرمزي، وهو يشير إلى اليهود. “عناثوث” بحسب ترجمة الأسماء العبرية ُتترجم “مختار”. كان الشعب اليهودي هو شعب الله المختار، وكان ملكوت الله أيضًا عندهم. بخصوص هذا الملكوت تحققت الكلمات: إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره” (مت 21: 43). في هذا أيضًا تحققت الكلمات أن “أهل عناثوث” الشعب المختار، “يطلبون نفسه”، ليس نفس إرميا، إنما قيل عن السيد المسيح.

“الذين يطلبون نفسك، قائلين: لا تتنبأ باسم الرب”. لقد منع اليهود السيد المسيح من أن يعلم، “فلا تموت بأيدينا. لذلك هكذا قال رب الجنود: هأنذا أعاقبهم. يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع”. إنهم لم يهلكوا بالسيف في عهد إرميا وإنما الآن، بعد الخراب، حلّ الجوع عليهم، ليس جوعًا إلى الخبز ولا عطشًا إلى الماء، بل لسماع كلمة الرب (عا 8: 11). لم تعد تُقال بعد لهم العبارة التي كثيرًا ما تكررت: “هكذا قال رب الجنود”. فالجوع يتمثل في أنه لم تعد توجد عندهم نبوات ولا حتى تعاليم. فقد نُزعت كلمة الرب من عندهم، وتحققت الكلمات: “فإنه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ويهوذا السند والركن، كل سند خبز وكل سند ماء. الجبار ورجل الحرب. القاضي والنبي والعرِّاف والشيخ. رئيس الخمسين والمعتبر والمشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية” (إش 3: 1-3).

 لم يعد أحد من بينهم يستطيع أن يقول: “كبَناء حكيم قد وَضَعْتُ أساسًا” (1 كو 3: 10). لقد مضى البناءون وعبروا إلى الكنيسة، ووضعوا السيد المسيح “أساسًا” لها، وأولادهم أيضًا بنوا عليه[241]].


 

من وحي إرميا 11

عوض لعنة الناموس

دخلت بي إلى حضن أبيك!

v     طوباك يا موسى،

ارتفعت على جبل سيناء لتقضي أربعين يومًا وسط سحابة القداسة،

تسمع تسابيح السمائيين،

وتقبل لوحي العهد من يدّ خالقك!

نزلت متهللاً، فقد وقَّع الله عهدًا مع شعبه،

أعلنه بحب شديد وقسم!

أقسم بذاته لا بخليقته السماوية أو الأرضية.

أي عجب أعظم من هذا؟!

v     نزلت إلى أسفل الجبل:

عوض سحابة القداسة، رأيت رجاسة ورقصًا!

عوض تسابيح السمائيين، سمعت أغانٍ فاسدة!

وعوض الالتقاء مع الله، شاهدت العجل الذهبي!

لم تحتمل المنظر، فألقيت بلوحي العهد فانكسرا،

معلنًا عن خيانة الشعب للعهد منذ اللحظات الأولى،

وسقوطه تحت لعنة الناموس!

v     هذا هو حالي وحال اخوتي!

لقد كسرتُ العهد، وعصيت الوصية الإلهية!

فقدت ختان القلب والأذن،

فلم أعد قادرًا على سماع الكلمة الإلهية!

وأُغلق عليّ في لعنة كسر الناموس!

v     قبل تجسدك أيها الكلمة الإلهي قدمت ذاتك لأنبيائك!

صِرتَ أيها الكلمة مع إرميا، تعمل فيه!

لتأتٍ إليّ ولتسكن في أعماقي!

لِتُقم عهدك الجديد معي!

فأصير بحق من رجال يهوذا وسكان أورشليم!

أنتَسِب للأسد الخارج من سبط يهوذا،

وتصير أورشليم العليا موطني إلى الأبد!

v     نزلت إليّ يا قدوس،

دخلت معي إلى اللعنة لا بكسر الوصية، إذ أنت هو كلمة الله،

لكنك قبلت اللعنة، إذ ُعلقت على الصليب!

دخلت معي، إذ صرت لعنة لأجلي، حاملاً لعناتي في جسدك،

حطمت دائرة اللعنة وفجَّرت أبوابها،

حملتني فيك، وانطلقت بي إلى سمواتك،

عوض اللعنة دخلت بي إلى البركة!

v     في عتاب الحب تناجيني.

ما لحبيبتي في بيتي؟!

قبلتني مسكنًا مقدسًا لك،

وجعلتني محبوبتك، تتحد معك، وتنعم بشركة مجدك!

لكنني عملت فظائع كثيرة،

أسأت إلى مقدساتك في داخلي،

وعوض ذبيحة الصليب عشت في لهوٍ وملذات.

أي عذر أقدمه لك يا مخلصي؟!

v     أقمتني زيتونة جميلة مغروسة في بيتك،

عوض ثمر الروح حملتُ ثمار شهوات الجسد،

واستحقت أغصاني التي التهبت بنار الشهوة نار التأديب!

من ينقذني من نيران الشر إلا نيران روحك القدوس؟!

من يرد لي  جمالي وثمري فيك إلا نعمتك يا قدوس؟!

اعترف لك إني خنت عهدك،

هب لي  أن تجدده في داخلي يا من حملت اللعنة عني!

احملني إلى حضن أبيك واحفظني فيك!

v     ما أعذب عهدك يا شهوة قلبي،

أخرجتني لا من عبودية فرعون، بل من عبودية إبليس،

وقدمت لي  لا أرضًا تفيض عسلاً ولبنًا،

بل حضن أبيك، فردوسًا أبديًا.

دخلت بي إلى الراحة عوض السخرة،

راحة صليبك واهب القيامة،

راحة شرف العمل معك بروح الجدية العذبة.

تبكر إليّ وتشتاق أن أبقى معك في العهد الجديد الذي قدمته بدمك الثمين.

هب لي  أن أتمسك بعهدك،

أعطني أن أستعذب وصيتك،

امنحني الأذن المختونة فلا أعود أخون العهد بعد!

v     أعترف لك أيها الآب القدوس!

رجعت إلى آثام آبائي الأولين العصاة!

رجعت إلى عمل إبليس وملائكته الذين تبَنُّوني في الإثم!

لأترك بيت أبي وأجري وراءكّ

اقبلني ابنًا لك عوض عدو الخير!

حرِّرني أيها الأب لأختبر بنوتي لك كل يوم!

لتبقى بنوَّتي لك عاملة في لا يحطمها الشرير!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى