تفسير سفر يشوع ٣ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث

إمكانية المعمودية

“عبور نهر الأردن”

إن كان هذا السفر قد افتتح بالكشف عن الحقيقة الرئيسية في الخدمة وهي أن الله هو العامل في خدامه (ص 1)، ليدخل بهم مع شعبه إلى ميراثه، وجاءت قصة الجاسوسين وراحاب الزانية تؤكد أن الإيمان بالله المخلص إيمانًا عمليًا هو الطريق لبلوغ الميراث الإلهي والتمتع بمواعيد الله، فإننا الآن إذ نقف عند شاطئ الأردن نكتشف إمكانية المعمودية في العبور، أو إمكانية عمل الله الخلاصي بالمعمودية للتمتع بالميراث. يقول العلامة أوريجانوس: [أحداث الأردن هي صورة للسرّ الذي يتم في المعمودية[68]].

الانتظار ثلاثة أيام     [1-4].

إذ قدم الجاسوسان تقريرهما عن عمل الله معهما انطلق الموكب كله نحو الأردن، حيث “بكر يشوع في الغد وارتحلوا من شطيم وأتوا إلى الأردن وكل بني إسرائيل، وباتوا هناك قبل أن يعبروا، وكان بعد ثلاثة أيام أن العرفاء جازوا في وسط المحلة إلخ…” [1-2].

إن كان الجاسوسان قد قدما تقريرًا واقعيًا ليشوع أن أريحا كلها في حالة رعب وخشية، وأن راحاب قد قبلتهما في بيتها وارتفعت بهما إلى السطح لينطلقا إلى الجبال ويأتيا إليه، إنما كان هذا إشارة إلى كلمة الكرازة بين الموعوظين حيث يدرك هؤلاء أنه بيسوع المسيح المخلص تنهدم كل حصون الشر ويرتعب رئيس الظلمة ويتحقق الخلاص لمن يحتضن إرسالية يسوع المسيح وإنجيله… ولكن لن يتحقق لهم هذا إلاَّ بالانطلاق إلى نهر الأردن تحت قيادة “يشوع الحقيقي” نفسه! لابد للإيمان أن يُختم بالمعمودية حتى يمكن العبر إلى الميراث والتمتع بمواعيد الله وهباته المجانية! فالارتحال من شطيم إلى الأردن بقيادة يشوع هو إلتزام الموعوظين بالعبور إلى المعمودية.

ارتحلوا من شطيم، التي تعني “شجر السنط”، الموضع الذي حاول فيه بلعام أن يلعن شعب إسرائيل (عدد 22-24)، والذي فيه ضل الشعب وراء بنات موآب ومديان وبعل فغور (عدد 25) لينطلقوا خلال الأردن إلى أرض الموعد. إرتحلوا من اللعنة والضلال والفجور (بعل فغور) للحياة الجديدة المقدسة بالمعمودية. لكن هذه الانطلاقة احتاجت إلى وقوفهم مع يشوع ثلاثة أيام قبل عبور الأردن، وهنا ندخل في سرّ الأيام الثلاثة التي طالما تحدثنا عنها ونبقى نتحدث عنها، بكونها سرّ القيامة مع المسيح في اليوم الثالث. فلا عبور في الأردن وتمتع بإمكانيات المعمودية إلاَّ خلال الدفن مع السيد ثلاثة أيام به ومعه! يقول الرسول بولس: “أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؟! فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة (رو 6: 3-4). ويقول: “العماد هو الصليب. ما قد حدث بالنسبة للمسيح في الصلب والدفن يصنعه العماد معنا، وإن كان ليس بذات الطريقة. لقد مات المسيح بالجسد ودفن، أما نحن فنموت عن الخطية وندفن… إن كنت تشاركه الموت والدفن، فبالأولى تشاركه القيامة والحياة[69]“.

والثلاثة أيام كما رأينا في الأصحاح الأول[70] يشير إلى الثالوث القدوس فلا عبور في مياه المعمودية إلاَّ بعد إعلان إيماننا بالثالوث القدوس، حيث نتقبل البنوة للآب والعضوية في جسد الابن الوحيد ويقوم الروح القدس بتثبيتنا في الابن. بمعنى آخر أن المعمودية هي تمتع بعمل الثالوث القدوس في حياتنا، فبدون إيماننا به لا نفع للعماد!

بعد اجتياز الثلاثة أيام أي قبول قوة القيامة المسيح وإعلان الإيمان بالثالوث القدوس اجتاز العرفاء، أي رؤساء الألوف والمئات والعشرات في وسط المحلة، وأمروا الشعب، قائلين: “عندما ترون تابوت عهد الرب إلهكم والكهنة اللاويين حاملين إياه فارتحلوا من أماكنكم وسيروا وراءه، ولكن يكون بينكم وبينه مسافة نحو ألفي ذراع بالقياس، لا تقربوا منه لكي تعرفوا الطريق الذي تسيرون فيه، لأنكم لم تعبروا هذا الطريق من قبل” [3-4].

يقول القديس أغسطينوس: [الأردن يعني “نزولهم” إذن لتنزلوا حتى ترتفعوا، ولا ترتفعوا لئلا تهبطوا[71]]. إن كانت المعمودية هي نزول لأجل الصعود، فإن طريقها غريب على بني البشر الذين سقطوا في الكبرياء، ولا يريدون أن ينزلوا، حتى إن أرادوا لا يقدرون. إنه طريق جديد لابد أن يفتتحه ذاك الذي وحده استطاع أن يتضع وهو العظيم، كلمة الله المتجسد. فعبور تابوت عهد الرب يحمله الكهنة اللاويين أمام الشعب إنما يعني افتتاح السيد المسيح طريق المعمودية بنفسه، يتقدم إليها باتضاعه فيرفعنا إلى بنوته لله. الابن صار عبدًا، لكيما في مياه المعمودية يرفع العبيد إلى البنوة لله!

لو لم يقدس السيد المسيح مياه الأردن لصارت المعمودية مياه مجردة بلا فاعلية، لهذا يقول القديس أمبروسيوس: أنها [تحمل نعمة المسيح[72]]. وفي الطقس القبطي ترشم المياه بالصليب، ويغطس الصليب فيها إعلانًا عن أن المصلوب – تابوت العهد الحقيقي- قد دخل الأردن وقدّسه.

لقد طلب العرفاء من الشعب أن يكون بينهم وبين التابوت نحو ألفي ذراع قياس، ذلك لأن رقم 2 يشير للحب الذي يجعل الإثنين- المحب والمحبوب- واحدًا، لأن الحب جاء في الوصيتين الأولى والثانية من الناموس، وقد دفع السامري الصالح درهمين للفندق من أجل محبته لله ولأخيه الجريح، وقدمت الأرملة فلسين علامة محبتها لله والناس. أما رقم 1000 فيشير للحياة السماوية، لذلك فإن رقم 2000 يشير إلى الحب على المستوى السماوي الروحي، سواء كان الحب لله أم للناس. كأن طالب العماد يلزم لكي ينال بركات المعمودية أن يقبل الحب الجديد في مياه المعمودية. بهذا ينعم المعمد ببركة سكنى الله فيه، هذا الذي لا يسكن إلاََّ في القلوب المتسعة حبًا. يقول القديس أغسطينوس: [إن وُجد الحب إنما يوجد تكميل الناموس أيضًا (رو 13: 10)، حيث يسكن الله فيك، وتكن أنت عرشًا له[73]].

إن كنا في مياه المعمودية نصير أعضاء مقدسة في جسد المسيح، فإننا بالحقيقية نحمل سمته التي عبر عنها القديس يوحنا الحبيب: “الله محبة” (1 يو 4: 8)، وإن كانت المعمودية هي ميلادًا جديدًا فإن الرسول يؤكد: “كل من يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله، ومن لا يحب لا يعرف الله” (1 يو 4: 7-8)، وكأن من يغلق قلبه عن الله والناس لا ينفعه ميلاده في مياه المعمودية شيئًا، بل يكون سرّ دينونة عليه… نال إمكانية الحب خلال الميلاد الجديد لكنه لم يمارسه. وإن كانت المعمودية هي سرّ استنارة النفس، فإنه بدون الحب يعيش الإنسان في الظلمة، كقول الرسول: “من قال أنه في النور وهو يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة (1 يو 2: 9)… هكذا لا يمكن عزل الأردن عن طبيعة الحب السماوي الموهوبة لنا بالروح القدس.

أما قوله: “لا تقربوا منه لكي تعرفوا الطريق الذي تسيرون فيه، لأنكم لم تعبروا هذا الطريق من قبل” [4]، إنما يشير إلى أن هذا الطريق جديد بالنسسبة لنا، لم نختبره من قبل، ولم يكن ممكنًا التمتع والاقتراب إليه لو لم يدخل السيد أولاً ويفتحه!

إن كان عبور يشوع يمثل عبور يسوع المسيح كمخلص لنا، لأن كلمة يشوع تعني “يهوه الخلاص”، فإن عبور التابوت يشير إليه ككلمة الله، إذ يحمل داخله لوحي الشريعة، وعبور الكهنة يشير إليه كرئيس كهنة أعظم، وكأننا في مياه المعمودية نلتقي بيسوعنا المخلص، كلمة الله واهب الحياة، رئيس الكهنة الذي يشفع فينا لدى الآب خلال دمه الكريم. فيها نثبت في جسده المقدس لننال خلاصنا وننعم بحياته فينا، وتصير لنا دالة لدى الآب خلاله!

 

الاستعداد للعبور   [5-6].

“قال يشوع للشعب: تقدسوا لأن الرب يعمل غدًا في وسطكم عجائب” [5]. لقد طالبهم يشوع بالتقديس ليروا عجائب الله في وسطهم. حقًا ليست هذه العجائب هي ثمن تقديس أنفسهم، إنما هي عطايا مجانية تقدم لمن يعلن اشتياقه وإيمانه بعمل الله خلال جديته واستعداده لقبول نعم الله وعطاياه. في دراسنا لطقس المعمودية رأينا الاستعدادات الواجبة على طالبي العماد حتى يتأهلوا لنوال هذا السرّ[74]. كان طالبوا العماد في الكنيسة الأولى يلتزمون بدراسات معينة وفحص دقيق من جهة إيمانهم وسلوكهم كما يلتزمون بالصوم والصلاة مع السهر قبيل العماد. يقول العلامة ترتليان: [يجدر بالآتين إلى المعمودية أن ينشغلوا على الدوام بالصلوات والأصوام والمطانيات والأسهار، كل هذا مع الاعتراف بالخطايا السابقة[75]]. وللقديس كيرلس الكبير حديث رائع مع طالبي العماد: [إن اقترب يوم عرسكم أما تتركوا كل شيء وتتفرغوا تمامًا لإعداد الوليمة؟! لقد اقترب يوم تكريس نفوسكم لعريسها السماوي، أما تكفوا عن الانشغال بالأمور الزمنية لتربحوا الروحية؟! ليتنقى ذهنكم كما بنار في وقار! لتُصهر نفوسكم كالمعدن فتزول الشوائب ويبقى المعدن الخالص… صلوا بأكثر مثابرة لكي يجعلكم الله مستحقين الأسرار السمائية الخالدة…[76]].

 

يشوع يتمجد في الأردن           [7-8].

“فقال الرب ليشوع: اليوم أبتدئ أعظمك في أعين جميع إسرائيل لكي يعلموا أني كما كنت مع موسى أكون معك. وأما أنت فأمر الكهنة حاملي تابوت العهد قائلاً: عندما تأتون إلى ضفة مياه الأردن تقفون في الأردن” [7-8].

يليق بالإنسان أن يعظم الله خلال عبادته وسلوكه الداخلي وتصرفاته مع الآخرين، أما هنا فنجد الله نفسه يؤكد ليشوع: “اليوم أبتدئ أعظمك” [7]. كيف يعظم الله يشوع؟ لقد ارتبطت عظمة يشوع في عيني الله والناس بعبور نهر الأردن (4: 14)، وكأنها صورة رمزية لبداية إعلان عظمة ربنا يسوع خلال الأردن، أما وجه المقارنة في هذا الشأن فيظهر في الآتي:

أولاً: يقول له: “لكي يعلموا أنيّ كما كنت مع موسى أكون معك” [7]. هذا هو ما أعلنه عبور نهر الأردن، إذ كشف عن معية الله ليشوع. أما بالنسبة لربنا يسوع فإن عبوره الأردن أو عماده قد كشف عن علاقته مع الآب، بكونه ابن الله الوحيد، وموضع سروره، إذ “السموات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتيًا عليه، صوت من السماء قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (مت 3: 16-17). وقد دعي العيد الخاص بعماد السيد: “عيد الظهور الإلهي”، خلاله ليس فقط ظهر الثالوث المقدس بكون الابن في المياه والروح نازلاً عليه والآب يتحدث عنه من السماء، إنما ظهر عمل الثالوث المقدس واضحًا في حياتنا. فخلال المعمودية يهبنا الروح القدس الحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع، ويفتح عن بصيرتنا الداخلية لندرك مركزنا الجديد كأبناء الآب ننعم ببنوته وسروره، لأننا أعضاء جسد ابنه المحبوب.

ثانيًا: لعل يشوع أيضًا قد تعظم خلال حمل الكهنة تابوت العهد وتقدمهم للشعب حتى يعبر الكل مياه الأردن. هذه هي المرة الأولى التي فيها نجد التابوت المقدس محمولاً بواسطة الكهنة وقائمًا بدور قيادي للشعب الذي التزم أن يبقى على بعد نحو ألفي ذراع قياس [4]… هذا التصرف أبرز جوانب كثيرة في عمل يشوعنا الحقيقي في مياه المعمودية، نذكر منها الآتي:

أ. لقد تعظم يشوعنا الحقيقي ليس بحملنا تابوت العهد وإنما بما وهبه لنا في الأردن الجديد حيث صرنا نحمل الثالوث القدوس نفسه. صرنا نحن أنفسنا هيكل الله المقدس، نتقبل روحه القدوس فينا خلال سرّ الميرون. صار ملكوت الله داخلنا (لو 17: 21)، يسكن الله فينا ويملك علينا.

ب. حمل الكهنة للتابوت إنما يشير إلى عطية الله للإنسان، والتابوت يمثل الحضرة الإلهية، وحمله إنما يعني اقتراب الإنسان لله بعد فترة عداوة طويلة، لقد كان الإنسان يتطلع إلى الله كنار آكلة لا يمكن الاقتراب إليه. أما وقد دخل يشوعنا الأردن، فإنه دخل بنا لا إلى الاقتراب إليه فحسب وإنما إلى الاتحاد مع الآب فيه. ففي المياه المقدسة يعمل الروح الناري فينا، لا ليحرق ننفوسنا وإنما ليبدد إنساننا القديم ويحرق العداوة واهبًا إيانا استنارة روحية خلالها ندرك بنوتنا لله وإتحادنا معه. لذلك يقول العلامة أوريجانوس: [طوبى للذين صاروا قريبين! لقد اقتربوا وجاوروا النار التي تنيرهم ولا تحرقهم[77]]. إن كان في التجسد الإلهي قد اتحد اللاهوت بالناسوت، ورأينا ابن الله ينزل إلينا ويحلّ في وسطنا قريبًا منا بل كواحد منا: ففي الأردن أعطانا أن نرتفع نحن إليه ونقترب منه لنحمل حياته الإلهية فينا ويرفعنا إلى سمواته. هذا هو ما يمجد يشوعنا الحقيقي لا باقترابنا لحمل التابوت مع كهنة العهد القديم وإنما بارتفاعنا إلى السموات ووجودنا مع الله متحدين معه في ابنه بروحه القدوس الناري.

يتحدث القديس غريغوريوس أسقف نيصص عن عمل الأردن في حياتنا قائلاً بإيجاز: [لقد تعظم الأردن، إذ هو يجدد البشر ويزرعهم في فردوس الله[78]].

مرة أخرى يدعونا القديس غريغوريوس النيصي للتمتع بالمعمودية التي يتمجد يشوعنا فيها خلال عمله في حياتنا، قائلاً: [إنك تتمرغ في الوحل إلى وقت طويل، إسرع إلى الأردن، لا بدعوة من يوحنا وإنما خلال صوت المسيح! في الحقيقة إن نهر النعمة يجري في كل موضع، إنه لا ينبع في فلسطين لتختفي في البحر المجاور، لكنه يغطي العالم كله، ويدخل الفردوس، ويفيض على الأنهار الأربعة النازلة من هناك، ويرد للفردوس الأمور الثمينة أكثر مما تجلبه الأنهار الأخرى. فإن هذه الأنهار تقدم روائح طيبة وزراعة للأرض وثمارًا، أما هذا النهر فيجلب أُناسًا مولودين بالروح القدس! إمتثل بيشوع بن نون وحمل الإنجيل كما حمل التابوت! أترك البرية أي الخطية وأعبر الأردن. إسرع نحو الحياة حسب المسيح، ونحو الأرض التي تفيض ثمار الفرح فتجري فيها مجاري اللبن والعسل. حّطم أريحا المسكن القديم ولا تتركها مخصبة[79]].

لقد سبق فتحدثنا بشيء من التفصيل عن فاعلية المعمودية في حياتنا، الأمر الذي بحق يمجد يسوعنا الذي عبر بنا هذا النهر المقدس[80].

ج. التزم الشعب أن يبقى على بُعد حوالي ألفين ذراعًا من التابوت إنما يشير إلى مؤمني العهد القديم ككل الذين وإن كانوا ينعمون بالخلاص لكن عن بُعد، خلال الرموز والنبوات، أي خلال الظلال وشبه السماويات، أما مؤمنوا العهد الجديد فيرمز لهم بالكهنة حاملي التابوت، وفي هذا وذاك يتمجد يشوعنا ويتعظم.

ثالثًا: تعظم يشوع أيضًا إذ بعبوره الأردن ظهر الكهنة كقادة للشعب خلال حملهم التابوت، بكونهم المنارة التي تحمل النور الإلهي ليضيء للكل. فالتابوت إذ يحّوي لوحي العهد يرمز للكرازة بالكلمة الإلهية، الأمر الذي بدونه لا يقدر أحد أن يعبر إلى أرض الموعد ويتمتع بالميراث الأبدي. يقول العلامة أوريجانوس: [إنها طغمة الكهنة واللاويين التي تقف عن قرب من تابوت عهد الرب حيث يوجد الناموس فيه، إذ يلزمهم أن يبّصروا الشعب بوصايا الله، كقول النبي “سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي” (مز 119: 105)، هذا النور المُضاء بواسطة الكهنة واللاويين، حيث يوجد من بينهم من يضع السراج على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت (مت 5: 15)[81]]. أما في أردن العهد الجديد فلا يحمل الكهنة تابوتًا يحوي الشريعة منقوشة على حجرين إنما يحملون “كلمة الله” منقوشًا في قلوبهم بالروح (2 كو 3: 3) متجليًا بسماته في حياتهم الداخلية وسلوكهم الظاهر، يقدمونه لا بكلمات الوعظ فحسب وإنما بالروح القدس الذي يُدخل الكلمة إلى قلوب السامعين. يقول الرسول بولس: “إن إنجيلنا لم يصر لكم بالكلام فقط بل بالقوة أيضًا وبالروح القدس وبيقين شديد كما تعرفون أي رجال كنا بينكم من أجلكم” (1 تس 1: 5).

رابعًا: تعظم يشوع أيضًا بعبور الشعب خلال القيادة التابوت لهم، فما كان يمكنهم أن يعبروا ما لم يتقدم يشوع والكهنة حاملي التابوت ويقفوا في الأردن، إذ قيل ليشوع: “عندما تأتون عند ضفة مياه الأردن تقفون في الأردن” [8]. إنها صورة رمزية لحقيقة الخلاص، فما كان لنا أن ننعم بالحياة الجديدة ولا أن نجتاز الأردن بقوة ما لم يدخل يسوعنا المحيي الأردن بنفسه، ويقف فيه لكي يحملنا على كتفه وينطلق بنا إلى ملكوته. حقًا إن مياه المعمودية بدون المسيح تصير ماًء عاديًا قادرًا على غسل الجسد دون تقديسه، عاجزًا على الدخول إلى أعماق النفس.

لقد إلتزم يشوع والكهنة أن يقفوا في الأردن، يا لها من صورة رمزية لعظمة يشوعنا الحقيقي الذي دخل بنا إلى مياه الأردن لنراه واقفًا فنقف معه وفيه. حقًا لقد دفن في المياه كما في القبر، لكن لم يكن ممكنًا للموت أن يحبسه ولا للقبر أن يغلق عليه، بل وقف قائمًا من الأموات، واهبًا إيانا الحياة المقامة. إننا نُدفن معه بالمعمودية للموت (رو 6: 4)، لا لنبقى في حالة دفن بل في حالة قيام معه وفيه. هذا هو سرّ تعظيم يشوع الحق، إذ أُعلن في مياه المعمودية سرّ صليبه ودفنه وقيامته، كسرّ واحد متلاحم!

خامسًا: يتعظم يشوع بإستلامه القيادة رمزًا للإستلام يشوع الحقيقي قيادة نفوسنا عند عبورنا الأردن الجديد وبعده أيضًا. يتحدث القديس أمبروسيوس عن قيام السيد نفسه بالعمل السري أثناء العماد، قائلاً: [لا تنظر إلى استحقاقات الأفراد… آمن أن الرب يسوع حاضر عند استدعاء الكاهن، هذا الذي قال: “لأنه حيثما اجتمع إثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم” (مت 18: 20)، فكم بالأكثر حينما تكون الكنيسة موجودة، وسرائره حاضرة، يمنحنا بالأكثر إعلان حضرته؟![82]]. وفي أكثر من موضع يطالبه القديس يوحنا الذهبي الفم ألا ننظر إلى الكاهن أثناء الخدمة السرائرية بل إلى السيد المسيح نفسه العامل خفية فيه. أما بخصوص قيادة ربنا يسوع نفوسنا بعد العماد، فيقول العلامة أوريجانوس: [إذ عبرت نهر الأردن بواسطة الكهنة تدخل أرض الميعاد، هذه الأرض التي فيها يتعهدك يشوع – بعد موسى- ويكون مرشدك في طريقك الجديد[83]].

 

التابوت في الأردن     [9-12].

يقول يشوع: “بهذا تعلمون أن الله الحيّ في وسطكم، وطردًا يطرد من أمامكم الكنعانيين والحثيين والحويين والجرجاشيين والأموريين واليبوسيين. هوذا عهد سيد كل الأرض عابر أمامكم في الأردن” [10-11].

في هذه العبارة يظهر بوضوح وجود خطين رئيسيين ومتكاملين معًا في ليتورجيا المعمودية، ألا وهما إقامة مملكة إبليس بظهوره في وسط أولاده، ساكنًا فيهم، وطرده أو تحطيمه مملكة إبليس المرموز إليها بهذه الأمم الوثنية. وقد تحدثنا بإفاضة عن هذين الخطين عن دراستنا للمعمودية[84].

ومما يجدر ملاحظته أن عبو نهر الأردن، وإن كان قد أبرز حلول الله وسط شعبه واهبًا إياهم النصرة على مملكة الظلمة، فإنه من جانب آخر أيضًا يكشف عن عمل الله مع أولاده إذ يخضع الطبيعة لحسابهم. فمادمنا نحمل الخالق فينا نخضع الخليقة لنا، ولتعمل في طاعة لحسابنا. يقارن العلامة أوريجانوسبين خضوع الطبيعة للمؤمنين لصالحهم، ومقاومتها للأشرار، قائلاً: [يشعر الشرير بكراهية نحو كل الخليقة، كما جاء عن المصريين الذين يشعرون بعداوة نحو الأرض والمياه والهواء والسماء. أما بالنسبة للبار فحتى ما يبدو قاسًا يتحول له إلى سهول ومنحدرات رقيقة. الإنسان البار يعبر البحر الأحمر كمن يمش على اليابسة، أما المصري الذي يريد عبوره فيُبتلع فيه. بالنسبة للبار يكون الماء سورًا له عن يمينه وعن يساره (خر 14: 22-29)! ليتقدم البار إلى متاهات البرية المرعبة فيجد طعامًا له من السماء (مز 78: 24). هكذا في الأردن كان تابوت العهد يقود شعب الله؛ كان الكهنة واللاويون يقفون، والمياه كما لو كانت قد أخذت في دهشة تقف أمام أسرار الله إجلالاً، تنحصر عن مجراها، وتتجمع في جانب ككومة لتقدم لشعب الله طريقًا بلا أخطار (يش 3: 15). لا تندهش أيها المسيحي عندما نروى لك ما حدث مع الشعب القديم، فإن كلمة الله يعدك يا من تعبر نهر الأردن – خلال سرّ المعمودية- بخيرات أعظم بكثير وأسمى، إنه يعدك بطريق وممر خلال الهواء. اسمع ما يقوله القديس بولس عن الأبرار: “سنُخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، هكذا نكون كل حين مع الرب” (1 تس 4: 17). بل، يليق بالبار ألا يخشى شيئًا، فإن الخليقة كلها في خدمته. استمع أيضًا إلى الوعود التي يقدمها لنا الله بالنبي: “إذا مشيت في النار فلا تُلدغ واللهب لا يحرقك، لأنيّ أنا الرب إلهك” (إش 43: 2). هكذا يكون البار كمن في مخدعه (في راحة) وأينما وجد، تُظهر له الخليقة كلها خضوعًا له (تك 1: 26، مز 8: 7)… إذن، إذ تذكر هذه العلامات التي لا يُسمع عنها الخاصة بعظمة الله: البحر المنشق إلى إثنين بسببك وماء النهر المتوقفة عند المنبع، فإنك ترجع وتصرخ: “مالك أيها البحر قد هربت، ومالك أيها الأردن قد رجعت إلى خلف، ومالكن أيتها الجبال قد قفزتن مثل الكباش، وأيتها التلال مثل حملان الغنم” (مز 114: 5- 8). وتجيبك كلمة الله: “أيتها الأرض تزلزلي من قدام الرب من قدام إله يعقوب، المحوّل الصخرة إلى غدران مياه، الصوان إلى ينابيع مياه”[85]]. لقد أردك القديس أوغسطينوس ذلك، ففي مناجاته لله يقول: [لقد كرست كل خليقتك لخدمتي حتى يمكنني أن أتكرس أنا لخدمتك بالكلية]، كما يقول: [أخضعت كل شيء تحت قدمي الإنسان (مز 8) حتى يمكنه أن يتكرس بكليته لك. لهذا لن تقم عليه سيدًا سواك، إنما أقمته هو سيدًا على خليقتك![86]].

 

الند الواحد      [13-17].

عبور نهر الأردن تحت قيادة يشوع إختلف تمامًا عن عبور البحر الأحمر تحت قيادة موسى النبي، فالأخير تحقق خلال انشقاق البحر وعبور الشعب حيث كانت المياه الملحة على الجانبين كسور لهما، أما هنا فالمياه “المنحدرة من فوق تنفلق وتقف ندًا واحدًا” [13]، بمعنى أن المياه المنحدرة من أعلى تبقى حيث المنبع متوقفة في هذا الجانب الأيمن، أما النازلة في البحر الميت المالح فتنحدر فيه ويجف موضعها. فتكون المياه حلوة من جانب واحد ونحو المنبع وليس كسورين من الجانبين كما في عبور البحر الأحمر. هذا الأمر لم يتحقق مصادفة لكن حمل رمزًا للعهد الجديد ندركه خلال تقديم مقارنة بين العبورين في شيء من الاختصار، مع توضيح الجوانب الرمزية في كل تفاصيل العبور الجديد:

أولاً: في دراستنا لسفر الخروج تعرضنا للحديث عن عبور البحر الأحمر تحت قيادة موسى النبي بكونه رمزًا للمعمودية، فما هو وجه الاختلاف بينه وبين عبور نهر الأردن تحت قيادة يشوع بن نون! ما أريد توضيحه هنا أن العبورين في الواقع يمثلان جانبين متكاملين لسرّ المعمودية، فالأول يشير إلى خلع الإنسان العتيق، والثاني يشير إلى التمتع بعطية الإنسان الجديد، وهما عملان في حقيقتهما عمل واحد متكامل، فلا تمتع بالإنسان الجديد ما لم يُخلع القديم ولا يمكن خلع القديم ما لم نلبس الجديد. لهذا وإن كنا نقارن بين العبورين إنما في الحقيقة هما عبور واحد ممتد فيه يخلع طالب العماد الإنسان العتيق الذي أعلنه الناموس (موسى) وفضحه مظهرًا ثمره أي الموت الأبدي، ويلبس الإنسان الجديد الذي تقدمه النعمة الإلهية بيشوعنا الحق، كقول الإنجيلي: “لأن الناموس بموسى أُعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا” (يو 1: 17). الأول يمثل الصليب مع المسيح والثاني يمثل القيامة معه، لهذا تحقق الأول بضرب البحر بالعصا (الصليب) أما الثاني فبوقوف الكهنة حاملي التابوت (القيامة)!

ثانيًا: في عبور البحر الأحمر تحت قيادة موسى انشقت المياه إلى إثنين وصارت كسورين عن يمينهم وعن يسارهم، أما هنا فالمياه اجتمعت عند المنبع بينما انحدرت الأخرى إلى البحر الميت ليجف الطريق أمامهم. يرى العلامة أوريجانوس في ذلك صورة حية لعمل المعمودية التي [جعلت الإثنين واحدًا، ونقضت حائط السياج المتوسط، فقد تراكمت المياه في ناحية واحدة[87]]. خلال موسى أو الناموس انشقت البشرية إلى يهود وأمم، أما في المسيح يسوع فنلنا بالمعمودية روح الوحدة، ليس فقط بيننا وبين السماء، وإنما بين بعضنا البعض… حيث تجمعت الكنيسة من كل الأمم وكل الشعوب وكل الألسنة، وصار الكل أعضاء في الجسد الواحد.

طريق الناموس ضيق لا يمكن أن يعبر فيه إلاَّ شعب واحد، وتحصره المياه كسورين عن اليمين واليسار، أما طريق يشوع الجديد فمتسع تتجمع المياه من جانب واحد، يمكن أن يعبر فيه كل العالم، منفتح للجميع بلا تمايز عنصري!

هذا ومن ناحية أخرى، ليس بدون سبب بقيت المياه العذبة من جانب واحد، على يمينهم عند العبور، بينما انحدرت المياه من الجانب الآخر في البحر الميت المالح [16]. يقول العلامة أوريجانوس: [لو كان الذين يتعمدون جميعهم يحتفظون بعذوبة الروح الإلهي الذي نالوه، ولا يعود واحد منهم إلى مرارة الخطية، ما كان بالتأكيد قد كتب أن جزءًا من النهر يُقذف في هوة البحر المالح. لهذا فإن هذه الكلمات كما يبدو ليّ تشير إلى وجود اختلاف بين المعمدين… فإنه يوجد من ينال المعمودية المقدسة ويرجع فيُسلم نفسه لاهتمامات العالم وميول الشهوات، فيشرب من كأس الشهوة المالح مرة أخرى. لقد رُمز عن هؤلاء بالجزء من الماء الذي يتدفق إلى البحر ويفنى في المياه المالحة. أما الجزء الذي يظل متوفقًا، ويحتفظ بعذوبته، فيمكن أن يشير إلى الذين في غير تراجع يحفظون العطية التي نالوها من الله. وطبيعي هؤلاء الذين خلصوا يمكن أن يُرمز لهم بجزء واحد، لأنه أيضًا لا يوجد سوى “خبز الله (الواحد) هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم” (يو 6: 33)، كما يوجد “إيمان واحد ومعمودية واحدة وروح واحد” (أف 4: 4-6)[88]]…

ثالثًا: العبور تحت قيادة موسى يدخل بنا إلى طريق بين سورين من الماء المالح، أما تحت قيادة يشوع فالمياه عذبة والطريق متسع… الأول يعبّر عن الناموس الذي يدخل بنا إلى المرارة ويجعلنا كمن هم محصورين وفي خطر، أما الثاني فيعبّر عن نعمة ربنا يسوع العذبة والغنية، التي تعطي للنفس فرحًا أثناء عبورنا هذا العالم.

رابعًا: العبور الأول كان في اضطراب فالعدو من خلف والمياه المالحة من الجانبين أما العبور الثاني فكان في سلام، ليس من عدو خلفنا ولا من مياه مالحة حولنا… إنه الطريق الذي هو “يسوعنا الحق”، فيه نستريح ولا نخاف العدو، ولا تقدر المياه المالحة أن تقترب إلينا.

خامسًا: في العبور الأول ينتظر الشعب برية قاحلة يسيرون فيها أربعون عامًا، وأن كان الله لم يتركهم وسط البرية بل كان يرعاهم بنفسه ويهتم بكل احتياجاتهم الروحية والجسدية والأدبية، أما في العبور الثاني فيرى المؤمن أرض كنعان ليست بعيدة عنه وأورشليم قريبة إليه جدًا. ففي المسيح يسوع ربنا نرى أورشليم العليا واضحة بالإيمان ومواعيده السماوية ليست ببعيدة، إنما ننعم بعربونها. والعجيب أنه في العبور الثاني تبقى المياه عند المنبع متوقفة في الأعالي… وكأنها تُشير إلى ارتفاع النفس المؤمنة إلى فوق لتحيا في السمويات ولا تنحدر إلى مياه البحر الميت.

سادسًا: يقول العلامة أوريجانوس: [عندما أخرج موسى الشعب من أرض مصر لم يكن هناك أي نظام بين الجموع ولا طقس لدى الكهنة، هكذا كانوا يعبرون ماء البحر… لكن عندما يقود سيدي يشوع الجيش فلننظر فإن: “الكهنة يسيرون أمام الشعب حاملين تابوت العهد على أكتافهم… حيث تُحفظ فيه الشريعة والمائدة المقدسة (المن)”[89]].

سابعًا: في العبور الأول كان الكل صامتًا، أما في العبور الجديد فكان الكهنة يحملون الأبواق علامة الغلبة والنصرة.

ثامنًا: في العبور الأول لم يحمل الشعب ذكرى للعبور، أما في العبور الجديد فحملوا معهم إثنى عشر حجرًا إشارة إلى الكنيسة المقدسة التي وجدت في أعماق الأردن… أي انطلقت سريًا خلال المعمودية.

تاسعًا: تحقق العبور عندما استقرت بطون أقدام الكهنة حاملي تابوت الرب في مياه الأردن، إشارة إلى سحق السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم للشيطان تحت قدميه. فعبورنا إنما هو ثمرة سحقه لقوى الظلمة!

عاشرًا: توقيت عبور نهر الأردن كان دقيقًا، فنحن نعلم أن النهر مقابل أريحا حوالي 150-180 قدمًا عمقًا، وقد تم العبور أثناء الفيضان، ما بين شهري إبريل ومايو، فتكون المياه مضاعفة والنهر متسعًا في عرضه وشديدًا في سرعته، إشارة إلى عمل الله في المعمودية إنه يفيض وبطريقة فائقة!

فاصل

سفر يشوع: 12345  – 6789 –  101112131415161718192021222324

تفسير سفر يشوع: مقدمة12345  – 6789 –  10111213141516 1718192021222324

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى