تفسير سفر يهوديت 11 للقمص تادرس يعقوب ملطي

لقاء يهوديت مع أليفانا

 

1. أليفانا يطمئن يَهوديت

 

1 –4.

2. يَهوديت تقدم مشورة لأليفانا

 

5 –19.

3. إعجاب أليفانا بحكمة يَهوديت

 

20 –23.

1. أليفانا يطمئن يَهوديت

فقالَ لَها أَليفانا: تشَجَّعي، يا امرَأَة،

ولا يَضطَرِبْ قَلبُكِ،

لأَنِّي لم أُسِئْ قطّ إلى إِنْسان اختارَ أَن يَعمَلَ لِنَبوخَذنَصَّر،

مَلِكِ الأَرضِ كُلِّها [1].

كثيرون في دراستهم لموقف أليفانا هنا بما ورد في القصة العالمية عن “الطفلة الصغيرة صاحبة القبة الحمراء”. فقد رآها ذئب مفترس وأراد التهامها فارتدى زي جدتها، وقدم لها كلمات معسولة ليفترسها. هكذا إذ ثارت الشهوة في القائد الجبار الذي وقع رعبه على جميع سكان الأرض، لم يرد اغتصابها بالعنف، وإنما بكلمات معسولة أراد أسرها! دخل معها في حوار رقيق ذاك الذي لا يعرف اللطف والحنو. الذي دمرّ مدنًا كثيرة وحطم وقتل يحاور أرملة شابة ويعدها أنها تكون لا بين نساء الملك العظيم، بل وتصير مشهورة على مستوى الأرض كلها!

هوذا الذئب يحاور حملًا صغيرًا، حاسبًا نفسه أنه في مركز القوة وصاحب سلطان، وهو عاجز عن أن يضبط شهوته، ويسيطر على إرادته الضعيفة التي أذلته!

ذاك الذي كان يعتز بحملته العسكرية التي هزت الأمم، فقبلوا هدم هياكل آلهتهم ومذابحهم ليعبدوا ملك أشور، بكونه الإله الوحيد، صار عبدًا لشهوته، وانهزم أمام جمالها الجسدي، وسلم رقبته للذبح!

وأَمَّا شَعبُكِ المُقيمُ في النَّاحِيةِ الجَبَلِيَّة،

فلَو لم يَستَهِنْ بي،

لَما رَفعتُ رُمْحي علَيهِم.

ولكِنَّه هو الَّذي فَعَلَ ذلك بِنَفسِه [2].

أشد ما كان يضايق أليفانا أن اليهود قد استهانوا بهم، فلم يستسلموا ككثيرٍ من الأمم المحيطة بهم والتي طلبت السلام. في قوله هذا كان أليفانا يكذب فقد أساء إلى الأمم التي طلبت السلام وأعلنت خضوعها لأشور، إذ دمَّر مدنهم ومعابدهم.

لم يكن سهم أليفانا (أسرحدون) الذي ارتفع في غضب ضد الإسرائيليين أقل من رمح إلهه  Assur: [ثُرت مثل أسدٍ، التحفت بدرعي، وخوذتي، وضعتها على رأسي علامة النصرة. لقد التقطت في يدي السيف… مثل نسر عنيف بسطت جناحي… أما فرق جيشي، تقدمت مثل فيضان اكتسح أمامي، فإن رمح آشور Assur انطلق بلا توقف وبعنف وسرعة… كان الإلهين Shar-ur و Shar-gaz في صفي بجانبي(104).]

والآن قولي لي لِمَاذا هَرَبتِ مِن عِندِه وأَتَيتِ إِلَينا؟

فلَقَد أَتَيتِ لِلخَلاص. تشَجَّعي،

ففي هذه اللَّيلةِ ستَحيَينَ،

وكذلك في ما بَعد [3].

بقوله: “في هذه الليلة تحيين” نتلمس أنه كان في نيته أن يبدأ الحرب، وفي مخيلته أنه سيهلك بني إسرائيل تمامًا، ولن ينجو أحد منهم.

كان يتوقع إليفانا من يهوديت أن تبلغه رسالة خاصة من رؤساء شعبها أو أنها هاربة لتنجو من الموت المترقب عندما يقتحم جيشه المدينة، فسلمت نفسها في لجوءٍ سياسي!

فلَن يُضِرَّكِ أَحد،

بل يُحسِنونَ إِليكِ شأَنَ عَبيدِ سَيِّدي نَبوخَذنَصَّر المَلِك” [4].

وعدها ألاَّ يسلمها لأحد من ضباطه وجنوده، بل يضمها إلى سراريه وجواريه فيُحسن إليها الجند. ظن أنه قد ضمها إلى مملكته وصارت تحت حمايته، ولم يعلم أنه سيكون غنيمتها. هكذا يطمع عدو الخير إبليس في الإنسان واعدًا إياه أنه يضمه إلى مملكته، ويفيض عليه بالعطايا، ويشبع شهواته، ولن يصيبه سوء.

2. يَهوديت تقدم مشورة لأليفانا

فقالَت لَه يَهوديت: تَقَبَّلْ كَلامَ أَمَتِكَ،

ولْتَتَكَّلَمْ خادِمَتُكَ في حَضرَتِكَ،

ولا أُخبِرُ سَيِّدي بِالكَذِبِ في هذه اللَّيلة [5].

ظن القائد في يهوديت أنها مضطربة القلب، وأنها تخشاه كقائدٍ جبارٍ عنيفٍ يسيء إليها، لذلك حاول أن يطمئنها أنه لا يسيء إلى من يختار العمل لحساب الملك بكونه ملك الأرض كلها.

جاء خطاب يهوديت مقاربًا لخطاب أبيجايل في لقائها مع داود لتهدئة ثورة غضبه ضد زوجها نابال الكرملي (1 صم 25). اتسمت أبيجايل ويهوديت بالحكمة مع الشجاعة، وكانت كل منهما تطلب الخلاص لا لشخصيهما بل لجماعة كبيرة. فأنقذت أبيجايل رجلها وكل أهل بيته حتى عبيده والأجرى العاملين عنده. وأنقذت يهوديت الشعب كله.

وإِنِ اتَّبَعتَ كَلامَ خادِمتِكَ،

يُتِمُّ اللهُ عَمَلَه مَعَكَ،

ولا يُخفِقُ سَيِّدي في مَساعيه [6].

لِيَحْياَ نَبوخَذنَصَّر، مَلِكُ الأَرضِ كُلِّها،

ولتحْيَ قُدرَتُه، فهُو الَّذي أَرسَلَكَ لِتُؤَدِّبَ كُلَّ نَفْس،

لأَنَّه لَيسَ النَّاسُ وَحدَهم يَعمَلونَ لَه عن يَدِكَ،

بل وُحوشُ البَرِّ والقُطْعانُ وطُيورُ السَّماءِ تَحْيا بِكَ لِنَبوخَذنَصَّر ولكُلِّ بَيتِه [7].

حديث يهوديت يكشف عما كان في فكر الملك الآشوري وقائده، أن نبوخذنصر ملك الأرض كلها، عظيم في إمكانيته وقدراته، أرسل القائد القوي القادر أن يؤدب الأمم المقاومة، كما كان الملك وقائده يظنان أن وحوش البرية والغنم وطيور السماء تحيا بقدرته المتجلية في القائد العسكري أليفانا لحساب الملك وبيته.

كانت كلمات يهوديت في مديح أليفانا ووالده تنزل على أذنيه كالموسيقى، حاسبًا ما قالته حقيقة لا تحتاج إلى تأكيد أو برهان: [كنت أسير منتصرًا… من قوتي لا تُنافس، ولم يوجد بين الرؤساء من يسبقني، لا لن يوجد…(105)]

فلَقَد سَمِعْنا بِحِكمَتِكَ وبِحِيَلِ نَفسِكَ،

ويُخبَرُ في الأَرضِ كُلِّها بأَنَّكَ وَحدَكَ صالِحٌ في المَملَكَةِ كُلِّها،

ومُقتَدِرٌ في العِلْم،

وعَجيبٌ في قِيادة الحَرْب [8].

امتدحت يهوديت أليفانا بالحكمة البشرية والذكاء والقيادة الناجحة للجيش، وهذه صفات حقيقية في أليفانا، أفسدتها حياته الشريرة وفساد قلبه وتشامخه ومقاومته لله الحقيقي.

والخِطابُ الَّذي فاهَ بِه أَحْيورُ في مَجلِسِكَ قد سَمِعْنا كَلِماتِه،

لأَنَّ رِجالَ بَيتَ فَلْوى قد أَبقَوا علَيه،

فأَخبَرَهم بِكُلِّ ما تكَلَّمَ بِه لَدَيكَ [9].

فيا أَيُّها السَّيِّد، لا تُهمِلْ خِطابَه،

بلِ احفَظْه في قَلبِكَ، لأَنَّه حقّ.

فلا يُعاقَبُ نَسلُنا، ولا يَقْوى سَيفٌ علَيهِم،

إِن لم يَخطأوا إلى إِلهِهِم [10].

بحكمة مع شجاعة أكدت يهوديت ما قاله أحيور القائد العموني أنه حق، وأنه يستحق الدراسة.

والآن، فلِئَلاَّ يَكونَ سَيِّدي مَنْبوذًا أَو فاشِلًا،

فالمَوتُ يَنقَضُّ علَيهِم، وقَدِ استَولَت علَيهِمِ الخَطيئَة،

تِلكَ الخطيئةُ الَّتي يُثيرونَ بِها غَضَبَ اللهِ كلَما ارتكبوا مُخالَفة [11].

لم تكذب يهوديت فإن شعبها يعاني من الجوع والعطش حتى اقترب الموت إليهم.

وبِما ًأنَّ الطَّعامَ قد أَعوَزَهم،

وأَنَّ كُلَّ ماءٍ قد شحَّ،

فقَد عَزَموا على تَعْويضِ أَنْفُسِهم مِنها بِقُطْعانِهم،

وقرَّروا استِعْمالَ كُلِّ ما نَهاهمُ اللهُ في شَرائِعِه عن أَكْلِه [12].

وأَمَّا بَواكيرُ الحِنطَةِ وعُشورُ الخَمرِ والزَّيتِ الَّتي حافَظوا علَيها،

لأَنَّهم كَرَّسوها لِلكَهَنَةِ القائمينَ في أُورَشَليمَ أَمامَ وَجهِ إِلهِنا،

فقَد حكَموا بِتَناوُلِها،

مع أَنَّه لا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَ الشَّعبِ أَن يَلمُسَها بِيَدَيه [13].

صورت يهوديت ما حلّ بشعبها حقيقة كأنه خطية قد سقطوا فيها، ألا وهي أن الشعب قد أصرّ أن يسمح له رئيس الكهنة أن يأكل البكور والذبائح والتقدمات التي من حق الهيكل، وذلك بسبب المجاعة التي حلت بهم.  هذا وقد جاء في الترجمة اللاتينية أن الشعب طلب أن يشرب دم المواشي بسبب العطش الشديد. هذا قد حرَّمته الشريعة وطالبت أن يسفك على الأرض (تث15: 23). الآن قد سلبوا حق الله وكسروا الشريعة، فصار هلاكهم قريب للغاية، متى سمح لهم رئيس الكهنة بطلبتهم.

وأرسَلوا إلى أُورَشليم،

لأَنَّ السُّكَّانَ هُناكَ أَيضًا قد فَعَلوا مِثلَ ذلك،

أُناسًا يَنقُلونَ إِلَيهِمِ الإِعْفاءَ مِن قِبَلِ مَجلِسِ الشُّيوخ [14].

ويكونُ، إِذا ما بَلَغَهم هذا الإِعْفاءُ وعَمِلوا بِه،

أَنَّهم في ذلك إلىَومِ يُسلَمونَ إِلَيكَ لِهَلاكِهِم [15].

إذ اقترب وقت هلاك شعبها يليق به أن ينتظر قليلًا، لقد دفعته إلى تأجيل الهجوم حتى يحقق الله على يديها قتله وخلاص شعبها منه ومن جيشه.

وكذلك أَنا أَمَتَكَ، لَمَّا عَلِمتُ بِكُلِّ ذلك،

هَرَبتُ مِن وَجوهِهِم،

وأَرسَلَني اللهُ لأَعمَلَ مَعَكَ أَعْمَالًا تَدهَشُ لَها الأَرضُ كُلُّها،

إِذا سَمِعَت بِها [16].

ما تقوله حق، إذ شعرت وتيقنت أن ما تفعله هو من قِبل الله، وأنه  هو الذي أرسلها إلى أليفانا، وأن ما ستفعله من أعمال تدهش لها الأرض كلها. لم يكن يدرك أن ما تفعله معه هو قطع رأسه.

كان الملوك والقادة العسكريون قديمًا  يجلون كهنة الأوثان والأنبياء، فلا يتحركون خاصة للهجوم في معركة إلاَّ بعد استشارتهم. وقد ظن أليفانا في يهوديت كأحد هؤلاء الكاهنات أو النبيات الوثنيات. لذلك وافق على تأجيل الهجوم، كما سمح لها بالخروج والدخول من وإلى المعسكر مع جاريتها لتمارس العبادة وتستشير الله عن موعد هجومه. حسبها أنها ستعمل لحسابه وحساب أشور.

فإِنَّ أَمَتَكَ تَقِيَّةٌ تَخدُمُ لَيلَ نهارَ إِلهَ السَّماء.

والآن سَأُقيمُ عِندَكَ، يا سَيِّدي،

وستَخرُجُ أَمتُكَ لَيلًا إلى الوادي، وأُصَلِّي إلى الله،

فيَقولُ لي متى يَرتَكِبونَ خَطاياهم، [17]

فأَجيءُ وأُخبِرُكَ، فتَخرُجُ بِجَيشِكَ كُلِّه،

وما مِن أَحَدٍ مِنهم يَقِفُ أَمامَكَ [18].

وأَقودُكَ في وَسَطِ إلىَهوديَّة،

إلى أَن تَصِلَ أَمامَ أُورَشَليم،

وأَجعَلُ عَرشَكَ في وَسَطِها،

فتَسوقُهم كَخِرافٍ لا راعِيَ لَها،

ولا يَنبِحُ أَمامَكَ كَلْبٌ بِلِسانِه.

قِيلَ لي كُلُّ ذلك بِحَسَبِ سابِقِ عِلْمي وأُعلِنَ لي،

وأُرسِلتُ لأُخبِرَكَ بِه” [19].

كخرافٍ لا راعي لها” تعبير شائع يشير إلى انهيار الحاكم وانفلات زمام الأمور. ليتحول الشعب إلى برية بها خراف لا تجد من يقودها (عد27: 17؛ 1مل22: 17؛ مت9: 36).

لا ينبح أمامك كلب بلسانه” عبارة سامية تدل على عدم وجود أية مقاومة ولا معارضة، كأنه يعمل في هدوءٍ شديد وبنجاحٍ فلا يشعر به كلب حارس للموقع ينبح عليه.

3. إعجاب أليفانا بحكمة يَهوديت

وحَسُنَ هذا الكَلامُ لَدى أَليفانا ولَدى جَميعِ ضُبَّاطِه،

وأُعجِبوا بحِكمَتِها وقالوا: [20]

“لا مَثيلَ لِهذه المرأَةِ مِن أَقْصى الأَرضِ إلى أَقْصاها،

في حُسْنِ الطَّلعَةِ وحِكمةِ الكَلام” [21].

حُسن الطلعة وحكمة الكلام“، ذات الوصف الذي قيل عن أبيجايل: “جيدة الفهم، وجميلة الصورة” (1صم25: 3). هكذا أعطاها الله نعمة في أعين أليفانا وضباطه.

وقالَ لَها أَليفانا: “أَحسَنَ اللهُ في إِرسالِكِ أَمامَ الشَّعب،

لِتكونَ القُدرَةُ في أَيدينا،

ويكونَ الهَلاكُ في الَّذينَ استَهانوا بِسَيِّدي” [22].

* انظروا! تقدم يهوديت نفسها إليكم كمن هي مستحقة للإعجاب. لقد اقتربت من هولوفرينس Holophernes، إنسان يخافه الجمهور، يحيط به فرق من الأشوريين منتصرة. في بداية أثرت عليه بنعمة شكلها وجمال ملامحها. بعد ذلك اصطادته برقة حديثها. أول نصرة لها أنها عادت من خيمة العدو وطهارتها لن تُمس. والثانية أنها نالت نصرة على رجلٍ، وأعطت للشعب أن يهرب بمشورتها(106).

القديس أمبروسيوس

والآن فأَنتِ حَسْناءُ في طَلعَتِكِ حاذِقَةٌ في كَلامِكِ.

فإِن عَمِلتِ بِما قُلتِ، يكونُ إِلهُكِ إِلهي،

وأَمَّا أَنتِ فتُقيمينَ في بَيتِ نَبوخَذنَصَّر المَلِك

وتكونينَ مَشْهورةً في أَنْحاءِ الأَرضِ كُلِّها” [23].

لا يُفهم من قوله “إلهك إلهي: أني سيقبل العبادة لله الحيّ، لكنه حسبها كاهنة وثن يشاركها عبادة صنمها الذي تتعبد له. شتان ما بين اعتراف أحيور لإله هذا الشعب واعتراف أليفانا. ما يشغل الأول هو عمل الله العجيب عبر الأجيال، أما الثاني فتشغله الشهوات والمجد الباطل، لذا ظن أنه يبهج قلب يهوديت بقوله: “وأما أنتِ فتقيمين في بيت نبوخذنصر الملك، وتكونين مشهورة في أنحاء الأرض كلها“.

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى