تفسير مراثي إرميا أصحاح ٢ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني
في غضبك تود أن ترفعني إلى سماواتك!

 

في المرثاة الأولى ركز النبي على وصف أورشليم الملكة العظيمة وقد صارت أرملة وحيدة بلا معزٍ، وأن ما حلّ بها هو بسبب خطاياها. وأن النبي يئن باسمها، ينسب كل تمرد وعصيان من جانبها كأنه تمرده هو، ويقدم عنه توبة، طالبًا التدخل الإلهي. أما في هذه المرثاة فيكشف عن مرارة الغضب الإلهي، فما حلّ بالمدينة لم يكن جزافًا، ولا بسبب قوة العدو، وإنما كتأديب إلهي، دفع بها إلى الخراب التام (عا 3: 6). أما غاية الغضب فليس الانتقام، بل رفع التائبين إلى سماواته!

يبدأ هذا الأصحاح بوصف التدمير الشامل لأورشليم، لكن ما حدث إنما صدر من الرب نفسه، مستخدمًا في ذلك جيوش نبوخذنصر.

يتمثل هذا القضاء الإلهي في المظاهر الآتي:

  1. خراب كل مساكن في يهوذا [2].
  2. خراب كامل لكل حصون المدينة وأسوارها وأبوابها وعوارضها [2] التي قيل عنها مرة: “طوفوا بصهيون، ودوروا حولها، عدوا أبراجها، وضعوا قلوبكم على متارسها” (مز 48: 12-13).
  3. مد الرب قوسه كعدوٍ عبر كل الأرض [4].
  4. سمح الرب لهيكله أن يسقط، مثل سقوط الأوراق والأغصان [6].
  5. كره السيد مذبحه بسبب عدم أمانة الشعب، ورذل مقدسه، وسمح بأن يدوسه الأنجاس [7].
  6. بادت الشريعة [9] التي طالما لاقت الاحتقار ولم يجد الأنبياء رؤيا من قبل الرب [9، 14]، وقد اتشح الشيوخ بمسوح الحزن وجلسوا على الأرض يذرون التراب على رؤوسهم فقد كان الخراب كاملًا وساحقًا.
  7. سُبي الملك والرؤساء [14].
  8. أعطى الرب أعداء صهيون مطلق الحرية لكي يستهزئوا ويخربوا مدنها وحضارتها [16].
  9. سقوط كل شعبها، الشيوخ والشبان، جثثًا ميتة، فملأوا شوارع أورشليم [21].

في هذا المشهد مشهد القضاء المروع، يظهر وهن التعزية الإنسانية، لكن يحث النبي الشعب أن يطلبوا المساعدة والمعونة من الرب.

 

1. خصومة الرب 1 – 9

يبدأ النبي هذه المرثاة، فيصف ما حلّ بصهيون بسبب غضب الرب عليها.

كانت أورشليم تعتز بوجود الهيكل وتابوت العهد فيها، والتمتع بالحضرة الإلهية، فكانت تحمل انعكاس بهاء الله، النور الحقيقي. الآن قد حلّ عليها الغضب فسادها الظلام. عوض كونها مملكة النور صارت مملكة الظلمة (راجع إش 64: 11؛ 60: 12).

أرسل الرب أنبياء كثيرين يحذر يهوذا، لكن الغالبية -بل يكاد الكل على جميع المستويات- سخروا بتهديدات الرب لهم. كان من بين هؤلاء الأنبياء إرميا. وها هو يأخذ الرب موقفًا حازمًا، ويتكلم إرميا عن موقف الخصومة الذي اتخذه الرب في حزمٍ لأجل إصلاحهم. هنا يتكلم إرميا كشاهد عيان بعد أن سخر الكل به حين كان ينذرهم.

كَيْفَ غَطَّى السَّيِّدُ بِغَضَبِهِ ابْنَةَ صِهْيَوْنَ بِالظَّلاَمِ؟

أَلْقَى مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فَخْرَ إِسْرَائِيلَ،

وَلَمْ يَذْكُرْ مَوْطِئَ قَدَمَيْهِ فِي يَوْمِ غَضَبِهِ [1].

صار غضب الله يرفرف على مملكة يهوذاأشبه بسحابة ترعد، وقد أُطلق لها العنان بكل قوتها المرعبة، لتسيطر بالتمام على ابنة صهيون [1].

كانت مملكة يهوذا تظن أن لها امتيازًا، لا عن سائر الأمم والشعوب فحسب، بل وحتى عن إسرائيل التي سمح الله لأشور أن تسبيها، وذلك لأنها تضم مدينة اللهوالهيكل الخ، ودخلت في عهد مع الله.

  لم تدرك يهوذا أن هذه الامتيازات تسندها وتحفظها إن حفظت العهد، أما إن استهانت به فتأديبها يصير بأكثر حزمٍ عن الأمم التي لم تتمتع بهذه الامتيازات.

حينما قاوم فرعون الله غطى الظلام بلده، وحين تقاوم ابنة صهيون الله، النور الحقيقي، يحل بها الظلام كما من السماء. وكأنها بتمردها سقطت من السماء حيث النور الإلهي وهبطت إلى الأرض في ظلمة مخيفة ومرعبة. يغطي ابنة صهيون بسحابة، فلا يعود يذكر حتى تابوت عهده (قدميه) الذي معها.

الإنسان الذي يتمرد على الله يصدر إليه الأمر الإلهي: “تُبْ… وإلا فإني آتِيك عن قريب، وأزحزح منارتك” (رؤ 2: 5).

لقد تكرر تعبير “غضب الله في الآيات (1، 2، 3، 6) فالله الكلي الحب والرحمة يود خلاص الجميع، لكن من يصر على رفض الالتصاق به، يُلقى بنفسه تحت فاعلية الخطية، فيصير في حرمان من مراحم الله، وكأنه يسقط تحت غضب الله، الذي هو ليس انفعالًا ولا انتقامًا لذاته مثل غضب البشر، إنما تخلي الله عمن يرفضه، فيلقي بنفسه في ثمرة الخطية، أي الفساد.

*   حين نقرأ عن غضب الرب وسخطه، ينبغي ألا نفهم اللفظ وفق معنى العاطفة البشرية غير الكريمة. إنما بمعنى يليق بالله، المنزه عن كل انفعالٍ أو شائبةٍ. ومن ثم ينبغي أن ندرك من هذا أنه الديان والمنتقم عن كل الأمور الظالمة التي ترتكب في هذا العالم.

وبمنطق هذه المصطلحات ومعناها ينبغي أن نخشاه بكونه المخوف المجازي عن أعمالنا، وأن نخشى عمل أي شيء ضد إرادته. لأن الطبيعة البشرية قد ألفت أن تخشى أولئك الذين تعرف أنهم ساخطون، وتفزع من الإساءة إليهم، كما هو الحال مع بعض القضاة البالغين ذروة العدالة.

فالغضب المنتقم يخشاه عادة أولئك الذين يعذبهم اتهام ضمائرهم لهم، بالطبع ليس لوجود هذه النزعة في عقول هؤلاء الذين سيلتزمون بالإنصاف في أحكامهم. لكن بينما هم في غمرةٍ من هذا الخوف، فإن ميول القاضي نحوهم تتسم بالعدالة وعدم التحيز واحترام القانون الذي ينفذه. وهذا مهما سلك بالرفق واللطف، موصوم بأقسى نعوت السخط والغضب الشديد من أولئك الذين عوقبوا بحقٍ وإنصافٍ [2].

القديس يوحنا كاسيان

ابْتَلَعَ السَّيِّدُ وَلَمْ يُشْفِقْ كُلَّ مَسَاكِنِ يَعْقُوبَ.

نَقَضَ بِسَخَطِهِ حُصُونَ بِنْتِ يَهُوذَا.

أَوْصَلَهَا إِلَى الأَرْضِ.

نَجَّسَ الْمَمْلَكَةَ وَرُؤَسَاءَهَا [2].

إذ رفع الرب حمايته، إذ هو سور نار من حول أتقيائه (زك 2: 5)، ابتلعهم العدو، وحطم حصونهم المادية (الحجرية) حتى الأرض، كما سمح بنجاسة المملكة، حيث اقتحمها الوثنيون، وداسوا مقدساتها.

بمحبته يغضب ويؤدب، لكي يخلص ويرحم. يسمح بنقض الحصون الحجرية، ليقبله المؤمنون حصنًا لنفوسهم، لا يقدر عدو الخير أن يقتحمه. ويسمح بأن ينجس الوثنيون الهيكل لكي يرجع إليه المؤمنون، ويتقدس هيكل الرب الذي فيهم.

لقد سبق فهدد نينوى بدمار مدينتهم، لا ليدمر بل لكي يرجعوا إليه فلا تتدمر حياتهم ومدن نفوسهم الداخلية. فالله يغضب لكي بغضبه يرحم الإنسان.

*  تطلع الاستعلان من الله على (يونان) النبي، ليذهب يرد الشعوب الأممية إلى التوبة.

أرسله إلى نينوى ليدعو بانقلاب خيراتها، لكي بتهديدها تبطل الشرور…

لو أراد الله أن يضرب نينوى بسبب كثرة آثامها، لما أرسل إليها لتبتعد عن الشرور.

لو وضع وجهه ليؤذيها حقيقة، لأرسل الغضب بغتةً وضربها.

أرسل إليها لكي تشعر بالموقف، وتطلب المراحم لتخلصها.

رفع يده ليضرب ويهلك النائمة، ودعاها وأيقظها حتى لا تُلطم في نومها…

أرسله إلى المكان ليرده من الشرور، وبالتوبة يكون له راحة، ولا يحل الفساد…

لما عرفوا أن الغضب حال من العلي هربوا منه واستمروا بالتوبة…

جاهدوا بصفوف الصوم ضد الغضب، ولبسوا المسوح ليدخلوا الحرب التي ثارت ضدهم. أقاموا جانب البٌر بصومهم، ولبس الكبير والصغير الآلام بسبب الرعب.

القديس مار يعقوب السروجي

عَضَبَ بِحُمُوِّ غَضَبِهِ كُلَّ قَرْنٍ لإِسْرَائِيلَ.

رَدَّ إِلَى الْوَرَاءِ يَمِينَهُ أَمَامَ الْعَدُوِّ،

وَاشْتَعَلَ فِي يَعْقُوبَ،

مِثْلَ نَارٍ مُلْتَهِبَةٍ تَأْكُلُ مَا حَوَالَيْهَا [3].

يشير القرن إلى القوة، لأن بعض الحيوانات تدافع عن نفسها بقرونها. وقد استخدم الكتاب المقدس كلمة “قرن” إشارة إلى القوة، فنسمع عن قرن خلاصنا (2 صم 22:3؛ مز 18: 2؛ لو 1: 69). فالحيوان إذ يضرب بقرنه يرجع عدوه إلى الوراء!

يعضب، أي يقطع أو ينزع، الرب قرن شعبه، فيصيرون بلا قوة؛ وبالتالي لا ينهار العدو أمامهم، بل يرجعون هم إلى الوراء في ضعف وهزيمة.

إذ حمل السيد المسيح خطايانا لكي يفدينا منها، أُعطي لبيلاطس سلطانًا كي يصلبه، كقول الرب: “لم يكن لك سلطان إن لم تكن قد ُأعطيت من فوق” (يو 19: 11).

الله لا يريد أن ينزع عن شعبه قرنه، إنما الإنسان أو الشعب هو الذي ينزع قرنه، كيف؟ يرى القديس أغسطينوس أن القرن في أعلى رأس الحيوان، أي يحتل مركز القيادة، فيخضع الجسد له. أما إن خضع الإنسان لشهوات جسده، يكون كمن حطم قوته، وأزال قرنه من مركز القيادة.

بمعنى آخر استعباد الإنسان نفسه للخطية وللشهوات ينزع عنه روح القوة، ويصير بلا قرن.

أما عن النار الملتهبة، التي تأكل ما حواليها، فقد جاء في عاموس: “هكذا قال الرب من أجل ذنوب يهوذا الثلاثة والأربعة، لا أرجع عنه، لأنهم رفضوا ناموس الله… فأرسل نارًا على يهوذا، فتأكل قصورهم” (عا 2: 4-5).

صار السيد المسيح وهو حامل خطايانا ليحطمها كمن هو في نارٍ مشتعلةٍ.

مَدَّ قَوْسَهُ كَعَدُوٍّ.

نَصَبَ يَمِينَهُ كَمُبْغِضٍ،

وَقَتَلَ كُلَّ مُشْتَهَيَاتِ الْعَيْنِ فِي خِبَاءِ بِنْتِ صِهْيَوْنَ.

سَكَبَ كَنَارٍ غَيْظَهُ [4].

هزم البابليون يهوذا، لأن الرب نفسه الذي كان صديقًا لهم وحصنًا يحميهم تحول إلى شبه عدو ضدهم، هذه العداوة أقامتها الخطية التي سقط فيها يهوذا، ورفض التوبة عنها والرجوع إلى الله مخلصه. فالخطية في حياة أولاد الله تقطع الشركة التي يسره أن يتمتعوا بها معه، ذلك أن عينه أطهر من أن تنظر إلى الشر. لم يقل عن الله إنه عدو، بل “كعدو“، لأنه لا يحمل عداوة، إنما وهو يؤدب شعبه يبدو كعدوٍ.

مع أنه لن يتخلى أبدًا عن أحد قديسيه، فإنه لا يتغاضى عن أي انحراف في السلوك. إن كل من يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله، هذا هو ما ندعوه غضب الله. الدرس الواجب أن نتعلمه نحن، وتتعلمه بقية يهوذا مع ما فيه من مرارة شديدة هو: “ادعني في يوم الضيق، أنقذك فتمجدني”.

مدّ الرب قوسه، ففقدت بنت صهيون كل مشتهيات العين، من خيرات إلهية وبهاء وجمال روحي وصلاح.

يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفمعن مفهوم غضب الله عندما حدث زلزال في القسطنطينية، غالبًا عندما أرادت الإمبراطورة أن تنفيه، وقد ارتعبت وهي في حجرة نومها، وحسبت الزلزال علامة غضب الله بسبب نفي القديس، فأسرعت تأمر بعودته.

* لقد انتهى الزلزال ولكن ظل الخوف باقيًا. هذه الهزّة قد أخذت مداها وذهبت، فلا تدع رجاحة العقل تذهب معها. لقد قضينا ثلاثة أيام في الصلاة، فيا ليت حماسنا لا يفتر، فالذي جاء بالزلزال هو تهاوننا، لقد تهاونَّا فكان ذلك سببًا لأحداث الزلزال. فلنجدد حماسنا لنبعد غضبه بعيدًا، ليتنا لا تتراخي ثانية وإلا سنثير غضبه وويلاته علينا ثانية. الله لا يريد موت الشرير، ولكن أن يرتدع ويحيا، “حيّ أنا يقول السيد الرب: إني لا أُسَرُّ بموت الشرير، بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا” (حز 11:33). أرأيتم فناء الناس؟ عندما حدث الزلزال وجدت نفسي أفكر مليًا متسائلًا: أين السرقة؟ أين الجشع؟ أين الاستبداد؟ أين العجرفة؟ أين السيطرة؟ أين الاضطهاد؟ أين نهب الفقراء؟ أين غطرسة الأغنيًاء؟ أين هيمنة القوة؟ أين القسر؟ أين الخوف؟ دقيقة واحدة من الزمن وكل شيء قد تمزق تمزيقًا بكل سهولة، كما يتمزق بيت العنكبوت. كل شيء قد تحطم والمدينة امتلأت بالصرخات، والكل هرع إلى الكنيسة [3].

القديس يوحنا الذهبي الفم

صَارَ السَّيِّدُ كَعَدُوٍّ.

ابْتَلَعَ إِسْرَائِيلَ.

ابْتَلَعَ كُلَّ قُصُورِهِ.

أَهْلَكَ حُصُونَهُ،

وَأَكْثَرَ فِي بِنْتِ يَهُوذَا النَّوْحَ وَالْحُزْنَ [5].

يود الله أن يقيم من الإنسان ملكًا أو ملكة، صاحب سلطان، يعيش كما في قصرٍ، لكن إذ يحول قصره إلى مكان للخطية يفقد الإنسان مركزه وسلطانه وقدراته وتهليل قلبه، ليعيش في حزنٍ وبكاءٍ.

*   “يلقي هوانا على الشرفاء، ويرفع المضطهدين” (أي 12: 21). استمر الشعب اليهودي في وصية الناموس، بينما لم يكن يعرف العالم الأممي كله شيئًا عن وصية الله، دُعي الأولون شرفاء بالإيمان، بينما سقط الآخرون في هوى عدم الإيمان. ولكن عندما أنكرت اليهودية سرّ تجسد ربنا، وآمن العالم الأممي به، سقط الأشراف في الهوان، وارتفع الذين انحدروا إلى خطية عدم الإيمان، ونالوا حرية الإيمان الحقيقي. إذ رأى إرميا ذلك قبل حدوثه بزمن طويل، قال: “صار السيد كعدو. ابتلع إسرائيل. ابتلع كل قصوره، أهلك حصونه” (مرا 2: 5).

البابا غريغوريوس (الكبير)

وَنَزَعَ كَمَا مِنْ جَنَّةٍ مَظَلَّتَهُ.

أَهْلَكَ مُجْتَمَعَهُ.

أَنْسَى الرَّبُّ فِي صِهْيَوْنَ الْمَوْسِمَ وَالسَّبْتَ،

وَرَذَلَ بِسَخَطِ غَضَبِهِ الْمَلِكَ وَالْكَاهِنَ [6].

حلت الكارثة بكل شيءٍ، وبكل أحدٍ: الهيكل [6]، والأعياد [6]، والقادة [6]، والمذبح [7]، والأماكن المقدسة [7]، وسور المدينة [8]، والناموس [9]، والأطفال والرضع [11].

أقام الله للأبوين الأولين آدم وحواء جنة عدن، حيث عاشا في حياة ملوكية، يسودها الفرح والتهليل، يقدمان لله ذبائح التسبيح والشكر. هنا يشبه دور الرب في حياتهما كحارسٍ لهما في الجنة التي أوجدها لهما، لكن إذ سقطا في العصيان، نزع خيمته (مظلته) كمن قد فارق الجنة وتركها ليسودها ثمر العصيان المُفسد.

ما حدث مع أبوينا الأولين حدث أيضًا بصورة مشابهة مع يهوذا الذي تمرد على الله، فنزع الله مجده عن هيكله ومدينته كما من جنة عدن، وتحطم المجمع تمامًا، فليس من هيكلٍ مقدسٍ ومجامع ومدارس الأنبياء والكهنة الخ، بل وتحطم كرسي داود الملك مسيح الرب إلى حين حتى يأتي ابن داود ليقيم هيكلًا جديًا في قلب المؤمن وأورشليم جديدة في أعماق النفس، ويقيم المسيح نفسه في القلب كرئيس كهنة والطبيب السماوي والمعلم الإلهي، والقائد والحصن والطعام السماوي.تكرر الأمر أيضًا حين جاء السيد المسيح، فقاومه اليهود وجحدوه، بينما قبلته الأمم الوثنية، وتمتعت بعمله الخلاصي.

وما نقوله عن يهوذا واليهود يتكرر مع كل من يرفض الإيمان سواء بلسانه أو بسلوكه.

*     تأمل قول يوحنا: “إلى خاصته جاء“، ليس لأجل حاجة المسيح، لأنه مستحيل أن تكون الذات الإلهية محتاجة، لكنه جاء من أجل الإحسان إلى خاصته.

وقد جعل يوحنا ملامة هؤلاء اليهود أشد لذعًا عندما قال: “وخاصته لم تقبله“. مع أن المسيح هو الذي جاء إليهم لمنفعتهم إلا أنهم رفضوه، ولم يفعلوا به هذا الفعل فقط، لكنهم أخرجوه إلى خارج كرمه وقتلوه.

*     سيدين هؤلاء السامريون (يو 4: 39-42) اليهود بإيمانهم بالمسيح وقبولهم إياه، لأن أولئك اليهود بعد كل أعماله وعجائبه قاوموه دفعات متصلة، أما السامريون فبدون آيات أظهروا إيمانهم به.

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     من بين أنقاض أورشليم صعدت صرخة أمل: “أنا مهجورة في آلامي”. خاطبت إسرائيل بذلك أمم العالم: “حتى يتسنى لكم أن تجدوا مكانًا… صرت بسببكم عّدوه لله، هذا الذي سبق فاختارني كمحبوبته من أجل آبائي… فلتنصتوا إلى أنّاتي. ولتفهموا سبب بكائي… الطوبى، في الأصل، هي اجتناب الخطية، لكنها في المقام الثاني، هي الاعتراف للرب بالخطايا التي اقترفناها. فإذا ما تم الخلاص لبقية العالم، فسأحصل أنا بدوري، يا ربي، على الخلاص، حسب أحكامك العادلة”.

العلامة أوريجينوس

كَرِهَ السَّيِّدُ مَذْبَحَهُ.

رَذَلَ مَقْدِسَهُ.

حَصَرَ فِي يَدِ الْعَدُوِّ أَسْوَارَ قُصُورِهَا.

أَطْلَقُوا الصَّوْتَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ،

كَمَا فِي يَوْمِ الْمَوْسِمِ [7].

إذ سقط إسرائيل في السبي الأشوري، ظن يهوذا أن ما حدث لمملكة إسرائيل الشمالية ثمرة طبيعية، لأنهم انشقوا عن يهوذا، وأقاموا ملوكًا ليسوا من نسل داود، وصنعوا هياكل غير الهيكل الذي أقامه سليمان الملك في أورشليم بأمر إلهي. كانوا يعتقدون أنهم مهما فعلوا من شرورهم لن يسلمهم الرب للسبي حفاظًا على الهيكل ومدينة الله. وكان إرميا النبي يحذرهم من هذا الفكر الخاطي، خاصة وأن تسبحتهم الرئيسي كانت: “هيكل الرب، هيكل الرب، هيكل الرب هو” (إر 7: 4). الآن وقد حلّ السبي يئن إرميا النبي على ما حلّ بالمدينة والهيكل والشعب والكهنة والقادة.

يلزم ألا يدخل الغرباء الهيكل (نح 13: 1)، لكن من أجل توبة شعبه ورجوعهم إليه سمح حتى للعدو أن يدخله بل ويدمره.

كره السيد مذبحه، لأنه يهوذا قد نجسوه، ورذل مقدسه، لأنه لا شركة بين القدوس والعبادة الوثنية برجاساتها. لقد أبغض الرب كل عبادة ممتزجة بالنجاسة (إش 1: 13؛ عا 5: 21). لقد سلَّم بنفسه أسوار قصورها للعدو.

*   اخرج أيها اليهودي من الظِلال التي تخدمها، وهلم واستنر كلك بصليب النور الذي لا تحبه.

كُفّ عن الذبائح: لا تطالبك الكنيسة بالثيران، قدم نفسك، لأنه توجد ذبيحة تغفر لك.

لا يطالبك أحد أن تجلب معك العشور، ولا القرابين، بل شخصك عند الله.

عندما تأتي لا تجلب بقرة للذبيحة، بل هلم واغتسل بالصلب ولاشِ إثمك.

عندما نكون نفسك حمراء بالإثم كالدودة، فالصليب يبيّضها ويغسلها من الدرن.

إن كنت دنسًا أكثر من صبغة القرمز، فموت الابن يطهرك إن اعترفتَ به.

موسى أيضًا طهرك سريًا بربنا، وبه قُبلت كل الذبائح التي كان يقربها.

اترك الذبيحة وقرّب نفسك إلى الله، لأنه لا يطلب منك ما هو ملكك بل إياك.

توجد ذبيحة ذاك الذي صلبتَه لتطهرك، فاغتسل من قتله، فيغفر لك ذنوبك.

إن كنت تحب الآب الحق اعترف بابنه، وإن كنت تحب ذبائح السلامة فهو الذبيحة.

إن كنت تطلب طهر النفس فهو يطهرك، وإن كانت تشتهي إرادتك الرشاش يرش دمه عليك.

إن كنت تحبه لا تبطّل الناموس بسببه، إنما به تكتمل كل الذبائح بدون نتانة.

هو الحبر، والذبيحة، والكاهن، والغافر، مبارك من بأسراره موسى شفى الشعبَ كله [4].

القديس مار يعقوب السروجي

قَصَدَ الرَّبُّ أَنْ يُهْلِكَ سُورَ بِنْتِ صِهْيَوْنَ.

مَدَّ الْمِطْمَارَ.

لَمْ يَرْدُدْ يَدَهُ عَنِ الإِهْلاَكِ،

وَجَعَلَ الْمِتْرَسَةَ وَالسُّورَ يَنُوحَانِ.

قَدْ حَزِنَا مَعًا [8].

يُستخدم المطمار في البناء للتأكد بأنه مستقيم ليس فيه ميل، أما استخدامه في الهدم، فيعني أن الأسوار لم تعد للحصانة، بل تمثل خطرًا ليس لأن العدو يقوم بهدمها، وإنما لأنها صارت مائلة تسقط عليهم حتى بدون أي تحرك من جانب العدو، فما كان للحصانة صار للخطر.

ولعل استخدام المطمار هنا يشير إلى أن عملية الهدم لا تحدث جزافًا، وإنما هي محسوبة بدقة في ذهن الله. فقد تم قياسها، حتى لا يبقى فيها ما يمكن أن يحصن المدينة ولو جزئيًا.

إذ لم يعد السور قادرًا على الحماية، ولا المترسة، صار الاثنان ينوحان معًا!

تَاخَتْ فِي الأَرْضِ أَبْوَابُهَا.

أَهْلَكَ وَحَطَّمَ عَوَارِضَهَا.

مَلِكُهَا وَرُؤَسَاؤُهَا بَيْنَ الأُمَمِ.

لاَ شَرِيعَةَ.

أَنْبِيَاؤُهَا أَيْضًا لاَ يَجِدُونَ رُؤْيَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ [9].

الحديث هنا يمثل حال اليهود بعد السبي. لقد فقدوا كل شيء، لم يعودوا يرون آيات تكشف عن حضور الله في وسطهم، ولم يعد يوجد أنبياء إلا قلة قليلة جدًا، وصاروا كما في ظلمة، لا يعرفون متى يتحررون من هذا السبي. هذا هو حالهم كما ورد في (1 مك 4: 46؛ 9: 27؛ 14: 41). ينطبق أيضًا هذا على حال اليهود منذ أيام ملاخي النبي حتى مجيء القديس يوحنا المعمدان، وأيضًا من أيام تيطس إلى يومنا الحاضر [5].

جاء في حزقيال: “ستأتي مصيبة على مصيبةٍ، ويكون خبر على خبرٍ، فيطلبون رؤيا من النبي، والشريعة تُباد عن الكاهن، والمشورة عن الشيوخ” (حز 7: 26). وفي مراثي إرميا: “لا شريعة، أنبياؤها أيضًا لا يجدون رؤيا من قبل الرب” (مرا 2: 9).

ويقول عاموس النبي: “هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز، ولا عطشًا للماء، بل لاستماع كلمة الرب” (عا 8: 11).

ويقول ميخا النبي: “لذلك تكون لكم ليلة بلا رؤيا، ظلام لكم بدون عرافة، وتغيب الشمس عن الأنبياء، ويظلم عليهم النهار” (مي 3: 6).

سقطت الأبواب لا حتى الأرض فحسب، وإنما غاصت في الأرض كما في وسط وحلٍ. لم يعد للأبواب عمل، لأن الدمار حل بالسور كما بالقصور والمباني الأخرى؛ ليس من مبنى فيه عوارض تحفظه أو تسنده.

إذ احتقروا شريعة الرب، فقدوها. وإذ رفضوا صوت الأنبياء المخلصين وسمعوا لكلمات الأنبياء الناعمة، التي أعطتهم رجاءً كاذبًا، نزع الرب الرؤى عن الجميع. لقد استخفوا بإرميا النبي وأمثاله، فجاء الوقت الذي يحرمون فيه من الأنبياء.

*   انظروا كيف كانت الأمة اليهودية زانية!

احتقرت أباها وأبغضته من سيناء، ولما تجسد ابنه لخلاصها، أمسكته ووضعته على الصليب، ووقفت ترقص وتضحك وتزدري وتهزأ.

تعال يا موسى، أنظر العروس التي أخرجتها من مصر، ماذا تعمل بعريسها الطاهر!

تعال، انظر الوليمة التي وضعتها أمامه. أحضرت المُر، مزجت الخل، استلت السيف. عوض المن أعطته الخل. عوض المياه المرة التي جعلها لها حلوة، وضعت له المُر في المياه الحلوة.

صنعت الكرمة المختارة عنبًا رديئًا.

القديس مار يعقوب السروجي

*      يا معشر اليهود، عندما تأتون إلى أورشليم وتجدون إنها خربت، وتحولت إلى تراب ورماد، لا تبكوا كالأطفال (1 كو 4). لا تحزنوا، بل أنشدوا لكم مدينة في السماء بدلًا من تلك التي تبحثون عنها هنا على الأرض. ارتفعوا بأبصاركم، فستجدون في الأعالي أورشليم الحرة التي هي أمنا جميعًا (غل 4: 26).

لا تحزنوا على غياب الهيكل هنا، ولا تيأسوا لافتقاركم إلى كاهنٍ. ففي السماء تجدون مذبحًا وكهنة الخيرات العتيدة، على رتبة ملكي صادق، في موكبهم أمام الله (عب 5: 10). فقد شاءت محبة الرب ورحمته أن ينزع عنكم الإرث الأرضي، حتى يتسنى لكم أن تطلبوا السماوي [6].

العلامة أوريجينوس

 انحدار إلى الأرض 10 – 13

شُيُوخُ بِنْتِ صِهْيَوْنَ يَجْلِسُونَ عَلَى الأَرْضِ سَاكِتِينَ.

يَرْفَعُونَ التُّرَابَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ.

يَتَنَطَّقُونَ بِالْمُسُوحِ.

تَحْنِي عَذَارَى أُورُشَلِيمَ رُؤُوسَهُنَّ إِلَى الأَرْضِ [10].

تطلعت عذارى أورشليم إلى شيوخ بنت صهيون، وعوض قيامهم بدورهم كرجال قضاء يمارسون العدل، خلعوا ثياب القضاء ولبسوا المسوح. لا يقضون لأحد، لأن الضيق حلّ على الجميع، وفقد الشيوخ مراكزهم وسلطانهم. خلع الثياب ولبس المسوح علامة الحزن الشديد، خاصة في حالة موت أحد الأقرباء.

يصور النبي صهيون في حالة ميتم، وذلك كما أعلن في سفر إرميا. “ناحت (جفت) يهوذا، وأبوابها ذبلت، حزنت إلى الأرض (اسودت إلى الأرض)، وصعد عويل أورشليم” (إر 14: 2).

“حزنت إلى الأرض”، أو بحسب الترجمة الحرفية “اسودت الأرض”، أي ارتدت ثياب الحداد السوداء الطويلة (مرا 2: 10)، فصارت أبواب المدينة أشبه بأشباح خارجة من الجحيم! صارت أبواب صهيون، ليست أبواب ملكوت الله المفرح، بل أبواب الجحيم، حيث النوح غير المنقطع، أو أبواب الموت التي يقول عنها المرتل: “يا رافعي من أبواب الموت، لكي أحدث بكل تسابيحك في أبواب ابنة صهيون مبتهجًا بخلاصك” (مز 9: 13-14). ما أخطر أن تتحول أبواب ابنة صهيون من مصدر بهجة بخلاص الرب إلى أبواب عويلٍ مستمرٍ وهلاكٍ وموتٍ!

*     ضفر الأطفال إكليل التسبيح بفرحهم بعتيق الأيام الذي صار طفلًا بين اجتماعاتهم.

حمل زكريا النبي قيثارة الروح، وأسرع قدامه بالتراتيل النبوية، بابتهاج شد أوتاره وحرّك صوته، وقال: “ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون”… افرحي واصرخي بالمجد المرتفع، لأنه يأتي إليك كما أخبرتك بالنبوة.

لكن العروس الحقيرة (جماعة اليهود الذين رفضوا أن يكونوا عروسًا له)… لم تفرح كما دعيت، بل انسحقت وحزنت لمجيء العريس. ولأجل هذا لم تفرح بقبوله.

سبى قلبها العجل (الذهبي) حبيبها، ومعه تتفاوض ولا تريد أن تسمع للنبي القائل لها: “ابتهجي جدًا”.

لم تخرج لتحمل الأغصان مع الأطفال…!

الأنبياء يقرعون أبوابها المرتفعة، ويوقظونها، وهي نائمة بمحبتها لكثرة أصحابها!

الأطفال يمجدون الملك (السماوي) الآتي ويباركونه، والعجوز تهتم بتنظيف أصنامها (حبهم للذات وكبرياء قلوبهم).

حزنت بمجيء وريث الآب. عرفت أنه يفضحها، فأبغضته ولم ترتضِ أن يمجده الأطفال!

الحسد أبكم فمها، فبكمت صامتة عن التمجيد، واهتمت أن تبكم الذين يمجدون!

لم يكفها أنها لا تريد أن تمجد، بل اجتهدت أن تُسكت الممجدين أيضًا!

هؤلاء مجدوه، أما هي فغضبت من أصواتهم.

صرخ إشعياء استيقظي، استيقظي، وألبسي العصمة.

صرخ زكريا: ابتهجي وافرحي بالملك الآتي.

صرخ الأطفال: مبارك الآتي باسم الرب.

إنها لم تنصت لا للأنبياء ولا للأطفال، إنما حزنت من أصواتهم وغضبت.

أيها اليهود مبغضو النور، كيف تسكتون عن التمجيد الممتلئ من السماء والأرض.

القديس مار يعقوب السروجي

كَلَّتْ مِنَ الدُّمُوعِ عَيْنَايَ.

غَلَتْ أَحْشَائِي.

انْسَكَبَتْ عَلَى الأَرْضِ كَبِدِي

عَلَى سَحْقِ بِنْتِ شَعْبِي،

لأَجْلِ غَشَيَانِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ فِي سَاحَاتِ الْقَرْيَةِ [11].

كثيرًا ما حذر إرميا النبي القادة الدينيين والمدنيين كما الشعب ولم يسمعوا له. تحدث إليهم بدموعه كما بقلبه وكل مشاعره، فاستخفوا به، وإذ حلت الكارثة لم يبرر نفسه، بالرغم من اكتشاف الكل أنه كان على حقٍ في كلماته ونبواته، إنما في محبته الشديدة لشعبه لم يكف عن البكاء حتى كلت عيناه، والتهبت أحشاؤه، وانسكب كبده على الأرض، خاصة وهو يرى الأطفال والرضع في وضع لا يُحسدون عليه.

يقول: “كلت من الدموع عيناي، غلت أحشائي، انسكب على الأرض كبدي” (مرا 2: 10-11). ليس من دواء فعّال سوى التوبة، حتى ليبدو كأنه يغير نيِّة الله!

*   دع الكنيسة، أمك، تبكى عليك… دع السيد المسيح يراهم باكين… فانه يسرّ عندما يرى كثيرين يصلون عنك، فقد تحنن الرب بسبب الدموع من أجل الأرملة، لأن كثيرين كانوا يبكون لأجلها، فأقام لها ابنها. وسمع لبطرس سريعًا جدًا في صلاته لإقامة غزالة، لأن الفقراء كانوا يبكون عليها.

*   لتهب لي يا رب أن تأتي إلى قبري، فتسكب الدموع عليّ، حيث جفت عيناي ولم تعودا قادرتين على سكب دموعٍ كهذه من أجل معاصي. إن بكيت يا رب عليّ (كما على لعازر) فسأُنقذ… أنت تدعوني من قبر جسدي هذا، قائلًا: “هلم خارجًا”، حتى لا يعود تفكيري ينحصر في حدود جسدي هذا الضيق، بل يخرج نحو المسيح ويحيا في النور، فلا أعود أفكر في أعمال الظلمة بل في أعمال النور…

ناد يا رب خادمك، رغم ربطه بسلسلة الخطايا، وتقييد قدميه ويديه، فإنه الآن مدفون في قبر الأفكار والأعمال الميتة. لكن عندما تدعوني أقوم حرًا، وأصير أحد الجالسين في وليمتك وتفوح في بيتك رائحة طيب ذكية.

إن كنت قد وهبت لأحد أن يخلص، فإنك تحافظ عليه أيضًا، فيقال عني: “انظر! إنه لم يحضر وسط الكنيسة، ولا تأدب منذ طفولته، بل كان هاربًا من الحكم. فجُذب من أباطيل العالم، ودخل في صفوف المرتلين، بدلًا من أن يكون بين المولولين، وقد ثابر في كهنوته لا بقوته الخاصة بل بنعمة المسيح، وصار جالسًا بين المدعوين في الوليمة السمائية”.

احفظ أيها الرب عملك، واحرس عطاياك التي وهبتها حتى لذاك الذي هرب منها. فإنني أعلم إنني لم أكن مستحقًا أن أدعى أسقفًا، لأنني انشغلت بهذا العالم، لكن نعمتك جعلتني على ما أنا عليه. وفي الحقيقة إنني أصغر جميع الأساقفة، وأقلهم استحقاقًا. ومع ذلك فقد تعهدت ببعض الأعمال الخاصة بكنيستك المقدسة، وسهرت على هذه الثمرة، وإذ اخترتني للكهنوت وأنا مفقود، لا تسمح بعد أن أكون مفقودًا وأنا كاهن.

إن أول عطية هي أن أعرف كيف أحزن حزنًا عميقًا مع أولئك الذين يخطئون، لأن هذه هي أعظم فضيلة.

القديس أمبروسيوس

يَقُولُونَ لأُمَّهَاتِهِمْ:

“َأيْنَ الْحِنْطَةُ وَالْخَمْرُ؟

إِذْ يُغْشَى عَلَيْهِمْ كَجَرِيحٍ فِي سَاحَاتِ الْمَدِينَةِ،

إِذْ تُسْكَبُ نَفْسُهُمْ فِي أَحْضَانِ أُمَّهَاتِهِمْ [12].

صورة بشعة أن يصرخ الطفل من الجوع والجراحات وهو بين ذراعي أمه ولا تجد خبزًا تطعمه، ولا خمرًا تمسح به جراحاته.

ما هي الحنطة وأيضًا الخمر اللذان يطلبانهما الجرحى، وهم في أحضان أمهاتهم سوى جسد الرب ودمه القادران أن يهبا الشفاء لجراحات النفس.

هنا صرخة كل طفلٍ أن يتناول من جسد الرب ودمه (الحنطة والخمر)، للتمتع بالنمو الروحي والحياة الجديدة، كقول السيد: “من يأكلني يحيا بيّ” (يو 6: 57).

*     عندما يوزع (الكاهن) الأسرار لهم يصرخ قائلًا: “جسد الله يُعطى لمغفرة الخطايا، ودم ابن الله يطهر من كل خطية”. إنه يعيد تلك الكلمات التي قالها الرب لتلاميذه عندما وزع الأسرار عليهم: “فيما هم يأكلون أخذ يسوع خبزًا وبارك وكسر وأعطى التلاميذ، وقال: “خذوا هذا هو جسدي”. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلًا: اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا” (مت 26: 26-28). وهكذا عندما نتوب نتقدم من تناول الأسرار التي لمخلصنا، نتقدم كخطاةٍ محتاجين، لأنه لا حاجة للدواء إلاَّ في حالة المرض، أو للشفاء إلاَّ لمن هو مريض، لأنه: “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى” (مت 9: 12). فمن الواضح إذًا أن من يتقدم إلى الأسرار ينال غفرانًا عن الخطايا أيَّا كان هذا الشخص، كاهنًا أو من الشعب. فإذا لم يكن الروح القدس ساكنًا فينا لأننا خطاة، فبأي سلطان يستدعي الكاهن الروح القدس (في سرّ الإفخارستيا) وأن يقترب الشعب من الأسرار؟ [7]

القديس مار فيلوكسينوس المنبجي

بِمَاذَا أُنْذِرُكِ بِمَاذَا أُحَذِّرُكِ؟

بِمَاذَا أُشَبِّهُكِ يَا ابْنَةَ أُورُشَلِيمَ؟

بِمَاذَا أُقَايِسُكِ،

فَأُعَزِّيكِ أَيَّتُهَا الْعَذْرَاءُ بِنْتَ صِهْيَوْنَ؟

لأَنَّ سَحْقَكِ عَظِيمٌ كَالْبَحْرِ.

مَنْ يَشْفِيكِ؟ [13]

“بماذا أقايسك؟” يشير بهذا إلى المعزين الذين يقولون لمن في ضيقة، أن ما حلّ به أقل من غيره، فتستريح نفسه إلى حدٍ ما. لكن النبي لم يجد كارثة أعظم من تلك التي حلّت بأورشليم لكي يعزيها. فقد سحقتها تمامًا كبحرٍ عظيمٍ طغى عليهما وغمرها تمامًا.

 أنبياء كذبة وأنبياء حقيقيّون 14 – 17

أَنْبِيَاؤُكِ رَأُوا لَكِ كَذِبًا وَبَاطِلًا،

وَلَمْ يُعْلِنُوا إِثْمَكِ لِيَرُدُّوا سَبْيَكِ،

بَلْ رَأُوا لَكِ وَحْيًا كَاذِبًا وَطَوَائِحَ [14].

يذكرها هنا بالأنبياء الكذبة الذين كانوا يقاومونه ويتملقونها لنفعهم الخاص، قائلين بأن ما يقوله إرميا النبي مجرد تهديدات لن تحدث فعلًا. وهم بهذا لم يكشفوا عن خطاياها بل وضعوا حجابًا عليها وحرموها من ممارسة التوبة الصادقة (إر 23: 16-22، 28: 9). بهذا طوحوا بها، وألقوا بها في السبي بعيدًا. يحذرنا الرب من المعلمين الكذبة (مت 7: 15-23).

إذ يقدِّم الراعي الحقيقي الكلمة بلا محاباة للوجوه، يطلب ثمرتها، التي لأجلها تجسد كلمة الله، وهي التوبة. “توبوا وآمنوا بالإنجيل” (مر 1: 5). وبذلك تصير رسالة الراعي تقديم ربنا يسوع كفادٍ ومخلصٍ له ولرعيَّته. لهذا تخرج كلمات فمه في حبٍ، لكن بحزمٍ بلا رخاوة أو تساهل في كلمة الله القويَّة القادرة أن تدخل إلى أعماق النفس لتهزها وتبكِّيها وتسحقها. وإلاّ سمع ذلك التوبيخ: “أنبِياؤكِ رأوا لكِ كذِبًا وباطِلًا، ولم يعلِنوا إِثمكِ لِيردّوا سبيكِ، بل رأوا لكِ وحيًا كاذِبًا وطوائِح” (مرا 2: 14)، وسمع تقريعات النبي للرعاة المتملِّقين الذين بدلًا من توبيخهم للخطاة يضعون لهم وسائد، حتى يسمعوا كلمات المدح، ويكسبون عطفهم وحبّهم. “ويلٌ للّواتي يخطن وسائد لكلِّ أوصال الأيدي، ويصنعن مخدّاتٍ لرأس كلِّ قامةٍ لاصطياد النّفوس” (حز 13: 18).

*   قيل للخطاة: “أنبياؤك رأوا لكِ كذبًا وباطلًا، ولم يعلنوا إثمكَ ليردوا سبيك” (مرا 2: 14) ويلاحظ أن المعلمين كانوا يُدعون أحيانًا “أنبياء” في الكتاب المقدس، لأنهم كانوا يظهرون طبيعة الحاضر، ويعلنون عن المستقبل. وكأن الله يتهمهم بالكذب، إذا امتدحوا فاعلي الشر، وقاموا بتبرئتهم بدلًا من إدانة أخطائهم، وذلك خوفًا منهم.

إذا تجنب الرعاة استعمال كلمات التوبيخ، يفشلون في الكشف عن أخطاء الأشرار. إذ كلمات التوبيخ هي حقًا المفتاح الذي يظهر الخطية التي لا يشعر بها فاعلها في كثير من الأحيان. لهذا يقول بولس الرسول: ملازمًا للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم، لكي يكون قادرًا أن يعظ بالتعليم الصحيح، ويوبخ المناقضين (تي 1: 9). ويقول ملاخي أيضًا: لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة، ومن فمه يطلبون الشريعة، لأنه رسول رب الجنود (مل 2: 7). لهذا يحذر الرب على لسان إشعياء قائلًا: ناد بصوتٍ عالٍ. لا تمسك. ارفع صوتك كبوقٍ (إش 58: 1). فالذي يدخل الكهنوت يأخذ منصب رسول يصيح بصوتٍ عالٍ، ويسبق مجيء الديان العادل الذي يتبعه بمظهرٍ رهيبٍ [8].

الأب غريغوريوس (الكبير)

يصَفِّق عَلَيْكِ بِالأَيَادِي كلّ عَابِرِي الطَّرِيقِ.

يَصْفِرونَ وَينْغِضونَ رؤوسَهمْ عَلَى بِنْتِ أورشَلِيمَ قَائِلِينَ:

أَهَذِهِ هِيَ الْمَدِينَة الَّتِي يَقولونَ إِنَّهَا كَمَال الْجَمَالِ،

بَهْجَة كلِّ الأَرْضِ؟ [15]

بعد أن كان العالم كله يتطلع إلى أورشليم كمدينة غاية في الجمال والقوة والقداسة، ليس من الجانب المعماري، وإنما بوجود هيكل الرب فيها، صارت موضع شماتة جيرانها والسخرية.

هذا العار الذي حلّ بالبشرية، ووضح في سبي يهوذا، حمله السيد المسيح عنا، فصار ذاك القدير الممجد من الطغمات السماوية موضع عار وخزي.

إن كان عدو الخير قد حسد آدم الأول على ما تمتع به، فأعد له خطة لكي يدخل به إلى الموت، فإنه لا يزال وسيبقى يحسد كل مؤمنٍ حقيقيٍ لكي يجتذبه من التمتع بالشركة مع المسيح ويهلكه بالخطية.

حربه ضد أولاد لن تهدأ، لكن الذي معنا أعظم وأقوى من الذي علينا.

*     ماذا يعني: “بحسد إبليس دخل الموت العالم” (حك 2: 24). أنتم ترون أن هذا الوحش الشرير (الشيطان) رأى أن أول كائن بشري خُلق ليخلد، وسمته الشريرة (أي الحسد) قاده إلى عصيان الوصية، وبهذا جلب عليه عقوبة الموت. بهذا فإن الحسد يسبب خداعًا، والخداع عصيانًا، والعصيان موتًا… عدو خلاصنا أدخل سمة الحسد التي له، وجعل الإنسان الأول يسقط تحت عقوبة الموت مع أنه كان خالدًا. لكن بمحبة الرب الرعوية أعاد لنا الخلود بموته، فصرنا في امتيازٍ أفضل مما كنا عليه.

الأول نزعنا من الفردوس، والأخير قادنا إلى السمو.

الأول جعلنا تحت حكم الموت، والأخير منحنا الخلود.

الأول حرمنا من مباهج الفردوس، والأخير أعد لنا ملكوت السماوات.

أرأيتم إبداعات ربكم الذي وجَّه ضد رأس العدو بذات سلاحه (حسد إبليس) الذي هو مكره ضد خلاصنا. بالحقيقة ليس فقط تمتعنا بامتيازات أعظم، وإنما جعله أيضًا خاضعًا لنا بالكلمات: “ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب” (لو 10: 19) [9].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     “بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم” (حك 2: 24). قدم الشيطان الموت لنا، لكن ليس من إلزامٍ على الإنسان أن يقبله، لأنه ليس للشيطان أن يجلب عليك شيئًا. موافقتك يا أيها الإنسان قادتك إلى الموت[10].

القديس أغسطينوس

يَفْتَح عَلَيْكِ أَفْوَاهَهمْ كلّ أَعْدَائِكِ.

يَصْفِرونَ وَيحْرِقونَ الأَسْنَانَ.

يَقولونَ: قَدْ أَهْلَكْنَاهَا.

حَقًّا إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي رَجَوْنَاه.

قَدْ وَجَدْنَاه! قَدْ رَأَيْنَاه [16].

تهلل الأعداء وظنوا أن ما حل بأورشليم هو بقوتهم وسلطانهم، وأنه قد جاء اليوم الذي طالما اشتهوه، ولم يدركوا أن ما حدث إنما بسماح من الله لأجل التأديب المؤقت.

يظن الشيطان أن سعادته ونجاحه يكمنان في السيطرة على الإنسان واحتلال فكره وقلبه وكل طاقته ليرافقه في طريق دماره. وعلى العكس فإن خروجه من إنسان يُحسب بالنسبة له فشلًا ودمارًا.

*   يحسب الشيطان خروجه من الإنسان هلاكًا له، فإن الشياطين لا ترحم، تحسب نفسها أنها تعاني شرًا إذا لم تتعب البشر! [11]

 الأب ثيؤفلاكتيوس

إذ قبل السيد المسيح أن يقدم نفسه كفّارة عنا، تهلل عدو الخير كما الصالبون حين رأوه على الأرض كمن في صورة الضعف، وظنّوا أنهم أهلكوه وتخلّصوا منه إلى الأبد.

فَعَلَ الرَّبّ مَا قَصَدَ.

تَمَّمَ قَوْلَه الَّذِي أَوْعَدَ بِهِ منْذ أَيَّامِ الْقِدَمِ.

قَدْ هَدَمَ وَلَمْ يشْفِقْ،

وَأَشْمَتَ بِكِ الْعَدوَّ.

نَصَبَ قَرْنَ أَعْدَائِكِ [17].

ما حدث ليس بالأمر الغريب، فقد سبق فحذرهم الرب بإرميا النبي وغيره من الأنبياء، لكنهم لم ينصتوا إلى تحذيره لهم (إر 51: 12)، كما سبق فحذرهم في أيام موسى النبي (تث 30: 1-5).

ماذا يعني النبي بقوله: “فعل الرب ما قصد”؟

*   تمم التحذيرات التي سبق فأعلنها مرارًا وتكرارًا، وقد استخف بها اليهود، قادة وشعبًا، وحسبوا أنها مجرد كلمات تهديدات لن تتحقق.

*   سمح الرب بذلك ليحقق هدفه، وهو اكتشافهم لمرضهم، ورجوعهم إليه بالتوبة، فيضمّد جراحات نفوسهم المهلَكة.

*   أن ما حدث لهم يكشف عما سقط فيه الإنسان خلال الخطية، فيحمله كلمة الله المتجسد بقبوله الصليب من أجل خلاص البشرية، وإنقاذها من الفساد الذي لحق بها.

 دعوة للصراخ للرب 18-22

صَرَخَ قَلْبهمْ إِلَى السَّيِّدِ.

يَا سورَ بِنْتِ صِهْيَوْنَ،

اسْكبِي الدَّمْعَ كَنَهْرٍ نَهَارًا وَلَيْلًا.

لاَ تعْطِي ذَاتَكِ رَاحَةً.

لاَ تَكفَّ حَدَقَة عَيْنِكِ [18].

هنا يقدم النبي دعوة للكهنة والخدام ألا يكفوا عن الصلاة والبكاء عن كل نفسٍ ساقطةٍ. إن كان السيد المسيح هو رئيس الكهنة والشفيع الدائم لشعبه (عب 7: 25) لدى الآب خلال دمه، فإن الكاهن وقد اختفى في السيد المسيح يدعى “برسفيتيروس” أي “شفيع” عمله الرئيسي الصلاة الدائمة عن إخوته وأولاده الروحيين.

في حديث القديس يوحنا الذهبي الفم لصديقه الساقط ثيؤدور يقول: [إنه وقت مناسب لي أن أنطق بهذه الكلمات الآن. نعم، بل وأكثر مما كان في أيام النبي. فإن كنت لا أحزن على مدنٍ كثيرة، أو كل الأمم، لكنني أحزن على نفسٍ توازى أممًٍا كثيرة كهذه، بل وأثمن منها. إنني لا أحزن لأجل دمار مدينة أو أسر الأشرار لها، بل لأجل تدمير روحك المقدسة… وهلاك الهيكل الحامل للسيد المسيح وإبادته… هذا الهيكل أقدس من ذاك (هيكل العهد القديم)، فأنه لا يتألق بذهبٍ أو فضةٍ بل بنعمة الروح القدس، وبدلًا من تابوت العهد وتمثالي الشاروبيم يوجد في القلب السيد المسيح وأبوه والباراقليط [12].]

*   الكاهن بما أنه نائب الله، فيلزمه أن يهتم بسائر البشر، لكونه أب للعالم كله [13].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*   “أنصت يا رب لكلماتي. ما من أحد له مثل هذه الثقة إلا الكنيسة، فالخاطي لا يجسر على القول: “أنصت يا رب لكلماتي”… بل بالحري يترجى ألا يشاء الله أن يسمعه…

“افهم (تأمل) صراخي: كلمة “صراخي” في الكتاب المقدس لا تعني صرخات الصوت بل القلب. وقد قال الله بالحقيقة لموسى: “مالك تصرخ إليّ هكذا؟!” (خر 14: 15)، بينما لم يتفوّه موسى بأي صراخ على الإطلاق… على نفس الوتيرة جاءت كلمات إرميا: “لا تعطِ لعيني راحة” (مرا 2: 18). لاحظ ماذا يقول: لا تسمح أن تصمت حدقة عيني… إذ أحيانًا تصرخ حدقة أعيننا ذاتها إلى الله [14].

*   الرجال الصالحون دائمًا يحزنون من أجل خطايا الآخرين. فصموئيل قديمًا انتحب على شاول (1 صم 15: 35) لأنَّه أهمل معالجة قروح كبريائه ببلسم الندامة.

وبولس بكى من أجل أهل كورنثوس (2 كو 2: 4) الذين رفضوا أن يغسلوا وصمات الزنا بدموعهم.

ولنفس السبب بلع حزقيال الكتاب الذي كتب فيه ومن خارجه “مراث ونحيب وويل” (حز 2: 10)، مراث لمدح الأبرار، ونحيب من أجل التائهين، وويل لأجل المكتوب عنهم: “عندما يسقط الشرِّير في أعماق الشر، عندئذ يسقط في الاحتقـار” (راجع أم 18: 3). مثل هؤلاء أشار عنهم إشعياء النبي قائلًا: “وَدَعَا السيِّد رَبُّ الجُنُودِ فِي ذَلِكَ إلىَوْمِ إلى البُكَاءِ وَالنوْحِ وَالقَرْعَةِ وَالتنَطُّقِ بِالمِسْحِ، فَهُوَذَا بَهْجَةٌ وَفَرَحٌ ذَبْحُ بَقَرٍ وَنَحْرُ غَنَمٍ أَكْلُ لَحْمٍ وَشُرْبُ خَمْرٍ! لِنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأنَّنا غَدًا نَمُوتُ” (إش 22: 12-13).

*   بكى المخلِّص أيضًا على أورشليم لأن سكانها لم يتوبوا (لو 19: 41).

وندب إرميا أيضًا شعبه غير التائب قائلًا: “يا ليت رأسي ماءٌ وعينيّ ينبوع دموعٍ فأبكي نهارًا وليلًا قتلى بنت شعبي” (إر 9: 1) معلّلًا سبب حزنه قائلًا: “لا تبكوا ميّتًا ولا تندبوه. ابكوا، ابكوا من يمضي لأنّه لا يرجع بعد” (إر 22: 10).

إذن فحري بنا أن نبكي من أجل هؤلاء الذين بسبب جرائمهم وخطاياهم عزلوا أنفسهم عن الكنيسة، كما نبكي لأجل الذين متى أوقفت عنهم الإدانة (التأديب) بسبب خطاياهم يعودون إلى الخطيَّة مرَّة أخرى.

وفي هذا المعنى يدعو النبي خدَّام الكنيسة ملقبًا إيَّاهم “أسوار وأبراج” قائلًا لكل منهم: “يا سور… ابكي الدمع كالنهر” (مرا 2: 18). وبنفس الروح ننفذ الوصيَّة الرسوليَّة “فرحًا مع الفرحين وبكاء مع الباكين” (رو 12: 15). فبدموعك تلين قلوب الخطاة حتى يبكوا هم أيضًا [15].

القديس جيروم

*   قد تقول مكتوب: “إِذَا أَخْطَأَ إنسان إلى إنسان يَدِينُهُ الله. فإن أَخْطَأَ إنسان إلى الرَّبِّ، فَمَنْ يصلِّي مِنْ أَجْلِهِ؟!” (1 صم 2: 25).

أية صعوبة يثيرها هذا التساؤل “مَنْ يصلِّي مِنْ أَجْلِهِ؟”، طالما لم يقل: “لا يصلِّي أحد من أجله”، بل قال: “من يصلِّي من أجله؟”، بمعنى أنه لم ينفِ الصلاة، لكنَّه يتساءل عمَّن عنده الاستعداد للصلاة من أجله.

هذا يشبه ما جاء في المزمور الخامس عشر “يا رب من ينزل في مسكنك. من يسكن في جبل قدسك” (مز 15: 1). فهو لا يقصد انعدام من ينزل في مسكن الرب أو السكنى في جبل قدسه، لكنَّه يتساءل عمَّن يستحق هذا أو من يُختار لهذا…

بنفس الطريقة يجب أن نفهم العبارة: “فَمَنْ يصلِّي مِنْ أَجْلِهِ؟!” أي أنه ينبغي أن يوجد أناس في سمو روحي يصلُّون لأجل المسيئين في حق الرب، وبمقدار جسامة الخطيَّة بمقدار احتياجهم إلى الصلوات.

فعندما أخطأ الشعب عابدًا العِجل… لم يصلِّ عنهم أي شخص من أفراد الجماعة بل موسى نفسه، فهل كان موسى مخطئًا؟! بالتأكيد لم يخطئ بصلاته من أجلهم، إذ استحق أن يطلب ونال ما طلبه. فأي حبٍ كهذا… حتى قدَّم نفسه لأجل الشعب قائلًا: “والآن إن غفرْت خطيّتهمْ، وإلاّ فامْحُني منْ كتابك الذي كتبْت” (خر 32: 32).

ها نحن نراه لا يفكِّر في ذاته، كإنسان ملأته الأوهام والشكوك كمن يقدم على ارتكاب معصيَّة… إنَّما بالحري كان يفكِّر في الكل ناسيًا نفسه، غير خائفٍ من أن يكون بذلك عاصيًا، إنَّما يطلب إنقاذ شعبه من خطر العصيان.

إذن بحق قيل: “فَمَنْ يصلِّي مِنْ أَجْلِهِ؟!”، بمعنى أنه يلزم وجود من هو كموسى يقدِّم نفسه لأجل الخطاة، أو مثل إرميا النبي، الذي بالرغم من قول الرب له: “وأنت فلا تصلِّ لأجل هذا الشعب” (إر 7: 16)، إلاَّ أنه صلَّى من أجلهم، ونال لأجلهم الغفران، ففي وساطة نبي كهذا وصلاته تحرك الرب وقال لأورشليم التي ندمت على خطاياها قائلة:”…قد صرخَت إليك النفس في المضايق والروح في الكروب، فاسمع يا رب فإنك إله رحيم. ارحم فإنَّنا قد أخطأنا إليك” (با 3: 1-2)، فأمرهم الرب أن ينزعوا ثياب النوح ويكفُّوا عن التنهُّدات قائلًا: “اخلعي يا أورشليم حُلَّة النوح والمذلة والبسيّ بهاء المجد من عند الله إلى الأبد” (با 5: 1).

*   هكذا، إذ نظر ربنا يسوع أحمال الخاطئ الثقيلة بكى. لأنَّه لم يسمح للكنيسة وحدها فقط أن تبكي بل نراه هو أيضًا يتحنَّن على حبيبه، ويقول للميت: “هلم خارجًا” (يو 11: 43)، بمعنى يا من كنت مطروحًا في ظلمة الضمير وأسْر خطاياك وسجن إجرامك هلم خارجًا أظهر خطاياك فتتبرر، لأن “الفم يعترف للخلاص” (رو 10: 10).

القديس أمبروسيوس

*   اعلموا يا أحبَّائي بالرب أن محبَّة الله على الدوام أن نعاهد ضمائرنا ونساعد كل الذين أعدوا أفكار قلوبهم لتذكار كنيسة الأبكار ليلًا ونهارًا، فلا أفتر من أن أذكركم في صلواتي ليلًا ونهارًا، لكي تكون أمانتكم ثابتة، وتزدادوا في عمل الفضائل ويثبِّت ربَّنا نظركم وإفرازكم ويزيدكم قوَّة.

وهذه كانت دائمًا طلبتي منذ ولدتكم بالمسيح وصرتم لي بنين. وإن بولس الرسول كما ولد ابنه تيموثاوس بالمسيح كتب له هكذا قائلًا: “أذكرك في صلاتي ليلًا ونهارًا مشتاقًا أن أراك، ذاكرًا دموعك لكي امتلئ فرحًا، إذ أتذكر الإيمان القويم الذي فيك”. فانظروا يا أولادي إلى هذا الرسول لما صار تيموثاوس له ابنًا بالله، كيف كان يذكره ويصلِّي لأجله ويشتهي أن يراه بلا انقطاع! وهكذا أنا يا أحبَّائي الذين يحبَّكم قلبي من أجل اشتياقه إلى إيمانكم أصنع الشيء عينه الذي صنعه الرسول. أي أذكركم وأصلِّي عنكم وأشتهي أن أراكم وذلك لتذكاري أتعابكم وتنهُّدكم وحزن قلوبكم وكثرة صبركم وهدوءكم. ولأنكم تتصرَّفون في جميع هذه الأشياء بقلب قوي وحكمة، وكل من يعمل أعمال الله فبروح الحكمة يعمل.

وقال بولس إن الله لم يعطنا روح الخوف بل روح الحكمة وقوَّة المحبَّة. وربَّنا يطالب كلًا منَّا أن تكون أعماله بهذه الحكمة.

والآن يا أولادي أنا أطلب من الرب أن يسهل طرقي لآتي إليكم وأراكم أيضًا، لأنِّي أَعلم أنكم توَّاقون إلى أن تروني كتوقي إلى رؤيتكم. واعلموا هذا أن المحبَّة المتبادلة بين الآباء والبنين، لا يعادلها شيء على وجه الأرض. فإنَّهم يشتهون أن يروا بعضهم بعضًا دائمًا. فإذا كان هذا شأن المحبَّة بين الآباء والأبناء الجسديِّين فما عساها تكون بين الآباء الروحيِّين وأبنائهم الذين يحبُّون بعضهم لأجل الله، وبخوفه يفعلون.

فالآباء بالله أعظم من الآباء بالجسد، والحب بين الآباء أعظم منه بين الأبناء، ولهذا قال الرسول الإلهي بولس: “إن كانت محبَّتكم إليَّ يسيرة، فإن محبتي إليكم لعظيمة”. وهكذا أنا أبوكم يا أولادي، لأن المحبَّة التي فيَّ لكم هي أعظم منها فيكم ليّ. وبما إنكم صرتم لي بنين، فلنعمل جميعًا معًا لكي يعطينا ربَّنا أن نرى بعضنا بعضًا مرَّة أخرى. وأرجو أن اجتماعي بكم يسبِّب لكم فرحًا.

وإنِّي أشتاق أن أراكم كما قال الرسول وأفيدكم عطيَّة الروح ليصبح بها يقينكم، ونتعزَّى جميعًا بإيماني وإيمانكم. فإذا اجتمعنا أعلمكم بأشياء أخرى لا يمكنني أن أكتبها إليكم في الرسائل ليكون ذلك لكم خلاصًا بربنا يسوع المسيح الذي له المجد والإكرام والتسبيح إلى أبد الآبدين آمين حقًا آمين.

القديس أنطونيوس الكبير

*   ليست كل الدموع تنبع من مشاعر متشابهة، أو عن فضيلة واحدة.

ا. فالبكاء المتسبب عن وخزات خطايانا التي تنخس قلوبنا كما قيل: “تعبت في تنهّدي. أعوّم في كل ليلة سريري، وبدموعي أذوّب فراشي” (مز 6:6)، وأيضًا: “اسكبي الدموع كنهر نهارًا وليلًا. لا تعطي ذاتكِ راحةً. لا تكفَّ حدقة عينكِ” (مرا 18:2)، هذه الدموع تصدر بطريقة معينة.

ب. بطريقة أخرى تأتي الدموع الصادرة عن التأمل في الأمور الصالحة، والاشتياق إلى المجد المقبل، إذ تتدفق دموع غزيرة نابعة عن فرحٍ لا يمكن كتمانه، وتهليلٍ بلا حدود. فإذ تتعطش أنفسنا إلى الله الحي القدير، تقول: “متى أجيء وأتراءَى قدام الله. صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلًا” (مز 2:42-3)، معلنة ذلك ببكاء يومي ونحيب قائلة: “ويل لي، فإن غربتي قد طالت” (مز 5:120).

ج. بطريق ثالث تتدفق الدموع، لا عن إحساس بالخطية المهلكة، إنما بسبب الخوف من الجحيم، وتذكر يوم الدينونة المرهب، وذلك مثل رعب النبي القائل: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي” (مز 2:143).

د. يوجد أيضًا نوع آخر من الدموع، لا ينسكب بسبب معرفة الإنسان لنفسه، إنما بسبب قسوة الآخرين وخطاياهم، فصموئيل كان يبكي لأجل شاول. وجاء في الإنجيل عن الرب أنه بكى من أجل مدينة أورشليم، كما فعل إرميا في الأيام السابقة. إذ يقول الأخير: “يا ليت رأسي ماء، وعينيَّ ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلًا قَتلَى بنت شعبي” (إر 1:9).

هـ. بالتأكيد الدموع المذكورة في المزمور المائة واثنين “إني قد أكلت الرماد مثل الخبز، ومزجت شرابي بدموعٍ” (مز 9:102)، صادرة عن مشاعر تختلف عن تلك التي وردت في المزمور السادس الخاصة بالإنسان التائب، فهي ناشئة عن متاعب هذه الحياة وضيقتها وخسائرها، التي تضغط على الأبرار العائشين في العالم [16].

الأب إسحق

قومِي اهْتِفِي فِي اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ الْهزعِ.

اسْكبِي كَمِيَاهٍ قَلْبَكِ قبَالَةَ وَجْهِ السَّيِّدِ.

ارْفَعِي إِلَيْهِ يَدَيْكِ

لأَجْلِ نَفْسِ أَطْفَالِكِ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجوعِ،

فِي رَأْسِ كلِّ شَارِعٍ [19].

امتلأ قلب أورشليم حزنًا وصرخ إلى الله، لا للرجوع إليه بالتوبة، وإنما لرفع الضيق. لهذا يحثهم النبي ألا يكفوا عن الالتجاء إلى الله، حتى يلتصقوا به بالتوبة الصادقة.

كم كان قاسيًا على قلب إرميا أن يرى سور أورشليم يهدم، فإن كان السور المادي قد تحطم لاق بهم أن يصرخوا إلى السور الحقيقي – الرب نفسه – القادر أن يحوط بهم ويحفظهم.

كان الليل عند اليهود قديمًا ينقسم إلى ثلاثة هزع متساوية (قض 7: 19)، كل هزيع يتكون من أربع ساعات: الهزيع الأول من الغروب حتى الساعة العاشرة مساءً. والثاني كان يدعى الهزيع الأوسط (منتصف الليل) من الساعة العاشرة حتى الثانية بعد نصف الليل. والهزيع الثالث الذي هو الفجر أو الصباح المبكر من الثانية حتى السادسة باكرًا أي حتى شروق الشمس. أما في العصر الروماني فصار الليل ينقسم عند اليهود إلى أربعة هزع (مت 14: 25؛ لو 12: 38)، كل هزيع عبارة عن ثلاث ساعات. يبدأ الليل في السادسة مساءً وينتهي السادسة صباحًا. كان الناس قديمًا يلجأون إلى النوم في الهزيع الأول، أما النبي فيطلب من ابنة صهيون أن تسرع إلى الصلاة وطلب مراحم الله من أجل أطفالها مع بداية الهزيع الأول.

من جهتنا نحن كخدَّام، يلزمنا أن تكون لنا أمومة أو أبوَّة روحيَّة أعمق من الحب العاطفي. أمومة تفوق أمومة المرأة الكنعانيَّة، وأبوَّة تسمو على أبوَّة قائد المائة الوثني، لأنها أبوَّة أو حب المسيح فينا للذين فداهم. لكنَّني أخجل أن أقول إنَّ هذين قد سبقانا في الإيمان والحب. أمَّا نحن الذين نرعى أولادنا وبناتنا روحيًا، وقد أسكرتهم الخطيَّة، فتخدَّرت حواسهم، وبلَدَت عواطفهم، وفترت محبَّتهم لله، وعجزوا عن الجري وراء الرب، وهم في حاجة إلى الصلاة من أجل خلاص نفوسهم والتحرُّر من جنون الخطيَّة وفالج الإثم. نراهم ليسوا في حالة جنون أو مصابين بالفالج، بل تموت أنفسهم بالخطيَّة، ومع هذا لا تئن أحشاؤنا عليهم، معطين لأعيننا نومًا، ولأجفاننا نعاسًا، مشغولين بأمورٍ كثيرة، إداريَّات وخدمات وزيارات ورسميَّات ومجاملات. لكن هل من دموع وبكاء من أجل الساقطين؟!

هل من تنهُّدات للرب: “يا سيِّد أعنا… أولادنا معذَّبون جدًا!”

هل من صرخات إليه مع داود: “جداول مياه جرت من عينيَّ، لأنهم لم يحفظوا وصاياك” (مز 119: 136).

 هل من تنهُّدات مع إرميا: “مِن أجلِ سحقِ بِنتِ شعبِي انسحقت. حزِنت. أخذتني دهشةٌ. يا ليت رأسي ماءٌ وعينيّ ينبوع دموعٍ فأبكي نهارًا وليلًا قتلى بنت شعبي. على الجبال أرفع بكاءً ومرثاةً وعلى مراعي البرّيّة ندبًا” (إر 8: 21؛ 9: 1، 10)، وقوله: “كلّت من الدّموع عيناي. غلت أحشائي. انسكبت على الأرض كبدي على سحق بنت شعبي لأجل غشيان الأطفال والرّضّع في ساحات القرية” (مرا 2: 11). مرّة أخرى: “لتذرف عيناي دموعًا ليلًا ونهارًا، ولا تكفّا، لأن العذراء بنت شعبي سحقت سحقًا عظيمًا بضربةٍ موجعةٍ جدًّا” (إر 14: 17).

ومع بولس الرسول تقول: “إنّي ثلاث سنين ليْلًا ونهارًا لمْ افتر عنْ أن أنْذر بدموعٍ كلّ واحدٍ” (أع 20: 31).

وإرميا النبي يطلب في أثناء السبي دموعًا من سور بنت صهيون. وأنت كسور لأولادك الروحيّين يطالبك بالبكاء من أجل المسبيّين تحت عبوديّة إبليس وأسْره، قائلًا: “يا سور بنْت صهْيوْن اسْكبي الدّمْع كنهْرٍ نهارًا وليْلًا لا تعْطي ذاتك راحةً. لا تكفّ حدقة عيْنك. قومي اهْتفي في اللّيْل في أوّل الهزع. اسْكبي كمياهٍ قلْبك قبالة وجْه السيّد. ارْفعي إليه يديْك لأجْل نفْس أطْفالك المغْشي عليْهمْ من الجوع في رأْس كلّ شارعٍ” (مرا 2: 18-19).

لقد علَّمنا بولس الرسول ماذا نصنع بالخطاة، حتى مع الشاب الذي ارتكب الشرّ مع امرأة أبيه، رغم طلبه تأديبه بعزله عن الجماعة المقدَّسة لئلاَّ تُفسد الخميرة العجين كله (1 كو 5: 6)، لكنَّه يوصيهم ألاَّ يكفوا عن الصلاة من أجله “بالحري لم تنوحوا، حتى يرفع من وسطكم الذي فعل الفعل”. فنوح الجماعة وحزنها هو عمل الأعضاء الحيَّة من أجل العضو المريض، فيعطيه فرصة للتوبة، ويليِّن قلبه ويمرِّر الخطيَّة في نفسه، وعندئذ إذ يتوب بإرادته ورضاه يقبله الله وتقبله الكنيسة بفرح.

انْظرْ يَا رَبّ وَتَطَلَّعْ بِمَنْ فَعَلْتَ هَكَذَا.

أَتَأْكل النِّسَاء ثَمَرَهنَّ أَطْفَالَ الْحَضَانَةِ؟

أَيقْتَل فِي مَقْدِسِ السَّيِّدِ الْكَاهِن وَالنَّبِيّ؟ [20]

يا لها من صورة بشعة أن تمتد يد الأم لتذبح طفلها بسبب الجوع، الذي اشتد جدًا بعد 18 شهرًا من حصار المدينة (إر 19: 9). اعتادت النساء العبرانيات أن يقدمن أطفالهن ذبائح للإله ملوك مثل الوثنيات، فيقدمن الأطفال للكهنة الوثنيين يجيزونهم في النار، لذلك سمح لهن أن يأكلن أطفالهن بسبب الجوع ليدركن ما قد بلغن إليه من قسوة.

وأيضًا أن يُقتل الكاهن والنبي في مقدس الرب. هذا حدث ثمرة أفعالهم، إذ فتح الكهنة والأنبياء الكذبة الهيكل لدخول الأصنام، ففقد الهيكل دوره حتى لحفظ الكهنة والأنبياء.

كأن النبي في حنوه على شعبه يصرخ إلى الله مذكرًا إياه أن ما حلّ بهذا الشعب، إنما حل بشعبه (شعب الله نفسه).

اضْطَجَعَتْ عَلَى الأَرْضِ فِي الشَّوَارِعِ الصِّبْيَان وَالشّيوخ.

عَذَارَايَ وَشبَّانِي سَقَطوا بِالسَّيْفِ.

قَدْ قَتَلْتَ فِي يَوْمِ غَضَبِكَ.

ذَبَحْتَ وَلَمْ تشْفِقْ [21].

يطلب من الرب أن يتطلع إلى ما حدث، فإن الدمار شمل الشبان والشابات، وكأنه ليس بعد من رجاء حتى بالنسبة للمستقبل.

اضطر الأطفال والصبيان والشيوخ أن يخرجوا إلى الشوارع، يبحثون عن الطعام مهما كان نوعه، فإذا بالجوع يأكلهم، ولا يجدون من فيهم قوة حتى لدفنهم.

صار الهلاك جماعيًا: الصبيان مع الشيوخ، والعذارى مع الشبان، صاروا مقتولين على الأرض في الشوارع وفي المقادس حيث جاءوا يلتمسون الطعام والحماية.

حتى العذارى اللواتي كانت العادة أن يُتركن في المعارك ليحملن إياهن كغنائم قُتلن، هذا كله حدث كما في موسم، حيث يجتمع الكثيرون معًا للاحتفال به.

قَدْ دَعَوْتَ كَمَا فِي يَوْمِ مَوْسِمٍ مَخَاوِفِي حَوَالَيَّ،

فَلَمْ يَكنْ فِي يَوْمِ غَضَبِ الرَّبِّ نَاجٍ وَلاَ بَاقٍ.

الَّذِينَ حَضَنْتهمْ وَرَبَّيْتهمْ أَفْنَاهمْ عَدوِّي [22].

أورشليم التي كانت تشبه أمًا تحتضن أبناءها بفرحٍ وتهليلٍ، أشبه بأيقونة سماوية مبهجة، صارت أبشع من مناطق المدافن، مملوءة جثثًا من كل سن ومن كل فئة، ليس من يقدر أو يفكر في جمعها ودفنها. صارت بؤرة للأوبئة، لا يحتمل أحد أن يتطلع حتى إلى مقادسها!

من وحي مراثي 2

ردّني يا رب إلى سماواتك!

*   ترتعب نفسي من غضبك، يا إلهي!

 لكن في غضبك تود أن ترفعني إلى سماواتك!

 في غضبك، أحسست كأن الظلمة أحاطت بي من كل جانب.

 لكنك أنت شمس البرّ،

 لا تتركني حتى تسطع عليّ بحبك!

 تسكب بهاءك عليّ، فأصلح لمملكة.

 في غضبك أدركت أن خطاياي ألقت بي من السماء إلى التراب.

 لكن تبقى السماء تنتظرني، لترحب لي.

 غضبك صار كنارٍ ملتهبة،

 لا لكي تحرقني وتبيدني،

 وإنما لكي تحرق كل فساد حلً بطبيعتي.

*   يا للعجب إذ أتلامس مع غضبك،

 أحسبك كعدو تصوّب قوسك عليّ.

 ناحت نفسي في داخلي،

 من يقدر أن يصدّ سهامك النارية.

 أدركت أن غضبك في جوهره حب.

 ليس فيك عداوة،

 لأنك أنت هو الحب عينه.

 سهامك تقتل شروري،

 وتجرح قلبي جراحات شافية.

 إني مجروحة حبًا!

 سهامك تقتل كل عداوة،

 وتلهب قلبي بالحب نحوك.

 أراك لست ببعيدٍ عنّي،

 أنت في داخلي عميقًا أعمق من عمقي،

 أنت في أعماقي عاليًا أعلى من علوّي.

 ليس من هو لي أقرب منك!

 تقترب لي وتجعلني من أهل بيت الله.

*   خلال غضبك المقدس أدركت أسرارك.

 تبغض ما هو فاسد فيّ،

 لكي تقيم من أعماقي هيكلًا مقدسًا لك.

 تسمّر صليبك المحيي في أعماقي.

 تحملني فيك أيها الشفيع الكفّاري.

 فأتبرر بك أمام عرش نعمتك.

*   خطاياي حوّلت أورشليمي الداخلية إلى مقبرة.

 هوذا الملك والرؤساء والقيادات وكل الشعب حتى الأطفال هلكوا.

 سباهم عدو الخير وأذلّهم،

 حطّم إمكانياتهم وأفسد دورهم.

 لتُقم من إرادتي ملكًا يحمل إرادتك المقدسة.

 لتسند قلبي وعواطفي وأحاسيسي كقادة تعمل بروحك القدوس.

 أهلك العدو كل طاقاتي،

 أما أنت فتقدّس كل أعماقي لتقيم ملكوتك في داخلي.

 أتجاسر فأقول: لتكن لا إرادتي بل إرادتك.

 لتعمل يا مخلصي بدمك الثمين فيّ.

 ولتملأ نعمتك مخازن قلبي بخيراتك.

 أنت تريد أن تقيم من التراب سماءً،

 وتجعل من البشر ملائكة!

 ها أنا بين يديك،

 أعترف لك أنني كثيرًا ما أسأت إلى معرفة حقيقة غضبك!

 لتغضب ولتؤدب وتعمل بنعمتك فيّ!

 لتقم مني ما تريده لي.

 ليس لي من يحبني مثلك.

 ليتني أحب نفسي كما تحبها أنت.

 وأطلب لنفسي ما تشتهيه أنت لي!

 لك المجد يا محب البشر.

 لأنحني أمام غضبك المقدس،

 كما أمام حبك الفائق!

فاصل

فاصل

تفسير مراثي إرميا 1 تفسير مراثي إرميا
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير مراثي إرميا 3
تفسير العهد القديم

 

زر الذهاب إلى الأعلى