يو 11:1 إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله
إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. يو 11:1
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“إلى خاصته جاء،
وخاصته لم تقبله” (11).
خلق الله الإنسان لا ليخدمه، فهو ليس بمحتاج إلى خدمة بشرية، لكنه في حبه الفريد للإنسان يريد أن يجعل منه خاصته وأهل بيته. فقد “سار أخنوخ مع الله ولم يوجد، لأن الله أخذه” (تك 5: 24). بينما لا نعلم كيف أخذه، ولا إلى أين ذهب به، لكنه اختطفه ليكون معه على الدوام كأحد أفراد العائلة الإلهية.
يبرز الله حبه الفائق لمؤمنيه، فينسب نفسه إليهم قائلاً: “أنا إله إبراهيم، وإله اسحق، وإله يعقوب”. ويكشف موسى النبي عن هذه العلاقة على مستوي الجماعة حيث يحسب الله شعبه نصيبه الشخصي: “إن قسم الرب هو شعبه، يعقوب جبل نصيبه” (تث 32) “إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبًا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض ” (تث 7: 6)، وكثيرًا ما أعلن الأنبياء إن الله اقتنى شعبه لنفسه خاصة.
وقد جاء الكلمة المتجسد وسط هذه الخاصة، لكن خاصته لم تقبله. كان الرفض جماعيًا من رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين ورؤساء الشعب بل واشترك معهم أحد التلاميذ. وتحقق القول: “يبغضونني بلا سبب” (مز 39: 19؛ 69: 4). لقد صرخوا: “دمه علينا وعلي أولادنا” (مت 27: 25).
v سمع الرب صلوات الأنبياء واهتم الآب ألا يهلك جنسنا، فأرسل ابنه من السماء كشافٍ. يقول أحد الأنبياء: “يأتي بغتة السيد الذي تطلبونه” (ملا 1:3) إلى أين؟ “إلى هيكله”! يقول نبي آخر عند سماعه هذا: “على جبلٍ عالٍ اصعدي يا مبشرة صهيون… قولي لمدن يهوذا”. ماذا أقول؟ “هوذا إلهك. هوذا السيد الرب بقوة يأتي” (إش 9:40، 10). والرب نفسه يقول: “ها أنا ذا آتٍ وأسكن في وسطكم” (زك 10:2). لكن الإسرائيليين رفضوا الخلاص، لهذا “جئت لأجمع كل الأمم والألسنة” (إش 18:66). إذ “جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله“. إنك تجيء، فماذا تهب الأمم؟ “جئت لأجمع كل الأمم والألسنة، وأجعل فيهم آية” (إش 19:66). لأنه متى عُلقت على الصليب أعطي جميع جنودي ختمًا على جباههم.
v تأمل قول يوحنا: “إلى خاصته جاء“، ليس لأجل حاجة المسيح، لأنه مستحيل أن تكون الذات الإلهية محتاجة، لكنه جاء من أجل الإحسان إلى خاصته.
وقد جعل يوحنا ملامة هؤلاء اليهود أشد لذعًا عندما قال: “وخاصته لم تقبله“، ومع أن المسيح هو الذي جاء إليهم لمنفعتهم إلا أنهم رفضوه، ولم يفعلوا به هذا الفعل فقط، لكنهم أخرجوه إلى خارج كرمه وقتلوه.
تفسير الأب متى المسكين
11:1- إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ.
التدرج السابق في الاستعلان كان يبشر بهذه النتيجة الحتمية, فالعالم من أدم حتى إبراهيم ثم موسى لم يُعدم النور الإلهي، ولم يمتنع عنه صوت الله، ولم يمتنع على الإنسان أن يدعو باسم الرب. فنحن نسمع مبكراً جداً في أيام شيث بن أدم أن في أيامه ابتدأ الإنسان أن يدعو باسم الرب: «ولشيث أيضاً ؤلد ابن فدعا اسمه أنوش, حينئذ ابتدىء أن يدعى باسم الرب» (تك26:4). معنى هذا أن الإنسان كان في هذا الزمان السحيق يعرف الله معرفة شخصية وبالاسم!!
ثم بعد ذلك الزمان بعدة مئات من السنين نسمع بشخصية قديسة على المستوى العملي ارتفع بمعرفة الله والمناداة باسمه إلى مستوى السيرة السماوية والمسيرة العاشقة مع الله, بنوع يفوق تصورنا وكأنها زمالة أو أخوية: «وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه» (24:5)
كذلك وبعد ذلك بأزمنة جاء نوح الذي أظلمت الدنيا في أيامه وانحصر النور الالهي عن وعي الإنسان وضميره، وبحسب تعبير الوحي المقدس: “وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلماً… إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه عل الأرض” (تك11:6-12). ولكن من بين هؤلاء وُجد نوح البار: «وكان نوح رجلاً باراً كاملاً في أجياله وسار نوح مع الله» (تك9:6). وهكذا وفي وسط الظلام الدامس لم يعدم «الكلمة» إنساناً يشهد للنور ويعيشه فيصبح شفيعاً لمزيد من استمرار ولمزيد من استعلانه وأخيراً «جاء إلى خاصته».
«إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله».
من نشيد موسى النبي الذي قاله للوداع قبل موته نفهم أن الله قسم شعوب الأرض, وجعلها تحت حراسات ربما بعض الملائكة , أما شعب إسرائيل فكان من نصيب الرب يرعاه بنفسه، أو بحسب تعبيره للأنبياء: “إقتناه لنفسه خاصة”: «حينما قسم العلّي للأمم، حين فرق بني أدم، نصب تخوماً لشعوب حسب عدد بني إسرائيل (أي كثيرة). إن قسم الرب هو شعبه, يعقوب حبل نصيبه. وجده في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خرب. أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه. كما يحترك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على مناكبه، هكذا الرب وحده اقتاده وليس معه إله أجنبي.» (تث 8:32-12)
ويلزم التفريق بين كلمة «خاصته» الاولى لأنها جاءت بصيغة المحايد (neuer)، أي ليس مذكر ولا مؤنث, أي لا تفيد معنى الإنسان، وهنا ينصب المعنى على الأرض والوطن وعلى البيت, أي بيته وبلده. والمعنى ينحصر في نهاية الأيام وليس منذ إبراهيم أو موسى، بل في ملء الزمان, أي مجيء المسيح. أما كلمة “خاصته” الثانية فجاءت بالمذكر الجمع للعاقل, وهنا ينصب المعنى على الشعب ككل, أي شعبه. وكذلك فإن المعنى ينصب هنا على مجيء المسيا.
وهكذا تفيد هذه الأية أن مجيء الكلمة انحصر انحصاراً هذه المرة في رقعة أرض خاصة وفي شعب مختار خاص دون بقية الأراضي والشعوب, وكأنهما “بيت الله وأهله”.
وإليك أيها القارىء من الأيات البينات ما يوضح ذلك:
تَرَنَّمِي وَافْرَحِي يَا بِنْتَ صِهْيَوْنَ لأَنِّي هَئَنَذَا آتِي وَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَتَّصِلُ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ بِالرَّبِّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَكُونُونَ لِي شَعْباً فَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ فَتَعْلَمِينَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ قَدْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكِ. وَالرَّبُّ يَرِثُ يَهُوذَا نَصِيبَهُ فِي الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَيَخْتَارُ أُورُشَلِيمَ بَعْدُ. (زك10:2-12)
ولكن ليس معنى ذلك أن الشعب المرفوض سابقاً سيمتلك الأرض التي اختارها الرب ليسكن فيها _ في نهاية الأيام_ بل تنص النبوة على أنه بالرغم من أن الرب سيأتي إلى الآرض، خاصته, ويسكن فيها, إلا أن الشعب سيطوح به بعيدا في الامم بسبب رفضه:
لاَ تَفْرَحْ يَا إِسْرَائِيلُ طَرَباً كَالشُّعُوبِ لأَنَّكَ قَدْ زَنَيْتَ عَنْ إِلَهِكَ. أَحْبَبْتَ الأُجْرَةَ عَلَى جَمِيعِ بَيَادِرِ الْحِنْطَةِ. لاَ يُطْعِمُهُمُ الْبَيْدَرُ وَالْمِعْصَرَةُ وَيَكْذِبُ عَلَيْهِمِ الْمِسْطَارُ. لاَ يَسْكُنُونَ فِي أَرْضِ الرَّبِّ بَلْ يَرْجِعُ أَفْرَايِمُ إِلَى مِصْرَ وَيَأْكُلُونَ النَّجِسَ فِي أَشُّورَ (هو1:9-3)
والسبب يذكره بوضوح إرميا النبي: “وأتيت بكم إلى أرض بساتين لتأكلوا ثمرها وخيرها, فأتيتم ونجستم أرضي وجعلتم ميراثي رجساً” (إر 7:2). والأساس الذي بمقتضاه سكن شعب إسرائيل فلسطين هو أن هذه الأرض ملك للرب وهم غرباء ونزلاء فيها، ليس فيها حق بيع أو شراء!!
«وَالأَرْضُ لاَ تُبَاعُ بَتَّةً لأَنَّ لِيَ الأَرْضَ وَأَنْتُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عِنْدِي.(لا 23:25)
أما شعب إسرائيل فاعتبرهم الرب خاصته، أي أهله وشعبه وعبيده الخصوصيين، وكأنه اشتراهم لنفسه، فهم ليسوا أحراراً في أنفسهم:
لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِي عَبِيدٌ. هُمْ عَبِيدِي الَّذِينَ أَخْرَجْتُهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ (لا55:25)
فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ الأَرْضِ. 6- وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً. هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُكَلِّمُ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ». (خر5:19-6)
لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لهُ شَعْباً أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ. ليْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ التَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ (تث 6:7-7)
«أَنْتُمْ أَوْلادٌ لِلرَّبِّ إِلهِكُمْ. لا تَخْمِشُوا أَجْسَامَكُمْ وَلا تَجْعَلُوا قَرْعَةً بَيْنَ أَعْيُنِكُمْ لأَجْلِ مَيِّتٍ. لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِتَكُونَ لهُ شَعْباً خَاصّاً فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ. (تث1:14-2)
وَوَاعَدَكَ الرَّبُّ اليَوْمَ أَنْ تَكُونَ لهُ شَعْباً خَاصّاً كَمَا قَال لكَ وَتَحْفَظَ جَمِيعَ وَصَايَاهُ. وَأَنْ يَجْعَلكَ مُسْتَعْلِياً عَلى جَمِيعِ القَبَائِلِ التِي عَمِلهَا فِي الثَّنَاءِ وَالاِسْمِ وَالبَهَاءِ وَأَنْ تَكُونَ شَعْباً مُقَدَّساً لِلرَّبِّ إِلهِكَ كَمَا قَال» (تث18:26-19)
ولكن للأسف لم يحتفظ إسرائيل بلقبه ولا باسمه ولا بحب الله له، ولا كرم اختياره له ولا حافظ على عهده، بل ارتد عن إلهه: « وأعطوا القفا لا الوجه» (إر 24:7). والقول في ذلك كثير جداً يملأ كل أسفار العهد القديم. ولكن أبشع أوصاف الأرتداد جاءت من فم موس نفسه، أي من بكور مسيرة الشعب خلف الل ، ويا للفضيحة:
«اُنْصُتِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ فَأَتَكَلمَ وَلتَسْمَعِ الأَرْضُ أَقْوَال فَمِي. يَهْطِلُ كَالمَطَرِ تَعْلِيمِي وَيَقْطُرُ كَالنَّدَى كَلامِي. كَالطَّلِّ عَلى الكَلإِ وَكَالوَابِلِ عَلى العُشْبِ… «فَسَدُوا تِجَاهَهُ الذِينَ هُمْ عَارٌ وَليْسُوا أَوْلادَهُ جِيلٌ أَعْوَجُ مُلتَوٍ. هَل تُكَافِئُونَ الرَّبَّ بِهَذَا يَا شَعْباً غَبِيّاً غَيْرَ حَكِيمٍ؟ أَليْسَ هُوَ أَبَاكَ وَمُقْتَنِيَكَ هُوَ عَمِلكَ وَأَنْشَأَكَ؟… » (تث1:32-52)
واضح أن أعمال الشعب الشريرة وأخصها الزنا وعبادة الأصنام التي أغرم بها الشعب, وأحياناً كثيرة كان ذلك بقيادة ملوكهم، هذه الأعمال الشريرة حجبت وجه الله. وهذا معناه المباشر توقف عمل «نور الظلمة» وحجز المعرفة والرأي الصواب والفهم والمشورة الحسنة عنهم، وذلك حتى لا يلوثوا اسم الله وكرامته ويخلطوا بين عمل الشر وعمل الله. وهذا بدوره مما حدا بالله، أو جعله يتقدم خطوة أكثر في الاستعلان عن نفسه بمجيء «الكلمة» مجيئاً منظوراً, حتى يتسنى لله أن يتكلم مع خاصته مباشرة دون وسيط أو نبي: “الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة ، كلمنا في هذه الايام الأخيرة في ابنه… ” (عب1:1-2)
ولكن كان لا يزال غضب الله على الشعب، الذي فسد بقيادة رؤسائه، قائما. بمعنى أنه كان قد حجب وجهه عنهم وانقطع عنهم عمل «نور الكلمة» كما سبق، فكان من الصعب على الشعب المنغمس في الشر مع رؤسائه ومعلميه أن يتعرف على المسيا الذي أتى, أي «الكلمة» الذي جاء بنفسه. وهذا يصفه القديس يوحنا في إنجيله في الأصحاح الثانى عشر ولكن بصورة جمع فيها انقطاع النور الالهي منذ القدم عن الشعب المرتد عن الله مع عدم إيمانهم بالمسيا, أي «الكلمة» عندما ظهر، أي المسيح الذي جاء إليهم, هكذا: وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتٍ هَذَا عَدَدُهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. لِيَتِمَّ قَوْلُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟» لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. لأَنَّ إِشَعْيَاءَ قَالَ أَيْضاً: «قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ لِئَلَّا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ». قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ. (يو37:12-41).
والأن إلى إشعياء لندرس هذا الوضع الخطير:
فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا الْمَلِكِ رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ وَأَذْيَالُهُ تَمْلَأُ الْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ. بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهَذَا نَادَى ذَاكَ: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ». فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ وَامْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَاناً. فَقُلْتُ: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ». فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ. وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ». ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتَ السَّيِّدِ: «مَنْ أُرْسِلُ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» فَأَجَبْتُ: «هَئَنَذَا أَرْسِلْنِي». فَقَالَ: «اذْهَبْ وَقُلْ لِهَذَا الشَّعْبِ: اسْمَعُوا سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُوا وَأَبْصِرُوا إِبْصَاراً وَلاَ تَعْرِفُوا. غَلِّظْ قَلْبَ هَذَا الشَّعْبِ وَثَقِّلْ أُذُنَيْهِ وَاطْمُسْ عَيْنَيْهِ لِئَلاَّ يُبْصِرَ بِعَيْنَيْهِ وَيَسْمَعَ بِأُذُنَيْهِ وَيَفْهَمْ بِقَلْبِهِ وَيَرْجِعَ فَيُشْفَى» (إش 1:6-10)
يلاحظ القارىء أن رسالة إشعياء النبي بدأت برؤية «يهوة»، كما يُعبر عنه بالملك رب الجنود، وهو هو “الكلمة” أي المسيا بحسب المظهر، ولكن في ملء مجده الذي اعتبره إشعياء أنه هو يهوه “الله”. لذلك قال ويل لى لأني رأيت الله، فسوف أموت، ولكن حدثت عملية تطهير لتجعل لإشعياء النبي قوة أو قدرة على رؤية «مجد الله» دون أن يموت. واستلم إشعياء الرسالة من “يهو” الذي هو “الكلمة المترائي في مجده”. وهذه الرسالة هى بعيها نص النبوة عما سيحدث عند ظهور المسيا، أي الكلمة، بشخصه، أي المسيح. فإنهم لن يصدقوه ولن يتعرفوا عليه. ثم شرح “يهو”, أي “الكلمة” الجالس عل عرش مجده، شرح لإشعياء سر عدم إيمان هذا الشعب، ومضمون هذا السر وهو أنه بسبب سيرة هذا الشعب الفاسدة بقيادة رؤسائه الفاسدين، وبسبب عدم إيمانهم بالله، وارتدادهم كل الأجيال السالفة عن عبادة الله، وإمعانهم في عمل الشر وأقبحها الزنا وعبادة الأصنام، فإن الله قد حجب وجهه عنهم، بمعنى أنه قطع عنهم «نور الكلمة»، فامتنعت عنهم المعرفة وانطمست البصيرة وانحجبت رؤية الحق، وهذا قد صنعه الله منذ القدم واستمرفي عقوبته عن قصد؛ حتى إذا ظهر المسيا “الكلمة” لا يتعرفون عليه فلا يرجعوا إليه، فلا يُشفوا، وذلك حتى لا يستمرون في الجمع بين الإفتخار بالله والإمعان في الشر فيلوثون رسالة المسيح.
ويلاحظ أن الذي رآه إشعياء أنه ديهوه»» الملك رب الجنود قال عنه القديس يوحنا أنه هو هو المسيح: «قال هذا إشعياء عدما رأى مجده (مجد المسيح) وتكلم عنه.» (يو41:12)
الأن فهمنا معنى “جاء إلى خاصته”، أي جاء إلى وطنه وبيته، وإلى “خاصته” أي إلى شعبه الأخصاء جداً دون جميع شعوب العالم, فلم يقبلوه. والأمر المذهل والمفزع أن الرفض كان عنيفاً إجماعياً، رؤساء كهنة وكتبة وفريسيين ورؤساء شعب وكل الشعب المضلل وحتى بعض التلاميذ، بلا أي تعقل بل بلا أي سبب: « لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي. لَكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ. (يو 24:15-25)
أما المكتوب في الناموس الذي يشير إليه المسيح فهو مز 19:35 ومز4:69
لاَ يَشْمَتْ بِي الَّذِينَ هُمْ أَعْدَائِي بَاطِلاً وَلاَ يَتَغَامَزْ بِالْعَيْنِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. (مز 19:35)
أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. اعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ أَعْدَائِي ظُلْماً. حِينَئِذٍ رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ. (مز 4:69)
لقد احتار بيلاطس فيهم حينما أخذ يتلفت يمينا ويساراً يستجدي من يساعده في إطلاق سراحه، سواء من الرؤساء أو حتى من الشعب الذي التجأ إليه متوسلاً أن يختاره عوض باراباس، ولكن بح صوته بلا نتيجة فحكم على أساس كلمتهم: «دمه علينا وعلى أولادنا»!! (مت25:27) وكأنما قد حوصر النور إذ «لم يعرفه العالم». وهوذا الآن حتى خاصته أبغضوه ولم يقبلوه، الذين أعدهم خصيصاً بنفسه لنفسه منذ الدهر إعداداً متعدد النواحي، وأغدق عليهم إغداقأ ليس له من مزيد، في الأرض والمطر والزرع والضرع والبركات، مع العلم والمعرفة والمشورة، وكلمهم بالأنبياء مبكراً ومؤخراً، وجهزهم أحسن تجهيز إذ قدسهم وقدس أرضهم وأقام مقدسه في وسطهم، وبعد كل ذلك ليس فقط لم يقبلوه بل وأبغضوه, وبلا سبب، أو ربما بسبب أنهم أحبوا الظلمة أكثر من النور.
“جاء”:
هنا نجد أن «الكلمة» يتخطى كل حدود العمل من على بعد, ويأتي بنفسه مجيئاً محدداً واضح المعالم مرئيا ومسموعأ مشاهداً وملموساً، مجيئاً توج به كل طرق استعلانالله الاولى جميعا سواء في العالم ككل أو حتى إسرائيل بكل تاريخها القديم. ولكنه مجيء كان في مرحلته الاولى إلى خاصته: «لم أرسل إلا إل خراف بيت إسرائيل الضالة» (مت 24:15)
ولكن هذا المجيء لما بلغ أقصاه في الاستعلان لخاصته، كما بلغ أقصاه في الرفض, وانتهى الاستعلان وانتهى الرفض على أيدي خاصته بالصلب، استعلن هو هو بذالله, أي هذا المجيء المقدس والمبارك, على مستوى العالم كله والبشرية جمعاء وذلك لما “الكلمة صار جسداً”.
وبذلك يتضح تماماً من تدرج القديس يوحنا في الكشف عن تدرج الاستعلان الذي مارسه «الكلمة» في ذالله بالتجسد أنه تم بالفعل على مرحلتين أو على وجهين:
المرحلة الاولى أو الوجه الاول: باعتباره «المسيا» قمة الاستعلان أو الاستعلانات التي أتمها مع شعبه المقدس إسرائيل لكشف خطة الفداء لشعبه والخلاص حسب وعده.
والمرحلة الثانية أو الوجه الثاني: باعتباره «الكلمة صار جسداً» , «كنور للأمم» وفداء وخلاصاً إلى أقصى الأرض.
في المرحلة الاول واجه من خاصته نكوصاً شعبياً منقطع النظير كسيد مرفوض، مع الصليب، وسقوط الأمة!
وفي المرحلة الثانية قوبل قبولاً فرديا كرب لمجد الآب, امتد، ولا يزال يمتد، إلى أقص الآرض وأقصى الزمن.
لأنه لو يلاحظ القارىء، يكتشف أن الكنيسة المسيحية لم ترث الكنيس اليهودي بناموسه وبقوانينه وتراثه, ولا قامت الكنيسة المسيحية على أنقاض الهيكل المهدوم، لأن الكنيسة المسيحية هي «الهيكل الجديد», «المسيح نفسه», مشتهى كل الدهور: «فنحن من لحمه ومن عظامه» (أف30:5)، «وبيته نحن» (عب6:3)
تفسير القمص أنطونيوس فكري
أية (11): “إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله.”
العالم عرف الله منذ بدئه وعرف اسمه (تك26:4، 24:5). ولكن نرى من الكتاب المقدس كيف سادت الظلمة وفسدت الأرض وعاقب الله بالطوفان. ولكننا نرى أيضًا وسط هذه الظلمة نوح البار الذي شهد للنور.
وكان إسرائيل هو شعب الله الخاص والمختار من وسط الشعوب ليسكن الله وسطهم ومختار لكي يولد المسيح منهم. وكان هو ابنه البكر (خر22:4+ تث8:32-12+ زك10:2-12+خر5:19،6+ تث6:7-7+ تث1:14-2+ 18:26-19). ولكن هذا الشعب رفض الله وأعطاه القفا لا الوجه (أر24:7+ تث1:32….) ولأنهم انغمسوا في زناهم ووثنيتهم انحجب عنهم نور الله. وأخيرًا أتى لهم المسيح (عب1:1-2) ولكنهم أيضًا رفضوه (يو37:12-41+ إش1:6-10). وهنا نرى أنه بسبب خطاياهم إنطمست بصيرتهم وأنحجبت رؤية الحق. وهذا ما حدث مع المسيح فهم بسبب حسدهم ومحبتهم للمال وطلبهم لمسيح يكون قائدًا عسكريًا رفضوا المسيح وصلبوه. بل كان الرفض جماعيًا ملوكًا وكهنة وشعب.
جاء= بنفسه ولم يرسل ملاكًا ولا أنبياء (1يو1:1). ولمسناه وشاهدناه. ظهر النور بطريقة محسوسة مرئية.
سؤال: إذا كان خاصة الله قد رفضوه فهل فشل الله في خطته، أنه اختار شعبًا ثم رفضه هذا الشعب؟ قطعًا لا:
1- اليهود بزلتهم صار خلاص الأمم، إذاً ماذا عن قبولهم؟ من المؤكد أنه خلاص جبار وغني لكل العالم أي القيامة من الأموات (رو11). برفضهم تم الخلاص إذ صلبوا المسيح. ولكن هذه القساوة حصلت جزئياً لإسرائيل ليدخل ملء الأمم. فالله أغلق عليهم أي سمح بهذا ليدخل الأمم. ومنهم من آمن بالمسيح وكرز وبشر به، وهناك بقية ستدخل في نهاية الأيام إلى الإيمان. إذاً رفضهم للمسيح كان جزء من خطة الله للخلاص. خلاص الكل.
2- خطة الله نجحت بدليل إيمان كل العالم، وأن الله أعطى سلطان لكل من يؤمن أن يصير ابنًا لله.
3- هم حفظوا النبوات فكانوا أمناء مكتبة المسيحية. وظهر أن خطة الله للخلاص هي خطة أزلية ليست وليدة الأحداث. بل خرج منهم أنبياء وقديسين، وكان شعب إسرائيل أفضل من الشعوب الوثنية بمراحل.
4- المسيح ولد وسط شعب عرفه وسمع عنه في النبوات فقبله تلاميذه الذين نشروا المسيحية في العالم.
5- كانت العذراء مريم من هذا الشعب.
- تفسير إنجيل يوحنا 1 للقمص تادرس يعقوب
- تفسير إنجيل يوحنا 1 للأب متى المسكين
- تفسير إنجيل يوحنا 1 للقمص أنطونيوس فكري