تفسير سفر نحميا ٤ للقمص تادرس يعقوب

 

مع كل عمل صالح من قبل الله نجد مقاومة من عدو الخير. ففي كل خطوة يتحركها نحميا للعمل، يتحرك عدو الخير أيضًا بوسيلة أو أخرى ليبطل العمل.

  1. قوبل وصول نحميا إلى يهوذا باستياء من قادة الأمم المجاورة (2: 10).
  2. قوبل قرار الجماعة بإعادة البناء بالاستخفاف والسخرية (2: 19).
  3. قابل أعداء يهوذا التقدم في العمل بالغضب مع السخرية (4: 1-17).

هذه هي المرة الثالثة نواجه فيها سنبلط السامري وطوبيا العموني المتحالف معه. هنا يبدو سنبلط أنه يتحدث في اجتماع رسمي في السامرة، وكان هدفه هو وطوبيا أن يوقفا العمل في إعادة البناء. لقد أظهر سنبلط استخفافه باليهود أنفسهم كما بأعمالهم.

كان نحميا على علم بهذه التحركات المخّربة. أما ردّ الفعل فلم يكن الحوار ولا المقاومة، بل التوجه بالقلب واللسان نحو الله، والاستمرار في العمل بلا توقف.

بدأ الأعداء بالمقاومة خلال لغة السخرية والاستخفاف لتحطيم الطاقات (أصحاح 4). لكن ما أن بدأ العمل يظهر وارتفع السور، وصار من المتوقع أن يبقى الأعداء خارج السور، حتى بدأوا في التفكير بالمقاومة باستخدام العنف.

هنا نود أن نؤكد أن هذه المقاومة التي واجهها نحميا هي صورة حيَّة لمقاومة إبليس وقواته للمؤمنين بطرقٍ مختلفة.

 

1. سخرية سنبلط وطوبيا بهم 1-3

وَلَمَّا سَمِعَ سَنْبَلَّطُ أَنَّنَا آخِذُونَ فِي بِنَاءِ السُّورِ،

غَضِبَ وَاغْتَاظَ كَثِيرًا وَهَزَأَ بِالْيَهُودِ. [1]

لم يكن ممكنًا لسنبلط الحاكم من قبل فارس على السامرة أن يقف متفرجًا وها هو البناء قد بدأ. فإنه مثل كل السامريين الذين لهم عبادتهم الخاصة في السامرة، لا يقبلون من أسفار الكتاب المقدس سوى أسفار موسى الخمسة. فإحياء أورشليم في نظرهم تحطيم للسامرة، وتبكيت لضمائر بعض اليهود الذين تزوجوا بالأشوريين وأقاموا جنس السامريين كخليطٍ بين اليهود والأشوريين، يخلطون عبادة الله الحي بالعبادة الوثنية.

كيف استقبل سنبلط الأخبار الخاصة بالتحرك لبناء السور؟

أولًا: من جهة قلبه امتلأ غضبًا، أو بمعنى آخر ثار قلبه بالغضب الساكن فيه.

ثانيًا: تحول من حالة غضب إلى غيظٍ شديدٍ حرك كل مشاعره وأحاسيسه للعمل بروح الحقد والكراهية.

ثالثًا: بدأ بلسانه مع بقية الأعضاء بالهزء والسخرية، حاسبًا اليهود ضعفاء [2]، أقل من أن يقفوا أمام سخطه الشديد.

حين يجلس إنسان الله مثل نحميا مع الله تنطلق مشاعره المقدسة لطلب مشورة الله، والعمل لحساب ملكوته. أما الأشرار فينفعلون بالغضب ثم الغيظ والحقد، وأخيرًا يتحركون بثورة بكلماتهم وأفعالهم. فالخطية تلد خطية، ويدخل الإنسان تحت مذلة العبودية سلسلة من الخطايا يصعب عليه التحرر منها، ما لم يطلب غنى نعمة الله، وعمل روح الله القدوس الذي يبكت على خطية.

*     مادامت الخطيّة بالضرورة موجودة في أعضائك، فلا تجعل لها سلطانًا عليك لتملك، وإنما على الأقل اطردها ولا تطع متطلباتها.

هل يثور فيك الغضب؟ لا تُخضِع له لسانك بالنطق بكلمة شريرة، ولا تُخضع له يدك أو قدمك كأن تضرب بهما.

ما كان يمكن للغضب غير المتعقل أن يثور فيك لو لم توجد الخطيّة في أعضائك، ولكن اُطرد قوّتها الحاكمة، فلا يكون لها أسلحة لمحاربتك، عندئذ تتعلم هي ألا تثور فيك، إذ تجد نفسها بلا أسلحة…

هكذا يليق بكل أحد أن يجاهد إذ يبغي الكمال، حتى إذ تجد الشهوة نفسها بلا استجابة من الأعضاء تقل يومًا فيومًا خلال رحلتها [1].

القديس أغسطينوس

*   الغضب يجعل الألسنة مطلقة العنان، والأحاديث بلا ضابط. العنف الجسماني وتصرفات الاستهزاء، والسب والاتهامات والضرب وغير ذلك من الأعمال الشريرة غير المحصية تولد من الغضب والسخط[2].

القديس باسيليوس الكبير

*   [في مدح المعترفين والشهداء] كانوا قد تحكّموا من تعليم يسوع الذكي، وتمرنوا على الذكاء والوداعة.

في بشارته أمرهم وعلّمهم أن يشبهوا الحيات والحمام على السواء.

الحمام وديع (مت 10: 6)، ولا يبغض أبدًا من ينهبه: يخطفون فراخه ولا يغضب أو يغتاظ.

يثبت على ما هو عليه ولا يحقد على سالبيه، ويسرع نحوهم ليربي لهم الفراخ كل يومٍ.

أين وجدتم حمامًا غاضبًا ينتقل من (بيت) من استولى على فراخه؟

إنه خال من الغضب، ومملوءة أمانًا ووداعة، ويسكن كل يومٍ مع سالبيه بدون حقدٍ.

اقتنى التلاميذ هذا الصلاح كما أُمروا من جنس الحمام البسيط الذي تشبهوا به.

مقتناهم مخطوف من قبل المضطهدين وهم مملؤون أمانًا، أبناؤهم يموتون من قبل الحكام ولا يحزنون.

يشبهون الحمام بالوداعة كما تعلمون، لأنهم يُقتلون وهم أتقياء ومطمئنون بين القاتلين..

كونوا ودعاء مملوءين أمانًا عندما تقتلون، وحكماء عندما تُنادون للذبح [3].

القديس مار يعقوب السروجي

بدأ سنبلط بالسخرية بما يفعله نحميا ومن معه. عمل الله دائمًا موضع نقد وسخرية. فقد انتقد اليهود السيد المسيح وسخروا به أثناء محاكمته، وحتى عندما صُلب لأجلهم. سخر منه اللصان على الصليب، لكن اللص اليمين عاد وأدرك الحق الإلهي.

كل عمل لحساب ملكوت الله يقابل بالسخرية، فقد قيل عن السيد المسيح نفسه “إنه مختل” (مر 3: 21). وواجه القديس يوحنا الذهبي الفم سخرية بعض الأغنياء والعظماء.

*   ليضحك من يضحك، وليتهكم من يتهكم! هذا لن يشغل ذهني، فإني لم أشغل هذا الموضع إلا لأكون مرفوضًا وأضحوكة! إني مستعد أن أحتمل كل شيء.

من يصر على تصرفاته، ولا يسمع لتحذيري، أمنعه من الدخول في الكنيسة كما بصوت بوقٍ، حتى إن كان أميرًا أو إمبراطورًا [4].

*   أعفوني من عملي، وإلا فلا تلزموني أن أكون تحت اللعنة!

كيف أجلس على هذا الكرسي أن لم أفعل ما يليق به؟ خير لي أن أنزل عنه، لأنه ليس شيء أمرّ من وجود أسقف لا يفيد شعبه[5].

القديس يوحنا الذهبي الفم

كثيرًا ما تحدث آباء الكنيسة عن محاولة عدو الخير السخرية بنا، فنظن أن له سلطان علينا، ونسقط في نوعٍ من صغر النفس واليأس، مع أننا بالمسيح يسوع ننعم بالنصرة عليه. 

*  دُعي الشيطان قويًا، ليس لأنه بالطبيعة هو هكذا، إنما بالإشارة إلى سلطانه الذي صار له بسبب ضعفنا [6].

*     إن أردنا التغيير فعلًا، علينا أن نستعين بالسيد المسيح. وإن رغبتم في الصلاح، فلا شيء يعوقكم، ولا أحد يمنعكم، حتى الشيطان ليس لديه قوة عليكم. طالما اخترتم الأفضل، واجتذبتم الله لعونكم. لكن إن لم تريدوا ذلك بأنفسكم، بل تحاشيتم الأمر، فكيف يحميكم؟ لأنه ليس عن ضرورة ولا عن إجبار، بل بمحض إرادتكم الذاتية يريد أن يخلصكم [7].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     النفس تحكم نفسها ذاتيًا. ومع أن الشيطان يقدر أن يقترح عليها، لكنه ليس له سلطان يلزمها بشيء بغير إرادتها.

إنه يصور لك فكر الزنا، فإن أردت قبلته، وإن لم ترد تحتقره. لأنك لو كنت زانيًا قهرًا لما أعد الله جهنم؟! وإن كنت صانع برّ بالطبيعة وليس بإرادتك لما أعد الله أكاليل مجد لا يُنطق بها؟!

الغنم وديع، لكنه لا يكلل على وداعته، لأنها ليست باختياره بل بحكم الطبيعة [8].

القديس كيرلس الأورشليمي

*     أفكار الشيطان هي مجرد تصور عقلي محض لشيء (أو عمل) شرير، والذي يُمكَّنه من التملك علينا أو حتى مجرد الاقتراب إلى عقلنا هو ضعف إيماننا.

لأننا بعدما تسلِّمنا الوصية لنطرح عنا كل الارتباكات ونحفظ قلوبنا في يقظة كاملة (أم 23:4)، ونطلب ملكوت الله الذي هو في داخلنا، إذ تخلى العقل عن القلب وعن الغرض الذي نسعى إليه، بهذا أفسحنا المجال في الحال لتخيلات الشيطان، وصار العقل متساهلًا في قبول أي مشورة شريرة.

 حتى إلى هذا الحد، ليس للشيطان أي سلطان أن يحرك أفكارنا وإلا ما كان يرحمنا، بل كان يدس لنا كل أنواع الأفكار الشريرة، ولا يسمح لنا بأي صلاح.

إنما قدرته محصورة في مجرد تقديم مشورة كاذبة في بدء كل فكر، ليختبر أي جهة يميل إليها قلبنا: هل يميل إلى مشورته، أم إلى مشورة الله؟ لأنهما نقيضان [9].

القديس مرقس الناسك

*    قد يقول قائل: ألم يؤذِ الشيطان آدم، إذ أفسد كيانه، وأفقده الفردوس؟

السبب في هنا يكمن في إهمال من أصابه الضرر، ونقص ضبطه للنفس، وعدم جهاده. فالشيطان الذي استخدم المكائد القوية المختلفة لم يستطع أن يخضع أيوب له، فكيف يقدر بوسيلة أقل أن يسيطر على آدم، لو لم يقدر آدم بنفسه على نفسه؟!

ماذا إذن؟

ألا يصيب الأذى من يتعرض للافتراءات ويقاسي من نهب الأموال، فيُحرم من خيراته، ويُطرد من ميراثه، ويناضل في فقرٍ فادحٍ؟

لا، بل ينتفع إن كان وقورًا، لأنه هل أضرت هذه الأمور الرسل؟

ألم يجاهدوا دائمًا مع الجوع والعطش والعري؟!

وبسبب هذه الأمور صاروا مُمجدين ومشهورين، وربحوا لأنفسهم معونة أكثر من الرب؟!

وأيضًا أي ضرر أصاب لعازر بسبب مرضه وقروحه وفقره وعدم وجود من يقيه؟ ألم تكن هذه الأمور تضفر له إكليلًا من زهور النصر…؟!

إخوة يوسف مثلًا أضروا يوسف، لكن يوسف نفسه لم يصبه الضرر.

وقايين ألقى بشباكه لهابيل، ولكن هابيل لم يسقط فيها. وهذا هو السبب الذي لأجله وُجدت التأديبات والعقوبات.

فالله لا يرفع العقوبة عن مدبر الضرر لمجرد حدوث الصلاح الذي يتمتع به محتمل الضرر، بل يؤكد عقوبته بسبب شر صانع الإثم. فإنه بالرغم من أن الذين يسقط عليهم الشر، يصيرون أكثر مجدًا على حساب المكائد المدبرة ضدهم، لكن هذا لم يكن في نية الإنسان ألا يضره غيره، بل ينال نفعًا عظيمًا على يدي مناضليه [10].

القديس يوحنا الذهبي الفم

وَقَالَ أَمَامَ إِخْوَتِهِ وَجَيْشِ السَّأمِرَةِ:

مَاذَا يَعْمَلُ الْيَهُودُ الضُّعَفَاءُ؟

هَلْ يَتْرُكُونَهُمْ؟

هَلْ يَذْبَحُونَ؟

هَلْ يُكْمِلُونَ فِي يَوْمٍ؟

هَلْ يُحْيُونَ الْحِجَارَةَ مِنْ كُوَمِ التُّرَابِ وَهِيَ مُحْرَقَةٌ؟ [2]

جاءت الكلمة المقابلة لـ “غضب” في العبارة السابقة تعني “صار ملتهبًا أو متقدًا”. وها هو الآن قلبه يتقد كما بنار الحسد. تطلع إلى الحجارة التي دمرتها النيران فصارت أكوامًا من التراب، ولم يدرك أن نيران الحسد والشر قد حولت قلبه إلى تراب ورماد. ففي سخرية وتهكم قدم خمسة أسئلة لتدمير الروح المعنوية للذين يقومون بإعادة بناء السور. ما أصاب قلبه من أذى الحسد أبشع وأخطر مما أصاب حجارة السور.

الحاسد أردأ من الوحوش الضارية، وأخبث من الشياطين، لأن غضب الوحوش وشرها ينتج عن جوعها أو خوفها منا، أما الحاسدون فمن يحسن إليهم يكون كمن ظلمهم.

عمل عدو الخير هو تثبيط الهمم وبث روح اليأس، حتى لا يُقْدم المؤمن على العمل، وإن بدأ العمل ييأس ويتوقف.

كان سنبلط يتطلع إلى اليهود وهم يتحركون للبناء أنهم شعب غبي لا يدرك حقيقة نفسه. إنهم ضعفاء وغير حكماء، يحلمون بتقديم ذبائح لإلههم، وكأنهم في يوم واحد يبنون السور، وفي يوم يحتفلون به ويقدمون ذبائح. يحسبون أنهم آلهة قادرة أن تقيم التراب الميت وتجعله حجارة حية!

كثيرون يسخرون بالعاملين في كرم الرب، الذي ينسون أنه عمل الرب نفسه القدير، يعمل أكثر مما نسأل وفوق ما نفكر!

*      لا توجد خطية تفرق الإنسان عن الله والناس مثل الحسد، لأن هذا المرض أشد خبثًا من محبة الفضة. لأن محب الفضة يفرح متى ربح شيئًا، أما الحاسد فيفرح متى خسر أحد شيئًا أو ضاع تعبه سُدى، ويحسب خسائر الآخرين ربحًا له أكثر من أي نجاح. فأي شر أعظم من هذا؟!

الزاني يتورط في الخطأ لأجل لذة مؤقتة، والسارق قد تكون له حجة الفقر، ولكن أي عذر تقدمه أيها الحاسد؟!

الزاني يحصل على لذة زمنية أثناء ارتكابه الخطية، ثم يعود فيرفضها… فيتوب ويخلص، أما الحاسد فيُعذّب نفسه ولو لم يحدث له ضرر ممن يحسده. فلهذا خطية الحسد أشر الخطايا وأشنعها، لأن الحاسد لا يمكنه مغادرة خطيته، بل يصير كالخنزير المتمرغ في الحمأة، ويماثل بفعله الشيطان …

لهذا أقول لكم إنه ولو كان أحدكم يصنع معجزات أو يحفظ البتولية، أو يكون صوّامًا أو باسطًا كفيّه في الرحمة أو ينام على الحضيض أو يصل بهذه الوسائط إلى فضيلة الملائكة؛ ولكن فيه آلام الحسد فلا محالة يكون أشر من جميع الخطاة وأردأ منهم.

*      الشيطان حاسد، لكنه يحسد البشرية، ولا يحسد شيطانًا آخر، أما أنت فإنسان تحسد أخاك الإنسان، وبالأخص الذين هم من عائلتك وعشيرتك، الأمر الذي لا يصنعه الشيطان.

القديس يوحنا الذهبي الفم

كحاكم للسامرة تحت تصرفه جيش، يتحدث أمام إخوته، غالبًا حكام المناطق المحيطة بيهوذا، ليثيرهم ويثير جيشه ليستعدوا للمقاومة العسكرية في الوقت المناسب، وإن كان في نظره أن هذا لا يحدث، لأن العاملين في البناء ضعفاء، وكل إمكانياتهم هي أكوام تراب. وهل يقيمون من التراب حجارة؟

وَكَانَ طُوبِيَّا الْعَمُّونِيُّ بِجَانِبِهِ فَقَالَ:

إِنَّ مَا يَبْنُونَهُ إِذَا صَعِدَ ثَعْلَبٌ،

فَإِنَّهُ يَهْدِمُ حِجَارَةَ حَائِطِهِمِ. [3]

في سخريته يشير إلى الثعلب، لأن صهيون قد حلّ بها الخراب، وصارت مسكنًا للثعالب. قيل في مراثي إرميا: “من أجل جبل صهيون الخرب، الثعالب ماشية فيه” (مرا 5: 18). يريد اليهود أن يبنوا سور أورشليم بكونها مدينة الله، أما الأعداء فيرون فيها خرائب لا تصلح إلا لسكنى الثعالب.

يرى البعض أنه لم يقل “بنات آوي” وإنما “ثعلب”، لأن بنات آوي تخرج معًا للصيد كجماعة، أما الثعالب فتخرج ليلًا فرادى. ففي استخفاف يقول طوبيا العموني إن هدم حجارة سورهم لا يحتاج إلا إلى ثعلب نحيف يخرج ليلًا بمفرده، يسير بأقدامه عليها، فتنهدم الحجارة دون مجهودٍ.

من يهرب من الخدمة في كرم الرب بسبب نقد الآخرين له، إنما يهرب من نوال بركة الرب.

تزايدات عداوة المقاومين، وفد حَّوطوا المدينة بعداوتهم من كل اتجاه: السامرية في الشمال، والعرب في الجنوب، وبنو عمون في الشرق والأشدوديون في الغرب على ساحل البحر المتوسط.

شعر الأعداء أن الحوار لم يجد بشيء، واستعدوا للمقاومة العسكرية من كل جانب.

2. نحميا يصرخ إلى الله 4-5

اسْمَعْ يَا إِلَهَنَا،

لأَنَّنَا قَدْ صِرْنَا احْتِقَارًا.

وَرُدَّ تَعْيِيرَهُمْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ،

وَاجْعَلْهُمْ نَهْبًا فِي أَرْضِ السَّبْيِ. [4]

لم يرد نحميا السخرية بالسخرية، ولا النقد بالنقد. لم يمل أذنيه إلى كلمات سنبلط، إنما رفع قلبه إلى إله السماء الذي دعاه للعمل.

حسب نحميا أن هذه الجريمة التي يرتكبها الأعداء ليست ضد المدينة وسورها وحجارتها، بل ضد الشعب نفسه.

لم يشغل فكر الشعب بمقاومة الأعداء، ولا قاوم الشر بالشر (راجع رو 12: 17-21)، إنما كان يسندهم للعمل بقوة وبروح لا تُقهر.

كان رد الفعل في نحميا ليس الهروب من المعركة، أو التوقف عن العمل، أو الدخول في تفاوض مع المقاومين، إنما الالتجاء إلى صاحب الكرم نفسه. وقف يطلب باسمه وباسم كل العاملين أن يتدخل الله ليُبطل قوات الظلمة المقاومة للحق الإلهي.

لعل هذه الصلاة رددها نحميا، وحفظها العاملون في سور ليلهجوا بها بكل قلوبهم أثناء العمل. صارت أغنية كل واحدٍ من العاملين.

عبر كل العصور لا يكف عدو الخير عن تعيير الله على لسان أتباعه المتكبرين والجهال وعبدة الأصنام، حيث يوجهون التعيير للمؤمنين.

لأن غيرة بيتك أكلتني، وتعييرات معيريك وقعت عليّ (مز 69: 9)

قم يا الله، أقم دعواك، أذكر تعيير الجاهل إياك اليوم كله (مز 74: 22)

تعيير الأحمق مكروه، وعطية الحاسد تكل العيون (سيراخ 18: 18)

الاستهزاء والتعيير شأن المتكبرينوالانتقام يكمن لهم مثل الأسد (سيراخ 27: 31)

اسمعوا لي يا عارفي البرّ، الشعب الذي شريعتي في قلبه لا تخافوا من تعيير الناس، ومن شتائمهم لا ترتاعوا (اش 51: 7)

سمعت تعييرهم يا رب، كل أفكارهم عليّ (مرا 3: 61)

قد سمعت تعيير موآب، وتجاديف بني عمون، التي بها عيروا شعبي وتعظموا على تخمهم (صف 2: 8)

فكان عند الشعب سرور عظيم جدًا، وأزيلتعيير الأمم (1 مكابيين 4: 58)

لأن المسيح أيضًا لم يرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت عليّ (رو 15: 3)

من جهة مشهورين بتعييرات وضيقاتومن جهة صائرين شركاء الذين تصرف فيهم هكذا (عب 10: 33)

*   كيف يمكننا أن نصير مقتدين بالمسيح؟ بممارسة كل شيء من أجل المصلحة العامة وليس لمجرد نفعنا الخاص. يقول بولس: “لأن المسيح أيضًا لم يُرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت عليَّ” (رو 15: 3). ليته لا يطلب أحد شيئًا لنفسه. بالحق يطلب الإنسان ما هو لخيره، عندما يتطلع إلى خير قريبه. ما هو لخير الأقرباء هو خيرنا نحن، فنحن جسد واحد، وأعضاء لبعضنا البعض [11].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*   في المزمور الثامن والستين (LXX) يقول المخلص إنه لم يأتِ لأجل مسرته بل لأجل مسرة الله الآب. إذ يقول: “لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني”. (يو 6: 38) اعترض اليهود وحكموا عليه بالموت كخاطئ. لذا يضع المرتل نفسه في موضع المسيح ويقول: “تعييرات معيريك وقعت عليَّ” (مز 69: 9) [12]

الأب أمبروسياستر

لم يحمل نحميا حقدًا أو كراهية، إنما ما صلى به كان بروح النبوة عما سيحل بمن يصر على مقاومة الله نفسه.

وَلاَ تَسْتُرْ ذُنُوبَهُمْ،

وَلاَ تُمْحَ خَطِيَّتُهُمْ مِنْ أَمَامِكَ،

لأَنَّهُمْ أَغْضَبُوكَ أَمَامَ الْبَانِينَ. [5]

لم يبادر نحميا بأخذ موقف مضاد من المقاومين الساخرين به، إنما طلب تدخل الله نفسه. هذا ما فعله إرميا النبي أيضًا حين غدر به إخوته وخانوه: “أنت يا رب عرفتني، واختبرت قلبي من جهتك. افرزهم كغنمٍ للذبح، وخصصهم ليوم القتل” (إر 3:12) “ها هم يقولون: أين هي كلمة الرب؟ لتأت… ليخز طاردي ولا أخز أنا. ليرتعبوا هم ولا أرتعب أنا. اجلب عليهم يوم الشر، واسحقهم سحقًا مضاعفًا” (إر 15:17، 18). ” أنت يا رب عرفت كل مشورتهم عليّ للموت. لا تصفح عن إثمهم، ولا تمح خطيتهم من أمامك، بل ليكونوا متعثرين أمامك. في وقت غضبك عاملهم” (إر 23:18).

إن كان الأنبياء بروح النبوة تحدثوا عما سيحل بمقاومي الله، فإن السيد المسيح جاء ليؤكد لنا التزامنا بالحب حتى نحو الأعداء المقاومين بالحق. فنميز بين الشر والشرير، والخطية والخاطي، ونشتهي خلاص الجميع، قائلين مع السيد المسيح: “يا أبتاه أغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو 23: 34). هذا ما فعله إسطفانوس أثناء رجمه، إذ “صرخ بصوت عظيم: يا رب لا تقم لهم هذه الخطية” (أع 7: 60).

3. الاستمرار في العمل 6

فَبَنَيْنَا السُّورَ، وَاتَّصَلَ كُلُّ السُّورِ إِلَى نِصْفِهِ،

وَكَانَ لِلشَّعْبِ قَلْبٌ فِي الْعَمَلِ. [6]

استمر الشعب في العمل ولم يدخلوا في حوار مع المقاومين أو أتباعهم. إذ يكون القلب في العمل، تتهلل النفس بعمل الرب دون الانشغال بالمقاومين.

هكذا بسرعة فائقة قام كل واحدٍ بدوره، وبروح الوحدة، انتهوا من بناء نصف السور مع اتصاله بعضه ببعض.

الرد العملي للنقد الهدَّأم هو العمل، فالاستمرار فيه هو إحباط عملي للمقاومة.

يمكننا القول إن سر نجاحهم هو العمل بقلبٍ واحدٍ، فإن كان الله يُسر بلغة القلب ويسمع إليها، فإنه يُسر أيضًا بعمل القلب ويباركه!

بقوله “كل السور إلى نصفه“، لا يعني أن نصف السور قد تم بناؤه، إنما تم بناء كل السور، وبلغ ارتفاعه إلى النصف.

4. تحالف قوى الشر 7-8

وَلَمَّا سَمِعَ سَنْبَلَّطُ وَطُوبِيَّا وَالْعَرَبُ وَالْعَمُّونِيُّونَ وَالأَشْدُودِيُّونَ

أَنَّ أَسْوَارَ أُورُشَلِيمَ قَدْ رُمِّمَتْ،

وَالثُّغَرَ ابْتَدَأَتْ تُسَدُّ،

غَضِبُوا جِدًّا. [7]

اتسعت حلقه المتآمرين ضد نحميا والعاملين معه، فانضم إلى سنبلط وطوبيا كل من العرب والعمونيين والأشدوديين.

دفع النجاح في العمل العدو الذي لا يهدأ إلى شن حرب أشد، فتحالف الأعداء معًا، وتآمر جميعهم معًا.

وَتَآمَرُوا جَمِيعُهُمْ مَعًا،

أَنْ يَأْتُوا وَيُحَارِبُوا أُورُشَلِيمَ،

وَيَعْمَلُوا بِهَا ضَرَرًا. [8]

هذا هو التهديد الثالث أو المقاومة الثالثة للأعداء. لم تقف عند السخرية فالتهديدات، إنما دخلت المرحلة الثالثة وهو التفكير الجدي في إثارة معركة لتدمير أورشليم كلها، وليس إيقاف السور فقط.

5. صلاة وحراسة 9

فَصَلَّيْنَا إِلَى إِلَهِنَا،

وَأَقَمْنَا حُرَّاسًا ضِدَّهُمْ نَهَارًا وَلَيْلًا بِسَبَبِهِمْ. [9]

واجه نحميا ومن معه المؤامرات بالصلاة مع الحراسة المستمرة نهارًا وليلًا، فالعدو لا يؤتمن. الثقة بالله أو الاتكال عليه لا يعني خمولنا وعدم تحركنا. إقامة الحراسة والاستعداد لأي هجوم لا يعني السقوط تحت الخوف.

ليس من وجه للمقارنة بين تحالف عسكري قام بين السامريين والعرب وبني عمون والأشدوديين، وبين قلة قليلة جدًا أتت من أرض السبي بلا خبرة عسكرية. ومع هذا لم يترك نحميا ومن معه العمل ويهربوا من وجه المقاومين القادمين للهجوم عليهم، إنما لجأوا إلى الله بالصلاة. هكذا يدعونا السيد المسيح: “اسهروا وصلوا” (مر 14: 38؛ مت 26: 38، 41).

يسمح الله لنا بمتاعب كثيرة وضيقات واضطهادات وسقوط ظلم علينا؛ لكي ما نواجه هذا كله بالسهر والصلاة، مدركين مدى حاجتنا إلى الله. لنختفي فيه، فهو حصن حياتنا، أعظم من كل قوات الظلمة. وكما يقول النبي: “الذين معنا أكثر من الذين معهم” (2 مل 6: 16).

لم يصدر نحميا أمرًا مجردًا إلى العاملين أن يصلوا ويسهروا، لكنه في الحقيقة الأمر دعاهم ليشاركوه صلواته وسهره. وهو في هذا كان رمزًا للسيد المسيح الذي قبيل تسليم نفسه دعا تلاميذه لمشاركته ما استطاعوا، إذ قيل: “فقال للتلاميذ: اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلي هناك… امكثوا ههنا واسهروا معي” (مت 26: 36، 38).

*   حسنًا نسهر في يقظة، ونصلي بغيرة، لئلا ندخل في تجربة (مر 14: 38). فإن لم يعطنا المسيح نعمة، يهوذا الذي فينا يخون. إن تركناه قليلًا، بطرس الذي فينا ينعس [13].

القديس جيروم

*   لنبقَ حيث أمرنا يسوع أن نمكث… لنفعل كل شيءٍ قدر استطاعتنا أن نسهر معه، ذاك الذي لا ينعس ولا ينام، حافظ إسرائيل (مز 121: 4) [14].

 العلامة أوريجينوس

6. بث روح الإحباط  10-12

وَقَالَ يَهُوذَا:

قَدْ ضَعُفَتْ قُوَّةُ الْحَمَّالِينَ وَالتُّرَابُ كَثِيرٌ،

وَنَحْنُ لاَ نَقْدِرُ أَنْ نَبْنِيَ السُّورَ. [10]

الحرب لا تهدأ فمن الخارج تتحالف قوى الشر ضد أولاد الله، بل ضد الله نفسه. ومن الداخل يسقط البعض في حالة من الإحباط واليأس، وهذا أخطر من الحرب الخارجية.

إن كانوا بسرعة فائقة بنوا السور كله إلى منتصف ارتفاعه، فإن العدو بدأ يهاجمهم من الداخل، إذ كانت كمية التراب والنفايات التي تجمعت من حفر الأساسات وبناء نصف السور كثيرة جدًا، وقد ضعفت قوة الحمالين.

هكذا حاول رجال يهوذا أن يبثوا روح اليأس بين العاملين، قائلين بأن الذين يحملون التراب قد ضعفت قوتهم والتراب كثير، والأعداء مصرون على القتال حتى يتوقف العمل.

وَقَالَ أَعْدَاؤُنَا:

لاَ يَعْلَمُونَ وَلاَ يَرُونَ حَتَّى نَدْخُلَ إِلَى وَسَطِهِمْ

وَنَقْتُلَهُمْ وَنُوقِفَ الْعَمَلَ. [11]

كان الأعداء يتآمرون سرًا لقتل العاملين في بناء السور، لكن الله كشف لنحميا عن هذه المؤامرات. كيف؟ لا نعلم!

وَلَمَّا جَاءَ الْيَهُودُ السَّاكِنُونَ بِجَانِبِهِمْ،

قَالُوا لَنَا عَشَرَ مَرَّاتٍ:

مِنْ جَمِيعِ الأَمَاكِنِ الَّتِي مِنْهَا رَجَعُوا سَيَأْتُونَ عَلَيْنَا. [12]

“عشر مرات” اصطلاح يعبر عن تكرار الأمر مرة ومرات كثيرة. الذين يثبطون الهمم لن يتوقفوا عن هذا التصرف، بل يكررونه مرات ومرات، أي بلا توقف.

للأسف حتى القادمون من أماكن أخرى عوض أن يسندوا العاملين كانوا يحطمونهم ببث روح الرعب من الأعداء. أما أولاد الله فلن يكفوا عن العمل الصالح، واثقين أنهم يحصدونه في حينه ماداموا لا يفترون.

مقاومة الأعداء وقتية، أما نصرتنا بالرب فأبدية. يقول الرسول بولس: فإننا لا ننظر إلى ما يُرى من أمور زمنية ومؤقتة بل إلى ما يُرى، الأمور الأبدية. (غل 6: 9؛ 2 كو 4: 1؛ 2 كو 4: 16).

7. بث روح القوة  13-22

فَأَوْقَفْتُ الشَّعْبَ مِنْ أَسْفَلِ الْمَوْضِعِ وَرَاءَ السُّورِ،

وَعَلَى الْقِمَمِ أَوْقَفْتُهُمْ،

حَسَبَ عَشَائِرِهِمْ بِسُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ وَقِسِيِّهِمْ. [13]

يبدو أن الأعداء نجحوا في بث روح الخوف بين العاملين، لكن نحميا قام بتخطيط محكم للحراسة دون توقف عن العمل، مع مساندة العاملين ورفع روحهم المعنوية. لقد نجح في تحويل خوفهم من مخافة البشر إلى المخافة الربانية.

عين نحميا أناسًا مسلحين للحراسة أسفل الموضع وراء السور، لئلا يفاجأوا بالعدو أمامهم، لأن هذا الموضع يسهل الهجوم عليه. وعلى القمم أيضًا حيث يمكن للحراس أن يراقبوا العدو عن بعد، وينبهوا الآخرين عن أي خطر قادم قبل أن يلحق بهم. يحسبون كمراقبين ينذرون الآخرين للتحرك. المجموعة الأولى تشير إلى الضعفاء منهم، محتاجون دومًا إلى حصانة السور، والمجموعة الثانية تشير إلى القادة والمعلمين.

وَنَظَرْتُ وَقُمْتُ وَقُلْتُ لِلْعُظَمَاءِ وَالْوُلاَةِ وَلِبَقِيَّةِ الشَّعْبِ:

لاَ تَخَافُوهُمْ،

بَلِ اذْكُرُوا السَّيِّدَ الْعَظِيمَ الْمَرْهُوبَ،

وَحَارِبُوا مِنْ أَجْلِ إِخْوَتِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَنِسَائِكُمْ وَبُيُوتِكُمْ. [14]

ما هو رد فعل نحميا؟

يقول: “نظرت”، أي درست الموقف وفكرت فيما يلزمني أن أفعله. وبقوله: “قمت”، يعني أنه لم يقف عند الدراسة، لكنه قام ليتحرك ويحرك معه المساعدين له في العمل من عظماء وولاة، كما يحرك بقية الشعب.

جمع الكل حسب عشائرهم، وحوَّل أنظارهم إلى الله قائد المعركة، لكي لا يكون للخوف موضع فيهم. يقول الرسول بولس: “لم نأخذ روح الفشل، بل روح القوة والمحبة والنصح” (2 تي 1: 7).

الحياة مملوءة بالأحداث تبث في الإنسان روح الفشل والرعب، لكن إن تأكدنا من حضرة الله لن نضطرب. إذ واجه الشعب اليهودي الأعزل القادم من البرية جيوش الأعداء في كنعان، قيل لهم: “أليس الرب إلهكم معكم، وقد أراحكم من كل ناحية، لأنه دفع ليدي سكان الأرض فخضعت الأرض أمام الرب وأمام شعبه (1 أي 22: 18).

أفضل وسيلة لتبديد الخوف هي تذكر أن الله وحده هو المخوف. “لا تخافوا منهم، لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم” (تث 22:3).

“لا تخافوا ولا ترتعدوا ولا ترهبوا وجوههم، لأن الرب إلهكم سائر معكم لكي يحارب عنكم أعداءكم ليخلصكم” (تث 3:20-4).

“تشددوا وتشجعوا. لا تخافوا ولا ترهبوا وجوههم، لأن الرب إلهك سائر معك. لا يهملك ولا يتركك” (تث 6:31).

وَلَمَّا سَمِعَ أَعْدَاؤُنَا أَنَّنَا قَدْ عَرَفْنَا وَأَبْطَلَ اللَّهُ مَشُورَتَهُمْ،

رَجَعْنَا كُلُّنَا إِلَى السُّورِ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى شُغْلِهِ. [15]

إذ تذكروا الرب وقدرته رجع كل واحدٍ إلى عمله.

كانوا يبنون وهم مسلحون مستعدين للمعركة، فقد تأكدوا أنه وسط الطريق الضيق المملوء بالمخاطر، والمقاومة المستمرة، الله نفسه يحارب عنهم.

وَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَانَ نِصْفُ غِلْمَانِي يَشْتَغِلُونَ فِي الْعَمَلِ،

وَنِصْفُهُمْ يُمْسِكُونَ الرِّمَاحَ وَالأَتْرَاسَ وَالْقِسِيَّ وَالدُّرُوعَ.

وَالرُّؤَسَاءُ وَرَاءَ كُلِّ بَيْتِ يَهُوذَا. [16]

يقول آدم كلارك إن هذا ليس بالأمر الغريب. فإنه في فلسطين إلى وقتٍ قريبٍ حينما يقوم أحد حتى بإلقاء البذور في الأرض يرافقه حارس حتى لا يهجم عليه أحد من البدو ويسلبه البذور.

 الْبَانُونَ عَلَى السُّورِ بَنُوا، وَحَأمِلُو الأَحْمَالِ حَمَلُوا.

بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ يَعْمَلُونَ الْعَمَلَ،

وَبِالأُخْرَى يُمْسِكُونَ السِّلاَحَ. [17]

يرى البعض أنه عمليًا لا يستطيع أحد أن يقوم بعمل البناء بيدٍ واحدةٍ، بينما يمسك بالأخرى سلاحًا. إنما ما ورد هنا فيشير إلى أن العاملين نصفهم يعملون والنصف يحملون السلاح بالتساوي. وربما كانوا يتبادلون الموقف. فالبناؤون يحملون السلاح، وحاملو السلاح يبنون، بهذا بحسب كأن كل منهم يبني بيدٍ واحدة، ويحمل سلاحًا بيده الأخرى.

وَكَانَ الْبَانُونَ يَبْنُونَ وَسَيْفُ كُلُّ وَاحِدٍ مَرْبُوطٌ عَلَى جَنْبِهِ،

وَكَانَ النَّافِخُ بِالْبُوقِ بِجَانِبِي. [18]

يصور الكاتب كل عاملٍ في بناء السور أنه يقوم بثلاثة أمورٍ:

أ‌.       يقوم بالبناء في السور. 

ب‌. يحمل سيفًا على جنبه.

ج. يقف بجوار نافخ بالبوق.

هذه الأمور الثلاثة متكاملة في حياة كل مؤمن ٍ جاد في العمل لحساب ملكوت الله.

أ‌.       فالمؤمن لا يتوقف عن البناء لحساب ملكوت الله في داخله كما في حياة الغير.

ب‌. كجندي صالح ليسوع المسيح يحمل سلاح الله الكامل. فهو في معركة روحية مستمرة.

ج. إنجيله بوق يدوي على الدوام، يكشف له عن طريق الملكوت، ويفضح خطط إبليس.

فَقُلْتُ لِلْعُظَمَاءِ وَالْوُلاَةِ وَلِبَقِيَّةِ الشَّعْبِ:

الْعَمَلُ كَثِيرٌ وَمُتَّسِعٌ،

وَنَحْنُ مُتَفَرِّقُونَ عَلَى السُّورِ،

وَبَعِيدُونَ بَعْضُنَا عَنْ بَعْضٍ. [19]

العمل دائمًا كثير ومتسع، والفعلة قليلون. يسألنا السيد المسيح أن نطلب من رب الحصاد لكي يرسل فعلة لحصاده. وأن نعمل معًا بروح الحب والوحدة.

فَالْمَكَانُ الَّذِي تَسْمَعُونَ مِنْهُ صَوْتَ الْبُوقِ هُنَاكَ تَجْتَمِعُونَ إِلَيْنَا.

إِلَهُنَا يُحَارِبُ عَنَّا. [20]

لا يسر المؤمن بنجاحه في العمل فحسب، ولا بنجاح الآخرين أيضًا، وإنما بوحدة الجميع معًا كجسدٍ واحدٍ يعمل بالرأس يسوع المسيح واهب النجاح.

كل حرب روحية موجهة ضد إنسان أو جماعة معينة، هي حرب ضد كنيسة الله، التي تلتزم أن تجاهد معًا بروح الرب ضد إبليس لحساب ملكوت الله. وإذ نشارك الآخرين جهادهم الروحي، ونسندهم بالحب والصلاة والأصوام والمطانيات والنصائح ولا نسخر منهم، نرى الله متجليًا يحارب عنا.

*     سبق فتنبأ الأنبياء عن المعركة، وانشغل بها الرب، واستمر فيها الرسل [15].

الشهيد كبريانوس

فَكُنَّا نَحْنُ نَعْمَلُ الْعَمَلَ،

وَكَانَ نِصْفُهُمْ يُمْسِكُونَ الرِّمَاحَ

مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى ظُهُورِ النُّجُومِ. [21]

يتوقف العمل عادة عند غروب الشمس (تث 15:24؛ مت 1:20-12) . فالعمل حتى ظهور النجوم يكشف عن غيرة الشعب للعمل.

لا يطلب الإنسان الروحي الراحة الجسدية، ولا يعرف الاسترخاء، إنما يعمل مجاهدًا مادام الوقت نهار.

*     ” لكيْ تقْدروا أن تقاوموا في الْيوْم الشّرّير، وبعْد أنْ تتمّموا كلّ شيْءٍ أنْ تثْبتوا” (أف 6: 13(.

يقصد باليوم الشرير الحياة الحاضرة، إذ يدعوها أيضًا: “العالم الحاضر الشرير” (غلا 1: 4)، وذلك بسبب الشر الذي يرتكب فيها…

يقول “تتموا كل شيء“، أي تقاومون كل الأهواء والشهوات الدنسة وكل ما يقلقنا. هنا لا يتحدث عن مجرد ممارسة الأعمال وإنما إتمامها، بمعنى أننا بعد ما نقتل (بالخطايا) نثبت. فإن كثيرين يسقطون بعد نوالهم النصرة… أما نحن فيلزمنا أن نثبت بعد النصرة. فقد يضرب عدو لكنه يقوم ثانية إن لم نثبت.

إن قام الأعداء (الروحيون) ثانية فإنهم يعودوا فيسقطون إن كنا ثابتين.

ما دمنا لا نتزعزع لا يقوم العدو من جديد.

الْبسوا سلاح الله الْكامل“؛ ألا تراه كيف ينزع كل خوف؟ فإن كان ممكنًا بعد إتمام كل شيء أن نثبت، فإن وصفه لقوة العدو لا يخلق جبنًا وخوفًا بل ينتزع كل استرخاء.

يقول: “لكيْ تقْدروا أنْ تقاوموا في الْيوْم الشّرّير“، مقدمًا لهم تشجيعًا من الزمن بكونه مقصرًا (إذ يدعوه يومًا واحدًا)، فالأمر يحتاج إلى ثبات دون وهن إذ تحدث غلبة [16].

القديس يوحنا الذهبي الفم

وَقُلْتُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَيْضًا لِلشَّعْبِ:

لِيَبِتْ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ غُلاَمِهِ فِي وَسَطِ أُورُشَلِيمَ،

لِيَكُونُوا لَنَا حُرَّاسًا فِي اللَّيْلِ وَلِلْعَمَلِ فِي النَّهَارِ. [22]

كل بنّاء معه غلامه وهو العامل البناء وليس خادمًا خاصًا له.

حتى الذين يعملون خارج أورشليم كانوا يبيتون في المدينة ليلًا ليعمل بعضهم كحرّاس.

هنا يعمل الإنسان مع غلامه، ويشتركان في كل شيءٍ! صورة حيَّة لشركة الأجيال معًا. كل جيلٍ يقدِّر الجيل الجديد. فكان يشوع في صحبة معلمه وأبيه الروحي موسى، لا يستخف أحدهما بدور الآخر، وهكذا إيليا وتلميذه إليشع. يحتاج الشيوخ إلى قوة الشباب، والشباب إلى حكمة الشيوخ وخبرتهم.

8. نحميا العامل  23

وَلَمْ أَكُنْ أَنَا وَلاَ إِخْوَتِي وَلاَ غِلْمَانِي وَلاَ الْحُرَّاسُ الَّذِينَ وَرَائِي نَخْلَعُ ثِيَابَنَا.

كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَذْهَبُ بِسِلاَحِهِ إِلَى الْمَاءِ. [23]

ذهاب الإنسان إلى الماء ومعه سلاحه، يشير إلى يقظة الشخص، واستعداده الدائم للحراسة، حتى وهو يشرب. عندما أراد جدعون فرز الرجال الجادين للحرب نزل بالشعب إلى الماء كطلب الرب، واختار منهم من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب (قض 5:7).

*   “فلنخلع أعمال الظلمة، ونلبس أسلحة النور” (رو 13: 12). نعم لأن النهار يدعونا أن نلبس الأسلحة ونحارب (روحيًا). لا تخف عند سماعك الأسلحة، لأن العدّة المنظورة ثقيلة وارتداءها مضني، أمّا الأسلحة هنا فمرغوب فيها، تستحق أن نصلي لنوالها، لأنها أسلحة من نور! إنها تجعلك أكثر بهاءً من أشعة الشمس وتهبك بريقًا عظيمًا، وتقدّم لك أمانًا… إنها أسلحة النور!

لنسلك بلياقة كما في النهار” (رو 13: 13)… لم يقل: “اسلكوا”، بل قال “لنسلك” ليجعل حثه بعيدًا عن التعقيد وتوبيخه لطيفًا…!

“بل البسوا الرب يسوع المسيح” (رو 13: 14)… لا يحدثهم عن أعمال معيّنة وإنما يثير فيهم أمورًا أعظم، لأنه حينما تحدّث عن الرذيلة أشار إلى أعمالها، أمّا وهو يتحدّث عن الفضيلة فلا يُشير إلى أعمالها بل إلى أسلحتها ليظهر أن الفضيلة تجعل صاحبها في أمان كامل وبهاء عظيم… أنه يقدّم الرب نفسه كثوب، الملك نفسه، من يلتحف به تكون له الفضيلة مطلقًا [17].

القديس يوحنا الذهبي الفم

من وحي نح 4

حررني من روح الغضب!

 

*   هب لي وداعة الحمام، فلا يجد الغضب له فيَّ مكانًا.

في بساطة مع حكمة الروح أحب الجميع.

وإن غضب أحد عليّ أخشاك أنت وحدك.

غضب الإنسان لن يؤذيني،

مادمت تُسر بي.

حررهم وحررني من روح الغضب.

فنصير جميعًا أيقونة لك.

*   هوذا العدو يسخر بي.

يحسبني ضعيفًا، عاجزًا عن العمل.

ما أفعله يهدمه ثعلب واحد دون مقاومة.

يمشي عليه، فتهتز كل أساسات عملي.

ينعتني بالسخف،

حاسبًا قلبي خرابًا لا يصلح إلا مأوى للثعالب الصغيرة والكبيرة!

*   أعترف لك بأني تراب ورماد،

ليس في داخلي سوى شوك وحسدك.

لكن نعمتك تقيم من التراب سماءً.

تطرد كل عدو، وتقيم أنت في داخلي.

روحك يقيم مني هيكلًا مقدسًا لك.

يجعل مني أورشليم الحصينة،

ويحوِّل طاقاتي إلى جيش بألوية.

بك أتمتع بالحياة المقامة، عربون السماء!

*   حوّل عيني عن الأعداء المقاومين،

فلا يحل بي روح الفشل والإحباط.

أتطلع إلى أعمالك، فيزداد قلبي غيرة.

وتتشدد يداي للعمل،

ويتحرك كل كياني للصلاة مع العمل.

لتتحالف كل قوى الشر ضدي.

رضاك أعظم من كل قوات الظلمة.

ويمينك أقوى من كل طاقات الشر.

*   لتتآمر كل قوى الشر ضدك.

ولأعمل بروح الحب والوحدة مع إخوتي.

فإنك تبارك العمل وتتعهده بنفسك مادام يُمارس بالقلب الواحد.

*   مع كل نجاح من لدنك يحاربني العدو.

يحاول تثبيط همتي وثقتي فيك.

يبث روح الفشل والإحباط.

لكنك أنت تهبني روح القوة والنصح والحب.

*   يود العدو أن يهلكني بكل وسيلة،

أما أنت فسرّ حياتي ونجاحي.

لأتكئ عليك، فأنت قوتي وحصن حياتي.

ولأعمل بغنى نعمتك، فلا أعرف الخمول.

*   هب لي ألا تتوقف يداي عن العمل في كرمك.

ولأحمل سلاح الله الكامل:

درع البرّ، وترس الإيمان،

وخوذة الخلاص، وسيف الروح.

ليقف بجانبي الضارب ببوق الإنجيل.

*   هب لي أن أفرح أنك تعمل بكل مؤمنٍ.

فيك يجتمع الكل معًا.

وبك يصير البناء واحدًا سماويًا.

فاصل

فاصل

تفسير سفر نحميا 3 تفسير سفر نحميا 
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير سفر نحميا 5
تفسير العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى