تفسير سفر العدد ١٠ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح العاشر
1-10
لغة الأبواق
أمر الله موسى النبي أن يصنع بوقين من الفضة يُستخدمان في مناداة الجماعة، كما في الرحيل، وفي الحرب، وفي الأعياد. كانت الأبواق هي اللغة التي يتحدث بها الكهنة ليعرف الكل ما يجب أن يفعلوه، فبنغمات معينة يعرف رؤساء الجماعة أنهم مدعوون للاجتماع، وبأخرى تعرف الجماعة كلها أنها مدعوة للاجتماع. هناك نغمة خاصة لكي تبدأ مَحَلَّة يهوذا بالتحرك من خلالها أيضًا تعرف اتجاه التحرك، ونغمة خاصة لتتحرك مَحَلَّة رأوبين وهكذا… نغمة خاصة بالحرب غير التي للاحتفال بعيد.
تُصنع الأبواق من الفضة لأنها تشير إلى كلمة الله كقول المرتل “كلام الرب كلام نقي كفضة مصفاة في بوطة في الأرض ممحوصة سبع مرات” (مز 12: 6). هذه هي لغة الكهنة، أن ينطقوا بكلمة الله على الدوام ليحثوا أولاد الله على الاجتماع بروح الشركة، أو حثهم على الجهاد أثناء سيرهم في بريّة هذا العالم. هي سرّ نصرتهم في حربهم الروحيّة، وهي سرّ فرحهم وتهليل قلبهم في عيدهم الممتد بلا انقطاع.
يتحدث القدِّيس ﭽيروم عن هذين البوقين قائلاً: [نقرأ في سفر العدد عن نوعين من الأبواق: واحد طويل من الفضة والآخر بوق نفير (صور). ورد هذان النوعان في القول “بالأبواق وصوت الصور” (مز 98: 6). اسمع إلى أي شيء يرمزان؟ البوق الطويل الفضي هو كلمة الله ووعوده الصادقة كفضة مصفاة، نقيّة من الشوائب، ممحصة سبع مرات (مز 12: 6). أما الصور فيمثل كلمة الله في كل سلطانه، إذ يشير الصور في الكتاب المقدَّس إلى المملكة والسلطان، كما هو مكتوب “يرتفع قرن (صور) خلاصنا[35]” (لو 1: 69)].
ويتحدَّث البابا أثناسيوس الرسولي عن أهمية الأبواق في العهد القديم قائلاً: [متى سمع أحدكم الناموس يوصي باحترام الأبواق لا يظن أن هذا أمر تافه أو قليل الأهمية، إنما هو أمر عجيب ومخيف. فالأبواق تبعث في الإنسان اليقظة والرهبة أكثر من أي صوت آخر أو آلة أخرى. وكانت هذه الطريقة مستخدمة لتعليمهم إذ كانوا لا يزالون أطفالاً… ولئلا تؤخذ هذه الإعلانات على أنها مجرد إعلانات بشريّة، فقد كانت أصواتها تشبه تلك التي حدثت على الجبل (خر 19: 16) حين ارتعدوا هناك، ومن ثم أُعطيت لهم الشريعة ليحفظوها[36]].
وقد أوضح القدِّيس إمبروسيوس أن الضرب بالأبواق أي كلمة الوعظ بالإنجيل هي من اختصاص الكهنة بقوله: [ليس كل أحد يضرب بالبوق، ولا يدعو الآخرين للاجتماع المقدَّس، إنما منح هذا الامتياز للكهنة وحدهم، فيضرب خدام الله بالأبواق حتى أن من يسمع الصوت ويأتي هنا حيث يوجد مجد الرب ويصمم على التبكير إلى خيمة الشهادة يعاين الأعمال الإلهيّة ويستحق المواضع الإلهيّة الذي هو الميراث الكل لنسله[37]].
وفي العهد الجديد استعاضت الكنيسة بالأجراس عِوَض الأبواق، وقد سبق لنا الحديث عنها[38].
<<
الباب الثاني
من سيناء إلى موآب
ص 10: 11- ص 21
<<
الأصحاح العاشر
11-36
ارتحال الشعب
بدأت الرحلة من جبل سيناء بعد أن تحدَّث الله مع عبده موسى وسلَّمه الشريعة وأمره بإقامة الخيمة بأدواتها خاصة تابوت العهد، الذي صار يمثل الحضرة الإلهيّة.
- ارتحال الشعب 11-28.
- دعوة حمي موسى لمشاركتهم 29-32.
- تابوت العهد يتقدمهم 33-36.
- ارتحال الشعب:
قدَّم لنا الوحي الإلهي عينة من قيادة الله لشعبه أثناء الرحلة، فقد ارتفعت السحابة عن الخيمة متجهة نحو بريّة فاران، فأطلق الكهنة البوق ليبدأ الموكب حسبما أمر الرب بنظام دقيق. انطلقت الكنيسة كلها على شكل صليب كما سبق فقلنا، يبدأ براية مَحَلَّة يهوذا التي تتكون من ثلاث أسباط يتقدم كل سبط رئيسه، ثم مَحَلَّة رأوبين ثم يرتحل اللاويّون في الوسط فمَحَلَّة أفرايم وأخيرًا مَحَلَّة دان.
- دعوة حمي موسى لمشاركتهم:
فرح موسى النبي بهذا الموكب المملوء فرحًا والمتجه نحو أرض الموعد، ففي فرحه دعى حوباب بن رعوئيل المدياني، أي حميه الذي هو بنفسه يثرون، وإن كان البعض يرى أنه ابنه لأن يثرون اضطر إلى العودة لكِبَر سنه (خر 18: 27).
قال موسى لحوباب: “إننا راحلون إلى المكان الذي قال الرب أعطيكم إياه. اذهب معنا فنحسن إليك، لأن الرب قد تكلَّم عن إسرائيل بالإحسان… لا تتركنا لأنه بما أنك تعرف منازلنا في البريّة تكون لنا كعيون” [29-31]. إن انفتاح قلب موسى ليشاركه هذا الغريب الجنس فيما وعد الرب شعبه كان علامة لقبول الأمم في كنيسة العهد الجديد للتمتع بمواعيد الله.
لم نسمع أي إجابة من حوباب بعد أن كرر موسى له الدعوة، ولعل صمته يعني موافقته وقبوله الدعوة، إذ نسمع عن أفراد عائلة حمي موسى في كنعان (قض 1: 16، 1 صم 15: 6).
إن دعوة موسى هذه حملت نبوة واتساع قلب وحبًا، لكنها أيضًا حملت نوعًا من الضعف، ففيه مجاملة لأقربائه حسب الجسد، الأمر الذي يصعب نزعه عن البشريّين حتى وإن كانوا أنبياء. إنهم يتأثرون بالعوامل الشخصيّة. حقًا ما أصعب على الكنسيّين- مهما بلغت درجتهم الكهنوتيّة أو قامتهم الروحيّة ان يتخلّوا تمامًا عن العامل الشخصي في حياتهم وخدمتهم. لكنني أود أن أسجل هنا أن موسى النبي في مواقف كثيرة كان متحررًا من أي تأثر بعوامل شخصيّة أو قرابات عائليّة كما سنرى خلال دراستنا هذه.
ومن جانب آخر، بالرغم من التأكيدات الإلهيّة لموسى أن الله هو الذي يقود شعبه ويسندهم في كل خطوة يقول لحوباب “لا تتركنا لأنه بما أنك تعرف منازلنا في البريّة تكون لنا كعيون” [31]… أراد أن يكون لهم كعيون في البريّة مع أن الله هو الذي يقودهم!
- تابوت العهد يتقدمهم:
في بدء الرحلة ساروا ثلاثة أيام متوالية، فإنه لا يمكن لنا أن ننطلق في البريّة من جبل سيناء نحو أرض الموعد مالم نحمل فينا قوة قيامة السيد، لأن رقم 3 كما سبق فرأينا في تفسير سفر الخروج يشير إلى القيامة. بدون القيامة تسير المسيرة عنيفة وقاسية ومرّة للغاية بل ومستحيلة، أما بقيامة الرب فتتحول أتعابها إلى بهجة، وتصير آلامها مصدر تعزية.
هنا لأول مرة يبرز دور تابوت العهد كممثل للحضرة الإلهيّة يتقدم الموكب (ع 33) ليس تقدمًا مكانيًا لأنه في وسط الجماعة، ولا زمانيًا إذ يتحرك به القهاتيّون في الترتيب الثالث بعد مَحَلَّة يهوذا ومَحَلَّة رأوبين، إنما يتحرك حركة غير منظورة، كقائد خفي وسرّ قوة وتقديس للمسيرة.
والعجيب أن الوحي يسجل لنا “وعند ارتحال التابوت كان موسى يقول قم يا رب فلتتبدد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمامك” [35]. لعل موسى كان يرى في بدء ارتحال التابوت قوة قيامة الرب، إذ يتحرك بعد يهوذا ورأوبين أي يأخذ الحركة الثالثة بعد المحلتين؛ أي يرى السيد قائمًا في اليوم الثالث، مبددًا قوى الشيطان والخطيئة وملكوت الظلمة. وإن اعتبرنا كل مَحَلَّة بأسباطها الثلاثة تتحرك ثلاث حركات فيكون ترتيب التابوت هو الثامن (أسباط مَحَلَّة يهوذا “3” + أسباط مَحَلَّة رأوبين “3” + موسى وهرون والكهنة “1” + القهاتيّون حاملوا تابوت العهد “1”). والسيد المسيح قام في اليوم الثامن من الأسبوع السابق، أو أول الأسبوع الجديد.
لقد اقتبست الكنيسة هذه الصلاة لتمارسها في نهاية أوشية الاجتماعات، وكأن سرّ يركة الشعب والاجتماعات هي قيامة السيد المسيح الغالب للكلمة والشر!