تفسير المزمور ٣٨ للقمص تادرس يعقوب
المزمور الثامن والثلاثون
مزمور التوبة الثالث
هذا المزمور هو مرثاة شخصية، وأحد مزامير التوبة السبعة.
كان داود النبي في ضيقة شديدة، وقد بلغت آلامه ذروتها. وقد أظهر المزمور أن أمورًا أربعة ثقَّلت من آلامه:
أ. مرض خطير حاق به سيطر على كل اهتمام آخر في المزمور [5-8]. فقد خار جسد المرتل تمامًا وتمررت نفسه فيه. يظهر المرتل متألمًا ومنكسرًا، لا يعرف طعم الراحة، كأن حمى قد أصابته فخار قلبه وذبلت عيناه.
ب. حرمانه من أصدقائه المقربين إليه جدًا [11-14؛ 19، 20]، فقد تخلوا عنه، متطلعين إليه كإنسان طريد. اعتقدوا أن الصحة والكرامة والغنى هذه كلها ثمار الأعمال الصالحة، كما أن المرض وفقدان السمعة والفقر ثمار الأعمال الشريرة (تث 32: 23 الخ؛ أي 6: 4؛ 16: 12 الخ).
ج. تعرض أيضًا إلى اضطهادات مارسها ضده أعداء خبثاء قاتلين [12، 19]؛ خضع لاتهاماتهم الباطلة في صمت [13 الخ]، واثقًا في رحمة الله له[736].
د. تألم بالأكثر بسبب شعوره بالخطية، حيث يعترف بها في صراحة أمام الله [4، 8]. أحس كأن إثمه قد ابتلعه [4، 5]، مع إحساسه بأن ما صنعه من خير قوبل بالشر [20 الخ]. على أي الأحوال رجع إلى الله وصرخ دون يأس، مترجيًا رأفات الله.
لم يجد أمامه من يلجأ إليه لينال عونًا سوى الرب وحده القادر أن يُحطم أسباب غباوة الماضي والبؤس الحاضر وفاعليتهما[737].
استخدم اليهود الأسكينازيين Ashkenazi الذين يرجع أصلهم إلى أوربا الشرقية هذا المزمور في صلوات المساء في اليوم الثالث من الأسبوع. فإنه إذ يحل المساء يحل الشعور بالوحدة وتكتنفنا الشكوك، وإذ نُحاط بالظلام بصوت عوائه وكوابيسه نحتاج إلى هذا المزمور.
يَصلُح هذا المزمور أن يكون صلاة تدخل بنا إلى خلوة خاصة مع الله، نشكو فيها أمراضنا الجسدية والروحية القاتلة، فننعم بالتمتع بقدس الأقداس.
يقوم هيكل هذا المزمور على أساس أبجدي (22 آية)…
يفسر البعض الآلام الواردة في المزمور على أنها تخص السيد المسيح. لذا يترنم بها الخورس الكنسي في الجمعة الكبيرة في الكنيسة الكاثوليكية. وقد جاء النص في بعض المخطوطات اليونانية “رفضوني أنا الحبيب كجثة مؤلمة” (راجع إش 14: 19) كتلميح عن المسيح المصلوب، أما النص القبطي ففي أكثر وضوح يقول “سمروا جسدي”[738].
العنوان:
هذه الصرخة المملوءة ألمًا تشترك مع المزمور 70 في العنوان “للتذكير“؛ ربما يشير إلى “ذبيحة التذكار” (لا 2: 2، 9، 16؛ 5: 12، إش 66: 3). ربما كان التسبيح بهذا المزمور يصحبه تقديم ذبيحة. وقد اتسع العنوان في الترجوم الآرامي إلى “تقدمة تذكارية يومية”.
لما كان “التذكار” بالنسبة لله هو عمل، فالكلمة هنا تعني تقديم حالة ما أمام الله تصرخ طالبة معونته. بمعنى آخر إذ يشعر الإنسان بحاجته المستمرة لله معينه، خاصة وقت الشدة، يرفع قلبه بالصلاة ويقدم ذبائح حب ليعلن صرخاته الداخلية الممتزجة بالشكر والتسبيح من أجل خبرته السابقة في معاملات الله معه واعلان قبوله إرادة الله الصالحة وانتظار خلاصه العامل بلا توقف في حياتنا.
من أو ما هو الذي للتذكر؟
- وضع داود النبي هذا المزمور كتذكار لنفسه كما للغير، حتى لا ينسى سريعًا تأديب الرب له. لقد وضع تذكارات للتجارب التي مرّ بها. هكذا أيضًا فعل حزقيا الملك (إش 38)، كما لم ينس إرميا آلامه وبؤسه (مراثي 3: 20).
- تذكر الله بالتسبيح بهذا المزمور. نحن أنفسنا تذكارات الله، علينا أن نذكَّره باحتياجاتنا وأحزاننا وما نحتاج إليه من عون.
- جاء العنوان بحسب الترجمة السبعينية: “تذكر من أجل السبت“، فماذا يعني؟ تذكر المرتل الراحة الحقيقية، السبت الروحي. فبينما كان يُعاني من الأعداء المنظورين وغير المنظورين يعترف هنا بأنه لا يوجد سوى طريق واحد لبلوغ هذا السبت، وهو التوبة والاعتراف والثقة بالله.
الإطار العام:
- التوبة والاعتراف [1-4].
- مرض خطير [5-8].
- الرجوع إلى الله [9-15].
- الثقة في مواجهة الأعداء [16-22].
- التوبة والاعتراف:
“يارب لا تبكتني بغضبك،
ولا برجزك تؤدبني” [1].
نفس الكلمات الواردة في افتتاحية مزمور التوبة الأول (مز 6: 1)، ومع التشابه الشديد لكن الكلمات في النص العبري ليست متماثلة تمامًا. وكما سبق فقلنا في المزمور 6 إن المرتل لا يسأل الله ألا يبكته وإنما ألا يبكته بغضبه. فهو محتاج إلى توبيخ الله بعنايته الإلهية لا بسخطه.
بسبب الخطية نخشى سخط الله وغضبه، لكن بتطلّعنا إلى أبوته الحانية نرى في تأديباته حبًا ورعاية: “يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تكره توبيخه؛ لأن الذي يحبه الرب يؤدبه وكأب بابن يُسر به” (أم 3: 11).
v اعترفوا بهذه الأمور أمام الله. اعترفوا أمام الديان عن خطاياكم في الصلاة؛ إن لم يكن باللسان فبالذاكرة، فتتأهلوا للرحمة[739].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لأن سهامك قد انغرست فيّ
وثقلت عليّ يدك” [2].
يشعر داود النبي أن آثامه قد طمت فوق رأسه، وأن سهام المعركة قد طعنت ضميره، انغرست فيه سريعًا، فأدرك أن يدّ الله القدوس تضغط عليه بالتأديب.
ما هي سهام الله إلا تأديباته النابعة عن حبه لنا، تجرح لا لتهلك، بل لتفرز الحق عن الباطل، ولتلهب النفس نحو الحياة الجديدة المقدسة في الرب فتصير مجروحة حبًا (نش 2: 5؛ 5: 8). تُجرح قلوبنا بسهام الله لنختبر حياة التوبة من أعماق القلب ويتّقد حبنا لله مخلصنا.
سهام الرب هي وعوده التي أعلنها في كتابه، أو هي كلمته التي تهب النفس يقظة ومعرفة صادقة للنفس ولله وقدرة على التوبة، بهذا تُجرح النفس فتتمتع بالسبت الحقيقي، أي الراحة في الرب.
سهام الله أيضًا هي كلمة الله المتجسد الذي قد طُعن لأجلنا ففُتِح جنبه لندخل إلى أحشائه وندرك أسرار حبه. هو نفسه سهام الآب الذي لا يخطئ الهدف، بل ينغرس في القلب ليهبه جراحات الراحة القائمة على حب فائق لا يتوقف! إنه يد الآب الذي بتجسده وصلبه تمّكن مني؛ اقترب إليّ ودخل أعماقي، وصار رأسي، وصرت أنا فيه أتمتع بالشركة معه! وكأن المرتل يقول: فلتأدبني لكن أرسل سهامك، أي لينزل كلمة الله إلى عالمي، وليدخل إلى أعماقي، وليستلم قلبي وفكري وجسدي، وليتمكن مني تمامًا!
v ما الذي جعل السهام تنتشب به؟ العقوبة… ربما أيضًا آلام الذهن والجسد معًا التي يلزمنا أن نحتملها في هذه الحياة؛ هذه هي ما لقبها بالسهام.
ذكر أيوب البار أيضًا هذه السهام حينما عانى من آلام عنيفة، معلنًا أن سهام الرب قد نشبت به (أي 6: 4).
حقًا إننا عادة نعتبر السهام كلمات الله، ولكن يمكنه أن يشعر بثقل هذه الآلام حين تنشب به؟ كلمات الله وإن كانت السهام فهي تولد الحب لا الألم! أو هل لأنه لا يوجد حب بلا ألم (دُعيت سهامًا)؟ حينما نحب شيئًا ما لا نملكه نشعر بالحزن… هكذا تنطق عروس المسيح في شخص الكنيسة بهذه الكلمات في نشيد الأناشيد: “لأني مجروحة حبًا” (نش 2: 5؛ 5: 8)… لقد أحبت شيئًا لم تملكه بعد، لذا حزنت لأنها لم تقتنه بعد (بالكمال). إنها حزينة، فقد جُرحت؛ لكن هذا الجرح يدخل بها إلى كمال الصحة الحقيقية سريعًا.
القديس أغسطينوس
“ومكّنتَ عليّ يدك” [2].
يعتبر أبناء الله أن يده تتمكن منهم أو تنزل عليهم بسبب خطاياهم، لأسباب عدة:
أ. ليكشف لهم عن مدى مرارة الخطية.
ب. ليحميهم بعنايته الإلهية حتى أثناء معاناتهم تأديباته.
ج. ليمنحهم التوبة والرجوع إليه فيطلبون رب الجنود (إش 9: 3).
يدّ الله كما قلنا هي سهامه، تشير من جانب إلى تأديباته الهادفة لخلاص أولاده، كما تشير إلى السيد المسيح الذي تمم الخلاص كما بيد الآب العاملة، لأنه والآب واحد. لقد أحب الآب العالم فبذل ابنه الوحيد الجنس، معلنًا بالصليب الحب الإلهي!
إن كان الله يشتهي خلاص أولاده مستخدمًا كل وسيلة، فإن أولاده من جانبهم يدركون حبه، طالبين ألا يغضب عليهم بل ينزع عنهم خطاياهم التي نزعت عنهم سلامة حياتهم الداخلية، وحطمت عظامهم، أي قوتهم الداخلية. هذا ما عبّر عنه المرتل بقوله:
“ليس شفاء يوجد لجسدي من وجه سخطك.
ولا سلامة لعظامي من وجه خطاياي” [3].
بسبب خطاياه يحل غضب الله عليه ما لم تسنده المراحم الإلهية، فيفقد كل صحة جسده، يكون كمن أُصيب بمرض مهلك، وترتجف عظامه الداخلية، أي يهتز كل كيانه. لقد ضعف جدًا داود الجبار في قتاله وهو المعروف بشجاعته؛ هذا الذي لم يرعبه الأسد ولا الدب ولا جليات بكل أسلحته وهو صبي أعزل بلا سلاح… يقف وهو ملك في رعب شديد ترجفه خطيته؛ لقد فقد المرتل الحلو كل بهجة ونسى كل مجد ليواجه موتًا أبديًا محققًا!
“لأن آثامي قد تعالت فوق رأسي،
مثل حمل ثقيل قد ثقلت عليّ” [4].
يعبر المرتل عن كثرة خطاياه وثقلها التي ارتفعت فوق رأسه كحمل ثقيل أغرقته. لقد شعر بخطورتها ومرارتها إذ صارت تسحقه كحمل ثقيل يتجاوز قدرته. لقد أحنت رأسه إلى التراب عوض ارتفاعها إلى السماء، ونزلت به لتسحقه عوض تمتعه بالمجد، فصار محتاجًا إلى خلاص الله العجيب.
v ما من متغطرس إلا ذاك الإنسان الشرير الذي يرفع رأسه متشامخًا في الهواء، إنه متعجرف ومتكبر ذاك الذي يرفع رأسه ضد الله… ولأن الآثام رفعت رأسه عاليًا؛ كيف يعامله الله؟ “مثل حمل ثقيل قد ثقلت عليّ”… تعلو أحزانه على رأسه وتهبط آثامه على إكليله.
القديس أغسطينوس
v إن كان بعد هذا كله تبدو لك الفضيلة كثقل، تطلّع إلى الرذيلة أنها أكثر ثقلاً. هذا ما صرح به (السيد) إذ لم يقل أولاً: “احملوا نيري عليكم” وإنما سبق ذلك القول: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال”، موضحًا أن الخطية أيضًا لها تعبها وأنها حمل ثقيل يصعب احتماله. فإنه لم يقل فقط “يا جميع المتعبين” بل قال “والثقيلي الأحمال”. هذا أيضًا تحدث عنه النبي عندما وصف طبيعتها: “مثل حمل ثقيل قد ثقلت عليّ”، وأيضًا وصفها زكريا أنها وزنة من الرصاص[740].
القديس يوحنا الذهبي الفم
الخطية ثقيلة للغاية كالرصاص، إذ قيل عن فرعون وجنوده: “غاصوا كالرصاص في مياه غامرة” (خر 15: 10)، وعندما دخلت خطية الشك في حياة القديس بطرس بدأ يغرق (مت 14: 31).
- مرض خطير:
نزلت عليه يد تأديب الرب وأصابه المرض بسبب خطيته، فلم يكن في جسده صحة، وصار ينوح طول النهار، وامتلأ تعبًا وتمزقًا، صار سقيم النفس والجسد، في مذلة، يشعر بضيق شديد[741].
“قد نتنت وقاحت جراحاتي من قبل جهالتي” [5].
v هل تعلمون مقدار نتانة الخطية؟ اسمعوا النبي يقول: “قد نتنت وقاحت جراحاتي”[742].
v ليست الخطية حملاً ثقيلاً فحسب بل ورائحتها نتنة… الغباوة هي علة كل شرورنا[743].
v ليس شيء أكثر دنسًا، ليس أكثر نجاسة من الخطية[744].
v ليس شيء أكثر نتانة من رائحة الخطية التي جعلت المرتل يقول: “قد نتنت وقاحت جراحاتي”[745].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v جمال النفس أو قبحها هو نتاج فضائلها أو رذائلها، واللون الذي نستمده من أي منهما، إما يجعلها مجيدة فتسمع من النبي قوله: “يُسر الملك بجمالِك” أو قبيحة حمقاء نتنة، فتقر بنتانة خزيها، قائلة: “قد نتنت وقاحت جراحاتي من قبل جهالاتي”، ويقول لها الرب: “لماذا لم يندمل جرح بنت شعبي؟”[746].
الأب بفنوتيوس
v للخطية رائحة نتنة، وللفضيلة رائحة عطرة[747].
v أعمالك الصالحة هي عطرك، لكنك إن أخطأت تفيح خطاياك رائحة حماقة[748].
العلامة أوريجانوس
لقد أظهر المرتل أن بداية كل خطية هي الجهالة.
v يسقط المتغطرس والغضوب ضحية أهوائهما وعواطفهما، وذلك بسبب افتقارهما للحكمة، إذ يقول النبي: “ليس شفاء يوجد لجسدي… قد نتنت وقاحت جراحاتي من قبل جهالتي” [3، 5]. موضحًا أن بداية كل الخطايا هي الجهالة. لهذا فالإنسان الفاضل الذي فيه مخافة الله هو أكثر فهمًا من غيره. وكما يقول الحكيم: “رأس الحكمة مخافة الرب”(أم 1: 7)[749].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“شقيت وأحنيت إلى الانقضاء،
واليوم كله أمشي عابسًا” [6].
من هو هذا الذي دخل إلى حالة شقاء وأحنت نفسه فيه ودخل إلى حالة العبوسة كل اليوم إلا السيد المسيح الذي لم يعرف خطية، وقد صار خطيةً لأجلنا. حمل نتانة خطايانا وقبل جراحاتنا في جسده، وها هو يدخل إلى الآلام وينحني حتى النهاية، إلى عار الصليب، كي يدخل بنا إلى راحته (سبته) الأبدي.
أحنى العشار رأسه بسبب خطاياه فرفعه ذاك الذي انحنى بالصليب لأجله، رفع رأسه، بل ورفع كل كيانه ليشاركه بره ومجده!
نحزن كل يوم في حياتنا على الأرض بسبب خطايانا، فنسمع ذاك الذي حمل أحزاننا يطوبنا، قائلاً: “طوبى للحزانى لأنهم يتعزون” (مت 5: 4).
ربما أراد المرتل أن يعلن بأن تشامخ الإنسان يدفعه إلى الخطية التي تذله في أعماقه، فتنحني نفسه إلى التراب؛ هذا ويسمح الله بالتأديب ليكتشف هذه المذلة التي سببتها الخطية، فيرجع إلى مخلصه ويرفع رأسه في الرب.
v لماذا انحنى؟ لأنه كان قد ارتفع؛ فإنك إن اتضعت ترتفع، وإن تشامخت تنحني. يسهل على الله أن يجد ثقلاً يسحقك به؛ هذا الثقل هو خطاياك التي تعلو فوق رأسك فتنحني إلى الأرض… لكن ماذا تعني: “إلى الانقضاء”؟ أي إلى الموت!
القديس أغسطينوس
“لأن نفسي قد امتلأت مهازئًا،
وليس يوجد لجسدي شفاءّ” [7].
أصابت الخطية نفسه، وحطمت حتى جسده، فإنها تحرم الإنسان بكليته من التمتع بالمجد الأبدي!
قد ينعم الأشرار بالصحة لكن إلى حين، وأما المؤمن التقي فيتمتع بالجسد الروحاني الذي بلا هوان المجيد أبديًا.
الآن إذ اكتشف المرتل ثمار الخطية بدأ قلبه يئن بسبب ما حلّ به وما أوشك أن يسقط فيه أبديًا، وتحولت أنّاته إلى صرخات توبة صادرة عن القلب، إذ يقول:
“تعبت واتضعت جدًا،
وكنت أئن من تنهد قلبي” [8].
v غالبًا ما تسمعون عبيد الله يقطعون صلاتهم بالأنّات والتنهدات، ويتعجب الناس قائلين، لماذا؟ ليس ثمة شيء ظاهر إلاّ أنين خدام الله الذي يبلغ مسامع من بجوارهم في الصلاة. توجد أيضًا تنهدات داخلية لا تسمعها الآذان البشرية ولا تلتقطها…
ينوح إنسان ما لفقدانه ابنه أو زوجته… وآخر لأن كرمه أفسده البَردَ… إنهم يصرخون بنواح بأنات جسدية، أما عبد الرب فيصرخ لأنه يتذكر السبت حيث ملكوت الله الذي لا يرثه جسد ولا دم (1 كو 15: 5)، فيقول: “كنت أئن من تنهد قلبي”.
القديس أغسطينوس
v فلنصلِ لا بصوت عالٍ بل بقلوبنا نصرخ إلى الله[750].
الأب قيصريوس أسقف آرل
- الرجوع إلى الله:
“أمامك هي كل شهوتي،
وتنهدي عنك لم يخفَ” [9].
هنا الاستغاثة إلى الله كلي المعرفة، الذي يسمع التنهدات الخفية. الله هو الطبيب القادر وحده أن يسمع ويرى الخفيات، يرى المرض الدفين، وقادر أن يشفي النفس والجسد. إن كان الإنسان قد انكسر قلبه بسبب الخطية يتقدم الرب نفسه إليه كطبيب ومخلّص!
v ضع تأوهاتك أمام الله، والآب الذي يرى في الخفاء هو يجازيك (مت 6: 6).
تأوهاتك هذه هي صلاتك، إن كانت تنهداتك مستمرة فصلاتك دائمة أيضًا، إذ لم يقل الرسول من فراغ: “صلوا بلا انقطاع” (1 تس 5: 17). هل نستطيع أن نحني ركبنا بلا انقطاع”؟ ونسجد بأجسادنا؟ أو نرفع أيدينا حتى يقول: “صلوا بلا إنقطاع”؟ كلا!… توجد طريقة أخرى للصلاة الداخلية التي بلا توقف هي التنهدات…
إن كنتم تشتاقون إلى السبت (الراحة) لا تكفوا عن الصلاة…
“تنهدي عنك لم يَخفَ”
إن كان التنهد داخليًا على الدوام، هكذا أيضًا الأنين، فأنه لا يبلغ دائمًا إلى آذان الناس لكنه لا يغيب عن أذني الله.
القديس أغسطينوس
v ليته لا يحتقر أحد التوبة أو يستخف بالاتضاع؛ إنها كلمات الملك داود، فقد كان ملكًا عظيمًا جدًا ذاك الذي تمم ذلك (أي قدم التوبة في اتضاع). لذلك يليق أن نصرخ عاليًا كما على ميت، وأن نبكي بدموع غزيرة على النفس التي تهلكها الخطية[751].
الأب قيصريوس أسقف آرل
“قد اضطرب فيّ قلبي وفارقتني قوتي
ونور عيني لم يبقَ معي” [10].
إذ لا يعرف المرتل الرياء ولا النفاق، يشكو نفسه في إخلاص شديد، مُعلِنًا أنه لا يعاني مبدئيًا من أذّية صادرة عن الغير بل بالحري يُعاني من نفسه؛ خطيته هي التي تحطم قلبه فتفقده بصيرته الداخلية.
لقد عانى من جسده، كما خفق قلبه الذي امتلأ بالاضطرابات والمتاعب، وفارقته قوته، وشاخت عيناه، أي فقد حياته وقوته واستنارته. صار محتاجًا أن يشرق عليه إلهه ليهبه الاستنارة من جديد.
v هذا الآب رأى، ذاك الساكن في الأعالي والناظر إلى المتواضعات (مز 113: 5-6)، “والكائنات يعرفها من بعد” (مز 138: 6). “رآه أبوه” (لو 15: 20)؛ نظره بطريقة بها يستطيع الابن أن يرى أباه. فقد أشرقت ملامح الأب على وجه الابن المقترب إليه بطريقة بددت كل الظلمة التي جلبها إثمه عليه. ظلام الليل ليس مثل الظلمة التي يجلبها عار الخطية. اسمع ما يقوله المرتل: “أدركتني آثامي ولم أستطع أن أبصر” (مز 40: 13). وفي موضع آخر يقول: “صارت آثامي حملاً ثقيلاً عليّ” يقول بعدها: “نور عيني لم يبق معي” [10]. هكذا يبتلع الليل نور النهار الذي مضى؛ وتُحطِّم الخطية قوة إدراكنا… من الواضح أنه ما لم يرسل الآب السماوي أشعته على وجه الابن الراجع، ما لم ينزع ضباب عاره بالنور النابع عن بهائه، لا يستطيع هذا الابن أن يرى وجه الله البهي[752].
الأب بطرس الخريولوجيوس
الآن وقد فقد المرتل صحة جسده وسلامة نفسه ونور بصيرته الداخلية، ما هو موقف أصدقائه وجيرانه؟ وما هو موقف أقربائه؟
“أصدقائي وجيراني دنوا مني ووقفوا مقابلي،
وأقربائي وقفوا بعيدًا عني” [11].
تحول أصدقاؤه وجيرانه إلى أعداء، يقتربون إليه ليقفوا مقابله، بلا مشاعر صداقة أو وّد من نحوه إذ حسبوا أن الله ضدّه. طلبوا نفسه، ونصبوا له الفخاخ لهلاكه. أما أقرباؤه فوقفوا من بعيد لا يساندونه ضد مقاوميه الذين استخدموا كل طاقات عنفهم لتحطيمه. موقف مؤلم للغاية، لكنه مناسب لتدخل العناية الإلهية لمساندته[753].
v من هم أجيران الذين دانوا منه؟ ومن هم (الأقرباء) الذين وقفوا بعيدًا عنه؟ كان اليهود هم جيرانه… اقتربوا إليه حتى حينما صلبوه. وكان الرسل أقرب المقربين إليه ومع ذلك وقفوا بعيدًا عنه خوفًا من التألم معه.
يمكن أيضًا تفسير ذلك بطريقة أخرى: أصدقائي يعني الذين تظاهروا أنهم أصدقائي. قدّموا مظهر الصداقة عندما قالوا: “نعلم أنك صادق وتعلم طريق الله بالحق” (مت 22: 16)؛ حينما جرّبوه بخصوص دفع الجزية لقيصر فأقنعهم من خلال الكلمات التي نطقوا هم بها. لقد حرصوا أن يظهروا كأصدقاء له.
القديس أغسطينوس
هكذا قامت خاصة المسيح ضده، حتى تلاميذه هربوا في لحظات الصليب. ما عاناه داود من بني جنسه كان ظّلاً لما عاناه السيد المسيح نفسه.
يشكو داود النبي من خبث الأعداء الذين ربما انتهزوا اعتلال صحته وتعب نفسه فكانوا لا يطلبون أقل من نفسه؛ أي القضاء على حياته تمامًا، مستخدمين الأكاذيب والوشايات:
“وأجهدني الذين يطلبون نفسي.
والملتمسون لي السوء تكلموا بالأباطيل.
وغشًا طول النهار درسوا” [12].
أمام هذه الأكاذيب وقف المرتل صامتًا؛ في حكمة الروح صمت لكي يحتفظ بهدوئه في مواجهة هذه العواصف.
“أما أنا فكأصم لا يسمع،
ومثل أخرس لا يفتح فاه” [13].
يا لها من مفارقة عجيبة بين ألسنة لا تكف عن الافتراءات والكذب [12]، وصمت وسكون [13]. إنها صورة رمزية لما حدث عند محاكمة السيد المسيح، الذي قيل عنه: “الذي لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر؛ الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يُهدّد بل كان يسلّم لمن يقضي بعدل” (1 بط 2: 22-23، إش 53: 7).
v لم يكن داود صامتًا على الدوام، وإنما إلى حين. لم يحجم عن الكلام تمامًا، لكنه أعتاد ألا يجاوب الأعداء الذين كانوا يثيرونه والأشرار الذين يغضبونه[754].
القديس أمبروسيوس
v [عن سيرة الأنبا أنطونيوس]
بعد أشهر جاءت (الشياطين) مرتلة متفوهة بآيات كتابية: “لكنني كنت كأصم لا يسمع” (مز 37: 14). مرة أخرى هزت الدير كله، أما أنا فكنت أُصلي محافظًا على عقلي من التزعزع. بعد ذلك أتت مصفقة ومصفرة وراقصة[755].
البابا أثناسيوس الرسولي
v هكذا يليق بكم أن تسلكوا كمن هو أصم وأبكم وأعمى[756].
القديس يوحنا كاسيان
- الثقة في مواجهة الأعداء:
لقد أعطت خطيته الفرصة للأعداء أن يتهللوا، كما يتهلل العالم دومًا إذا ما فشل الأبرار وسقطوا في الخطايا، لكن بالتوبة واجه المرتل أعداءه لا بقدراته الذاتية، وإنما بإمكانيات الله.
“لأني قلت لئلا تفرح بي أعدائي،
وعند زلل قدميّ عظموا عليّ الكلام.
أما أنا للسياط فمستعد،
ووجعي مقابلي في كل حين” [16-17].
لقد صمت المرتل أمام أعدائه متشبهًا بسيده الذي قيل عنه: “كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه” (إش 53: 7)، لكنه لم يصمت أمام الله، إذ يترنم هكذا: “لأني قلت: لئلا تفرح بي أعدائي“. بصمته وقف ينتظر عمل الله بروح الحكمة، هو صمت لكي ينطق الله، والآن يتحدث مع إلهه حتى لا يشمت به الأعداء ويتهللون لسقوطه، ويتعظمون عليه بالكلمات الجارحة والسخرية عند زلل قدميه، إنهم يترقبون انهياره كي يشهرّوا به ويعيروه (نح 6: 13)، لذا يلجأ إلى ذاك القادر أن يرفعه من السقوط.
قدم المرتل صلواته وتوسلاته لا ليُرفع عنه الضيق إنما لتُغفر له خطاياه، فمن جهة الضيق يعلن أنه مستعد أن يحتمل السياط كمن هو تحت الحكم؛ ضعفاته أمام عينيه على الدوام: “ووجعي مقابلي في كل حين“. يعلق القديس أغسطينوس على قوله: “أما أنا للسياط فمستعد” هكذا: [نطق بهذه الكلمات بمهابة عظيمة كما لو أراد القول: “لهذا وُلدت كي أُعاني من الجلدات].
إنه لا ينتظر تعييرات الأشرار إذ يعترف بخطاياه، قائلاً: “لأني أخبر بإثمي، وأهتم من أجل خطيئتي” [18].
v هنا يظهر سبب ألمه، ليس سقوطه تحت العقاب، وإنما من جراء الجرح لا العلاج. فإن العقاب هو ترياق الخطية.
يلزمكم أن تعترفوا بإثمكم (تعدي الناموس) فتغتمّون على خطاياكم.
ماذا أعني باهتمامكم بالخطية؟ أن تهتموا بجرحكم.
القديس أغسطينوس
v حينما نتوب ونحن في حزن نتذكر أخطاءنا، فإن ينابيع الدموع التي تصحب اعترافنا بآثامنا تطفئ بالتأكيد نيران ضمائرنا[757].
الأب بينوفيوس
v “لأني أعترف بإثمي“.
كثيرًا ما تحدثنا عن شجب آثامنا، أي كثيرًا ما نعترف بآثامنا. تأملوا إذن ما يعلمنا إياه الكتاب المقدس: ألا تبقى الخطية مخبِأة فينا. فما أن يتهم الإنسان نفسه ويعترف حتى يتقيأ خطأه ويضع في الحسبان علة مرضه كله.
فقط احترسوا وتيقظوا بخصوص من تعترفون له بخطاياكم. اختبروا أولاً الطبيب الذي تكاشفونه علة مرضكم[758].
العلامة أوريجانوس
بعد اعتراف المرتل بضعفاته ملقيًا على نفسه صار يصرخ إلى الله لكي يخلصه من الأعداء أي الشيطان وأعماله الشريرة.
“أعدائي أحياء وهم أشد مني” [19].
قوله أحياء ربما يعني أن عدو الخير وجنوده الروحيين قد بدأوا الحرب منذ الإنسان الأول ولازالوا يعلمون، حملوا خبرات لسنوات طويلة في حربهم ضد الإنسان، مع اتسامهم بالقوة والعنف… فأين أذهب منهم إلا إلى الله الحيّ معطي الحياة والقوة؟! لا علاج لمرضى الروحي ومضايقات الأعداء لي إلا الصلاة والالتجاء إلى الرب المخلص.
“الذين جازوني عوض الخيرات شرورًا،
محلوا بي (قاوموني) لأني كنت أُحاضر نحو العدل” [19].
عدو الخير شرير بطبعه يقابل حتى الخير بالشر، لأنه يبغض الحق، ولا يطيق الخير، لا عمل له إلا مقاومة من يتبع العدل والصلاح. يصرخ المرتل في موضع آخر، قائلاً: “وبدلاً من أن يحبوني سعوا بي، وأنا كنت أصلي، وقرروا عليّ شرورًا بدل الخيرات، وبغضًا بدل حبي” (مز 109: 4-5). هذا هو نصيب مُحب العدل، أن يكون موضع كراهية واضطهاد عدو الخير. وكما قيل عن قايين: “كما كان قايين من الشرير وذبح أخاه؛ ولماذا ذبحه؟ لأن أعماله كانت شريرة، وأعمال أخيه بارة” (1 يو 3: 12).
ما يفعلونه بالأبرار إنما هو امتداد لما صنعوه بواهب الخيرات نفسه، محب البشر، إذ يقول المرتل على لسانه:
“رفضوني أنا الحبيب مثل ميت مرذول،
ومساميرًا جعلوا في جسدي” [20].
قدم حبًا فقدموا له رفضًا كميت مرذول، وعوض خيراته سمروا جسده على خشبة الصليب.
الآن يتحدث المخلص المرفوض باسم كل مؤمنيه أعضاء جسده المشاركين له في آلامه، قائلاً:
“لا تهملني ياربي وإلهي، ولا تتباعد عني.
التفت إلى معونتي يارب خلاصي”.
من يلتصق بالمصلوب لا يعرف اليأس، إذ يرى الرب معين خلاصه، لا يهمله بل يلتفت إليه ليُقيمه.
واضح أن المرتل لم يكن يائسًا وإلا ما كان قد استخدم العبارة الأخيرة في هذا المزمور، التي هي مجمل كل صلاته؛ بينما يطلب الأعداء نفسه، ويعيش في ضيقة عظيمة إذا بالله يستقبله ويقيمه من جديد.
قد تبدو الظروف الظاهرة كلها ضدنا، لكن الله قادر أن يغيَّر ما هو ظاهر[759].
أدّبني بسهام حبك!
v إلهي لقد جَرَحَتْنِي سهام الخطية،
قاحت جراحاتي الداخلية،
فسد جسدي وانهارت نفسي،
انحنت نفسي حتى التراب
أظلمت بصيرتي فلم أقدر بعد على معاينة جلالك!
v أدِّبني يارب بسهام حبك،
ليخترق ابنك الحبيب قلبي كالسهام الناري!
جراحات حبك تشفي جراحات خطاياي!
سهامك تحطم سهام آثامي!
v لتستمع يارب إلى تنهدات قلبي!
لتُنِر يارب عينيّ!
لتدخل إلى حياتي، فقد تركني الأحباء وقاومني الأعداء!
v أنت حبي، أنت مقدّسي،
أنت نور عينيَّ،
أنت القريب إليّ وصديقي الحميم،
أنت مخلص نفسي وجسدي أيضًا!