تفسير المزمور ٣٩ للقمص تادرس يعقوب
المزمور التاسع والثلاثون
الأحداث والزمن
مرثاة شخصية ينشدها إنسان متألم في مستهل حياته، يشعر بثقل الخطية إنه يقف في صمت يتأمل بطلان الحياة الزمنية، مشتاقًا أن يثب قافزًا فوق الزمنيات ليتهيأ للخروج من أرض غربته ليحيا مع الله مخلصه ومقدسه.
يعتقد ثيؤدورت وآخرون أن كُتب بمناسبة تمرد أبشالوم، حيث أدرك داود الملك زوال المجد الزمني وتعرض الإنسان لنكبات لم تكن في مخيلته.
ألزم داود نفسه ألا يتذمر ولا يشتكي أمام أعدائه، بل يفضي بكل هواجسه عن زوال الحياة البشرية وبطلانها أمام الله وحده، إنه غريب على الأرض، أشبه بضيف ينتظر الاستقرار في الأمجاد الأبدية. السؤال المتقد في هذا المزمور هو: لماذا يؤدب الله مخلوقًا ضعيفًا وزائلاً كالإنسان؟
تستخدم الكنيسة الإنجليزية الآيات [4-13] في خدمة دفن الموتى[760].
العنوان:
“لإمام المغنين ليدوثون، مزمور لداود”؛ وجاء في النسخة السبعينية: “لداود في الإنتهاء وعلى يديثون وتسبحة”.
سبق التعليق في مزامير سابقة عن مثل هذا العنوان عدا كلمة “يدوثون Iduthun أو Jedithun“. يرى البعض أنه ليس من دليل كافٍ إنه إيثان المعروف بحكمته (1 مل 4: 31).
أقام داود النبي يدثون وآساف وهيمان قادة لخدمة التسبيح (1 أي 16: 41-42؛ 25: 1-6؛ 2 أي 5: 12؛ 35: 15). وقد خلفه أبناؤه في هذه الخدمة حتى وقت متأخر في أيام نحميا، وهذه بركة خاصة أن يتلمذ القائد أبناءًا له – سواء لهم قرابة جسدية أم لا – يمارسون ذات العمل لحساب ملكوت الله.
سلم النبي داود هذه المرثاة الشخصية ليدوثون ليقوم بتلحينها، كما لحَّن مرثاة أخرى لآساف (مز 77).
يرى القديس أغسطينوس أن اسم “يدثون” يناسب المزمور؛ ففي رأيه يعني “التخطي overleaping“، ويرى بعض الدارسين أنه يعني “يلقي (بحجر…)[761]“.
v من هو هذا الشخص الذي يتخطاهم؟ أو من هم هؤلاء الذين يتخطاهم؟… إذ يوجد أشخاص ملتصقين بالأرض، ينحنون نحو التراب، ويضعون قلوبهم في الأمور الدنيا، ويكمن رجاؤهم في أشياء زائلة، هؤلاء هم الذين يتجاوزهم (أو يتخطاهم المرتل واثبًا فوقهم)…
v ليت يدوثون هذا يأتي إلينا؛ ليته يثب فوق الذين يجدون بهجتهم في الأمور الدنيا، وليتهلل بكلمة الرب ويبتهج بناموس العلي.
القديس أغسطينوس
الإطار العام:
- ضعف الإنسان وزواله [1-6].
أولاً: الصمت الحكيم [1-3].
ثانيًا: زوال الحياة البشرية [4-6].
- الصلاة ومحاسبة النفس [7-13].
أولاً: صلاة من أجل النجاة [7-11].
ثانيًا: توسل لأجل استجابة الصلاة [12-13].
كأن المزمور ينقسم إلى قسمين رئيسيين هما: اكتشاف الإنسان بطلان الحياة الزمنية خارج الله، وأنه لا ملجأ للإنسان الضعيف في غربته إلا الله نفسه.
- ضعف الإنسان وزواله:
أولاً: الصمت الحكيم:
“قلت: إني احفظ طريقي لئلا أخطئ بلساني.
وضعت على فمي حافظًا،
إذ وقف الخاطئ تجاهي” [1].
يرى القديس أمبروسيوس أن المرتل قال في نفسه أي تحدث مع نفسه حينما صمت
مع الأشرار؛ وكأن الصمت الداخلي في حضرة الأشرار يلزم أن يصحبه حديث سرّي مع النفس في حضرة الله، أو حوار مع الله نفسه.
v يعلمنا داود النبي أنه ينبغي علينا أن نتجول كثيرًا في قلوبنا في بيت فسيح، وأن نتجاذب الحديث معها كما مع صديق موثوق فيه. لقد تحدث (المرتل) مع نفسه كما توضح الكلمات: “قلت: إني احفظ طريقي” [1]. أما سليمان ابنه فقال: “اشرب مياهًا من جنبك، ومياهًا جارية من بئرك” (أم 5: 15)، أي اتبع مشورتك الشخصية (النابعة عن تفكير داخلي)، لأن: “المشورة في قلب الرجل مياه عميقة وذو الفطنة يسقيها” (أم 20: 5)[762].
القديس أمبروسيوس
يبدأ المرتل مزموره بقوله: “قلت”، متذكرًا عهدًا سبق أن قطعه مع الله ومع نفسه ألا يفتح فاه في حضرة شرير حتى لا يثيره فيخطئ بلسانه. إنه يخشى الكلام خاصة مع الأشرار، مفضلاً أن يحتمل ضيقته في صمت، متيقنًا أن المنطق لا يقبله الشرير الذي دستوره العنف والظلم. إنه لا يخشى الشرير إنما يخشى سقوطه هو باللسان بكونه عضوًا خطيرًا، يجب معاملته كحيوان مفترس، مكممًا فمه. يعرف المرتل أنه من الصعب تجنب هذه الخطية، خاصة في حضرة الأشرار وإثارتهم لأولاد الله. يقول يعقوب الرسول: “إن كان أحد لا يعثر في الكلام فذاك رجل كامل قادر أن يُلجم كل الجسد أيضًا… وأما اللسان فلا يستطيع أحد من الناس أن يذللـه” (يع 3: 3، 8).
لقد وضع داود النبي ألا يتهم أعداءه أما الأشرار، ولا حتى أن يبرئ نفسه، أو ينطق بارآئه التقوية. إنه يصمت أمامهم ليتكلم مع الله القادر أن يكشف له عن زوال الحياة الزمنية، وعن تدخله لتحقيق عدله الإلهي في الوقت المناسب.
كثيرًا ما يتحدث المرتل عن اللسان وخطورته. فإنه إذ انزلق اللسان ينزلق معه الجسد كله وتنحرف قدماه عن الطريق الملوكي. لهذا يقول المرتل: “قلت إني أحفظ طريقي لئلا أخطئ بلساني”. يقول القديس بطرس: “لأن من أراد أن يحب الحياة ويرى أيامًا صالحة فليكفف لسانه عن الشر وشفتيه أن تتكلما بالمكر” (1 بط 3: 10).
v ليس بدون سبب اللسان موضوع في مكان رطب، وإنما لأنه عرضة للانزلاق.
القديس أغسطينوس
v إن كان لخادم الله غالبًا مثل هذا الحارس للسان، فإنه يُحطم مشورة العدو الشرير للغاية دون تأخير[763].
الأب قيصريوس أسقف آرل
“صَمتُّ واتضعت،
وسكتُّ عن الخير،
فتجدد وجعي،
وحمى قلبي في باطني.
وفي هذيذي تتقد النار” [2-3].
v استمر داود كأبكم متضع؛ استمر صامتًا؛ فلم ينزعج حين دعوه رجل دماء (2 صم 16: 6 الخ)، إذ كان عالمًا برقته. لم تزعجه الاهانات إذ كان عارفًا بالتمام أعماله الصالحة.
v مادم الإنسان يتمتع بضمير صالح يلزمه ألا ينزعج بالكلمات الزائفة، ولا أن يتأثر باساءات الغير بل بالحري بشهادة قلبه له[764].
القديس أمبروسيوس
صمت داود النبي كما لو كان عاجزًا عن الكلام تمامًا، أو كما لو كان أبكمًا. توقف حتى عن تقديم كلمات مقدسة لأن الشرير يقف مقابلة ليقاومه؛ إنه لا يود أن يقدم القدسات للكلاب، ولا أن يضع درره للخنازير (مت 7: 6). سكت عن الخير، أي عن الحديث الإيماني، ليس خوفًا من الشرير، لكن لإدراكه أن الكلام لن يزيده إلا عنفًا. هذا ما جدد وجعه وألهب النار في قلبه؛ وكما يقول القديس بولس عن خاصته التي ترفض الإيمان: “إن لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع، فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد” (رو 9: 2-3).
توقف المرتل عن الحديث مع العدو المقاوم له، لكنه صار يهَّذ في داخله فاتقد قلبه في صراع بين صمته كي لا يخطئ ولا يزداد الشرير شرًا، وبين حنين داخلي للشهادة لعمل الله الخلاصي وحبه لخلاص كل بشر.
v لأن هذا الشخص الذي “يتخطى overleaping” يُعاني من صعوبة في مرحلة ما قد بلغها ويريد أن يتخطاها، لهذا يقول: صمت، التزمت بالصمت لأني خشيت أن أرتكب إثمًا، امتنعت عن أن أنطق بخير، وأدنت تصميمي على أن أصمت صمتًا وأسكت عن الخير…
بقدر ما وجدت في الصمت راحة من حزنٍ ما، كان قد تحرك في داخلي من نحو أُولئك الذين قاموا بتفاهة كلماتي ونسبوا إليها خطأ، فتوقف هذا الحزن تمامًا، إلا أنني إذ سكتُّ عن الخير تحرك فيّ وجعي من جديد، فبدأت أحزن بالأكثر لأنني أحجمت عن النطق بما كان يجدر بي قوله؛ حزنت أكثر من الحزن الذي كان لي قبلاً.
القديس أغسطينوس
ألهب صمته نار قلبه أولاً لأنه يحب حتى مقاوميه ويطلب خلاصهم، فصار في صراع بين صمته عن الخير ورغبته في الحديث معهم؛ ومن جانب آخر صمته ولّد فيه بالأكثر حب الله، فانفتح قلبه كما لسانه للحديث مع الله. كلما ازدادت أحزانه شعر بالأكثر بالحاجة إلى الصلاة لله. فمن خلال الألم نكتشف صحبة مسيحنا القائم من الأموات لنا، يتحدث معنا بعد صمت الصليب الرهيب، وصمت القبر، فنقول مع تلميذي عمواس: “ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟!” (لو 24: 32).
ليس كل صمت يدخل بنا إلى اللقاء مع القائم من الأموات والتمتع بحديثه الناري، إنما الصمت الحكيم الحامل في الداخل حبًا حتى للمقاومين، وشوقًا صادقًا لخلاصهم، ولو كان ثمنه حياتنا الزمنية كلها. من يشارك السيد المسيح صمته العامل بالحب، صمت الصليب، يختبر قوة قيامته.
ثانيًا: زوال الحياة البشرية:
إذ صمت لسان المرتل عن أن ينطق بكلمة مع الشرير المقاوم له تكلم قلبه مع إلهه، ودخل في حوار حتى مع نفسه، فاكتشف وسط آلامه حقيقة الحياة البشرية، من جهة ضعفها وقصرها… هذه الحقيقة يعرفها كل بشر، لكن شتان بين المعرفة العقلانية البحتة وبين قبوله كلإعلان إلهي فعّال في أعماقه الداخلية، لذا يصرخ المرتل، قائلاً:
“عرفني يارب نهايتي،
وعدد أيامي كم هي،
لكيما أعلم ماذا يعوزني” [4].
إن قدرًا كبيرًا من الحكمة يقوم على تذكر أن حياتنا على الأرض أشبه بالخيال، وأن أعظم الأعمال إن لم تهيئنا للعالم الأفضل الأبدي هي أدنى بكثير من اشتياقات الإنسان التقي. لذا كثيرًا ما يكرر الكتاب المقدس قصر الحياة الزمنية، فيقول الرسول بولس: “الوقت مقصر” (1 كو 7: 29) كحقيقة هامة تمس إيماننا الحيّ وكياننا الأبدي. هنا لا يطلب المرتل داود أن يعلن له الله عن زمان انتقاله بل أن يمنحه تذكرًا دائمًا ومعرفة وتقديرًا حسنًا لقصر أيام غربته ليصير إنسانًا أفضل وأكثر حكمة[765].
يرى القديس أمبروسيوس أن المرتل هنا يتعجل نهاية حياته الزمنية طالبًا نهاية الوعد الإلهي ليرى وضعه الأبدي، حين يقوم كل واحد في رتبته؛ المسيح باكورة، ثم الذين للمسيح في مجيئه (1 كو 15: 3) [766].
v “عرفني يارب نهايتي”؛ فإننا لا نبقى هنا حيث التجارب والضيقات، إذ يلزمنا أن نحتمل اناسًا ينصتون إلينا ويقاوموننا لأتفه الأسباب. “عرفني نهايتي”، تلك التي لم أدركها بعد (الموت)، لا حقبة الحياة (الزمنية) التي هي بالفعل قدامي.
v النهاية التي يتحدث عنها هي تلك التي ثبّت الرسول عينيه عليها في حقبة حياته، معترفًا بضعفه، مدركًا في نفسه التغيّر في الأمور التي رأها قبلاً (ربما يعني أنه مع كل نمو جديد في الروحيات يدرك النهاية بمنظار أعمق وأكثر جلاءً). يقول: “ليس لأني قد نلت أو صرت كاملاً، لكن أيها الاخوة أنا لست أحسب نفسي إني قد أدركت” (راجع في 3: 12-13).
القديس أغسطينوس
لنعرف حقيقة نهاية حياتنا حتى نتهيأ ببداية متجددة كل يوم، إذ نصلي مع كل صباح: “لنبدأ بدأ حسنًا”. ادراكنا سرعة مجيء نهاية زماننا الأرضي، وأيضًا تعرّفنا على النهاية السعيدة التي فيها تتحقق كل وعود الله لنا بالأمجاد يدفعنا إلى البدايات المتجددة الملتهبة بالروح غير المستسلمة باليأس للآلام والضيقات.
v ربما كانت المعرفة التي يُصلي لأجلها المرتل، قائلاً: “عرفني عدد أيامي كم هي؟” ضرورية جدًا، مع هذا فإنني أود أن تُستعلن لي أيضًا بدايتي[767].
القديس جيروم
“وعدد أيام كم هي” [4]. لم يطلب المرتل أن يعرف ليالي حياته بل أيام حياته، إذ ليس للمؤمن التقي من ليالٍ في حياته بل كلها نهار مضيئ بشمس البر المشرق عليه. مع ما يُعاينه من ضيقات وآلام حتى لتبدو حياته مظلمة لكن شركته مع السيد المسيح نور العالم لا تعطى للظلمة موضعًا في قلبه. “وأما أنتم أيها الإخوة فلستم في ظلمة… جميعكم أبناء نهار؛ لسنا من ليلٍ ولا من ظلمة” (1 تس 5: 5).
يرى القديس أغسطينوي أن المؤمن يُريد أن يعرف أيام حياته التي يعيشها في الرب، هذه التي تدخل به إلى اليوم الأبدي، حيث “نثبت فيه وهو فينا”، أما الأيام التي بلا شركة معه فقد ضاعت من عمرنا ولا تُحصى كحياة. الأيام التي نتحد فيها مع الله القائل عن نفسه إنه “أهيه الذي أهيه” (خر 3: 14) أي الكائن الذي هو كائن، هي أيام لها كيانها ومحسوبة في عينيه، ننمو فيها وننضج؛ أما الأيام التي نسقط فيها في الخطية فتحسب باطلة حيث نتحد مع فساد الخطية وبطلانها، تمر علينا وكأنها غير كائنة، بل وتفقدنا الأيام الحقيقة.
v إنه يسأل بخصوص عدد أيامه كم هي؛ ولا يسأل عن أيام غيره موجودة… إذ هي موجودة وغير موجودة في نفس الوقت. لا نقدر أن نقول عنها إنها موجودة وهي غير مستمرة؛ ولا أن نقول إنها غير موجود إذ جاءت وعبرت.
القديس أغسطينوس
يكمل المرتل قائلاً: “ليكما أعلم ماذا يعوزني” [4].
v لأنني بينما أنا أُجاهد هنا، فإن هذا هو ما يعوزني ( الجهاد المستمر لأجل بلوغ النهاية). وطالما أنا في عوزٍ لا أدعو نفسي كاملاً. وما دامت لم أنله بعد فإنني أقول: “ليس إني قد نلت أو صرت كاملاً، ولكني… أسعى نحو الغرض لأجل جعالة الله العليا” (في 3: 12-14). هب لي أن أنالها كمكافأة لبلوغي نهاية السباق. هناك ثمة موضع للراحة، وفي موضع الراحة هذا ستوجد مدينة، حيث لا تغَرّب ولا نزاع ولا تجارب. عرفني إذًا “عدد أيامي ما هي لكيما أعلم ماذا يعوزني” فإنني مازالت أنا هنا، لئلا أفتخر بما أنا عليه فعلاً، حتى أوجد دائمًا فيه (في المسيح) ولا يكون لي بري الذاتي…
القديس أغسطينوس
مادمت أنا على الأرض، فلأعرف تلك الأيام التي يشرق فيها شمس البر عليّ فتُحسب لي، ولا يكون فيّ ظلمة وليل، بهذه الأيام المقدسة أعلم ما يعوزني، ألا وهو أن أبلغ الكمال وأتمتع بكمال رؤية الله، وشركة أمجاده… هذا هو ما يعوزني أثناء جهادي ونموي في المسيح يسوع شمس البر، الذي يحوّل حياتي إلى نهار بلا ليل.
يرى العلامة أوريجانوس أن أوضاعًا كثيرة عجيبة نشهدها في يوم الرب العظيم؛ بعض الشيوخ يظهرون كأطفال صغار، عدد أيام حياتهم الحقيقية قليلة إذ فقدوا الكثير بحرمانهم العملي من الشركة الحية مع المسيح، بينما نرى أطفالاً يظهرون كمتقدمي الأيام لتمتعهم بالشركة مع الرب. القديس يوحنا المعمدان كان متقدمًا في الأيام وهو بعد جنين في أحشاء أمه أليصابات إذ أشرق الرب عليه فنشهد له مرتكضًا بابتهاج في بطن القديسة أليصابات، بينما شيوخ اليهود فقدوا أيامهم إذ وهم حافظوا النبوات وعارفون بها حكموا على البار وأسلموه للموت!
إذ صرخ المرتل داود إلى الله لكي يخبره ماذا يعوزه، صار يشكو له مرضه، ألا وهو أن أيامه صارت بالية، ودبَّت به الشيخوخة والبلاء.
“هوذا قد جعلت أيامي بالية
وقوامي كلا شيء أمامك” [5].
v لأن تلك الأيام هي أيام “قِدَم”، أما أنا فأتوق إلى أيام جديدة لا تشيخ أبدًا، لكي أقول: “الأشياء العتيقة قد مضت؛ هوذا الكل قد صار جديدًا” (2 كو 5: 17)، صار جديدًا بالفعل في الرجاء ثم في الواقع.
اعلموا أن آدم قد “شاخ” فينا، وأن المسيح قد “تجدّد” في داخلنا. إنساننا الخارجي يفني والداخل يتجدد يومًا فيومًا (2 كو 4: 16). لذلك إذ نُثبّت أفكارنا على الخطية، وعلى الموت، وعلى الزمن الذي يباى سريعًا، وعلى الحزن والتعب والعمل، وعلى مراحل العمر المتعاقبة التي تعبر وتمضي تدريجيًا من الطفولة حتى الشيخوخة، أقول إذ نُثبّت أنظارنا على تملّك الأشياء نرى هنا “الإنسان العتيق”، اليوم الذي يشيخ، الأغنية التي عبر موعدها، العهد القديم. لكن إذ نلتفت نحو الإنسان الداخلي، إلى تلك الأمور التي تتجدد عوض التي تتغير، ونجد “الإنسان الجديد” و “اليوم الجديد” و “الأغنية الجديدة” و “العهد الجديد” وهذه “الجِدَّة” (في الحياة). لنحب مثل هذه (الجِدَّة) فلا نخاف الشيخوخة…
مثل هذا الإنسان الذي يسعى نحو الأشياء الجديدة متخطيًا الأمور التي مضت يقول: “عرّفني يارب نهايتي، وعدد أيامي كم هي، ليكما أعلم ماذا يعوزني” [4]. تأملوا كيف وهو ما يزال يسحب معه آدم يُسرع الخطى نحو المسيح.
القديس أغسطينوس
اكتشاف المرتل بلاء أيامه جعله يسرع نحو تخطي أو الوثب على القِدَم ليتمتع بالحياة الجديدة التي في المسيح يسوع، والدائمة التجديد بروحه القدوس، فلا تصيبها شيخوخة ما حتى يلتقي باليوم الأخير الذي لا ليل فيه، ولا بلاء أو شيخوخة ضعت!
هكذا يكتشف المرتل أن أيامه بالية، وقوامه (جوهره) كلا شيء أمام الله [5]؛ كخيال يتمشى في العالم إلى حين، ليخرج منه ولا يعلم لمن يترك ما قد جمعه أو خزنه.
“بل أن كل الأشياء باطلة،
ولكل إنسان حيّ؛
لأنه بالشبه (كخيال) يسلك الإنسان.
بل باطلاً يضطرب،
يُخزن ولا يدري لمن يجمعه” [5-6].
v حقًا ماذا كان يقول قبلاً؟ أنظر فقد تخطيت أو وثبت على كل الأشياء المائتة الزائلة، واحتقرت الأمور الدنيا، ووطأت بقدمي كل الأرضيات، وحلّقت فوق حيث مباهج ناموس الرب. لقد طفت في تدبير الرب واشتقت إلى تلك “النهاية” التي هي ذاتها بلا نهاية. اشتقت إلى تلك الأيام التي لها كيان حقيقي ووجود صادق، إذ توجد أيام أخرى لا وجود حقيقي لها. هأنذا قد صرت واحدًا يثب فعلاً بقوة، مشتاقًا إلى الباقيات… لكن حقًا مادمت أنا في هذا العالم، إذ أحمل جسدًا مائتًا، وطالما أن حياة الإنسان على الأرض هي تعب ومشقة، مادُمت أتأوه وأئن من منغصات هذا الوجود، مادمت أنا هكذا فإنني كلما كنت قائمًا أخشى لئلا أسقط، وطالما خيري وشري في عدم يقين، فإنه إنما “كل إنسان حيّ كله باطل (خيال)”.
القديس أغسطينوس
v أخبروني، هل إذ طارد إنسان الريح أو حاول الامساك به ألا نقول عنه إنه مجنون؟ أيضًا إذ حاول إنسان أن يمسك ظلاً ويهمل الواقع، إن أبغض إنسان زوجته وعانق ظلها، أو نفر من ابنه وأحب خياله، فهل تحتاجون إلى دليل أوضح من هذا على عتهه؟ هكذا أيضًا الذين يسعون في طمع إلى الأمور الحاضرة، لأن جميعها إنما هي خيال؛ نعم، سواء أكان المجد أو القوة أو الحياة الرغدة أو الثورة أو الرفاهية أو أي شيء آخر في هذه الحياة. بحق قال النبي: “إنما كخيال (كشبه) يسلك الإنسان، بل باطلاً يضطرب” وأيضًا يقول: “مالت أيامي كظل” (مز 102: 11). وفي موضوع آخر يدعو الأمور البشرية داخانًا وعشبًا يابسًا[768].
القديس يوحنا الذهبي الفم
هنا يتحدث المرتل على الغنى والثروات التي تُجمع ظلمًا والتي يُساء استخدامها.
v الثروات باطلة إذا ما اُنفقت على الرفاهية، لكنها تكف عن أن تكون باطلة إذا ما وُزعت على المعوزين[769].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- الصلاة ومحاسبة النفس:
أولاً: صلاة من أجل النجاة:
تعتبر الصلاة الواردة هنا من أروع وأعمق الصلوات. فإنه إذ يكتشف الإنسان بطلان الحياة الزمنية مشتاقًا أن يتخطاها ليبلغ اليوم الذي بلا ليل، والواقع الذي لا خيال فيه، يضع كل رجائه في الرب القادر وحده أن يخلصه من العدو الداخلي أي الخطية أو فساد طبيعته ومن الأعداء الخارجيين كحربه مع إبليس والشر الخارجي بروح التقوى، معلنًا استعداده التام للخضوع لله الخالق والمخلص والطبيب، كي يُعالجه بكل الأدوية مهما بلغت مرارتها.
“والآن من هو انتظاري؟ أليس الرب؟
وقوامي من قبله هو” [7].
الآن يضع يديثون – أي الذي يتخطى الزمن – رجاءه كله في الرب، فلا يحطمه الزمن وبطلان الحياة الأرضية، منتظرًا مجيء الرب الذي وضع فيه كل ثقته وكل حبه، يخدمه لا طمعًا في خيرات زمنية بل في واهب العطايا نفسه.
v “والآن”، يقول يديثون هذا “من هو انتظاري؟ أليس الرب؟”. هو انتظاري، ذاك الذي يهبتني كل شيء فأستخف به. يهبني ذاته، هذا الذي هو فوق الكل، الذي “به كل الأشياء قد خُلقت”، به أنا أيضًا قد خُلقت بين هذه الأشياء، والرب نفسه في انتظاري!
هل رأيتم يديثون هذا أيها الإخوة؟ هل رأيتهم كيف ينتظر الرب؟ إذن لا يدعو أحد نفسه كاملاً هنا، وإلا يكون قد خدع نفسه وغشها وضللها ومادام لا يمكن أن يكون كاملاً ههنا، فماذا ينتفع الإنسان إن خسر اتضاعه؟
القديس أغسطينوس
إذ يضع رجاءه في الرب يثق فيه كغافر الخطايا، معلنًا قبوله التأديب حتى إن سمح الرب له أن يكون موضع تعييرات الأشرار، إذ يقول:
“طهرني من جميع آثامي،
جعلتني عارًا للجاهل” [8].
يعترف المرتل أن خطيته جعلته موضع سخرية الجاهل وتوبيخه، لقد بكى متضرعًا لا أن يرد له كرامته أمام الجهلاء والأشرار إنما أن يُطهره من جميع آثامه حتى يعبر هذه الحياة الزمنية إلى القدوس في حياة طاهرة مقدسة في الرب.
حقًا، لقد شعر المرتل في ضعفه البشري بمرارة التأديبات الإلهية فطلب أن ينزع عنه هذه السياط، لقد ثقلت يدّ الله عليه حتى شعر كأنه قد فنى. لقد صمت ولم يتكلم مع الجاهل المقاوم له، ليتحدث مع خالقه:
“صممتُّ ولم أفتح فمي لأنك أنت صنعتني.
انزع عني سياطك،
لأني قد فنيت من قوة يدك”.
v لأحتمي من الجاهل صرت أبكمًا لم أفتح فمي، لأنه لمن أُخبر عما يجري في داخلي؟ فإنني أنصتُّ إلى قول الله الرب لي في داخلي، “فإنه يتحدث بالسلام مع شعبه” (مز 85: 8).
القديس أغسطينوس
صمت المرتل مع الجاهل، أما مع الرب فدخل في توسل يطلب الرحمة. وهو يعني بالصت أيضًا أنه ليس لديه ما يدافع به عن نفسه أمام خالقه، فقد صمت عن تبرير ذاته، إنما يفتح فاه مترجيًا رأفاته.
تضرع القديس بولس ثلاث مرات لكي يرفع الله عنه شوكة المرض، فكانت الإجابة: “تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل” (2 كو 12: 9). وإذ اختبر الرسول نعمة الله وبركة الضيقات قال: “فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحلّ عليّ قوة المسيح، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي” (2 كو 12: 9-10).
“أدبت الإنسان بالتوبيخات من أجل الإثم،
وأذبلت مثل العنكبوت نفسه.
بل باطلاً اضطرب كل إنسان” [11].
ليُجددني ذاك الذي خلقني. ليُعد خلقتي من جديد… هذه هي أول هبة لنعمة الله، أن يجعلنا نعترف بتقصيرنا، حتى أننا مهماصنعنا من خير، ومهما توفرت لنا من قدرة، إنما يتحقق ذلك فينا: “من افتخر فليفتخر بالرب” (1 كو 1: 31)، و “حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي” (2 كو 12: 10).
القديس أغسطينوس
خلال تأديبات الله بسبب الإثم يدرك المؤمن أن حياته أشبه بنسيج العنكبوت، وأنه باطلاً يضطرب لأجل الزمنيات.
v حقًا “باطلاً اضطرب كل حيّ”. لأن القلق من أجل هذه الأمور هو بحق أمور مزعج ومتعب للغاية. لكن ليس الأمر هكذا في المواضع السماوية. هنا إنسان يتعب وآخر يتمتع، أما هناك فينال كل واحد حصاد تعبه، ينال مكافأةً مضاعفة[770].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ثانيًا: توسل لأجل استجابة الصلاة:
يختتم المرتل المزمور بتوسل إلى الله كي يستجيب صلاته السابقة، مقدمًا هذا التوسل مشفوعًا بدموعه التي لا تجف، وباعترافه بتغربه واشتياقه إلى اجتياز العالم كأرض غربة متمتعًا بغفران خطاياه.
“استمع صلاتي وتضرعي،
وانصت إلى دموعي ولا تسكت عني” [12].
بدأ الصلاة، وإذ تشتدت الضيقة امتلأ قلبه تنهدات فصرخات، وأخيرًا صارت دموعه تتحدث بلغة يعجز اللسان أن ينطق بها.
“لأني أنا غريب على الأرض
ومجتاز مثل جميع آبائي
اغفر لي لكيما أستريح قبل أن أذهب فلا أُوجد أيضًا” [13].
v كان القديسون غرباء ونزلاء في هذا العالم… عاش إبراهيم في كل أموره ينتمي للمدينة الباقية. لقد أظهر كرمًا ومحبة أخوية ورحمة وطول أناة، وزهدًا في الثروة وفي المجد الزمني وفي كل شيء.
v لنكن غرباء كي لا يخجل الله من أن يُدعى إلهنا، لأنه من الخزي لإلهنا أن يُدعى إله الأشرار! إنه يخجل من الأشرار، ويتمجد إذا ما دُعي إله الأبرار والرحماء والنامين في الفضيلة[771].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v أنظروا كيف صار داود موضع عجب، إذ تطلع إلى أسلافه الذين عُرفوا بالفضيلة: “لأني أنا غريب على الأرض ومجتاز مثل جميع آبائي”[772].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v هكذا أسرع داود إلى الرحيل من هذا الموضع كنزيل، قائلاً: “أنا هارب أمامك على الأرض، ومجتاز مثل جميع آبائي”. كنزيل كان مسرعًا إلى وطن كل القديسين؛ أما بالنسبة للدنس الذي يلحق به في سكناه هنا فيطلب عنه المغفرة قبل رحيله من هذه الحياة فمن لا ينال غفران خطاياه هنا لا ينال الحياة الأبدية، لأن الحياة الأبدية هي غفران للخطايا، لذلك يقول: “أغفر لي لكيما أستريح قبل أن أذهب فلا أوجد أيضًا”[773].
القديس أمبروسيوس
v حررني من خطاياي قبل أن أرحل حتى لا أذهب بآثامي. إنه يشير إلى مجال البركة، إلى المدينة السعيدة، إلى البيت السعيد، حيث القديسون شركاء الحياة الأبدية، شركاء الحق الذي لا يتغير.
القديس أغسطينوس
دربني كيف أتخطى الأحداث
v علمني يارب كيف أصمت أمام الجهال،
فأتحدث معك في أعماقي!
v أنت بحبك سيّجت حولي بالأشواك،
وأقمت حائطًا في طريقي (هو 2: 6)،
أغلقت الأبواب أمامي بالأشرار الذين يتهموني ظلمًا.
لأرجع إليك وأعترف لك بآثامي!
لأنسى الجهال الأشرار وأذكُر أنك بهم تؤدبني.
v دربني كيف أتخطى الأحداث والزمن،
أتخطى مضايقات الأشرار واتهاماتهم الباطلة،
فلا أحاورهم ولا أبرئ نفسي أمامهم!
أتخطى طبيعة الفساد فأحيا الحياة الجديدة المقامة،
أغلب كل شهوة وأثب حتى على احتياجات الجسد.
أتخطى الزمن والزمنيات فأُعاين السماء وربها!
روحك القدوس هو وحده يحملني كما بجناحي حمامة،
يرفعني فأطير ولا أتمرغ في حماة الخطية!
نعمتك هي سندي!