تفسير سفر العدد ١٣ للقمص تادرس يعقوب


الأصحاح الثالث عشر

التجسس على كنعان

إذا كان الشعب دائم التذمر مشتهيًا العودة إلى أرض العبوديّة من أجل كرَّاتها وبصلها وبطيخها الخ… أراد أن يكشف لهم عن نوعيّة ثمار الأرض الجديدة التي وعدهم بها حتى يسحب قلبهم إليها دون أن ترتد إلى أرض العبوديّة.

  1. اختيار الرجال                                 1-16.
  2. التعليمات الصادرة إليهم                        17-20.
  3. تحركاتهم                                      21-25.
  4. تقريرهم                                       26-33.
  5. اختيار الرجال:

ثم كلم الرب موسى قائلاً: ارسل رجالاً ليتجسسوا أرض كنعان التي أنا معطيها لبني إسرائيل. رجلاً واحدًا لكل سبط من آبائه ترسلون. كل واحد رئيس فيهم” [1-2].

إن كان الله قد أمر موسى بإرسال رجال ليتكشفوا الأرض بأنفسهم، فقد جاء هذا الأمر بناء على طلب الشعب نفسه، إذ يقول موسى النبي: “تقدمتم إليَّ جميعكم وقلتم دعنا نرسل رجالاً قدامنا ليتجسسوا لنا الأرض، ويردوا إلينا خبرًا عن الطريق التي نصعد فيها والمدن التي نأتي إليها، فحسن الكلام لديَّ” (تث 1: 22-23). كان يلزم للشعب أن يسلك بالإيمان لا بالعيان، لكن من أجل ضعفهم استجاب الرب طلبتهم ونفذ موسى الأمر كطلب الرب نفسه. وقد لاحظ القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص أن هذا الأمر قد تم بعد أن سقط الشعب في تجربة النهم والاشتياق إلى أطعمة العبوديّة من لحم وكرَّات وبصل… الخ، فأراد الله أن يتذوق بعض رؤسائهم أطعمة مواعيد الله. يقول القدِّيس: [موسى بنفسه المرتفعة فوق مثل هذه الشهوة (للحم) قد تكرَّس تمامًا للتمتع بالميراث الذي وعد الله به للذين يخرجون من مصر ( بالمفهوم الروحي لا الحرفي، أي الذين يتركون محبة العالم)، ويجعلون طريقهم نحو الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، لهذا أقام بعض الجواسيس ليصيروا معلمين عن الأمور الجميلة التي لهذه الأرض[76]].

اختار موسى اثني عشر من رؤساء الشعب ليذوقوا ثمر الأرض فيقدرون أن يشهدوا لإخوتهم مقدِّمين عربونًا للبركات الممنوحة لهم من قبل الله، إذ يليق بالمعلمين لا أن يقدموا فلسفات ومعتقدات نظرية وكلمات بلا خبرة، بل يقدمون للشعب من خيرات الله الداخليّة التي تذوقوها فعلاً وعمليًا.

كان بين الرجال اثنان ممتازان هما هوشع الذي دُعي يشوع (ع 8: 16)، وكالب بن يفنة (ع 6). دعى موسى هوشع يشوع، لأن هوشع تعني صلاة: “خلّص”، أما يشوع فتعني “مخلص”، وكأن موسى باختياره هوشع أدرك أن الصلاة الخاصة بإتمام الخلاص قد تحققت رمزيًا لهذا دعاه يشوع أي “يسوع” الذي هو المخلص الحقيقي. وكما يقول القدِّيس ﭽيروم: [لا يدعى هوشع بل يسوع أي مخلص. حقًا إنه مخلص، إذ يخلصنا ويقودنا من البريّة إلى أرض الموعد[77]]. ويقول العلامة ترتليان: [هنا يوجد رمز للأمور المقبلة، فإنه إذ يسوع المسيح هو الذي يدخل الشعب الثاني- الذي يتكون منا نحن الأمم الذين كنا في حالة تيه في بريّة العالم زمانًا- إلى أرض الموعد التي تفيض لبنًا وعسلاً (خر 3: 8)، بنوالنا الحياة الأبديّة التي ليس شيء أحلى منها. لم يتم هذا خلال الناموس أي خلال التدبير الشريعي، إنما بيسوع، أي بنعمة الناموس الجديد بعد أن نختن بسكين من الصخرة أي وصايا المسيح، إذ يرمز للمسيح بالصخرة في أماكن كثيرة[78] (1 كو 10: 14)].

ويُعلِّق القدِّيس أغسطينوس على تغيير اسم هوشع قائلاً: [لماذا أعطاه هذا الاسم عندما أرسله من وادي فاران إلى الأرض التي سيقود الشعب إليها؟ لأن يسوع الحقيقي يقول “وأنا إن مضيت وأعددت لكم مكانًا آتي وآخذكم إليًّ[79]” (يو 14: 3)].

أما “كالب” فاسمه يعني “قلب”، أي يعمل العمل بكل قلبه في إخلاص بلا خوف، واثقًا في إمكانية الله المُقدَّمة لنا للغلبة والنصرة حتى نتمتع بمواعيده. يُعلِّق العلامة أوريجينوس على هذا الأمر بقوله: [يتحدث يسوع عن الذين يتبعونه بإخلاص “ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو” (لو 10: 19). يريد أن يصنع معجزات! يريد أن يقهر الجبابرة بالجراد، فيهب الغلبة على أجناد الشر الروحيّة في السمويات بواسطة سكان الأرض[80] (أف 6: 12)].

ارتبط يشوع بكالب في الدخول إلى أرض الموعد، فإن كان يسوع- رب المجد- هو قائدنا في دخولنا إلى أرض الموعد فإنه لا دخول لنا إليها ما لم يكن قلبنا (كالب) جادًا ومخلصًا في الدخول. ارتباط يشوع بكالب هو التحام بالعمل الإلهي المجاني بالإرادة البشريّة الحرّة التي تقبل العمل في الأعماق الداخليّة.

  1. التعليمات الصادرة إليهم:

يمكننا تلخيص التعليمات الصادرة إلى هؤلاء الرجال في كلمتين هما “اصعدوا… تشددوا” (ع 17، 20).

أولاً: “اصعدوا من هنا… واطلعوا الجبل” [17]، ومن خلال الجبل ينظرون الأرض والساكنين فيها. هكذا يليق بالمعلمين لكي يشهدوا للحق أن يتذوقوه بصعودهم من هنا بقلوبهم وارتفاعهم على جبل الوصيّة الإلهيّة فتُحلِّق نفوسهم في السمويات، وتنفتح بصيرتهم الداخليّة على الأرض الجديدة وسكانها وأمجادها. بهذا يختبرون عربون الميراث الأبدي فيقدموا لرعيتهم من الخيرات التي نظروها واختبروها بأنفسهم. حقًا إن بقي الراعي مغموسًا مع رعيته في الاهتمامات الأرضيّة والمطالب اليوميّة ولم يرتفع على الجبل، كيف يقدر أن يسحب قلوب شعب الله نحو المرتفعات العالية ويقدِّم لهم الأبديات؟

لعله لهذا السبب لم يسمح الله للكهنة واللاويّين في العهد القديم أن يكون لهم نصيب مع إخوتهم في الأرض حتى يكون هو نفسه نصيبهم، فلا يرتبكون في الإداريات والماديات بل ينشغلون بالله وحده. أقول في مرارة ما أصعب على الله أن يرتبك الكهنة بالأمور الماديّة حتى وإن كانت خاصة بالكنيسة. إنه ينبغي عليهم أن يمتثلوا بالرسل الذين تركوا خدمة الموائد للشمامسة ليتفرغوا هم للصلاة وخدمة الكلمة (أع 6: 1-4).

ثانيًا: “تشدَّدوا فخذوا من ثمر الأرض” [20]… لا يقف الأمر عند الصعود بل ينبغي أن يتشدد قلب المعلم بقوة واثقًا برجاء في تحقيق وعود الله، متذوقًا بنفسه عطيّة الله له، مؤمنًا بالله القادر أن يهب البشريّة هذه العطيّة. ليس شيء يحطم الخدمة مثل دخول روح اليأس في حياة المعلمين من جهة أنفسهم أو رعيتهم. فإنه يليق بنا أن نرى يدّ الله القويّة القادرة على رفع كل البشريّة نحو مواعيده المقدَّسة. وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [يجب على الراعي أن يكون نبيلاً، لا يخور عزمه ولا ييأس من خلاص الضالين من القطيع، بل دائمًا يباحث نفسه قائلاً: “عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق، فيستفيقوا من فخ إبليس[81]” (2 تي 2: 25)].

  1. تحركاتهم:

صعد الرجال “من بريّة صين إلى رحوب في مدخل حماة” [21]، ثم “صعدوا إلى الجنوب وأتوا إلى حبرون، وكان هناك أخيمان وشيشاي وتلماي بنو عناق… وأتوا إلى أشكول وقطعوا من هناك زرجونة بعنقود واحد من العنب وحملوه بالدقرانة بين اثنين مع شيء من الرمان والتبن” [22-23].

كانت تحركات الرجال هكذا:

أ. صعدوا من بريّة صين، وهي منطقة صحراويّة تقع في الحدود الجنوبيّة لكنعان (عد 34: 3-4) ويهوذا (يش 15: 1) تحوي داخلها قادش ومريبة[82] (عد 20: 1، 27: 14، 33: 36، تث 32: 51) وعلى حدود آدوم غربًا، وهي إما تمثل جزءًا من بريّة فاران أو على حدودها عند قادش[83].

يلزمنا ألاَّ نخلط بين بريّة صين Zin التي تعني- عند العلامة أوريجينوس– عليقة أو تجربة وبين بريّة سين Sin والتي يرى أيضًا أنها تعني تجربة. غير أن البعض يرى الأخيرة قد أخذت اسمها عن إله القمر سين. وهي حاليًا في الغالب دبة الرملة، عبارة عن كومة رمال عند سفح جبل التيه في الجنوب. في هذه البريّة أنزل الله المن للمرة الأولى للشعب حيث بلغوا إليها بعد عبور البحر الأحمر من إيليم (خر 16: 1) إلى رفيديم.

ب. رحوب: اسم عبري معناه “مكان رحب أو متسع”. وهي مدينة أراميّة تقترب من الحدود الشمالية لكنعان. وفيها دارت الحرب بين رجال داود والعمونيّين (2 صم 10: 8) حيث كانت تُدعى “بيت رحوب”.

أما قوله “في مدخل حماة“، فإن حماة هي بعينها المدينة الحالية التي تسمى حماة، تقع حوالي 130 ميل شمال دمشق وحوالي 30 ميل شمال حمص. يرى البعض قوله “في مدخل” يعني عند الطريق المؤدي إلى حماة ربما يكون الوادي الطويل الذي يقع بين سلسلتي جبال لبنان الغربيّة والشرقيّة والذي فيه يمتد الطريق إلى حماة.

ج. حبرون: اسم عبري يعني “صحبة أو رباط”، كانت تسمى قديمًا “قرية أربع” (تك 23: 2)، كانت تبع يهوذا (يش 15: 48، 54). بنيت سبع سنوات قبل صوعن (تانيس) في مصر، المدينة التي تمت فيها المفاوضات بين موسى وفرعون (مز 78: 12، 43).

كانت حبرون قائمة على الأقل في أيام إبراهيم إذ سكنها بجوارها تحت بلوطات ممرا بعض الوقت (تك 13: 18، 35: 27) هناك ماتت سارة، واشترى إبراهيم مغارة المكفيلة لتكون قبرًا، اشتراها من بني حث (تك 23: 2-20). فيها أيضًا تغرَّب إسحق ويعقوب زمانًا (تك 35: 27، 37: 14). في أيام يشوع بن نون كان ملكها هوهام الذي تحالف هو وملوك يرموت ولخيش وعجلون مع أدوني صادق ملك أورشليم ضد يشوع الذي غلبهم وقتلهم (يش 10). لكن عاد بعض الهاربين وأعادوا بناءها، فوجد فيها من سكانها بعد غزو كنعان (يش 14: 12). طالب كالب بها (قض 1: 10، 19-20)، وأُعطيت للكهنة كإحدى مدن الملجأ (يش 20: 7، 21: 10-13، 1 أي 6: 54-57). كانت حبرون أول كرسي لداود في بدء حكمه، حيث ملك فيها سبع سنوات ونصف (2 صم 1: 1-3، 11: 32، 5: 1-5). وفيها دفن أبنير (2 صم 3: 32)، وفيها عصى أبشالوم أباه (2 صم 15: 7-10). حصنها رحبعام 2 أي 11: 2، 5). وقعت أثناء السبي في يدي بني أدوم، واسترجعها يهوذا المكابي (1 مك 5: 65). أحرقها الرومان عام 68 م.

حاليًا تسمى مدينة الخليل نسبة إلى إبراهيم خليل الله (يع 2: 23)، تعلو 3040 قدمًا فوق البحر، على بعد 19 ميل جنوب غرب أورشليم و5, 13 ميل جنوب غرب بيت. يوجد 25 ينبوع ماء وعشرة آبار كبيرة بجوارها مع كروم وزيتون[84].

كانت حبرون في القرن الثاني عشر كرسيًا لأسقف كاثوليكي[85].

د. أشكول: تعني “عنقود”، ولا يعرف إن كان هذا الاسم قديمًا قبل موسى النبي، أم حمل الاسم في عصره حينما أحضر منه الرجال عنقود العنب. وهو وادي قريب من حبرون غالبًا يقع في شمالها، ولا تزال هذه المنطقة مشهورة بكرومها.

لقد انطلق الرجال من بريّة صين إلى رحوب عند مدخل حماة ثم حبرون حيث وجد الجبابرة الثلاثة أبنا عناق، ثم ذهبوا إلى أشكول. إنها طريق كل نفس تريد أن تعبر إلى الملكوت لتنال السيد المسيح نفسه كعنقود عنب يهب حياة. إنها تبدأ طريقها من بريّة صين أي حيث توجد التجارب والضيقات لا لتعيش في كآبة وتذمر بل تدخل إلى رحوب حيث تتحوَّل التجربة إلى تعزية، والطريق الضيق يصير بالنسبة للمؤمن رحبًا ومفرحًا، يجد نفسه عند مدخل حماة حيث ينعم بالحماية الإلهيّة مختفيًا في مسيحه صخر الدهور. هنا يدخل إلى حبرون أي حياة “الصحبة” مع الله في ابنه الوحيد ومع إخوته أيضًا في المسيح يسوع ربنا فلا يقدر بنو عناق الجبابرة أي الأرواح الشريرة أن تعوقه عن العبور إلى أشكول ليحمل في قلبه عنقود الحياة!

إذن لا يستطيع أحد أن يعبر إلى وادي أشكول إلاَّ خلال التجارب الممتزجة بسلام المسيح وفرحه، فيلتقي ببني عناق المقاومين لملكوت الله، مصارعًا ليس مع لحم ودم بل مع أجناد الشر الروحيّة (أف 6: 12).

في أشكول حمل الرجلان العنقود الواحد على خشبة ليدخلا بها إلى الشعب معلنين تحقيق مواعيد الله. أما الرجلان فهما يشوع وكالب، وكأن الصليب واهب الحياة إنما يحمله “يسوع” المسيح ربنا ويحمله المؤمن بقلب (كالب) مملوء إخلاصًا. إنه صليب يسوع المسيح المخلص الذي يحمله المؤمن كشركة آلام مع سيده ليدخل معه إلى قوة قيامته.

يتحدَّث القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص عن هذا العنقود المحمول على الخشبة قائلاً: [كان يشوع أحد الذين قادوا الإرساليّة الصالحة، هذا الذي قدَّم تقريرًا موثوقًا فيه، مع تأكيدات. تطلَّع إليه موسى فصار فيه رجاء ثابت نحو الأمور العتيدة، إذ رأى برهانًا على خيرات الأرض خلال عنقود العنب الذي حمله يشوع على الدقرانة. حقًا إذ تسمع يشوع يخبرك عن الأرض وترى العنقود معلقًا على الخشبة تدرك ما رآه وكيف ثبت رجاءه. ما هو عنقود العنب المعلق على خشبة إلاَّ ذاك العنقود الذي عُلِّق في الأيام الأخيرة، الذي سكب دمه كشراب يهب خلاصًا للمؤمنين! لقد تحدث موسى معنا عنه في موضع آخر قائلاً خلال الرمز “دم العنب شربته” (تث 32: 14)، قاصدًا بهذا الآلام المخلصة[86]].

لقد تحدَّث كثير من الآباء عن هذا العنقود كرمز للسيد المسيح المرتفع على الصليب مثل القدِّيسين: يوستين الشهيد[87]، وإيرينيئوس[88]، وهيبوليتس[89]، وإكليمندس الإسكندري[90]، والعلامة أوريجينوس[91].

يقول القدِّيس أغسطينوس: [ دُعي الرب عنقود عنب، هذا الذي صلبه الذين أرسلهم، شعب إسرائيل، وجاءوا به من أرض الموعد معلقًا على عصا كما لو كان مصلوبًا[92]].

ويقول القدِّيس إمبروسيوس: [ أعطى الله لنفسه لقب عنقود العنب بصوت النبي، حينما أرسل موسى الجواسيس إلى وادي العنب كأمر الله. ما هو هذا الوادي إلاَّ اتضاع الجسد وثمار الآلام! إنني أعتقد أنه دُعي عنقود لأنه جاء من الكرمة التي جُبِلَت من مصر أي من الشعب اليهودي، ونما ثمرة لصلاح العالم[93]].

أما القدِّيس يوحنا فم الذهب فيرى في هذا العنقود عربونًا للحياة السماويّة، إذ يقول: [ليتنا لا نحتقر السماء!… فإنه أحضر إلينا ثمارًا من السماء ليست عنقود عنب محمولاً على عصا بل “حرارة الروح” (2 كو 1: 22)، ومواطنة السموات (في 3: 20)، الأمور التي علمنا إياها بولس وكل جماعة الرسل، الكرامون العجيبون. إنه ليس كالب بن يفنة ولا يشوع بن نون هما اللذان أحضرا هذه الثمار بل يسوع ابن “أب المراحم” (2 كو 1: 3)، ابن الله الذي يحضر كل فضيلة، فيجلب من السماء كل ثمارها أي تسبيحاتها[94]!].

  1. تقريرهم:

انقسم التقرير المُقدَّم من الرجال إلى قسمين، الغالبية العظمى لم تستطع أن تنكر ما رأته من خيرات لكنها ارتعبت من بني عناق وأرعبوا الجماعة معهم ففقدوا رجاءهم وانحطوا إلى اليأس. لقد جاء التقرير هكذا: “حقًا قد ذهبنا إلى الأرض التي أرسلتنا إليها، وحقًا إنها تفيض لبنًا وعسلاً وهذا ثمرها. غير أن الشعب الساكن في الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جدًا، وأيضًا قد رأينا بني عناق هناك… وقد رأينا هناك الجبابرة بني عناق من الجبابرة فكنا في أعيننا كالجراد وهكذا كنا في أعينهم” [27-28، 33]. أما القسم الثاني الذي كان يضم كالب مع يشوع فقال: “إننا نصعد ونمتلكها لأننا قادرون عليها” [30].

تحدَّث القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص عن هذين القسمين قائلاً: [من ناحية أولئك الذين يُقدِّمون رجاءً في الأمور الصالحة إنما هي العلل التي تتولد من الإيمان وثبات الرجاء في الخيرات المُعدَّة لنا. ومن ناحية أخرى توجد العلل التي للمضاد هذه التي تزدري بالرجاء الصالح وتقاوم الإيمان في الأمور المقررة. أما موسى فلم يثق في تقرير المقاومين بل قبل الرجل الذي قدَّم تقريرًا يليق بالأرض (المقدَّسة[95])].

حقًا لقد رأى غير المؤمنين في أنفسهم أنهم كانوا كجراد أمام الجبابرة بني عناق، أما المؤمنون فلا ينظرون إلى أنفسهم وإمكانياتهم الطبيعيّة البشريّة بل إلى الله الذي يتقدمهم وروحه الساكن فيهم يسندهم فيعطي للجراد غلبة على الجبابرة (إبليس وجنوده الروحيّين). يقول العلامة أوريجينوس: [إن قارنَّا الطبيعة البشريّة بالشيطانيّة نجد أنفسنا كجراد وهم جبابرة، خاصة إن كان إيماننا مترددًا أو ضعيفًا فإننا نتراجع إلى الوراء، ويصيرون هم جبابرة ونحن جرادًا. لكننا إن تبعنا يسوع (يشوع) وآمنا بكلامه وامتلأنا إيمانًا به يصيرون كلا شيء أمامنا. حقًا لنسمع ما قيل “إن سُرَّ بنا الرب يدخلنا إلى هذه الأرض” (14: 8)، لأنها جيدة جدًا وثمارها عجيبة[96]].

 

زر الذهاب إلى الأعلى