سرّ المعمودية

6 – كيف استعاد الإنسان بنوته لله؟

جاء فى نهاية نسب ربنا يسوع المسيح: “… بن أنوش بن شيث بن ادم ابن الله” (لو3: 23 – 38). لقد فقد آدم هذه النعمة، فكيف قدُمت لنا من جديد؟ بصعود السيد المسيح إلى السماوات. أرسل إلينا روحه القدس الذى يأخذ مما له ويخبرنا (يو16: 14). ما الذى يأخذه الروح القدس ويقدمه لنا؟ إنه يأخذ أعمال السيد المسيح الخلاصية ويقدمها لنا، ففى مياه المعمودية يدخل بنا الروح القدس إلى الدفن مع المسيح والقيامة أيضاً معه، فنخرج من المعمودية أعضاء جسد المسيح القائم من الأموات الذى لا يشيخ ولا يقدم بل ينمو على الدوام بغير انقطاع متمتعاً بالحياة الجديدة. بهذا يتحقق اتحادنا مع السيد المسيح فننعم بالبنوة لله، إذ نصير خلال الابن الوحيد الجنس أبناء معه بالتبنى، أى ليس حسب الطبيعة، وإنما خلال النعمة المجانية. هذا ما قصده الرسول بقوله: “لا بأعمالٍ فى برّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلّصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس” (تى3: 5)، “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذى حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حىّ بقيامة يسوع المسيح من الأموات لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ فى السماوات لأجلكم” (1بط1: 3 – 4). وما قصده السيد المسيح نفسه فى حديثه مع نيقوديموس: “الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3: 5). ولم يستطع نيقوديموس معلم إسرائيل أن يفهم، لأنه لم يكن بعد قد أدرك أن يسوع هذا الذى يحدثه إنما يضم المؤمنين به إلى نفسه فى المعمودية بالروح القدس (يو3: 9 – 21)، حتى يهبهم حياته المُقامة كعطية الميلاد الروحى الجديد.

7 – ما هو سرّ المعمودية؟

أولاً: يعلن عن هذا السر إيمان الكنيسة الوارد فى قانون الإيمان.

ثانياً: يغطس طالب العماد فى الماء ثلاث مرات باسم الثالوث القدوس.

ثالثاً: يقبل الدفن مع المسيح كى يتمتع بالحياة المُقامة، إذ يموت عن حياة الخطية الشهوانية ليمارس بالنعمة الإلهية الحياة اللائقة بأولاد الله من جهة القداسة والتمتع ببرّ المسيح. هذا وقد أعلن السيد المسيح أنه لا يقدر إنسان أن يدخل ملكوت الله ما لم يولد من الماء والروح (يو3: 5).

8 – كيف أعد العهد القديم للمعمودية المسيحية؟

لكى نتفهم هذا الميلاد الجديد بالروح القدس الذى به نلنا الطبيعة الجديدة يليق بنا أن نتعرض أولاً على ما قدمه العهد القديم من رموز ونبوات عن المعمودية. فالمعمودية عنصر حىّ فى خطة الله الخلاصية، لهذا كان الوحىّ الإلهى حريصاً كل الحرص أن يقدم لنا إعداداً طويلاً تدريجياً على مدى زمن طويل خاصاً بالمعمودية، جنباً إلى جنب مع الإعداد للتجسد الإلهى وذبيحة الصليب، بل هذه الأمور الإلهية مترابطة معاً لأنها فى الحقيقة عمل خلاصى متكامل. وكما أنه لو تحقق التجسد الإلهى فجأة بلا مقدمات خلال رموز العهد القديم ونبواته لما استطاع أحد أن يقبله، هكذا لو أعلن عن المعمودية بطريقة مفاجئة لما استطاع أحد ان يفهمها أو يتقبلها ([392]). على سبيل الآتى ([393]):

أ. روح الله يرف على وجه المياه: قيل: “وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه” (تك1: 2). هذا هو عمل الروح القدس، أنه فى بدء الخلقة كان يرف على وجه المياه ليخلق العالم الصالح الجميل من الأرض الخالية الخربة. ولا يزال الروح الإلهى يحل على مياه المعمودية ليقدسها، فيقيم من الإنسان الذى أفسدته الخطيئة سماوات جديدة وأرضاً جديدة، عوض الأرض الخربة والخالية من كل صلاح. يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [تتم الخلقة الجديدة بواسطة الماء والروح وذلك كخلقة العالم، إذ كان روح الله يرف على المياه ([394])].

ب. فلك نوح والطوفان: هنا يظهر الماء كأداة إدانة للعالم الشرير، وإن كان الفلك وسط المياه يظهر كأداة خلاص لنوح وعائلته حيث يدخل بهم إلى عالم جديد. يقول الرسول بطرس إنه نظر إلى الطوفان والفلك، فرأى صورة رمزية حيّة للخلاص فى المعمودية (1بط3: 18 – 21). ويقول القديس جيروم: [طارت حمامة الروح القدس نحو نوح بعد أن خرج الطائر الأسود (الغراب) وصارت كما لو كانت متجهة نحو المسيح فى الأردن ([395])].

ج. عبور البحر الأحمر والسحابة: يقول القديس بولس: “ولست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة، وجميعهم اجتازوا فى البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى فى السحابة وفى البحر” (1كو10: 1 – 2). وكأن الرسول بولس قد رأى كنيسة العهد القديم فى أيام موسى النبى قد اجتازت المعمودية رمزياً. فالبحر يشير إلى جرن المياه، والسحابة التى ظللتهم تشير إلى الروح القدس، كقول الكتاب: “أرسلت روحك فغطّاهم” (خر15: 10).

د. مياه “مارة” فى طقس الكنيسة القبطية يصلى الكاهن أثناء تقديس مياه المعمودية قائلاً: “أنت أمرت الصخرة الصماء فأفاضت الماء لشعبك (عد29: 11)، وأيضاً المياه المُرة نقلتها إلى مياه حلوة…” هكذا تتطلع الكنيسة إلى تحويل مياه “مارة” المُرة إلى مياه حلوة كرمز للمعمودية.

ﮪ. عبور يشوع نهر الأردن: فى الليتورجيا القبطية وأيضاً الإثيوبية الخاصة بتقديس مياه المعمودية، بعد الإشارة إلى المياه الخاصة ببدء الخليقة والطوفان وعبور البحر الأحمر ومياه مارة وصخرة حوريب، ورد الحديث عن مجموعة أخرى هى: “عبور يشوع بن نون نهر الأردن، وقبول ذبيحة إيليا بالماء (1مل18: 33 – 36)، وشفاء نعمان السريانى فى نهر الأردن (2مل5: 14). وقد ورد الحديث عنها فى أعمال العلامة أوريجينوس السكندرى ومن بعده أخذها الآباء عنه، لذا يرى دانيلو أن هذه المجموعة إسكندرانية المنشأ، نشأت عن التقليد الليتورجى لكنيسة الاسكندرية، وإن ما جاء عنها فى أعمال أوريجينوس لا يمثل رأياً شخصياً بل يعكس فكر كنيسته وتقليدها فى ذلك الحين ([396]). يقول أوريجينوس إنه بعد عبور نهر الأردن سقطت أريحا إشارة إلى هلاك الإنسان القديم الشرير ([397]). كما يقول أيضاً إن من يذهب إلى الأردن لا يهرب إليه فى صمت، بل يحمل معه الأبواق التى تعلن الأسرار الإليهة، كارزاً بالبوق السماوى ([398]).

و. قبول ذبيحة إيليا على جبل الكرمل (1مل18: 33 – 38): يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [أمر (إيليا) أعوانه وصحبه فحفروا خندقاً مثالاً للمعمودية، وأن يصبّوا على ذلك كله ماءاً فصبوا، وقال لهم ثنوا فثنوا، وثلثوا فثلثوا قياساً لتثليث غطسات المعمودية، وامتلأ الخندق ماءً، ثم صلى إلى الرب أن يستجيبه بنار، فنزلت نار من السماء فأكلت القربان والحطب والماء ولحست الأرض، تحقيقاً لقبول الرب القربان والماء، ومثالاً لنزول الروح القدس على ماء المعمودية وعلى قربان المذبح ([399])].

9 – ما هى بركات المعمودية؟

أولاً: موت الإنسان القديم. بالمعمودية تُغسل خطايانا وتموت الشهوات الجسدية أو الإنسان القديم بأعماله، أما الجسد فصالح ومقدس. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [أريد أن يموت هذا الجسد عن الخطيئة. لست أسأل أن يموت الجسد، بل ألا يخطئ مرة أخرى. وكما أن الميت يكون جثمانه فوق إمكانية الخطيئة، هكذا الذى يصعد من مياه المعمودية يخلص من الخطيئة. فإن كنت قد مت فى هذه المياه يلزمك أن تبقى ميتاً عن الخطيئة ([400])].

ثانياً: عبور من موت الخطيئة إلى الحياة بالله. لا يقف دور المعمودية عند الجانب السلبى أى غسل الخطايا، وإنما يمتد إلى الجانب الإيجابى أى “الحياة بالله”. يقول مار يعقوب السروجى: [المعمودية باب يردنا إلى الفردوس، فيها يدخل الإنسان إلى الله ليكون معه. المعمودية سفينة جديدة حاملة للأموات، بها يقومون ويعبرون إلى بلد الخالدين. وُضعت المعمودية فى العالم لأجل العالم الجديد، فيها يعبر الإنسان من عند الأموات إلى بلد الحياة ([401]).

ثالثاً: المعمودية ختم Sphragis روحى. دُعيت المعمودية ختماً به يحمل الإنسان علامة العضوية الكنسية والاتحاد مع السيد المسيح وقبول ملكوت الله. يقول الرسول بولس: “ولكن الذى يثبتنا معكم فى المسيح وقد مسحنا هو الله الذى ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح فى قلوبنا” (2كو1: 21 – 22). “الذى فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس” (أف1: 13). تحدث كثيرون عن المعمودية كختم للنفس، مثل القديس إكليمنضس الرومانى ([402]) وهرماس ([403]) والعلامة ترتليان ([404]) والقديس يوحنا الذهبى الفم ([405]). يقول القديس مار أفرآم السريانى: [كما يطبع المالك على قطيعه علامة خاصة يتعرف بها عليه، خلالها تظهر أنها ملك له، هكذا يختم الروح القدس من له فى المعمودية بواسطة مسحة الزيت المقدس التى يتقبلونها اثناء العمل ([406])]. كان الجندى فى الجيش الرومانى يوسم بعلامة Signaculum على يده تحمل اختصار اسم قائده ([407])، لهذا تطلع الاباء إلى المعمودية كعلامة يوسم بها جنود السيد المسيح الروحيين، حاملين على قلوبهم وأجسادهم علامة قائدهم الروحى الأعظم يسوع المسيح واسمه القدوس. يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [الان ينقش اسمك وتدعى للدخول إلى المعسكر]. إذ ندخل مياه المعمودية نصعد حاملين ختم الله، لنا صورة خالقنا وحاملين سماته فينا… لسنا فقط نتمثل بالمسيح إلهنا، إنما تصير حياة المسيح هى حياتنا، موته هو موتنا، قيامته قيامتنا، سماته سماتنا وأمجاده أمجادنا كما يصير أبوه أبانا.

رابعاً: المعمودية ولادة جديدة. افتتح القديس يوحنا إنجيله بقوله: “فيه كانت الحياة…”، “أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أى المؤمنون باسمه. الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يو1: 4، 12 – 13). وتحدث السيد المسيح صراحة وبكل وضوح عن هذه الولادة الجديدة بقوله: “الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3: 5). ولهذا السبب بدأ السيد المسيح خدمته بعماده أولاً ليؤكد لنا أنه لا دخول لأحد إلى مملكة الله وخدمته إلا عن طريق الولادة الجديدة التى فى المعمودية. هذا المركز الجديد الذى صار لنا فى المعمودية، أى البنوة لله، قد شغل أذهان التلاميذ والرسل وكل الكنيسة كسرّ قوة المسيحى فى حياته الروحية، لهذا لا يكف الرسل عن الإشارة إليه من حين إلى آخر: “لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل3: 26 – 27؛ راجع رو8: 15 – 16)؛ (1بط1: 23؛ تى3: 5 – 6).

يقول القديس أغسطينوس: [لنا ميلادان: أحدهما أرضى، والآخر سماوى. الأول من الجسد، والثانى من الروح. الأول صادر عن مبدأ قابل للفناء، والثانى عن مبدأ أبدى. الأول من رجل وامرأة، والثانى من الله والكنيسة. الأول يجعلنا أبناء الجسد، والثانى أبناء الروح. الأول يصيرنا أبناء الموت، والثانى أبناء القيامة. الأول أبناء الدهر، والثانى أبناء الله. الأول يجعلنا أبناء اللعنة والغضب، والثانى أبناء البركة والمحبة. الأول يقيدنا بأغلال الخطيئة الأصلية، والثان يحلّنا من رباطات كل خطيئة ([408])].

خامساً: فى المعمودية رضض الرب رؤوس الشيطان. بالمعمودية ننال سلطاناً لمقاومة إبليس.

سادساً: تتهلل الملائكة بمعموديتنا. يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [إن الملائكة سترقص حولكم قائلة: “من هذه الطالعة فى ثوب أبيض مستندة على حبيبها” (راجع نش8: 5). لأن النفس التى كانت قبلاً عبدة تبناها سيدها كقريبة له، وإذ يرى أمامه غاية راسخة يجيب: “ها أنت جميلة يا حبيبتى. ها أنت جميلة… أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل اللواتى كل واحدة متئم وليس فيهن عقيم، كل واحدة متئم” (نش4: 1، 2) ([409])].

سابعاً: فى المعمودية نلبس المسيح. يقول الرسول بولس: “لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل3: 27). نلبسه لا بطريقة جسدية، بل لباساً روحياً داخلياً، فيه تختفى طبيعتنا، واهباً إيانا نفسه دون ان يقيد حريتنا. إننا نلبس المسيح لا كثوب خارجى، بل نتحد به ونتفاعل معه لنحمل شركة طبيعته دون أن نفقد طبيعتنا الإنسانية. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لا نأخذ هذا بالمعنى الأدبى كأنه عمل من أعمال المحبة بل هو حقيقة. فالتجسد جعل اتحادنا بالمسيح وشركتنا فى الألوهية أمراً واقعياً ([410])].

ثامناً: التطعيم فى المسيح. يقول العلامة ترتليان: [بالمعمودية يستعيد الإنسان تشبهه بالله ([411])]. يتحقق هذ االشبه باتحاد النفس مع مخلصها اتحاداً حقيقياً، حيث تتطعم فيه كالغصن فى الشجرة ليحمل ثمارها فيه. وقد استخدم السيد مثل الكرمة والأغصان (يو15) ليعلن أنه هو سرّ حياتنا].

تاسعاً: التمتع بسرّ الفصح الحقيقى لا الرمزى. فى المعمودية لا نتقبل رمزاً لفصحه، بل شركة حقيقية فى سرّ فصح المسيح، فنقبل بالإيمان: “عمل الله الذى أقامه من الأموات” (كو2: 12)، ليعبر بنا إلى الحياة المقامة ويجلسنا معه فى السماويات (أف2: 4 – 6). يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [العماد هو الصليب. ما قد حدث بالنسبة للمسيح فى الصلب والدفن يصنعه العماد معنا، وإن كان ليس بذات الطريقة. لقد مات المسيح بالجسد ودفن، أما نحن فنموت عن الخطية ونُدفن… إن كنت تشاركه الموت والدفن، فبالأولى تشاركه القيامة والحياة ([412])].

عاشراً: التمتع بالعضوية فى جسد المسيح الواحد. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [الذين كانوا قبل عمادهم أسرى الآن يتمتعون ببهاء الحرية، صاروا أعضاء الكنيسة سالكين فى نور البر البهى بعد ما كانوا سائرين فى طرق الضلال الحالك وظلام الخطيئة القاتم. حقاً إنهم الآن محررون، ليس ذلك فقط بل قديسون وأبرار، أبناء وورثة، إخوة المسيح ووارثون معه، أعضاء جسده الطاهر وهياكل للروح القدس. تأمل فى العطايا الجزيلة والمواهب الثمينة التى يمنحها سر العماد! كثيرون يظنون إنه يغفر الخطيئة فقط، أما نحن فقد أحصينا له عشرة مفاعيل تجعل النفس فى مركز سام ومقام جليل لا يوصف ([413])].

حادى عشر: تقديس تحركات العروس! إن كنا فى المعمودية نتقبل العضوية فى جسد المسيح الأقدس، فبهذا تتشكل النفس لتصير عروساً مقدسة للرب، فتسمع صوت عريسها يقول لها: “فحممتك بالماء، وغسلت عند دماءك، ومسحتك بالزيت… وجملت جداً جداً فصلحت لمملكة. وخرج لك اسم فى الأمم لجمالك، لأنه كان كاملاً ببهائى الذى جعلته عليك…” (حز16: 9 – 14). يقول القديس يعقوب السروجى: [المعمودية هى عروس الملك التى تحبل وتلد له، يسندها الابن الوحيد بروح أبيه. إنها خطيبة الشمس التى استضاءت بها الخليقة كلها، ودُعى العالم إلى النور بمحبة].

ثانى عشر: التمتع بالاستنارة الروحية. فى طقسنا المعاصر، قبل الاحتفال بعيد القيامة المجيد أو الفصح المسيحى، يُقرأ الإنجيل الخاص بتفتيح عينى الأعمى فى أحد التناصير، الأحد السابق لأحد الشعانين. وكأن العماد المقدس فى حقيقته تفتيح لبصيرتنا الداخلية لمعاينة أسرار الحب الإلهى، فنقبل دخول المسيح نور العالم إلى أورشليمنا الداخلية لكى ننعم به بسرّ الفصح الحقيقى كسر استنارة يمس حياتنا الشخصية. على ضوء هذا نفهم كلمات الرسول فى (عب6: 4 – 6). أن “الذين استنيروا مرة”، أى الذين نالوا سرّ العماد، وسقطوا لا يمكن تجديدهم مرة أخرى، أى لا تُعاد معموديتهم، لأن المسيح يسوع قد صلب مرة واحدة ولا تكرار للمعمودية ([414]). لهذا السبب دُعى عيد عماد السيد المسيح بعيد الأنوار، ولنفس السبب اعتاد المعمدون قديماً أن يحملوا الشموع أو السرّج أو المشاعل بعد خروجهم من الجرن مباشرة. يقول القديس يوستين: [يسمى هذا الاغتسال – أى المعمودية – استنارة، لأن الذين يتعلمون هذه الأمور تستنير أفهامهم ([415])].

10 – متى بدأت المعمودية؟ وكيف؟

بدأت بواسطة يوحنا المعمدان بكونها معمودية للتوبة. وكان يقول للذين يتقدمون للمعمودية: “أنا أعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذى يأتى بعدى هو أقوى منى الذى لست أهلاً أن أحمل حذاءه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار” (مت3: 11).

بعد ذلك اعتمد نفسه من يوحنا المعمدان، فقدسها. أخيراً بعد قيامته أوصى رسله أن يذهبوا ويعلموا كل الأمم ويعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس (مت28: 19).

11 – ماذا يُطلب من طالبى العماد؟

بالنسبة للبالغين يُطلب منهم الإيمان الحقيقى مع التوبة الصادقة، وأن يردد قانون الإيمان. عندما مضى نُخس الجميع فى قلوبهم وقالوا لبطرس وسائر الرسل: “ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟ فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس” (أع2: 37 – 38). وجاء فى إنجيل مرقس: “من آمن وأعتمد خلص” (مر16: 16).

لماذا نعمد الأطفال؟

الأطفال إذ يدخلون إلى مياه المعمودية يقتربون من سرّ العماد الذى قدمه ربنا بصليبه، فينعمون بالخلاص المجانى الذى لا فضل لإنسان فيه. فالطفل كالبالغ فى المعمودية يُغرس كنبت جديد فى جسد الجماعة أو جسد المسيح المصلوب، فيصير له حق الاحتفال مع الجماعة بسرّ موت المسيح ودفنه وقيامته. فهل نضيع على الطفل فرصة الغرس والنمو ليشترك مع كنيسة المسيح فى سرّ الخلاص المجانى؟!

ليس ممكناً للإنسان الذى اختبر فاعلية المعمودية فى حياته أن يحرم أولاده من مياه المعمودية الشافية. فالمسيحى يؤمن أنه لا فضل له فى شئ حتى فى قبوله الإيمان. إنها نعمة الله الغنية التى تغمره وتجتذبه، فكيف يحرم ابنه من التمتع بهذه النعمة العظيمة التى تسنده فى تربيته لطفله بفكر إيمانى مسيحى؟! إن اهتمام الكنيسة منذ العصر الرسولى بعماد الأطفال إنما يحمل إيمانا بعمل النعمة الغنية فى حياة الناس، بغض النظر عن أعمارهم أو ظروفهم أو إمكانياتهم. إن كانت المرأة غير المؤمنة مقدسة فى الرجل، وأولادهم مقدسون (1كو7: 15)، هذا بالنسبة للرجل الذى يقبل الإيمان وهو متزوج وترفض زوجته الإيمان، فهى مقدسة فيه، ليس من حقه أن يتركها إلا إذا طلبت ذلك، فكيف يحرم الأولاد المقدسون من نوال سر العماد الذى يهب للنفس تجديداً، على إيمان ومسئولية أحد والديهم؟! هذا وإن كان الكتاب يهتم بالأولاد ويقدم لهم وصايا مثل: “أيها الأولاد أطيعوا والديكم فى الرب لأن هذا حق” (أف6: 1)، فكيف نحملّهم مسئولية الطاعة ونحرمهم من العضوية فى جسد الرب الذى يسندهم فى تنفيذ وصيته؟!

يقول القديس غريغوريوس النزينزى: [هل لك طفل؟ لا تسمح للشر أن يجد له فيه فرصة، بل ليتقدس وهو رضيع وليتكرس بالروح منذ نعومة اظافره. إنك تخافين أيتها الأم من الختم بسبب ضعف الطبيعة لأنك ضعيفة الروح وقليلة الإيمان. أما حنة فقبل أن تلد صموئيل وعدت الله به (1صم1: 10)، وبعد ميلاده كرّسته له فى الحال. وبالحلة الكهنوتية ربّته، ولم تخف من الضعف البشرى بل وثقت فى الله. سلّمى ابنك للثالوث القدوس فإنه حارس عظيم ونبيل ([416])].

جاء الاعتراض على معمودية الأطفال انعكاساً للنظرة الفردية المبالغ فيها، فالطفل وإن كان له كيانه الخاص، لكنه ليس بمنعزل عن الجماعة الكنسية المقدسة، بل هو عضو متفاعل مع الجماعة.

فى العهد القديم كان الطفل الذكر يُختتن فى اليوم الثامن من ميلاده، فإن كانت المعمودية هى ختان العهد الجديد لنوال البنوة لله، فلا يليق بنا ان نحرم أطفال العهد الجديد لنوال البنوة الله، فلا يليق بنا أن نحرم أطفال العهد الجديد من هذه النعمة، ولا أن نحرم والدى الطفل من الالتزام بتقديم الإيمان السليم لأطفالهم بكل وسيلة ممكنة. يقول الرسول: “وبه أيضاً ختنتم ختاناً غير مصنوع بيد بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح” (كو2: 11).

فاصل

من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ3 – الكنيسة ملكوت الله على الأرض – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

زر الذهاب إلى الأعلى