تفسير المزمور ٢٦ للقس أنطونيوس فكري
المزمور السادس والعشرون (الخامس والعشرون في الأجبية)
ربما قال داود هذا المزمور في فترة هروبه من شاول أو من ثورة إبشالوم ضده حين أثار أعداءه عدة أكاذيب ضده وصوروه كإنسان شرير جداً، وكانت التهم تتلخص في أنه خائن لوطنه إذ أنه إضطر أن يلجأ للفلسطينيين وأنه اشترك مع الوثنيين في عبادتهم تاركاً عبادة بيت الرب. وداود هنا شاعراً بهذا الظلم يدافع عن نفسه ضد هذه التهم تاركاً الحكم على قلبه لله العادل ليصدر حكماً بالبراءة عليه.
يرمز داود هنا في هذا المزمور للمسيح الذي صار عاراً عند البشر. وكأن المسيح هو الذي يقول أحكم لي يا رب فأني بكمالي سلكت= وبحسب السبعينية “بدعتى سلكت” والمسيح هو الوحيد الذي يقال عنه أنه كامل فهو بلا خطية وكان وديعاً كشاة تساق إلى الذبح دون أن تفتح فاها. أما داود فحين يقول بكمالي سلكت لا يقصد الكمال المطلق ولكن أنه برئ من التهم الموجهة إليه ظلماً. احكم لي=تعني دافع عني.
والكنيسة المضطهدة بلا سبب يمكنها أن ترتل هذا المزمور مع مسيحها ليدافع عنها ضد مضطهديها ويحكم ببراءتها ويظهرها عروساً له.
نرتل هذا المزمور في صلاة الساعة الثالثة فنذكر الساعة التي صدر الحكم فيها على المسيح وشهود الزور ضده وكيف أنه سلك بدعة وكان كاملاً وكيف أنتصر.
آية (1): “اقض لي يا رب لأني بكمالي سلكت وعلى الرب توكلت بلا تقلقل.”
لم يكن أمام داود، وقد وجه له أعداءه اتهامات ظالمة إلا أن يلجأ لله ليشهد له أنه لم يفعل كل ما قيل عنه. واضعاً كل إتكاله على الرب وليس على إنسان.
آية (2): “جربني يا رب وامتحني صف كليتي وقلبي.”
جربني يا رب.. صف كليتي= جربني هنا جاءت بمعنى فحص المعادن بالنار لتنقيتها وداود هنا غير أيوب. فأيوب حين فاجأته التجارب صرخ إلى الله متسائلاً لماذا سمحت بكل هذا يا رب فأنا بار.. أما داود فصرخ لتكن هذه الآلام والتجارب لتنقيتي، فمن يحبه الرب يؤدبه.. هو هنا يريد أن تكشف التجارب له حقيقة ضعفاته ليكمل، فقوله جربني لا يعني أن يعرف الله بعد التجربة حقيقة قلبه فالله عالم بكل شئ، إنما لكي ينكشف أمام داود نفسه أخطاءه الدفينة. والكلية تشير للداخل، هي تنقي الدم وداود يريد تنقية داخله تماماً. (يع2:1،3 + 1بط8:1 + 2كو10:12).
آية (3): “لأن رحمتك أمام عيني. وقد سلكت بحقك.”
الأساس الذي نقبل به أي تجربة هو أن كل ما يمر بحياتنا مبنى على أساس رحمة الله، وأن كل شئ للخير للذين يحبون الله= وقد سلكت بحقك. فهو برئ من التهم التي وجهت إليه، وهو يحب الله لذلك يثق في استمرار مراحم الله كما أختبرها من قبل.
الآيات (4،5): “لم أجلس مع أناس السوء. ومع الماكرين لا أدخل. أبغضت جماعة الأثمة ومع الأشرار لا أجلس.”
نرى نموذج لكمال داود وتدقيقه في اختيار أصدقائه. فالناس يعرفون من أصدقائهم. وهنا يدافع عن نفسه فهو مع أن إلتجأ للوثنيين إلا أنه لا يشترك في أعمالهم. هو كان محروماً بالجسد من مشاركة شعبه عبادتهم ولكن قلبه كان هناك في أورشليم.
الآيات (6-8): “أغسل يدي في النقاوة فأطوف بمذبحك يا رب. لأُسَمِّع بصوت الحمد وأحدث بجميع عجائبك. يا رب أحببت محل بيتك وموضع مسكن مجدك.”
يعلن أنه ولو أنه هارب من أورشليم إلا أنه هو معهم، وكأنه يغسل يديه بالنقاوة، لا بماء المرحضة مع الكهنة ولكن بنقاوة القلب الداخلي، ويطوف حول المذبح لا بجسده وإنما بشوقه الداخلي، يسمع التسبيح السماوي بأذنيه الروحيتين. وغسل يديه يشير لأنه لم يشترك في عبادة الأوثان كما اتهموه ظلماً. ونحن نغسل أيادينا ونتطهر من الماء والدم اللذين فاضا من جنب المسيح (معمودية + توبة). والطواف حول المذبح= كان الكهنة يفعلون ذلك بعد تقديم الذبيحة. وكان الشعب يتابعهم مسبحاً. وهنا داود يشعر أنه بقلبه يتابع تقديم الذبائح ويسبح الله مخبراً بجميع عجائبه ومراحمه.
الآيات (9-12): “لا تجمع مع الخطاة نفسي ولا مع رجال الدماء حياتي. الذين في أيديهم رذيلة ويمينهم ملآنة رشوة. أما أنا فبكمالي أسلك. أفدني وارحمني. رجلي واقفة على سهل في الجماعات أبارك الرب.”
صلاة يشتهي فيها داود أن يكون الله نصيبه وأن لا يُحرم من الله فيكون نصيبه مع الأشرار، هو لا يتصور أن يكون محروماً من الله هنا أو هناك فهو يحبه. أما أنا فبدعتي سلكت= هو تأكيد الولاء لله، وليس فيها نوع من الكبرياء. والدليل قوله. إفدني وارحمني. مهما كانت أعمالي مستقيمة فلا خلاص لي سوى بفدائك العظيم ورحمتك. رجلي واقفة على سهل= في السبعينية (تقف في الاستقامة). فلا تجعل نصيبي مع الشرير لأنني لا أسلك في طريقهم. هنا نرى أعماله ولكنها بدون الفداء لن تجدي نفعاً. في الجماعات أبارك الرب= نرى هنا أهمية العبادة الجماعية في الكنيسة والقداسات والاجتماعات.