يعقوب أب الآباء

 

“وَكَانَ إِسْحَاقُ ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمَّا اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ زَوْجَةً، رِفْقَةَ بِنْتَ بَتُوئِيلَ الأَرَامِيِّ، أُخْتَ لاَبَانَ الأَرَامِيِّ مِنْ فَدَّانَِ أَرَامَ. وَصَلَّى إِسْحَاقُ إِلَى الرَّبِّ لأَجْلِ امْرَأَتِهِ لأَنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا، فَاسْتَجَابَ لَهُ الرَّبُّ، فَحَبِلَتْ رِفْقَةُ امْرَأَتُهُ. وَتَزَاحَمَ الْوَلَدَانِ فِي بَطْنِهَا، فَقَالَتْ: «إِنْ كَانَ هكَذَا فَلِمَاذَا أَنَا؟» فَمَضَتْ لِتَسْأَلَ الرَّبَّ. فَقَالَ لَهَا الرَّبُّ: «فِي بَطْنِكِ أُمَّتَانِ، وَمِنْ أَحْشَائِكِ يَفْتَرِقُ شَعْبَانِ: شَعْبٌ يَقْوَى عَلَى شَعْبٍ، وَكَبِيرٌ يُسْتَعْبَدُ لِصَغِيرٍ».(تك25: 20-23).

هذان الولدان يمثلان شعبين، شعب إسرائيل (يعقوب) وشعب آدوم (عيسو). شعبان يتزاحمان ويتقاتلان وسيفوز الأصغر على الأكبر، رغم أن الشرع اليهودي يعطي الأكبر ميراث أبيه ويجعله يتسلط على اخوته: إلا أن يعقوب سيفوز بحق البكورية وسيرث اسم أبيه. ويفسر الكتاب هذا الخروج عن القاعدة فيلجاً إلى ثلاثة أسباب: الأول كلام الرب (تك 25 :21-23)؛ والثاني: شراء يعقوب حق البكورية من أخيه عيسو بطبق من الطعام (تك 25 :29-34)؛ والثالث: بركة إسحق لابنه يعقوب يوم قدّم له الطعام بدل أخيه عيسو (تك1:27 ) ‎٠

عيسو كان الكبير. وكانت إرادة الله هي “وَكَبِيرٌ يُسْتَعْبَدُ لِصَغِيرٍ”(تك 25: 23) كان عيسو الأول في ولادته. ولكن يحدث أحياناً في مشيئة الله: “وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَالآخِرُونَ أَوَّلِينَ(مر 10: 31)‏ وهذا ما حدث مع عيسو ويعقوب.

يذكر القديس بولس في رسالته إلى رومية فيقول “أَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلاَ فَعَلاَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاخْتِيَارِ، لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو، قِيلَ لَهَا:«إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ». كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ».”  (رو9: 11-13): وهذا يتفق مع ما ورد في سفر ملاخي “أَحْبَبْتُكُمْ، قَالَ الرَّبُّ. وَقُلْتُمْ: بِمَ أَحْبَبْتَنَا؟ أَلَيْسَ عِيسُو أَخًا لِيَعْقُوبَ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ، وَجَعَلْتُ جِبَالَهُ خَرَابًا وَمِيرَاثَهُ لِذِئَابِ الْبَرِّيَّةِ؟(ملا 1: 2 ،3 ): وهذا يعني أن خلاص البشرية ليس وليد أعمال بشرية؛ بل وليد مخطط الله. رفض الله عيسو بسبب احتقاره لعطية الله واختار يعقوب.

كيف هذا يا رب؟ كيف يُستعبّد الكبير للصغير؟ طالما هو البكر فهو السيد. فهل سيفقد البكورية؟ وكيف يكون ذلك؟ يجيب الرب: اتركوا هذه الأمور لي: سأعالجها بطريقتي الخاصة:؛ الهادئة الصالحة. ومرت الأيام والسنون… أين يا رب وعدك؟ يجيب: انتظروا ؛ سيتم كل شيء في حينه؛ في ملء الزمان.

ثم جاء اليوم الذي طلب فيه إسحق صيداً من ابنه عيسو؛ لكي يباركه. وكان قد وضع ثقته في عيسو ليعد له الوليمة؛ والتي فيها ستكون أهم بركة على الإطلاق من نصيبه ؛ وهنا لم تستطع رفقة أن تحتمل؛ فقدمت حيلة بشرية لإبنها يعقوب ليأخد بها البركة عن طريق خداعة لأبيه…

السعي للبركة بالطرق البشرية:

من الواضح أن إسحق ورفقة؛ فقدا الحب الذي كان يربطهما معًا في مستهل حياتهما الزوجية (تك 24: 67): وعلى الرغم من أنهما ظلا زوجين؛ إلا أن كل واحد منهما كان ينهج طريقه الخاص؛ كل منهما يحاول آن يستقطب ابنه تجاهه؛ وكل منهما يريد أن يعطي البركة للشخص المنحاز إليه.

لماذا أسرعت رفقة؟ ولماذا لم تنتظر الرب؟ ولماذا لجآت إلى الطرق البشرية الخاطئة التي لا تتفق مع مشيئة الله الصالحة؟ إنها حُمى الإسراع وعدم انتظار ملء الزمان… وعلى الرغم من أن هذا التسرع يتضمن مخاطر كثيرة في حالة اكتشافه؛ لكنها دبرت الخطة بعناية؛ وكانت مستعدة لتحمل العواقب في حالة إخفاقها (تك 24: 13)،‏ وماذا كانت النتيجة؟ كانت سنوات طويلة من المتاعب والآلام؛ قضاها يعقوب شريدًا هاربًا وخائفاً من أخيه. ومتعبًا من معاملة لأبان السيئة وخداعة له. وقد سجل يعقوب ملخص حياته هذه بقوله: “أَيَّامُ سِنِي غُرْبَتِي مِئَةٌ وَثَلاَثُونَ سَنَةً. قَلِيلَةً وَ رَدِيَّةً كَانَتْ أَيَّامُ سِنِي حَيَاتِي، وَلَمْ تَبْلُغْ إِلَى أَيَّامِ سِنِي حَيَاةِ آبَائِي فِي أَيَّامِ غُرْبَتِهِمْ” (تك 47: 9). بالإضافة إلى أن رفقة دفعت الثمن بأنها لم تر وجه إبنها مرة أخرى بعد ذلك.

والعجيب أن التزاحم استمر بين هذين الأخوين..! ليس فقط في من يخرج أولاً من بطن آمه.. إنما أيضًا كان لهما تزاحم حول البكورية لمن تكون؟ وتزاحم آخر حول البركة. من الذي يسبق فيأخذها من أبيهما إسحق؟.. بل صار فيما بعد تزاحم بين نسلهما. ولعل هذا ما قصده الرب لرفقة «فِي بَطْنِكِ أُمَّتَانِ، وَمِنْ أَحْشَائِكِ يَفْتَرِقُ شَعْبَانِ: شَعْبٌ يَقْوَى عَلَى شَعْبٍ، وَكَبِيرٌ يُسْتَعْبَدُ لِصَغِيرٍ» (تك 25: 23) فأولاد يعقوب هم شعب إسرائيل. وأولاد عيسو أدوم؛ لأن عيسو “دعي اسمه أدوم” (تك 25: 30).. يمكن لمن يبحث التاريخ أن يتتبع الحروب بين بني إسرائيل وبني أدوم. ولعلنا هنا نشير فقط إلي قول المزمور “اُذْكُرْ يَا رَبُّ لِبَنِي أَدُومَ يَوْمَ أُورُشَلِيمَ، الْقَائِلِينَ: «هُدُّوا، هُدُّوا حَتَّى إِلَى أَسَاسِهَا».“. (مز 137: 7)

والبكورية؛ تعني أساساً الابن الأكبر(خر 6: 14، 11: 5) وفي  حالة تعدد الزوجات كان البكر هو آول من يولد للرجل سواء من زوجة أو جارية. وكان البكر يستمتع ببعض الامتيازات أكثر من سائر إخوته؛ فكان من نصيبه بركة أبيه (تك 27: 1-4، 35-37)؛ وله مكانة مفضلة (تك43: 33)  كما كان له نصيب اثنين في الميراث (تث21: 15 – 17).

والبكر في العهد القديم يعني الابن المولود أولاً؛ حتى وإن سبقه أخوات في الولادة؛ فالبكر يكون من الذكور فقط. هذا الطفل الذكر البكر يكون له مكانة رائدة في الأسرة؛ ويتبوأ مكان الصدارة في العائلة عند وفاة الوالد ؛ وله الحق في نصيب اثنين في الميراث. وهذا يبين إلى أي مدى كانت القابلة مهتمة عند ولادة ثامار أنها ربطت خيط قرمزي حول معصم الطفل الذي أخرج ذراعه أولاً آثناء الولاده؛ مما يبين لنا كيف كان يُنظر بكل جدية لامتيازات حق البكورية (تك 38 : 28).

وكان “البكر” يُعتبر ملكاً خاصاً لله “قَدِّسْ لِي كُلَّ بِكْرٍ، كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنَ النَّاسِ وَمِنَ الْبَهَائِمِ. إِنَّهُ لِي (خر 13: 2)

والبكورية لم يقصد بها نجاح عالمي؛ فإن عيسو مع فقده آيامًا كان له حظ وفير؛ فقد كان يتبعه أربعمائة رجل مسلح (تك22: 6) وكانت مملكة آدوم الكبيرة في قبضة يده.

ومهما كانت البكورية؛ فإنها لا يمكن أن تعني النجاح العالمي لأن عيسو الذي خسر البكورية؛ كان أوفر حظاً في هذا النجاح العالمي من يعقوب أخيه الذي حصل عليها.

ولم تكن البكورية مانعة من الأحزان؛ لأنه حالما حصل عليها يعقوب؛ أنصبت عليه كل جامات الغضب والآلام والأحزان؛ فقد تغرب عن أوطانه؛ وقضى زهرة عمره أجيرًا عند خاله لابان؛ وكان يخمع على فخذه؛ وحرم من أبنائه؛ هذا بالإضافة إلى أنه كان يئن لأن أيام سنى غربته كانت قليلة ورديئة.

ولكن البكورية كانت ميراثًا روحيًا ، كانت تعطى صاحبها آيّا كان الحق في أن يكون كاهن الأسرة أو العشيرة. وكان يرأس العائلة في غياب الأب عن البيت وبعد موته؛ ويكون له نصيب الضعف في الميراث.

سيتعقب يعقوب آخاه عيسو ويتغلب عليه فيسلب منه بركة أبيه ويحصل على حق البكورية كاملاً بفضل تدخل أمه. هذا التفوق من جانب يعقوب يمثل مقدمة لتفوق بني إسرائيل على بني آدوم فيما بعد على طول التاريخ.

هنا يعقوب نال البركة بالخدعة؛ وبقي أن يواجه نتائجها. وأولى النتائج هو انكشاف الخدعة بعودة عيسو.. ولا شك أن يعقوب ورفقة كانا يعلمان أن عيسو سيعود من صيده؛ ويقدم طعامًا لآبية ويطلب بركته؛ وتتكشف اللعبة.. ولكن لابد أنهما كانا يعلمان أيضًا أن البركة حينما تُعطى لا يمكن أن تُسحب “لأَنَّ هِبَاتِ اللهِ وَدَعْوَتَهُ هِيَ بِلاَ نَدَامَةٍ.(رو11: 29)‏ حتى إن كنا غير أمناء؛ فهو يبقي أميناً (2تي 2: 13). وهو قد قال منذ الحبل بيعقوب وعيسو: وكبير يستعبد لصغير؛ فلابد أن هذا يتم..

عاد عيسو ؛ وصنع أطعمة لأبيه؛ وطلب بركته. فسأله إسحق من أنت؟ فأجاب “” (تك 27: 33). اكتشف انه وقع في خدعة؛ وأن يعقوب “أتي بمكر وأخذ البركة”.. ولكن كيف يمكن أن يحدث هذا؟! هل من المعقول أن يسمح الله بأن تعطي البركة لمن لا يستحقها؟! وهل ستثبت البركة التي أخذها يعقوب؟ طبعًا سوف تثبت. ولكن كيف؟!

وهنا بدأ ذهن إسحق يجول في أعماق بعيدة.. ويقيناً أنه تذكر في تلك اللحظات الكلام الذي قال الله لرفقة في وقت حبلها “فِي بَطْنِكِ أُمَّتَانِ، وَمِنْ أَحْشَائِكِ يَفْتَرِقُ شَعْبَانِ: شَعْبٌ يَقْوَى عَلَى شَعْبٍ، وَكَبِيرٌ يُسْتَعْبَدُ لِصَغِيرٍ” (تك 25: 23). كان قد نسي هذه النبوءة في شيخوخته.. وعاد ليتذكر الآن.. إذن فقد كان على وشك آن يعطي البركة لعيسو؛ ولكن الله صحح له هذا الخطاً؛ ولم يسمح لإسحق أن يقع فيه. فالبركة هي ليعقوب. وقال إسحق “نعم مبارك” (تك 27 :23). وعلى الرغم من خداع يعقوب فقد ظلت البركة له؛ دون أخيه عيسو؛ والذي كانت أسمى أمانيه تتركز في القتال من أجل الحرية والقضاء على سيادة أخيه.

كان إسحق يحب ابنه عيسو ويذكر الكتاب السبب؛ لأن في فمه صيدًا؛ ورغم المظهر الخارجي الذي يوحي بالنجاح كان عيسو إنساناً فاشلاً مهزومًا. يصفه الكتاب في عبارة موجزة قائلاً “لِئَلاَّ يَكُونَ أَحَدٌ زَانِيًا أَوْ مُسْتَبِيحًا كَعِيسُو، الَّذِي لأَجْلِ أَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعَ بَكُورِيَّتَهُ.(عب 16:12). هذا هو تشخيص الله له والكتاب هنا يشير إلي القصة المذكورة ل (تك 29:25 -34).

عند ميلاد يعقوب وعيسو كان هو الصغير ولكن أمه أخذت الوعد من الرب (تك 25: 23) ومن هنا حصل يعقوب على وعد إلهي أنه سيحصل على البكورية ومن ثم البركة التي تتبعها. فمن المعروف أن البكورية كان لها مزايا كبيرة في الميراث بحسب عادات الشعوب القديمة إذ أن الابن البكر هو الذي سيحمل مسؤولية العائلة وسينال الجزء الأكبر في الميراث.

مضى عيسو في طريقه غير مبال ببركات الله له ولم يندم على بيعه للبكورية ولم يشعر بالخسارة الفادحة التي لحقت به. لم يكن في قلبه مكان للتوبة. وما خدعه يعقوب أخوه وآخذ منه البركة كانت دموعه لدى إسحق أبيه لا دموع التوبة بل دموع الخسارة وضياع فرصة البركة؛ دموع من فقد فرصة العمر.

الصغير يسرق البركة من الكبير:

فَدَعَا إِسْحَاقُ يَعْقُوبَ وَبَارَكَهُ، وَأَوْصَاهُ وَقَالَ لَهُ: «لاَ تَأْخُذْ زَوْجَةً مِنْ بَنَاتِ كَنْعَانَ. قُمِ اذْهَبْ إِلَى فَدَّانَِ أَرَامَ، إِلَى بَيْتِ بَتُوئِيلَ أَبِي أُمِّكَ، وَخُذْ لِنَفْسِكَ زَوْجَةً مِنْ هُنَاكَ، مِنْ بَنَاتِ لاَبَانَ أَخِي أُمِّكَ. وَاللهُ الْقَدِيرُ يُبَارِكُكَ، وَيَجْعَلُكَ مُثْمِرًا، وَيُكَثِّرُكَ فَتَكُونُ جُمْهُورًا مِنَ الشُّعُوبِ. وَيُعْطِيكَ بَرَكَةَ إِبْرَاهِيمَ لَكَ وَلِنَسْلِكَ مَعَكَ، لِتَرِثَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ الَّتِي أَعْطَاهَا اللهُ لإِبْرَاهِيمَ». فَصَرَفَ إِسْحَاقُ يَعْقُوبَ فَذَهَبَ إِلَى فَدَّانَِ أَرَامَ، إِلَى لاَبَانَ بْنِ بَتُوئِيلَ الأَرَامِيِّ، أَخِي رِفْقَةَ أُمِّ يَعْقُوبَ وَعِيسُوَ.(تك 28: 1-5)

بعد أن بارك إسحاق يعقوب ابنه؛ حقد عيسو على يعقوب أخيه؛ وقرّر أن يقتله بسبب خداعه ومكره. فدعا إسحاق يعقوب وأوصاه أن لا يأخذ زوجة من بنات كنعان الشريرات؛ بل يذهب إلى فدان آرام ويأخذ لنفسه زوجة من بنات خاله لابان. فسمع يعقوب لكلام أبيه وأمه؛ وخرج من بر سبع وذهب نحو حاران وصادف مكاناً وبات هناك لأن الشمس كانت قد غابت. (تك 28).

يعقوب أبو الآباء: كان خارجاً من بيت أبيه، خائفاً من آخيه عيسو. وكان سائرًا ِ الطريق: ولا يعرف ماذا ينتظره. كل ما كان يعرفه؛ أنه وضع أمامه نصيحة أمه رفقة التي قالتها له: “فَالآنَ يَا ابْنِي اسْمَعْ لِقَوْلِي، وَقُمِ اهْرُبْ إِلَى أَخِي لاَبَانَ إِلَى حَارَانَ، وَأَقِمْ عِنْدَهُ أَيَّامًا قَلِيلَةً حَتَّى يَرْتَدَّ سُخْطَ أَخِيكَ. حَتَّى يَرْتَدَّ غَضَبُ أَخِيكَ عَنْكَ، وَيَنْسَى مَا صَنَعْتَ بِهِ. ثُمَّ أُرْسِلُ فَآخُذُكَ مِنْ هُنَاكَ. لِمَاذَا أُعْدَمُ اثْنَيْكُمَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؟».” (تك 27: 43، 45 ). وفيما هو هارب من أخيه المزمع أن يقتله، طمآنه الرب بقوله: “وَهَا أَنَا مَعَكَ، وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ، وَأَرُدُّكَ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ، لأَنِّي لاَ أَتْرُكُكَ حَتَّى أَفْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ ” (تك 28: 15). ورأى يعقوب رؤيا السلم التي تصل الأرض بالسماء.

وهنا؛ بقي من هذه القصة أن نتطرق إلى: ما قيمة هذا الخبر من الناحية الأخلاقية؟ وهل يكون الكذب والحيلة وسيلتين لأخد بركة الوالد مع ما يرتبط بها من خيرات وامتيازات؟ وأي عقاب يمكن أن يعاقب به الله يعقوب ورفقة؛ على فعلتهما هذه: بالرغم من أنهما ينفدان الإختيار الإلهي؟.

بكل تأكيد لا يرضى الله بهذه الوسيلة التي نال بها يعقوب البركة؛ كما أنه يعلن مسؤولية رفقة ويعقوب عن هذا العمل. ولكن لو انتظرنا قليلاً على الأحداث لرآينا عقاب الله لكل منهما؛ فالأحداث تبين لنا عقاب رفقة بأن انفصل عنها ابنها المحبوب يعقوب وتموت هي دون أن تراه مرة أخرى. كما أن يعقوب ينال عقاب عمله؛ فيعيش سنوات من الخوف وهو متغربًا عن أهله؛ وكما احتال على أخيه؛ احتال عليه خاله لابان؛ وأيضًا احتال عليه أولاده وفصلوه عن ابنه المحبوب يوسف.

يعقوب يتزوج الاختان

إذ قضى يعقوب شهرًا كضيف وكان يعمل في بيت خاله لابان، وعرض أن يزوجه من راحيل؛ واتفق الإثنان على أن تكون الأجرة أن يخدمه يعقوب سبع سنين “ثُمَّ قَالَ لاَبَانُ لِيَعْقُوبَ: «أَلأَنَّكَ أَخِي تَخْدِمُنِي مَجَّانًا؟ أَخْبِرْنِي مَا أُجْرَتُكَ». وَكَانَ لِلاَبَانَ ابْنَتَانِ، اسْمُ الْكُبْرَى لَيْئَةُ وَاسْمُ الصُّغْرَى رَاحِيلُ. وَكَانَتْ عَيْنَا لَيْئَةَ ضَعِيفَتَيْنِ، وَأَمَّا رَاحِيلُ فَكَانَتْ حَسَنَةَ الصُّورَةِ وَحَسَنَةَ الْمَنْظَرِ. وَأَحَبَّ يَعْقُوبُ رَاحِيلَ، فَقَالَ: «أَخْدِمُكَ سَبْعَ سِنِينٍ بِرَاحِيلَ ابْنَتِكَ الصُّغْرَى».“. (تك 29 :14 -18).

اقتراح يعقوب بأن يعمل سبع سنوات مقابل أن يتزوج راحيل؛ فقد رحب به لابان على الفور. وبوسعه أن يزوجه أولاً “ليئة” الأقل جملاً؛ وبذلك يكسبه كعامل مجاني بعد انتهاء السبع السنوات الأولى؛ والعمل سبع سنوات من أجل زوجة؛ ربما كانت الفترة المقبولة لذلك؛ وإذا ما دفع مهر العروس على شكل هدايا ؛ فيتعين أن يكون قيمتها معادلة لأجر عمل سبع سنوات. ومثل هذا المبلغ يعد ضمانًا لجدية الأمر ويحد من الإرتباطات العابرة؛ وتقليلاً لعمليات الطلاق.

إذ أكمل يعقوب سبع سنين العمل كأيام قليلة طلب راحيل كزوجة حسب وعد أبيها؛ وإذ آقام لابان وليمة؛ وخدع لابان يعقوب وزوجه “ليئة” بدلاً من راحيل فقدم له في المساء ليئة ابنته وأعطاه زلفة جارية لها. وفي الصباح إذ اكتشف يعقوب خداع خاله له اعتذر له خاله “لا يُفْعَلُ هكَذَا فِي مَكَانِنَا أَنْ تُعْطَى الصَّغِيرَةُ قَبْلَ الْبِكْرِ. أَكْمِلْ أُسْبُوعَ هذِهِ، فَنُعْطِيَكَ تِلْكَ أَيْضًا، بِالْخِدْمَةِ الَّتِي تَخْدِمُنِي أَيْضًا سَبْعَ سِنِينٍ أُخَرَ (تك 29 :26، 27).

إلى حد ما كان يعقوب يستحق كل هذه الفوضى. لقد ساوم عيسو على البكورية؛ وفيما بعد خدع أباه إسحق في شيخوخته؛ بأن تظاهر بأنه ابنه البكر فآخذ منه البركة عوض عيسو وبذلك سرق البركة التي كانت من حق الأخ الأكبر. حتى وإن كانت بقصد حسن وهدف روحي لكنه بالكيل الذي به كال لأبيه يُكال له…

لهذا خُدع في زوجته من خاله؛ وهنا عمل خاله نفس الشيء معه عندما خدعه وأعطاه ليئة بدلاً من راحيل زوجة له. كما خدعه أولاده في أمر يوسف؛ وقضى يعقوب أغلب آيام حياته مرٌّ النفس! وانخدع المخادع؛ وبسبب ذلك عاش كل حياته العائلية في خلل.

لم يكن الخداع صعبًا؛ إذ كانت العروس تزف في وليمة الزواج وهي مرتدية برقعًا أحمر… و الليل لم يكن سهلاً أن يميزها حيث النور الخافت أو الظلام… والغريب هنا أن الوحي لم يسجل رأي راحيل ولا شعورها وإحساسها ذلك اليوم.

لم تكن الشريعة بعد قد سُلمت؛ التي حرمت الزواج بأختين (لا 18:18)؛ ولم يكن يعقوب يطلب تعدد الزواج: لكنه جاء من بيت أبيه يطلب زوجة واحدة؛ وفي خدمته للابان كان ينتظر راحيل كزوجة واحدة؛ آما التصاقه بالجواري فلم يكن عن شهوة جسد وإنما بسبب الحاجة إلى الأولاد إذ كان العالم في ذلك الوقت به قلة قليلة بالنسبة لحجمه.

فَفَعَلَ يَعْقُوبُ هكَذَا. فَأَكْمَلَ أُسْبُوعَ هذِهِ، فَأَعْطَاهُ رَاحِيلَ ابْنَتَهُ زَوْجَةً لَهُ. وَأَعْطَى لاَبَانُ رَاحِيلَ ابْنَتَهُ بِلْهَةَ جَارِيَتَهُ جَارِيَةً لَهَا.” (تك 29: 28، 29).

ولما رأى الرب أن ليئة مكروهة؛ والترجمة الصحيحة هنا هي المذكورة في (تك 29: 30) “وَأَحَبَّ أَيْضًا رَاحِيلَ أَكْثَرَ مِنْ لَيْئَةَ.” آى أن يعقوب أحب الاثنتان ولكنه آحب راحيل أكثر من ليئة. فالكلمة تدل على درجة أقل من الحب وليس الكراهية. وأعطى الرب ليئة نسلاً أولاً قبل أن تلد له راحيل.

ورأينا في هذه القصة صراع أختان على إنجاب النسل؛ ولعل قصة اللفّاح الذي وجده رأوبين ابن ليئة وطلبته راحيل من ليئة ينم على كم الصراع بينهن لإنجاب أكبر عدد من الأولاد ؛ لاعتقادهم أن ذلك يقرب الزوج لزوجته.

ولكن ما هذا اللفّاح على وجه التحديد؟ البعض ترجم الكلمة العبرية المستخدمة هنا ” دودايم ” إلى زنابق؛ والبعض الآخر الياسمين. وآخرون نبات الكباد ؛ والبعض الآخر نبات عُش الغراب؛ وآخرون التين؛ ويعتقد البعض أن الكلمة تعني الزهور الجميلة بشكل عام.

وقال البعض أن نبات الماندريك هو اللفاح الذي طلبته راحيل. وهو ينمو مع محصول القمح؛ المتوافر في منطقة الجليل في شهر مايو ففي مثل هذا الوقت؛ يكون الماندريك مليئاً بالثمار وتعتقد الكثيرمن النساء الإغريقيات والشرقيات في ارتباط هذا النبات بالخصوبة؛ وتقوية فرص الحمل.

وبعد هذا الصراع المرير المليء بالغيرة بين الأختين؛ رُزْق يعقوب من زوجاته الأربع بأثني عشر ولدًا؛ وبنت دعاها “دينة”.

وترك يعقوب وذويه حاران وذهبوا إلى أرض كنعان؛ وفي رحلة السفر هذه سرقت راحيل أصنام أبيها وأخذتها معها (تك ‎31‏ :19)

ومن ثم فإن لابان وبنيه إنما كانوا مضطرين إلى اللحاق بركب يعقوب: معاتبين إياهم على سرقة أصنامهم؛ غير أن راحيل خبأت أصنام أبيها ووضعتها في حداجة الجمل؛ وجلست عليها.

وعندما جاء لابان ليسأل على آلهته؛ قالت راحيل لأبيها: “لاَ يَغْتَظْ سَيِّدِي أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُومَ أَمَامَكَ لأَنَّ عَلَيَّ عَادَةَ النِّسَاءِ (تك 31: 35):‏ يبدو أن ذلك سببًا وجيهًا عند أبيها؛ لآنه إذا كانت هذه الترافيم مستخدمة لغرض ديني؛. كما كانت تُستعمل من قبل؛ ولابان يدعوها آلهته؛ بالتالي هو لن يشك في أن امرأة في مثل هذه الحالة؛ التي كانت تُعتبر نجسه في هذه المجتمعات ولا يجب أن تلمس هذه الترافيم؛. تكون جالسة على هذه الأشياء المقدسة والمكرمة.

ولكن؛ لماذا سرقت راحيل أصنام أبيها (تك ‎19:31)؛ نجحت حيلة راحيل، وغادر لابان دون تردد ؛ ويبدو من الطبيعي جدًا آن نفترض أن راحيل كانت تعتقد أنه من خلال استخدام هذه الترافيم كان يمكن لأبيها آن يكتشف خط سير رحلتهم. ويعرف الاتجاه الذي ساروا فيه. وبالتالي هي سرقتها بغرض حماية عائلتها؛ ولكن بعد أن سرقتها ووصول أبيها لهم بدون الترافيم خشيت الاعتراف بالسرقة؛ وربما أيضًا
كانت تعتقد أنه ربما يآتي وقت فيه قد تستخدمها لنفسهاء لهذه الاسباب أخفتها.

ويقول الأرشيدياكون نجيب جرجس المقصود بالأصنام هنا (الترافيم) وهي تماثيل صغيرة في شكل الأشخاص كانت من مخلفات العبادات الوثثية؛. وكانوا يتفاءلون بها ؛ ويظنون أن اقتناءها حرز لجلب الخير ودفع الضرر كما كانوا يستشيرونها ويعتقدون أنها ترشدهم لما فيه الخير؛ وربما تكون راحيل قد سرقتها للإنتفاع بمعادنها ؛ أو للتفاؤل بها وإعتقادها أنها ستسهل لهم الهروب؛ أو لكي تحرم أباها من استشارتها فلا يُعرف منها طريق هروب يعقوب وأسرته؛ وكل هذا كان خطاً من الأخطاء التي وقعت فيها راحيل.

ويقول ابن عزرا الحاخام اليهودي أنها أرادت أن تُجِرَّدِ أباها من الوسيلة التي قد تساعده على اكتشاف الاتجاه الذي اتجهوا نحوه في هروبهم. وقال يوسيفوس المؤرخ اليهودي إنها فعلت ذلك لتحمي نفسها إذا باغتتها الحاجة للاستغاثة بأصنام أبيها. ورأى ذهبي الفم أنها على أي حال بقايا المعتقد الخرافي الذي مازال عالقاً بها من ديانة أهلها الوثنية. أما القديس باسيليوس وغريغوريوس النزينزي وثيؤدورينوس
فقد أحسنوا الظن بها وقالوا أنها أرادت آن تُجرَّد آباها من عبادة الأصنام؛ إلا أن هناك رأياً تسنده الاكتشافات الأثرية.. يبين أنها سرقت أصتام أبيها لتتقل ملكيتها لزوجهاء باعتباره أحق بها من أخوتها الذين كان لهم وحدهم حق وراثة أصتام أبيهم (يقصد هذا الرأي ما جاء مُسجلاً بالكتابة المسمارية وباللغة الآكادية على اللوحات التي أكتشفت في حفريات مدينة نوزي الواقعة على بعد ‎150 ‏كم شمال بغداد).. ومهما كان الدافع فقد كانت جريمة سرقة بوصمة الوثنية.

لقد سعى لابان خلف يعقوب أولاً لأنه كان يود عقابه لأنه ذهب مع ابنتيه دون علمه؛ ولهذا عندما التقاه قال له “فِي قُدْرَةِ يَدِي أَنْ أَصْنَعَ بِكُمْ شَرًّا، وَلكِنْ إِلهُ أَبِيكُمْ كَلَّمَنِيَ الْبَارِحَةَ قَائِلاً: احْتَرِزْ مِنْ أَنْ تُكَلِّمَ يَعْقُوبَ بِخَيْرٍ أَوْ شَرّ. (تك 29:31) وثانياً كان لابان يود استرجاع أصنامه؛ ويقول ” وليم كامبل”. أن زوج الابنة التي تحصل على أصنام الأسرة يكون لها الحق في الحصول على كل ممتلكات حميه. وقد أظهرت الحفريات الحديثة إن لوحات نوزي كشفت سبب قلق لابان؛ فامتلاك الترافيم يعني القدرة على المطالبة بملكية الثروة.

ثم حدث أن”بَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ، وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ، فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. وَقَالَ: «أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي». فَقَالَ لَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «يَعْقُوبُ». فَقَالَ: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ».”( تك 32 :24 -28).

مع أن يعقوب كان قد ترك فدان آرام إطاعة لأمر الرب فقد سار الطريق الذي كان قد سلكه منذ عشرين عامَا؛ والشكوك والمخاوف تساوره من كل جانب . إن خطيته التي ارتكبها بخداعه لأبيه كانت ماثلة أمام عينيه على الدوام؛ وآدرك أن اغترابه الطويل كان هو النتيجة المباشرة لتلك الخطية؛ فجعل يفكر في هذه الأمور نهارًا وليلاً. حتى أن تبكيت ضميره المشتكي جعل سفرته كاسفة وحزينة. وعندما ظهرت أمامه تلال وطنه من بُعد تأثر قلبه تآثراً عميقًا؛ وظهر آمامه الماضي واضحً؛ وصحب ذكرى خطيته تفكيره في فضل السيد عليه ووعوده إياه بالمعونة والإرشاد .

وإذ قاربت رحلته من نهايتها آثار تفكيره في عيسو كَثيرًا من التوجس المضطرب في نفسه؛ فبعد هروب يعقوب اعتبر عيسو نفسه الوارث الوحيد لأملاك أبيه؛ ولهذا فإن أخبار عودة يعقوب أثارت في نفسه الخوف من أنه آتٍ ليأخذ نصيبه من الميراث؛ و تلك الآونة كان عيسو قادرًا أن يوقع بيعقوب أضرارًا جسيمة لو أراد؛ وكان يمكنه أن يعمد إلى العنف؛ وهو في ذلك لن يكون مدفوعًا فقط بدافع الثآر لنفسه؛ بل أيضًا لكي يستحوذ؛ وهو مطمئن؛ على الثروة التي ظل يعتبرها أمدًا طويلاً ملكه الخاص.

ومرة أخرى أعطى الرب يعقوب دليلاً على رعايته الإلهية؛ فإذ كان يتجه نحو الجنوب في سفره من جبل جلعاد بدا كأن جيشين من ملائكة السماء يعسكران حوله من خلف ومن قدام ويسيران مع تلك الجماعة التي كان هو على رأسها للحماية والحراسة؛ وذكر يعقوب الرؤيا التي كان قد رآها في بيت إيل مند سنين طويلة فزايلته بعض الهموم التي أثقلت قلبه حين ظهر أمامه ذلك البرهان وهو أن الملائكة السماويين الذين أتوه بالرجاء والشجاعة عند هروبه من كنعان سيكونون حراساً له في عودته؛ فقال :«هذَا جَيْشُ اللهِ!». فَدَعَا اسْمَ ذلِكَ الْمَكَانِ «مَحَنَايِمَ».(راجع تك 32).

مقابلة الأخوان:

ثم أن يعقوب يستعد لمقابلة أخيه عيسو؛ فيرسل له رسلاً تطلب رضاه؛ فضلاً عن الكثير من الهدايا التي قدمها له. استرضاءًا له. وكان يعقوب يتوقع اللقاء المخيف مع عيسو في طريقه إلى كتعان. واستولى عليه الفزع مما جعله يقسم ممتلكاته استعدادا لملاقاة عيسو. وإتجه إلى الله بالصلاة؛ اعترف فيها بتواضع أنه لم يكن مستحقاً كل البركات التي منحها له الله. ثم تضرع طالبًا النجاة من وجه الخطر.

ومع ذلك فقد أحس يعقوب بأن عليه أن يفعل شيئًا لكي يحصل على السلامة والطمآنينة؛ ولذلك أرسل رسلاً بتحية سلمية إلى أخيه؛ وعلمهم الكلمات التي كان عليهم أن يخاطبوا بها عيسو. غيرأن الرسل رجعوا إلى يعقوب قائلين أن عيسو قادم إليك وأربع مئة رجل معه؛ ولم يتلق يعقوب ردًا على رسالة المحبة التي بعث بها إليه؛ فتأكد لديه أن عيسو قادم ليثار منه؛ فامتلأت المحلة رعبَّا “فخاف يعقوب جداً وضاق به الأمر “؛ إنه لم يكن في استطاعته العودة؛ كما أنه كان خائفًا من التقدم في سيره؛ ورجاله العزل الذين لم تكن لديهم وسيلة للدفاع لم يكونوا مستعدين لمواجهة هجوم معاد؛ ولذلك قسمهم يعقوب إلى جيشين؛ حتى إذا جاء عيسو إلى الجيش الواحد وضربه تكون لدى الجيش الباقي فرصة للهروب؛ ثم أرسل من قطعانه الكثيرة هدايا سخية إلى عيسو مصحوبة برسالة ود ؛ لقد بذل أقصى جهده للتكفير عن ظلمه لأخيه؛ وليبعد الخطر الذي كان صلى طالبًا حماية السماء قائلاً : وأنت قلت لي: “ارْجعْ إِلَى أَرْضِكَ وَإِلَى عَشِيرَتِكَ فَأُحْسِنَ إِلَيْكَ. صَغِيرٌ أَنَا عَنْ جَمِيعِ أَلْطَافِكَ وَجَمِيعِ الأَمَانَةِ الَّتِي صَنَعْتَ إِلَى عَبْدِكَ. فَإِنِّي بِعَصَايَ عَبَرْتُ هذَا الأُرْدُنَّ، وَالآنَ قَدْ صِرْتُ جَيْشَيْنِ. نَجِّنِي مِنْ يَدِ أَخِي، مِنْ يَدِ عِيسُوَ، لأَنِّي خَائِفٌ مِنْهُ أَنْ يَأْتِيَ وَيَضْرِبَنِي الأُمَّ مَعَ الْبَنِينَ.” (تك32: 10-11)

ولكن حينما تقابل عيسومع يعقوب سجد يعقوب سبع مرات ‎،‏ وهي عادة قديمة ورد ذكرها في وثائق العمارنة والأوغاريت؛ ومن ثم صفح له أخوه؛ فعندما تقابلا :”فَرَكَضَ عِيسُو لِلِقَائِهِ وَعَانَقَهُ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ، وَبَكَيَا. (تك 33 :4). على عكس ما توقع يعقوب؛ وعلى عكس كل الخطط والسيناريوهات التي تخيلها في عقله.

ويقيم يعقوب في سكوت؛ ثم ينتقل إلى شكيم فيضرب خيامه أمام المدينة؛ ويقيم هناك مذبحاً ويذكر سفر التكوين أن شكيم بن حمور الحوي رئيس الأرض؛ الذي ابتاع منه يعقوب عند عودته من فدان آرام؛ قطعة الحقل التي نصب فيها خيمته؛ وهناك
أقام مذبحاً ودعاه: “إيل إله إسرائيل” (تك 17:33-20).‏ وخرجت دينة ابنة يعقوب من زوجته ليئة؛ لتنظر بنات الأرض”’ فرآها شكيم وأخذها واغتصبها وعرض أن يتزوجها وان يتم التزاوج المتبادل بينهم وبين بني إسرائيل. فأجابه بنو إسرائيل بمكر؛ وطلبوا من شكيم وأبيه أن يختنوا كل ذكر؛ فوافقوا. وفيما هم متوجعون؛ أتي ابنا يعقوب شمعون ولاوي؛ أخا دينة علي المدينة؛ وقتلا كل ذكر؛ وقتلا حمور وشكيم ابنه؛ وآخذا دينة أختهما وخرجا. ثم أتى بنو يعقوب علي القتلى ونهبوا المديتة (تك 1:34 -31).

وأقام يعقوب وبنوه في أرض كتعان حتى هاجروا جميعًا إلى أرض مصر؛ بدعوة من يوسف الإبن الحادي عشر ليعقوب. وكان عُمر يعقوب وقتها الثلاثين بعد المائة (تك 47: 9).

يوسف المحبوب وأحلامه :

كان يوسف ابن راحيل موضوع فخر وسرور يعقوب. وكان أحب إخوته إلى أبيه يعقوب ويذكر الكتاب السبب أنه”وَأَمَّا إِسْرَائِيلُ فَأَحَبَّ يُوسُفَ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ بَنِيهِ لأَنَّهُ ابْنُ شَيْخُوخَتِهِ، فَصَنَعَ لَهُ قَمِيصًا مُلَوَّنًا.” (تك ‎3:37)؛وعلى ما يبدو كانت هذه هي السمة المميزة لشيخ القبيلة؛ أن يعطي القميص الملون لأحد أبنائه تعني أنه هو المتسلط على إخوته. ومن ثم له امتيازات البكر مع أنه الحادي عشر في ترتيب إخوته. فإن صح هذا التقليد فيكون هذا نبوة من يعقوب لما تم فيما بعد ؛ وأنه رأى حلمًا فسره إخوته على أنه سيكون سيدًا عليهم (تك 37 :5-8)؛ هنا تملكهم الغيظ أكثر؛ فلم يكن الوالد فقط
يظن أن ابنه هذا هو أفضل أولاده؛ ولكن الواضح أن الابن نفسه ظن نفسه كذلك.

وعندما غاب أبناء يعقوب في الرعي؛ أرسل يعقوب إبنه يوسف إلى شكيم.قائلاً له “أنظر سلامة إخوتك وسلامة الغنم ورد لي خبراً” (تك 37)؛ وعندما جاء يوسف إلى شكيم ولم يجدهم؛ واصل البحث عنهم حتى وصل إلى دوثان؛ التي كانت تبعد حوالي ثمانين ميلاً شمالي حبرون، وبعدما وصل إلى إخوته: استهزءوا به وأساءوا معاملته؛ باعه إخوته للتجار المديانيين والإسماعيليين. الذين تخلصوا  بدورهم من يوسف فباعوه عبدًا ل “فوطيفار” خصي فرعون رئيس الشرط (تك 37 :36). وهنا يظهر جليًا آن الله ترك إخوة يوسف يفعلون به ما شاءوا أن يفعلوا بتسليمهم إياه إلى أيدي شعب أغلف غير مبالين بمرارة نفسه. ولكن لم تكن هذه هي النهاية؛ بل هذا الذي ظنوه قد مات وآنهم تخلصوا منه صار هو مخلصهم؛ وعوض الغرية القصيرة التي تغرّب بها يوسف بسيبهم صار هو رئيساً عليهم.

ونزل يعقوب إلى مصر وعمره 130 سنة. وعاش هناك 17 سنة. وقبل موته بارك أولًا أولاد يوسف، ثم جميع أولاده. وكان عمره عند وفاته 147 سنة. وحنط أطباء مصر جثته. وجاء بها يوسف وأخوته إلى حبرون في موكب ودفنوها في مغارة مكيفلة (تك 50: 1- 14).

فاصل

من كتاب تاريخ بني إسرائيل – الراهب أولوجيوس البرموسي

فاصل

إسحق تاريخ العهد القديم بنى إسرائيل
عصر الآباء البطاركة
تاريخ الكنيسة

 

زر الذهاب إلى الأعلى