تفسير سفر الحكمة ١٧ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السابع عشر
حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 2
المقابلة الخامسة: الظلام وعمود النار
أبرز في الأصحاحات السابقة أقنوم حكمة الله الذي يعلن حبه واهتمامه سواء بعطاياه أو تأديباته. فكثيرًا ما كان يستخدم وسيلة ما لتأديب الأشرار، وإذا بذات الوسيلة تُستخدم لصالح الأبرار ومساندتهم، حتى يدرك الكل أن ما يحدث هو حسب إرادة الله أو بسماحٍ منه، وأن كل عطية صالحة هي من عنده.
عرض قبلاً أربع مقابلات بين ما حلُ بالأشرار وما تمتع به الأبرار، والآن في شيء من الإسهاب يتحدث عن المقابلة الخامسة بين الظلمة التي أرعبت الأشرار والنور الذي كان لخدمة المؤمنين الأبرار.
- ظلمة تفضح الشر1-3
- لا نجاة من الرعب القاتل4.
- ليس ما يبدد الظلمة5-6.
- عجز السحر عن إزالة الظلمة 7-8.
- رعب من الحيوانات والأفاعي9.
- رعب من الهواء10-13.
- ظلمة الموت أو سجن القبر14-16.
- مقيَّدون بسلسلةٍ واحدةٍ من الظلام17-19.
- ليس من يشاركهم ظلمتهم20-21.
- ظلمة تفضح الشر
إن أحكامك عظيمةٌ لا يُعبَّر عنها،
ولذلك ضلَّت النفوس التي لم تتأدب. [1]
فإنه لما توهَّم آثمونَ أنهم يتسلطون على الأمَّة القديسة،
صاروا أسرى الظلام،
ومقيدين بليلٍ طويلٍ،
محبوسين تحت سُقوفهم منفيِّين عن العناية الأبدية. [2]
جاءت ضربة الظلمة التي حلت بالمصريين قبل الضربة القاضية “قتل الأبكار”، وكأنها آخر إنذار إلهي موجه ضد الأشرار ليكتشفوا ما هم عليه، ويعيدوا تقييم الموقف.
بهذه الضربة ظهرت عظمة حكمة الله، للأسباب التالية:
أولاً: بسقوطهم تحت هذه الضربة يدركون الظلمة الداخلية التي حلت في قلوبهم وأفكارهم. لقد ضلت نفوسهم، ولم تبالِ بالضربات السابقة المتوالية، فصاروا كمن في تيهٍ وضلالٍ، وقد ضاعت منهم ملامح الطريق الحقيقي، لأنهم رفضوا النور الإلهي. بحقٍ قيل عنهم: “لذلك ضلت نفوس لا تأديب لها“.
ثانيًا: يعيشون في وهم، ولا يدركون الحقيقة، فيظنون أنهم أصحاب سلطان، ليس من يقدر أن يقف أمامهم أو يصد هجماتهم على شعبٍ أعزل مُستعبد.
ثالثًا: أنهم يسخرون بهذا الشعب الأعزل، ولا يدركون أنهم يمثلون أمة مقدسة في ذلك الحين.
رابعًا: لم يدرك هؤلاء القساة أنهم إنما يقسون على أنفسهم، إذ هم “أسرى الظلام” وأنهم مقيدون وفي ليلٍ طويلٍ، ربما لا يشرق عليهم نور صباح بسبب عنادهم.
خامسًا: بعنفهم وقسوتهم صاروا أسرى بغير قيود حديدية، وفي سجنٍ من صنع خطاياهم: “محبوسين تحت سقوفهم“.
سادسًا: إذ هم بلا رحمة يحرمون أنفسهم من رحمة الله ولطفه “منفيين عن العناية الإلهية“
هذه الحقائق الست هي من صنع الخاطي المُصر على العنف والظلم والقسوة: ظلمة داخلية في أعماق النفس، اعتداد بسلطان وهمي لا وجود له، عدم إدراك لإمكانات من يقسون عليهم، والتعرف على حقيقتهم، يأسرون أنفسهم في الظلام بلا رجاءٍ في التمتع بنورٍ مشرق، يسجنون أنفسهم في سجنٍ من في عمل أيديهم، وأخيرًا يحرمون أنفسهم من المراحم الإلهية.
ظن فرعون ورجاله أنهم أصحاب سلطان ليس من رادعٍ لهم، فلم يبالوا بالأمر الإلهي الصادر إليهم خلال رجل الله موسى. وعوض التجاوب معه، في عناد صدرت الأوامر مشددة لمعاملة شعب الله بقسوةٍ وعنفٍ. وإذ أصروا على ذلك حتى بعد معاناتهم من تأديبات كثيرة أصيبوا بضربة الظلام. هنا يصوِّر الحكيم المصريين وهم في سجنٍ وظلامٍ، عاجزين عن ممارسة أعمالهم اليومية، ولم يوجد نور إلاَّ في أرض جاسان (محافظة الشرقية حاليًا). عوض استعبادهم لليهود، سجنوا أنفسهم بأنفسهم في بيوتهم وسط ظلمة حالكة، وفارقتهم حتى عطية إشراق الشمس المادية عليهم. لم يكن ممكنًا لإلههم حيث كانوا يعبدون الشمس (الإله رع) أن يخلصهم من الظلمة.
تحولت بيوتهم إلى جحيم لا يُطاق، حيث اقتحمتهم الخيالات، وانحلت قوتهم من الخوف.
الله المحب للبشرية يشرق شمسه على الأشرار والأبرار (مت 5: 45)، ومن أجل حبه أيضًا يسمح أن ينزع هذه العطية أحيانًا، لكي إذ يفقد الشرير النور الملموس يدرك فقدانه النور الإلهي في أعماقه، وتسلط الظلمة الشريرة على قلبه وفكره وحواسه! هكذا يبدو كمن فقد العناية الإلهية (حك 17: 2).
v حتمًا ظلمة القلب هذه هي في ذاتها قصاص، أي عمى القلب بسبب هجرهم نور الحكمة سقطوا في خطايا أخطر فأخطر[603].
القديس أغسطينوس
يرى العلامة أوريجينوس أن الظلمة تشير إلى ضربة الجهل التي يُصاب بها الإنسان الشرير.
v من كان قادرًا على تحطيم ضربة الجهل، الظلمة المدمرة؟ ليس من نبيٍ ولا من رسولٍ ولا أي بار! بل بالأحرى كانت الحاجة إلى قوة إله ينزل من السماء، قادر أن يموت عنا نحن جميعًا حتى بموته يكون لنا دفاع ضد الشيطان[604].
العلامة أوريجينوس
كانوا يظنون أنهم يَبقَونَ مستَتِرين في خطاياهم الخفيَّة،
تشتتوا تحت ستار النسيان المظلم،
وهم في رعبٍ شديدٍ،
تقلقهم الأخيلة. [3]
إذ يرتكب الإنسان الخطية، يظن أنه يعمل بحكمةٍ أو مكرٍ، ليس من يقدر أن يكتشف أمره. وبمرور الزمن يحسب أن ما فعله قد طواه الزمن وصار منسيًا. لكن وإن لم يُكتشف أمره بين البشر، ولم يسقط تحت عقوبة مدنية أو جنائية، يسقط تحت عقوبة في أعماقه. إذ يحل به رعب شديد وفزع من أخيلةٍ تلاحقه. هذه هي إحدى اللعنات التي تحل بمن يسقط في الشر، حيث يحاول الهروب مُشتتًا بين طرق كثيرة، وليس خلفه عدو يقتفي أثره. عدو الخاطي في داخله يرعبه، ليس من يقدر أن ينقذه منه سوى الله نفسه، إن رجع إليه بالتوبة. أما علاجه فهو طرد الخوف بالخوف، فإن الخوف الصادر بلا رجاء عن ارتكاب الخطية تنزعه مخافة الرب التي تملأ النفس بالرجاء في مخلص العالم، محب الخطاة ومقدسهم.
جاء في اللعنات التي تحل بمن يصمم على التمرد ومعصية الوصية الإلهية: “يرسل الرب عليك اللعن والاضطراب والزجر في كل ما تمتد إليه يدك لتعمله، حتى تهلك وتفنى سريعًا من أجل سوء أفعالك إذ تركتني” (تث 28: 20). إن كان ثمر الروح هو الحب الممتزج بالفرح (غل 5: 23)، حيث يحمل الروح القدس النفس كما إلى السماء لتذوق الفرح الأبدي وهي بعد وسط اضطرابات العالم وهمومه وتجاربه، فإن عمل الخطيَّة خاصة العصيان هو حرمان الإنسان من هذا الجو السماوي. إذ بالعصيان يعطي الإنسان ظهره لله مصدر الفرح الحقيقي، لذا فهو يلقي بنفسه في جحيم القلق والاضطراب، حاملاً روح الزجر وعدم الشكر في كل عملٍ تمتد إليه يده. أنَّه يدفع نفسه بنفسه إلى الدمار الداخلي.
ارتبط عدو الخير بالليل والظلمة، لأنه لا يطيق النور الحقيقي. أعماله كلها شريرة ومخادعة، لذا تُحسب ظلمة.
v خداع العدو هو ليل، كما قال بولس: “لسنا أبناء ليل بل أبناء نهار” (راجع 1 تس 5: 5-8)[605].
القديس مار إسحق السرياني
ينتقد القديس يوحنا الذهبي الفم عبدة الأوثان لأنهم حطموا النور الذي كان فيهم (الناموس الطبيعي)، فصاروا في الظلمة.
v هذا هو أخطر اتهام ضد الوثنيين (انهم تركوا الله) والثاني أنهم عبدوا الأوثان (إر 2: 13)… حاول الوثنيون أن يبلغوا السماء، لكنهم إذ حطموا النور الذي كان فيهم وعوضا عنه وثقوا في أنفسهم، في ظلمة تفكيرهم. نظروا غير الهيولي في الأجساد وتطلعوا إلى غير المحدود في أشكالٍ مخلوقة، بهذا فقدوا تناغمهم مع النور[606].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v بالتأكيد ظلمة القلب هذه كانت عقوبة وجزاء، بهذا الجزاء الذي هو عمى القلب بسبب هجر نور الحكمة، سقطوا في خطايا خطيرة أكثر فأكثر[607].
القديس أغسطينوس
- لا نجاة من الرعب القاتل
لأنه لم تكن الحجرات الداخلية التي كانت تحفظهم، تقيهم من الخَوف،
فقد كانت أصوات صاخبة تدوي من حولهم،
وأشباح فاجعة الوجوهِ تتراءى لهم. [4]
جاءت في بعض الترجمات: “لم تكن الأكنة التي لبثوا فيها لتقيهم من الذعر“. فهو يشبههم بصغار طيور راقدة في عششٍ (جمع عش)، تظن أنها محمية بين أغصان الشجر، ليس من يقترب أذيتها.
ما هو الملجأ الذي ظن المصريون أنه قادر أن يسترهم مما يرتكبوه إلا شعورهم بأنهم أصحاب سلطان، وأنهم فوق القانون؟! هذا الملجأ الهزيل لم يكن قادرًا على حمايتهم من الرعب الذي في داخلهم، والأصوات الصاخبة التي تدوي من حولهم، والأشباح التي كانت ترعبهم وسط الظلمة الحالكة.
لم يقف الأمر عند فقدان النور وسيطرة الظلمة على الأشرار، وإنما سمح الله لخيالات الشياطين أن ترعبهم وسط الظلام، لكي يدركوا أنهم قد رفضوا الانتساب لله وقبلوا بإرادتهم البنوة لإبليس.
v إن كان أحد يفكر دومًا في ما هو يسر الله وما لا يسره، يُمكن أن يُقال عنه إن خوف الله دومًا أمام عينيه. لكنه مثل هذا الشخص يلزمه أن يُختبر ويتعلم باجتهاد في ناموس الله حتى لا يخاف حيث لا يوجد سبب للخوف. فإن خوف الله يجب أن يُوضع دائمًا أمام أعيننا – ليست أعين الجسد – لأن ما نتحدث عنه هنا أمر غير منظور ولا مادي وإنما أعين الذهن حيث يكون إدراك خوف الله وفهمه واضحًا، وبهذا كما قلنا قبلاً نكتشف ما يلزم أن نخافه وما لا يلزم مخافته. فمن يخاف الله لا يخاف سلاطين هذا العالم[608].
العلامة أوريجينوس
لقد فشل المصريون في إيجاد ملجأ لهم من الظلمة، فقد كانت هناك حاجة إلى تدخل الروح القدس للخلاص منها.
v الرب نفسه، الروح القدس نفسه يلزمنا أن نسأله لينزع كل سحابة وجميع الظلمة التي تعوق الرؤية عن قلوبنا التي تقست بدنس الخطايا، حتى نستطيع معاينة معرفة ناموسه الروحي العجيب[609].
العلامة أوريجينوس
لكي نتخلص من الظلمة، يليق بنا أن نغلب محبة العالم فنشتغل بالسماويات ونراها.
v ليس أحد ممن غلب (محبة العالم) وتأهل للعالم العتيد أعمى في فهمه، لأن عينيه مستنيرتان[610].
القديس ديديموس الضرير
- ليس ما يبدد الظلمة
ولم تكن النار، مهما اشتدت قوتُها،
تُلقي نورًا،
ولا كان بريق النجوم يُنيرُ ذلك الليل البهيم. [5]
كانت الظلمة ضربة للتأديب، لذا باءت بالفشل كل محاولاتهم لإشعال نار أو مصابيح مهما كانت قوتها.
مع بهاء النجوم، لم تكن قادرة على إضاءة الليل البهيم الذي حلُ بهم.
إنها ظلمة غير طبيعية، ليس من أنوارٍ صناعية أو طبيعية تقدر أن تبددها. وكأن الظلمة كانت تصرخ بصوت عالٍ: ليس لكم من خلاص بأية وسيلة سوى بالرجوع إلى الله، النور الحقيقي، القادر وحده أن يبدد ظلمتكم الداخلية.
ولم يكن يلمعُ لهم إلاَّ كُتل من نار تشتعل من تلقاء ذاتها،
وتلقي الرعب.
وكانوا، إذا غاب عنهم هذا المنظر لا يزالون مرتعدين،
حاسبين ما يظهر لهم أهول مما هو. [6]
كانت تظهر لهم كتل نارية، لا لتضيء لهم، بل لترعبهم. ربما هذه الكتل كانت تمثل أرواحًا شريرة نارية، لكن بلا بهاءٍ، وعاجزة عن الإضاءة، أو هي من وحي تخيلاتهم. كانوا في حيرة شديدة، فالظلمة الحالكة أرعبتهم، والكتل النارية لم تعالج الأمر، بل ألهبت بالأكثر قلوبهم بالرعب.
لعل هذه الكتل النارية كانت من عمل السحر، فقد حاول السحرة مقاومة الظلمة التي هي تأديب إلهي بإيجاد كتل نارية تضيء لهم. إذ ظهرت الكتل التي عجزت عن تبديد الظلمة ورفع الخوف والرعب، الأمر الذي أرعب المصريين بالأكثر.
منذ خلقة آدم وعدو الخير يبذل كل الجهد ليتشبه بالله وملائكته لكي يصطاد الإنسان في شباكه بالخداع. هنا حاول عدو الخير – خلال السحر – أن يظهر ككتلٍ نارية، حتى يؤكد للمصريين أنه الله.
v هذه هي عادة الشيطان أن يقلد الأمور الخاصة بالله. إنه يقيم أنبياء كذبة يقاومون الأنبياء الحقيقيين، كما يظهر في شكل ملاك ليخدع البشر[611].
الأب ثيؤدورت أسقف قورش
v إن كنا لنا المسيح في قلوبنا فهو يهبنا النور. لذلك إن كان إدراك المعرفة يزيل الجهل، وإن تركنا الأعمال غير اللائقة ونفعل ما هو مستقيم، فإننا نكون في النور، ونسلك بأمانة كما في النهار[612].
العلامة أوريجينوس
- عجز السحر عن إزالة الظلمة
عجِزت شعوذة فن سحرهم،
وأُفحِم ادِّعاؤُه بالحكمة إفحامًا مخزيًا. [7]
لأن الذين وعدوا بصرف المخاوف والاضطرابات عن النفس المريضة،
هؤلاء أمرَضَهم خوفٌ مضحك. [8]
اختاروا الخضوع لقوات الظلمة، واستخفوا بالاحتماء تحت جناحي الله (مز 91: 4)، فلم يستطيعوا الخلاص من أصوات الشياطين المخيفة وإيقاف تحركهم حولهم. عبثًا حاولوا أن يشعلوا نورًا في بيوتهم لحمايتهم من ظلمة إبليس، لأنه “إن لم يحفظ الرب المدينة، فباطلاً يسهر الحرَّاس” (مز 127: 1).
رأت الشياطين التجاء المصريين إلى إشعال النيران لتضيء لهم فأسرعوا يخيفونهم بإظهار أنفسهم كنيران مشتعلة في الجو، تتحرك أمامهم، فخاف المصريون جدًا.
كان المصريون يجيدون السحر ويعتمدون عليه، حتى ظن فرعون ومشيروه أنهم قادرون على مقاومة موسى وهرون بواسطة السحرة. وهوذا الشياطين التي تلعب دورًا رئيسيًا في السحر تعجز عن إنقاذهم من ضربة الظلمة التي حلت عليهم بسماحٍ إلهي، وعوض تقديم عون لهم، صارت الشياطين موضع رعب أعظم.
- رعب من الحيوانات والأفاعي
فإنه وإن لم يكن هناك شيء هائلٌ يُخيفُهم،
كان مرورُ الحيوانات وفحيحُ الأفاعي يُفزعهم. [9]
يا للعجب هؤلاء الذين كانوا يعبدون بعض الحشرات والزحافات صارت الدويبات والأفاعي تفزعهم وسط الظلمة.
- رعب من الهواء
فيهلِكون من الخوف المرعب،
ويرفضون حتى النظر إلى الهواء،
الذي لا يُمكن تجنبه. [10]
تحول كل ما يحيط بهم حتى الهواء إلى مصدر رعبٍ لهم، فالرعب الداخلي ينعكس على حواس الإنسان، فيظن أن كل ما حوله مرعب ومخيف للغاية، يود أن يغمض عينيه، فلا يطيق أن يتطلع حتى إلى الهواء الذي يتنسمه.
لأن الشر يدلُّ على الجُبن،
حين يحكم عليه شاهِدُه ولمضايقَة الضمير،
لا يزال يُضخِّمُ الصعوبات. [11]
يقدم لنا الحكيم حقيقة خطيرة، وهي أن الرعب يحل على الإنسان من داخله، خلال خبثه والتواء قلبه وانحرافه عن الله مصدر سلامه، فالخطية تولِّد قلقًا، وبرّ الله يولِّد سلامًا وفرحًا.
فليس الخوف إلاَّ التخلِّي عن معونات العقل. [12]
يكشف الحكيم عن علة الخوف في حياة الأشرار، فإنها ليست من أحداث حالة بهم، ولا لظروف محيطة بهم، وإنما لفقدانهم سلامة عقولهم، فليس من عونٍ يمكن أن يهبهم راحة.
v تشير الظلمة إلى الخطايا الجسدية، التي تُمارس بإغراءات عالمية… أما أن تلمس سلاح النور (رو 13: 12) فهو أن تمارس الأعمال الصالحة[613].
الأب أمبروسياستر
فكلَّما ضعف توقُّعُ المعونة،
أشتدَّ الشعور بجهل ما يجلِبُ العذاب. [13]
يفقد الأشرار رجاءهم في التمتع باتزانٍ في الفكر، فليس من عونٍ للعقل، وبالتالي يحل بهم العذاب المر لجهلهم ما هم عليه.
- ظلمة الموت أو سجن القبر
أما هم ففي ذلك الليل العاجز حقًا
والقادم من أعماق مملكة الأموات،
كانوا نائمين النوم نفسه (الذي للموت). [14]
تحولت حياتهم إلى ليلٍ مُر، كأنه ليس من صنع الطبيعة ككسوف الشمس، وإنما صدر عن الجحيم، ليحول حياتهم إلى جحيم قائلين. ومع رعبهم الشديد صاروا كمن ناموا في القبر ورقدوا.
وكانوا تارةً تُطاردُهم أشباح رهيبة،
وتارةً تنحلُّ قُواهم من خورِ نُفوسهم،
لما غَشِيَهم من خوفٍ مفاجئُ وغير متوقع. [15]
أخيرًا فإن رعبهم له ثلاثة مصادر: الخيالات التي كانت تطاردهم، وانحلال قلوبهم وانهيارها تمامًا، عدم إدراكهم لما سيحل بهم بعد ذلك.
وكذلك فمن سقط هناك، أيًّا كان
بقِيَ محبوسًا في سجنٍ
لا حديد فيه. [16]
صاروا في سجن مرعب، حبسوا أنفسهم بأنفسهم في بيوتهم يخشون الحركة داخل البيت أو الخروج منه لئلا يصطدموا بشيء ما وسط شدة الظلمة فيسقطوا أرضًا. قيدهم الظلام كما بسلاسل في أيديهم وأرجلهم فعجزوا عن الحركة، لعلهم يدركون حالة الأسر التي حلت بنفوسهم وهم لا يدرون.
يحبس الأشرار أنفسهم في سجن الظلام الذي بلا حديد. يرعبهم الخوف الصادر عن عجز عقولهم عن مدهم بالسلام. “كانوا على أنفسهم أثقل من الظلمة” (21:17).
- مقيَّدون بسلسلةٍ واحدةٍ من الظلام
فإن كان فلاحًا أو راعيًا
أو صاحبَ عملٍ من أعمالِ البرِّيَّة،
أُخذَ بغتةً ووقع في القضاء المحتوم. [17]
حلت الظلمة عليهم فجأة، فالذين كانوا في الفلاحة، أو رعاية غنمٍ أو ممارسة أي عمل في البرية لم يُعطوا لفرصة للذهاب إلى بيوتهم، بل بقوا يتخبطون وسط الظلمة لا يعرفون كيف يتحركون.
لأنهم جميعًا كانوا مقيَّدين بسلسلةٍ واحدةٍ من الظلام.
فهزيزُ الريحِ وتغريدُ الطيور على الأغصان الملتفَّة،
وإيقاعُ المياه المتدفقةِ. [18]
وقَعْقَعةُ الحجارةِ المُتدحرجَة،
وعَدْوُ الحيوانات القافزة الذي لا يرى،
وزئير أشدِّ الحيوانات توحُّشًا،
والصدى المتردِّد في تجاويف الجبال،
كل ذلك كان يشُلُّهم من الخوف. [19]
مما زاد الأمر رعبًا أنهم وهم في أسر الظلمة كان كل ما هو حولهم يزيدهم قلقًا، فصوت أغصان الشجر والمياه المندفعة والحجارة المتدحرجة، حتى الحيوانات التي في رعبها من الظلمة كانت تجري بلا ضابط في حالة هستيرية الخ. هذا كله أفقدهم كل إمكانيةٍ للطمأنينة! لقد انحلت قلوبهم، لأن الطبيعة كلها ثائرة عليهم، يخشون هجوم الحيوانات المفترسة الثائرة. لذلك بقوا في أماكنهم في البراري، كمن هم مقيدون بسلسة واحدة، ليس من يجرؤ على الحركة ليجد له رفيقًا وسط ضيقته.
- ليس من يشاركهم ظلمتهم
لأن العالم كُلَّه كان يُضيئُه نورٌ ساطع،
ويمارس أعماله بغير عائقٍ. [20]
كان العالم كله يتمتع بعطية الله؛ أي وجود النهار والليل، يمارس الناس أعمالهم في النهار خلال نور الشمس ويستريحون ليلاً، أما هؤلاء فصاروا في ليلٍ دائمٍ وسط طبيعة ثائرة، مع عجزهم التام عن ممارسة أي عمل. لقد أصابهم بالظلمة نوع من الفالج بالرغم من إمكانية تحرك أطرافهم.
وأما هم وحدهم فكان عليهم ليلٌ بهيمٌ منتشرًا،
وهو صورةٌ للظلمةِ المُعدة أن تتلقَّاهم،
لكنهم كانوا على أنفسِهم أثقلَ من الظلمة. [21]
لو أن الظلمة قد حلت على كل البشرية، لكان في ذلك شيء من التعزية، إنه ضيق عام وشامل، أما حلوله عليهم دون غيرهم، فيمثل نكبة شديدة، تجعلهم يتوقعون حلول ما هو أقسى من ذلك.
v انظروا إلى الرحمة والدينونة. الرحمة للمختارين الذين ينالون برّ الله، والدينونة على الآخرين الذين هم عميان. لكن الأولين يؤمنون لأنهم يريدون الإيمان، أما الآخرون فإنهم لم يؤمنوا لأنهم لا يريدونه. لهذا فإن الرحمة والدينونة يحلان حسب أرادتهم (البشر)[614].
القديس أغسطينوس
من وحي الحكمة 17
أنر أعماقي، فتبدد كل ظلمة فيٌَ!
v أعماقي فيّ تصرخ إليك يا أيها النور الحقيقي.
لقد أفسدت الخطية كل كياني.
ملكت وحلت الظلمة الحالكة في أعماقي.
لم أعد قادرًا على الرؤية.
صرت كميتٍ في قبر بلا حراك.
تحولت نفسي إلى مرارة شديدة!
من يقدر أن يبدد ظلمني سواك؟
v دخل العدو وملك.
حول حياتي إلى جحيم لا يُطاق!
ظننت في الخطية لذة ومتعة،
وإذ بي في شقاءٍ وحرمانٍ.
ملكت الخيالات على نفسي.
وحطمني الشعور بالحرمان.
v أفسدت الظلمة حياتي،
خشيت كل ما حولي،
كأن العالم كله صار معاديًا لي.
امتلأت أعماقي بخيالات قاتلة!
لم أعد قادرًا على أخذ أنفاسي.
v تُرى هل أنا في سجن؟
إنه من صنع إرادتي الشريرة.
تُرى هل نفسي مع جسدي مقيدين بسلاسل!
تحولت كما إلى كائن جامد.
ضاعت منى كل حيوية،
فقدت كل قدرة على الحركة.
v بذلت كل الجهد لكن بلا جدوى.
من يقدر أن يحررني سواك؟
تعال أيها النور الحقيقي.
لتشرق في أعماقي، فأدرك حبك!
أراك تبسط يديك لتحتضني.
أدرك اشتياقك العجيب نحوي!
أتمسك بك، فأنت الكل لي.
نورك يحطم كل أثرٍ للظلمة.
نورك يرفعني إلى سماواتك!
نورك يجدد حياتي!
v الآن أصرخ متهللاً:
إن سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرًا!
v نعم لتشرق أيها النور على كل بشرٍ.
لتبدد ظلمة إبليس، وتقيم ملكوتك في كل نفسٍ.
لترفع كل قلب إلى سماواتك، فينعم ببهائك!
ليتسع قلب كل إنسان، فيحب النور لكل العالم!