تفسير سفر الحكمة ٤ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الرابع

بين مصيري الأبرار والأشرار

أشار الحكيم في الأصحاح السابق إلى مجد البتولية بطريقة غير مباشرة خلال الحديث عن العاقر والخِصي، أما هنا فيتكلم عنها في صراحة، ويمجدها عن الزواج. حسب الحكمة البشرية الزواج أفضل حيث إنجاب الأبناء، وتخليد الذكرى لأجيالٍ طويلةٍ. أما البتولية فتخلد الذكرى على مستوى سماوي.

هنا يربط الحكيم البتولية بالفضيلة، فبتولية الجسد دون بتولية الروح وتكريس النفس لعريسها السماوي تُحسب كلا شيء.

  1. ذكرى الأبرار وذكرى الشرير1-6.
  2. كرامة الإنسان بقداسته لا بعمره7-20.
  3. ذكرى الأبرار وذكرى الشرير

خلق الله الإنسان ليعيش خالدًا لا يمسه الموت، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم، واختار الإنسان بكامل إرادته أن يقيم عهدًا مع الموت، لا مع الله واهب الحياة. الآن إذ شعر الإنسان بفقدانه للخلود تثور في أعماقه مشاعر قوية، ورغبة عارمة نحو تخليد ذكراه. استخدمت البشرية كل وسيلة لتحقيق هذا الهدف مثل إقامة أقواس النصر الفخمة، أو النحت على المعابد، أو إقامة تماثيل ثمينة، وفوق هذا كله صار الإنسان يتطلع إلى ذريته أنها خير ما يحقق دوام ذكراه. من هنا صار عدم الإنجاب – في أذهان الكثيرين – علامة لعنة وغضب الله على الإنسان. هذا بجانب ما كان ينتظره كل يهودي أن يأتي المسيا المخلص من نسله، فإن حُرم من النسل انقطع عنه هذا الرجاء.

خير الحرمان من الأولاد، والحصول على الفضيلة،

فإن في ذكرها خلودًا،

لأنها معروفة عند الله والناس. [1]

هنا يقارن الحكيم بين شرير له أبناء وأحفاد كثيرون يعتز بهم، ويظن أنهم يخّلدون ذكراه، وبين بارٍ ليس له نسل، لكنه وضع قلبه في الحياة المقدسة في الرب بكونها مقتنياته الحقيقية وموضوع خلوده في السماء.

ذرية الأشرار تشبه ثمارًا لا تدوم، حتى إن عاشوا إلى الشيخوخة يحيون حياة مخزية، أو يموتون صغار السن دون رجاء في الخلود (3: 16-19). فالأفضل أن يهتم البار بالثمار الروحية، أي بالفضيلة، بكونها نسله الروحي، ورصيده الدائم في السماء. إذ هي مكرمة وجزاؤها الخلود المطوّب. هذا ما دفع البعض إلى حياة البتولية لتكريس كل طاقاتهم للرب.

v     كيف تستطيع النفس الغارفة في ملذات الجسد والمنشغلة بالاشتياقات الإنسانية فقط أن توجه نظرها إلي النور العقلي، خالية من المشاغل؟… إن عيني الخنزير اللتين تنظران دائمًا إلي أسفل لا تستطيعان رؤية عجائب السماء. وهكذا أيضًا النفس التي يدفعها الجسد إلي أسفل، لا تستطيع أن ترفع بصرها لترى الجمال العلوي، بل تتجه إلي الأشياء الوضيعة الحيوانية.

النفس التي تريد أن تكرس نظرها للتمتع بالمباهج السماوية، تلقي بما هو أرضي وراء ظهرها، ولا تشترك فيما يورطها بالحياة الدنيوية. إنها تحيل كل قوى الحب فيها من الأمور المادية إلي التأملات العقلية في الجمال اللامادي. إن بتولية الجسد تفيد في تحقيق اتجاهات مثل هذه النفس.

تهدف البتولية إلي خلق نسيانٍ كاملٍ للشهوات الطبيعية في النفس، فتمنع عملية النزول المستمر لتلبية الرغبات الجسمية. ومتى تحررت النفس من مثل هذه الأمور لا تخاطر بالمباهج السماوية غير الدنسة لتكون جاهلة غير ملتفتة إليها، وتمتنع عن العادات التي تورط الإنسان فيما يبدو إلي حد ما أن ناموس الطبيعة يسلم به… إن نقاء القلب الذي يسود الحياة هو وحده الذي يأسر النفس حينذاك[162].

الشهيد كبريانوس

ارتبطت البتولية في ذهن القديس غريغوريوس النيسي بالحياة السماوية، تسند الإنسان لممارسة بتولية النفس والقلب والذهن والحواس والرغبات، ينعم بها المؤمنون بالروح القدس واهب الشركة مع الآب السماوي، مقدس نفوسنا وأرواحنا وأجسادنا.

v     البتولية هي باب ضروري لحياة القداسة…

هي القناة الذي تجتذب اللاهوت للشركة مع الإنسان.

إنها تقدم جناحين يسندان رغبة الإنسان في الانطلاق نحو السماويات.

هي رباط الوحدة بين ما هو إلهي وما هو بشري، بواسطتها يتم التوافق بعد حدوث هوَّة عظيمة بينهما[163].

v     لقد تبرهن أن اتحاد النفس مع اللاهوت غير الفاسد لا يمكن أن يتحقق بطريق آخر مثل دخول الإنسان في هذه النقاوة العظمى. بهذا يتشبه الإنسان بالله لينال البتولية العاكسة لنقاوة الله كما في مرآة، فتمتزج صورته بالجمال خلال تلاقيه بالجمال الأمثل وتأمله فيه[164].

القديس غريغوريوس النيسي

v     لا تكرم البتوليّة من أجل ذاتها، وإنما لانتسابها لله[165].

القديس أغسطينوس

إذا حضرَت يُقتدى بها،

وإذا غابت يُؤسف عليها،

وفي الأبدية تُستقبل استقبال الظافر مُكللة أبديًا،

وبعد انتصارها في مباراةٍ،

لا تشوب صراعاتها شائبة. [2]

يا له من تصوير رائع للإنسان المقدس للرب، خاصة البتول الذي باع كل شيء حتى ما هو من حقه حسب الطبيعة ليقتني الاتحاد مع الله.

الإنسان الفاضل في الرب موضع إعجاب الناس في هذا العالم حتى إن قاوموه، وموضع دهشة في السماء، حيث يدخل الأبدية كملكٍ ظافرٍ انتصر في معركته ضد إبليس وملائكته بالمسيح يسوع العامل فيه.

بقوله: “إذا حضرت يقتدي الناس بها” يكشف الحكيم أن موضوع إعجاب الناس ليس الإنسان البار في ذاته، لكن الفضيلة التي تحضر معه وتتقدمه، فيشتهي كثيرون أن يقتنوها، يرونها متجلية في البار، فيقتدون به ليتمتعوا بها.

وبقوله: “وإذا غابت يشتهونها“، يشير الحكيم إلى فاعلية الفضيلة أو القداسة، فإنه حتى إن لم يروا البار بعد، ففي غيابه عنهم يشعرون كأن الفضيلة ذاتها غابت عنهم فيشتهوها. وربما يقصد هنا أن الأشرار يقارنون بين حضور الفضيلة في البار وغيابها منهم، فيشتهوها ويطلبون أن يقتنوها.

لما كانت الفضيلة في حقيقتها هي “شخص السيد المسيح” كما يقول العلامة أوريجينوس، فإنه في يوم الرب العظيم يستقبل السمائيون الكنيسة المقدسة، المنتصرة على الشر، فيرون مسيحها متجليًا فيها، حاسبين نصرتها هي نصرة المسيح. ويعتبرون إكليلها كأنه إكليل للسيد المسيح!

بمعنى آخر حياتنا على الأرض أرض معركة، طرفاها السيد المسيح وإبليس، هو يسمح لنا بالمعركة الروحية، وهو الذي يهبنا قوة الجهاد، وهو الذي ينتصر فينا، وهو الذي يُقدم لنا الإكليل، وهو الذي يُكلل فينا!

v     أن تنشد المسيح, هو مثل أن تنشد الكلمة والحكمة والعدل والحق والقدرة الكلية لله. فالمسيح هو كل هذه[166].

v     كما أن المخلِّص هو “البِّر” والحق والقداسة في واحدٍ, فهو أيضا “الثبات” (إرميا 17: 3 LXX). فمن غير الممكن أن تصير بارًا أو مقدسًا بدون المسيح. كما أنه من المستحيل أن “تثبت” بغيره, فهو “ثبات إسرائيل”[167].

v     أنت هو البِّر, وقد تبعناك بصفتك البِّر, وأيضًا بصفتك القداسة والحكمة والسلام والحق والطريق المؤدي إلى الله, الحياة الحقيقية[168].

العلامة أوريجينوس

أما ذرِّية الأشرار الغفيرة فإنها لا تزهو،

وهي نسل نغول،

فلا تمدُّ جُذورًا عميقة،

ولا تقوم على ساقٍ راسخةٍ. [3]

بعد أن صوَّر لنا مصير الأبرار، وأن ذكراهم وإن دامت على الأرض، لكن ما هو أعظم أنها تبقى خالدة في السماء، يصيرون بالحق ملوكًا متوَّجين أبديًا، الآن يحدثنا عن مصير الأشرار.

كثيرًا ما يفتخر الأشرار بإنجابهم كثرة من الأبناء الشرعيين، وكأنهم قد حققوا النجاح في كل شيءٍ، حتى في إنجاب من يخلدون ذكراهم. لكن إذ لم يقبل الأشرار الله أبًا لهم والكنيسة أُمًا لهم يصير أبناؤهم نغول، أي أبناء غير شرعيين. يورثونهم الأمور الزمنية الفانية، ولا يقدمون لهم جذور الإيمان الحي، فلا يتمتعوا بالميلاد الجديد، الذي يقدم ساقًا راسخة وثمارًا روحية فائقة. لهذا كثيرًا ما يسلك أولاد الأشرار في الشر مثل آبائهم، وأحيانًا يزدادون عنهم في الشر. لكننا لا ننكر أن بعض الأبناء أخذوا من والديهم درسًا، وأصروا على الحياة مع الله.

وإن أخرجت فروعًا إلى حين،

فإنها لعدم رسوخها،

تزعزعها الريح،

وتقتلعها قوة الزوبعة. [4]

يفرح الأشرار إذ يرون أبناءهم وكأنهم فروع ثابتة في الشجرة، ولكن مادام الأصل نفسه غير ثابتٍ، ماذا نتوقع للفروع سوى أن تقتلها الزوابع، لذلك يقول: “إلى حين”.

يشبَّه الحكيم الأشرار بالجذور التي بلا عمق في الأرض، فلا تجد غذاءً روحيًا ينعشها، لذا غالبًا ما يتشرب الأبناء أو الفروع الشر عن والديهم، فيصيروا كفروعٍ تزعزعها الرياح، وتقتلعها العواصف قبل أوان الثمر. إن أثمرت فهي لا تأتي بثمر صالح للأكل.

هكذا يحذر الحكيم الأشرار ليس فقط من الاعتماد على كثرة المال والسلطة بل وحتى على كثرة الأبناء، فإن هذه جميعها بلا نفع ما داموا ليسوا في شركة مع الله.

“الابن الجاهل غم لأبيه، ومرارة للتي ولدته” (أم 17: 25).

“الابن الجاهل مصيبة على أبيه” (أم 19: 13).

“أنا الرب إلهك إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي” (خر 20: 5).

“حافظ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطية، ولكنه لن يبرئ إبراء مفتقد إثم الآباء في الأبناء وفي أبناء الأبناء في الجيل الثالث والرابع” (خر 34: 7).

“الرب طويل الروح كثير الإحسان يغفر الذنب والسيئة، لكنه لا يبرئ، بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع” (عد 14: 18).

“لا تسجد لهن و لا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك، إله غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء وفي الجيل الثالث و الرابع من الذين يبغضونني” (تث 5: 9).

أقوال الرب هنا لا تعني أن الله ينتقم لنفسه في الأبناء عما فعله آباؤهم. لكنه يريد أن يؤكد طول أناته، فإنه يترك الأشرار للتوبة سنة فأخرى، وجيلاً فآخر، وإذ يصمم الإنسان على عمل الشر يؤدب في الجيل الثالث أو الرابع، ليس من أجل خطايا آبائهم، لكن من أجل إصرار الأبناء على السلوك الشرير بمنهج آبائهم.

فتنقصفُ فُروعها الصغيرة قبل نموِّها،

ويكون ثمرها غير نافع،

وغير ناضجٍ للأكل،

ولا يصلح لشيءٍ. [5]

يترقب الأشرار نمو أبنائهم، إذ هذا هو رجاؤهم، لكن كثيرًا ما يفسد هؤلاء الأبناء ويصيرون عبئًا على والديهم، لا يرون فيهم الثمر المطلوب، أي تحقيق خلود ذكراهم؛ حتى وإن نجحوا في ممارسة بعض أعمالهم، فإن هذا الثمر غير نافع ولا يصلح للأكل ولا لشيء آخر. هذا هو ثمر الشر في حياة الأشرار، كما في حياة أبنائهم، إن سلكوا في طريق آبائهم الشرير.

v     يليق بنا أن نتذكر أنه في العالم العتيد لا يتطهر أحد من أقل أخطائه ما لم يكن يتأهل ذلك بالتطهير خلال أعماله الصالحة (النابعة عن الإيمان) التي مارسها في هذه الحياة[169].

البابا غريغوريوس (الكبير)

فإن المولودين من النوم الأثيم يشهدون

عند التحقيق بشرِّ والديهم. [6]

الأبرار حتى في علاقاتهم بزوجاتهم يحكمهم قانون العفة والطهارة، فتكون العلاقة الجسدية تعبيرًا عن الحب الطاهر النقي، والاحترام المتبادل بينهما. أما الأشرار فحتى في علاقاتهم بزوجاتهم الشرعيات يحكمهم قانون الشهوة العنيفة، وما يشغل كلاً من الزوجين هو إشباع رغبات جسدية بحتة، لهذا كثيرًا ما يتأثر الأبناء الذين هم ثمرة هذه الشهوات بشر آبائهم.

  1. كرامة الإنسان بقداسته لا بعمره

يُلاحظ أن بعض الأبرار يموتون في سنٍ مبكرٍ. هنا يعطينا الله طمأنينة أنهم يتركون عالم التعب، أو وادي الدموع، ليعبروا إلى الراحة الأبدية حيث يستقرون في حضن الآب.

بهذا فإن الشيخوخة المكرَّمة ليست في كثرة السنوات، بل في ممارسة البرّ والتمتع بالحياة مع الله. فبعض الشباب من جهة السن لهم حكمة الشيوخ ووقارهم التي اكتسبوها من الله، كما أن بعض الشيوخ مع طول أعمارهم يسلكون في غباوة.

من يحب الله يتمتع بالحكمة الإلهية وينال السعادة الحقيقية، حتى في موته ينال سعادة أفضل، لا يُعبر عنها.

من يتكل على الله يهبه تحقيق حياة كاملة تفوق عمره، ويتأهل لأمجاد سماوية، بمعنى آخر يحقق في سنوات قليلة أكثر مما يحققه غيره في سنوات طويلة، ويُقال عنهم بحقٍ “مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة” (أف 5: 16).

أما البار، فإنه وإن تَعجَّله الموت،

يستقرُّ في الراحة. [7]

سبق فوعد الله الأبرار بالشيخوخة الصالحة، وهدد الأشرار بالموت المبكر الشرير. وكان يليق بالمؤمنين أن يدركوا هذا الوعد وذاك التحذير روحيًا. فالبار وإن عاش يومًا واحدًا فيُحسب عند الرب كألف سنة، والشرير وإن عاش ألف سنة تكون في عين الرب كيومٍ واحدٍ بلا ثمر.

هنا لأول مرة في العهد القديم يعالج مشكلة موت أبرارٍ صغار السن، لأنه منطلق من وادي الدموع إلى الراحة مع الله. فإنه وإن مات صغير السن لكنه يُحسب كشيخٍ وقورٍ حكيمٍ مكرم بالفضائل المقدسة.

كتب القديس جيروم رسالة إلى صديقه القديم هيليودورس Heliodorus أسقف Alrirum لفقدانه ابن أخته الكاهن الصغير السن نيبوتيان Nepotian جاء فيها:

v     يا ليسوع الصالح! كيف كان يئن ويتنهد! كيف أسرع وهرب من عيون الكل! فإنه للمرة الأولى والوحيدة غضب مع خاله مشتكيًا من ثقل المسئولية الملقاة عليه، الثقيلة جدًا، وأن صغر سنه لا يتناسب مع الكهنوت. ولكن قدر ما قاوم هذا بالأكثر التصق بقلوب الجميع. رفضه للكهنوت لم يجعل منه إلا أن يكون مستحقًا للعمل الذي رفض أن يحمل مسئوليته. صار بالأكثر مستحقًا إذ أعلن عن شعوره بعدم الاستحقاق. نحن أيضًا في أيامنا تيموثاوسنا (أي أشبه بتيموثاوس الشاب تلميذ الرسول بولس وقد سيم أسقفًا)، وأيضًا رأينا فيه الحكمة الصالحة كالشعب الأشيب[170].

القديس جيروم

لقد أعطى الكاتب ضوءً على ذلك من خلال قصة أخنوخ الذي أرضى الرب فنقله (تك 5: 21-24).

لم يخشَ المؤمنون الموت حتى إن جاء متعجلاً، أو تمّ بأية صورة. لم يهز الموت إيمان المسيحيين، إذ يقول المدافع تاتيان Tatian:

[وإن دمّرت النيران جسدي…

وإن بُعثر بين الأنهار والبحار،

ومزقته الوحوش الكاسرة إلى قطع،

فإنني أُجمع في مخازن الله الغنية…

وعندما يريد الله الملك سيعيد كياني المنظور بالنسبة له وحده إلى حالته الأصلية[171].]

v     إن موت الأبرار صار رقادًا، بل صار هو الحياة.

 القديس باسيليوس الكبير

v     كثيرون من شعبنا يموتون بهذا الموت (الجسدي)، فيتحرروا من هذا العالم. هذا الموت الذي يحسبه (أهل العالم) كارثة، يراه عبيد الله رحيلاً إلى الخلاص.

يموت الأبرار كالأشرار بلا تفرقة… .لكن الأبرار يُدعون إلى الراحة، والأشرار إلى العقاب.

سلام عظيم يوهب للمؤمنين، وعقاب لغير المؤمنين[172].

v     من جهة الراحة، ماذا نجد في العالم سوى حرب دائمة مع الشيطان، وصراع في معركة دائمة ضد سهامه وسيوفه؟! حربنا قائمة ضد محبة المال والكبرياء والغضب وحب الظهور، وصراعنا دائم ضد الشهوات الجسدية وإغراءات العالم.

ففكر الإنسان يحاصره العدو من كل جانب، وتحدق به هجمات الشيطان من كل ناحية. وبالجهد يقدر للفكر أن يدافع، وبالكاد يستطيع أن يُقاوم في كل بقعة. فإن استهان بحب المال، ثارت فيه الشهوات. وإن غلب الشهوات انبثق حب الظهور. وإن انتصر علي حب الظهور اشتعل فيه الغضب والكبرياء، وأغراه السُكر بالخمر، ومزّق الحسد انسجامه مع الآخرين، وأفسدت الغيرة صداقاته.

هكذا تعاني الروح كل يوم من اضطهاداتٍ كثيرةٍ كهذه، ومن مخاطرٍ عظيمةٍ كهذه تُضايق القلب، ومع هذا لا يزال القلب يبتهج ببقائه كثيرًا هنا بين حروب الشيطان! مع أنه كان الأجدر بنا أن تنصب اشتياقاتنا ورغباتنا في الإسراع بالذهاب عند المسيح، عن طريق الموت المعجل. إذ علمنا الرب نفسه قائلاً: “الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح؛ أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلي فرح” (يو20:16).

من منّا لا يرغب في أن يكون بلا حزن؟!

من منّا لا يتوق إلى الإسراع لنوال الفرح؟!

لقد أعلن الرب نفسه أيضًا عن وقت تحويل حزننا إلي فرح بقوله: “ولكن سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو 20:16). مادام فرحنا يكمن في رؤية المسيحفأي عمى يُصيب فكرنا، وسخافة تنتابنا متى أحببنا أحزان العالم وضيقاته ودموعه أكثر من الإسراع نحو الفرح الذي لا ينزع عنا؟![173]

الشهيد كبريانوس

لأن الشيخوخة المكرَّمة لا تقوم على طول الزمن،

ولا تُقاس بعدد السنين. [8]

يشمت الأشرار في الأبرار الذين يموتون صغار السن، فيحسبونهم أنهم لم يتمتعون بملذات الحياة، وفي نفس الوقت لم ينالوا كرامة الشيوخ.

يحسبون أن كرامة الشيخ في شعره الأبيض وطول سنواته وخبراته، غير أن الكرامة لا تُقاس بعمر الإنسان، ولا بمجرد خبراته، فقد تكون خبراته شريرة ويتمسك بها، حاسبًا إياها الحكمة بعينها.

v     الشيخ هو من يسبق أولاً ويسمع عن العمل.

الشيخ هو من يحيا عمرًا عظيمًا في الإيمان.

الشيخ هو من يكون عمره موضع تقدير، وزمانه الطويل بلا غضن[174].

القديس أمبروسيوس

ولكن الحكمة هي شباب الإنسان،

وسن الشيخوخة هي الحياة المنزَّهة عن العيب. [9]

يشير الكتاب المقدس إلى شباب الإنسان كعلامة للقوة والحيوية، فيقول: “يتجدد مثل النسر شبابك” (مز 103: 5). فالمؤمن لا يشيخ روحيًا، أي لا يلحق به الضعف والعجز. كما يشير أحيانًا إلى الشيخوخة بكونها علامة الحكمة والاتزان في التصرف، فالمؤمن يحمل روح الشباب في العمل، وروح الشيوخ في أخذ قراراته.

هنا يعلن الحكيم أننا لكي نحمل هذا الروح نتطلع إلى الحكمة بكونها قائدة لنا في عملنا، فنعمل بقوةٍ، ولكن ليس بطيشٍ، ونتطلع إلى الحياة المنزهة عن العيب بكونها سندًا لنا في أخذ قراراتنا الحكيمة؛ إذ لا انفصال بين الحكمة والبرّ.

يقدم لنا القديس بالاديوس صورة رائعة لعدم اتكال القادة الروحيين على شيخوختهم، فقال عن الشيخ العظيم مقاريوس السكندري: [انتهزتُ فرصةً في أحد الأيام، وجلستُ عند باب الشيخ الذي كان حينئذٍ قد تقدّم جدًا في أيامه إذ بلغ المائة عام. وكنتُ أتصور أنه أكبر سنًّا من جميع الناس وأكثرهم قداسةً، وكان قد فقد أسنانه كلها. كان بمفرده إلاّ أنني ظللتُ أُنصتُ، فسمعته يتكلم ويتحرك إذ كان يصارع مع نفسه ومع الشيطان. فكان يقول لنفسه: ’ماذا تريد أيها العجوز الشرير؟ لقد صار لك زيتٌ وخمرٌ فماذا تريد أيضًا أيها العجوز الأشيب الشَّرِه؟‘ هكذا كان ينتهر ذاته. ثم يقول للشيطان أيضًا: ’هل أنا لا زلتُ مدينًا لك بشيء؟ إنك لن تجد فيَّ شيئًا يخصك! ابعد عني‘. وكما لو كان يُهمهِم ما انفكّ يقول لنفسه: ’تعال أيها الأشيب العجوز الشهواني أيها الفرس الخائن، إلى متى أبقى معك‘؟[175]]

v     كما أن ليس كل الشباب متشابهين من جهة غيرتهم في الروح أو متساوين في تعلمهم التعاليم والآداب القويمة، كذلك أيضًا ليس كل الشيوخ متشابهين في الكمال والفضيلة.

 فالغنى (الروحي) الحقيقي لا يقاس بشيبة الرأس، بل بالجهاد منذ الصغر وحسب أكاليل أعمالهم السابقة…

لأن الشيخوخة المكرمة ليست هي القديمة الأيام، ولا تقدر بعدد السنين. “ولكن شيب الإنسان هو الفطنة، وسن الشيخوخة هي الحياة المنزهة عن العيب” (حك 9:4)…

على ذلك فليس لنا أن نقتدي بأي شيخ غطى الشيب رأسه… بل نتبع آثار أولئك الذين امتازوا منذ صباهم بالحياة اللائقة المستحقة كل ثناء، الذين تدرّبوا حسب تقاليد الآباء، وليس حسب ذواتهم.

عبر البعض إلى الشيخوخة بالفتور والكسل، هؤلاء يوبخهم الله بالنبي قائلاً: “أكَلَ الغرباء ثروته وهو لا يعرف، وقد رُشَّ على الشيب، وهو لا يعرف” (هو 7: 9)… هؤلاء يستخدم الشيطان شيبتهم لخداع الشبان، عن طريق مظهر وقارهم الخاطئ، خادعًا من كان يلزم أن يجتهدوا في طريق الكمال بواسطة نصائحهم… مسقطًا إياهم (الشبان) في عدم الاكتراث أو اليأس المميت، وذلك عن طريق تعاليم أمثال هؤلاء الشيوخ وأعمالهم[176].

الأب موسى

أصبح مرضيًا عند الله، فكان محبوبًا،

وإذ كان يعيش بين الخاطئين، نُقِل [10]

يتحدث هنا عن أخنوخ الذي كان بارًا، فأحبه الرب، ونقله من بين الخاطئين. ويقول الكتاب: “من وجه الشر يُضم الصديق” (إش 57: 1).

يقول عنه ابن سيراخ:

“لم يُخلق على الأرض أحد مثل أخنوخ، الذي نُقل عن الأرض” (سيراخ 49: 16).

“أخنوخ أرضى الرب فنُقل، وسينادي الأجيال إلى التوبة” (سيراخ 44: 16).

v     صالحة هي أجنحة الحب، الأجنحة الحقيقية التي ترفرف على أفواه الرسل؛ أجنحة النار التي تنطق بالكلام النقي (أع 2: 2-3). على تلك الأجنحة طار أخنوخ حين أُختطف إلى السماء (تك 5: 24) [177].

v     طلب أخنوخ الله في رجاءٍ، ومن ثم يُظن أنه قد نُقل، هكذا يبدو الإنسان “إنسانًا” فقط حين يضع رجاءه في الله. أيضًا المفهوم الواضح والحقيقي للنص (تك 5: 18-24) هو أن من يضع رجاءه في الله، لا يسكن على الأرض، بل يُنتقل، ومن ثم يلتصق بالله[178].

القديس أمبروسيوس

v     يظهر هذا الحدث (نقل أخنوخ) أن إنسانًا واحدًا بارًا أكثر معزَّة لدى الله من خطاةٍ كثيرين[179].

القديس أغسطينوس

نعم، خُطِفَ لكي لا يُفسد الشر فهمه،

ولا يُغويَ الغش نفسه. [11]

كثيرًا ما يسمح الله بموت شخصٍ في سنٍ مبكرة، لأن الله يحبه ويراه قد نضج روحيًا وتأهل للإكليل. وأيضًا إذ يرى الشر يتفاقم حوله، يختطفه حتى لا يُفسد الشر أفكاره ومفاهيمه. وإذ يحاصره الغاشون المخادعون، لا يتركه حتى لا يتسلل الخداع إليه. ما يشغل قلب الله لا مدة حياة الإنسان على الأرض، بل استعداده للمجد الأبدي.

يرى بعض الآباء أن بقتل هابيل تحطمت نفسية آدم لذلك أراد الله أن يعزيه فسمح له أن يرى أخنوخ البار يُنقل من الأرض إلى السماء كإنسانٍ محبوب لدى الله، وعزيز لديه جدًا.

v     يقول البعض إنه بينما كان آدم يتطلع (إلى أخنوخ) نقله الله إلى الفردوس، لئلا يظن آدم أن أخنوخ قد قُتل مثل هابيل فيحزن عليه. حدث هذا أيضًا لكي ما يتعزى آدم بابنه البار هذا، ويدرك أن كل من يتمثلون به، سواء قبل الموت أو بعد القيامة، فسيكون لقاؤهم في الفردوس[180].

القديس مار أفرآم السرياني

v     تخص هذه العبارة الذين بعد أن تعمدوا، ونموا في الحياة التقوية لم يُسمح لهم بالبقاء زمانًا طويلاً على الأرض – إذ صاروا كاملين ليس خلال طول السنوات، وإنما خلال نعمة الحكمة السماوية[181].

القديس أغسطينوس

v     هذا كان مسرًا في عينيّ الله أن أخنوخ قد تأهل أن ينطلق من سُم هذا العالم. لكن يعلمنا الروح القدس أيضًا خلال سليمان أن الذين يسرون الله يؤخذون من هنا في سن مبكر، ويتحررون سريعًا، لئلا خلال بقائهم لزمنٍ طويلٍ في هذا العالم يفسدون بواسطة التعامل مع العالم[182].

الشهيد كبريانوس

v     إن كان لا يحزن أحد على أخنوخ الذي انتقل (تك 5: 24) حينما كان العالم في سلامٍ، ولم تكن الحروب قد اشتعلت، وإنما بالحري يهنئه، كما يقول الكتاب عنه: “خُطف لكي لا يُفسد الشر فهمه” (حك 4: 11)، فكم بالأكثر يمكن أن يُقال هذا بأكثر تبرير حيث كثرت مخاطر العالم للحياة غير المستقرة؟

لقد خُطف لكي لا يسقط في أيدي البرابرة، لقد أُخذ لكي لا يرى دمار الأرض كلها، ونهاية العالم، ودفن أقربائه، وموت زملائه المواطنين، وفوق كل هذا وأكثرهم مرارة من أي موت، لئلا يرى العذارى والأرامل القديسات يُفسدن[183].

القديس أمبروسيوس

لأن سحر الباطل يغشِّي الخير،

وتجوال الشهوة يفسد العقل البسيط. [12]

يقدم لنا الرسول بولس تحذير لكي يكون لنا روح التمييز فلا ندخل في خلطه مع الأشرار، ولا نسكن معهم تحت سقف واحد، لكن نحبهم ونخدمهم ونطلب خلاصهم بالصلاة والصوم، دون أن نسقط في إدانتهم.

يعلم الله خطورة الشر والفساد، وكيف يتعرض بعض الأشخاص للسلوك في الشر خلال احتكاكهم بالأشرار. وكما يقول الرسول: “لا تضلوا فإن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة” (1 كو 15: 33). فالشر كالسحر يحاول أن يفسد الخير، ويسيطر على العقول البسيطة.

قدم لنا القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه: “ضد الوثنيين” عرضًا عن الشهادة العملية من خلال حياة الآلهة عن الفساد والشهوات والخسة التي اتسمت بها، وقد ذكر أمثلة كثيرة لذلك[184].

v     إننا نرى أناسًا هادئين ووقورين عندما دخلوا في صداقة مع شعبٍ مشاغبٍ ومعيب، فسدت أخلاقهم الصالحة خلال المناقشات الشريرة. يتحولون إلى أناسٍ من ذات نوعية المنحدرين بكل نوعٍ. هذا يحدث أحيانًا مع أناسٍ ناضجين، برهنوا على أنهم عاشوا في شبابهم في أكثر طهارة من حياتهم وهم في سنٍ متقدمة حيث حانت لهم الفرصة لحياة متسيبة[185].

v     أبذل كل الجهد أن تعتزل الشخص الشرير، فإنه ما أن يرحل عنك حتى يسكن المسيح فيك[186].

العلامة أوريجينوس

بلغ الكمال في زمن قليل،

استوفى زمانًا طويلاً. [13]

مع اشتياق الله إلى حفظ حياة أبنائه الأبرار حتى لا يتسلل إليها الشر، فإن هؤلاء الأبرار استطاعوا البلوغ إلى الكمال في زمنٍ قصيرٍ، فحققت حياتهم رسالتها، وصارت في عينيّ الله كأنها حياة طويلة؛ إذ يوم عند الرب كألف سنة (مز 90: 4).

كتب القديس جيروم إلى سالفينا Salvina يعزيها في موت رجلها نيبريديوس Nebridius وهو من رجال القصر الملكي، وكان صغير السن، لكن ما فعله جعله مع صغر سنه شيخًا وقورًا. جاء فيها: [رقد في الرب، رقد مع آبائه، مملوء أيامًا ونورًا كمن في شيخوخة صالحة. لأن “الحكمة هي شيبة الشعر عند البشر” (راجع حك 4: 9). في وقت قصر حقق زمنًا طويلاً (راجع حك 4: 13).

وكانت نفسه مرضية عند الرب،

ولذلك فقد أخرجه سريعًا من بين الشرور.

وأبصر الشعب ولم يفْقَه،

ولم يخطر بفكره. [14]

إذ كانت حياته موضع سرور الله ورضاه، أسرع الرب بإخراجه من وسط الشرور، حتى وإن لم يدرك شعبه سرّ انتقاله السريع.

أخيرًا فإن موت الأبرار في سنٍ مبكرٍ هو نعمة ورحمة من قبل الله، وافتقاد إلهي لهم.

كتب القديس جيروم إلى السيدة ثيؤدورا يعزيها في وفاة رجلها البار لوسينيوس Lucinius جاء فيها:

v     كما ورد في سفر الحكمة، قد أُخذ لئلا يغير الشر فهمه، لأن نفسه تسر الرب، وفى وقت قصير حقق زمنًا طويلاً (راجع حك 4: 11-14). بحقٍ يليق بنا أن نبكي نحن على حالنا أننا في كل يوم نصارع مع خطايانا، إذ نتلطخ برذائل، وتحل بنا جراحات ونحن نقدم حسابًا عن كل كلمة بطالة (مت 12: 39). الآن وهو منتصر ومتحرر من كل قلقٍ، يتطلع إلينا إلى أسفل وهو في العلا، يعيننا في جهادنا؛ لا بل ويعد لكِ مكانًا بجواره، فإن حبه لكِ وحنوه عليكِ لا يزالا كما هما. لا يتطلع إليكِ بكونه زوجًا، بل كما قرر أن يتعامل معكِ حتى وهو على الأرض كأختٍ له[187].

v     ربما قد أُخذ (انتقل)، لئلا يَّغير الشر فهمه… لأن نفسه قد سرَّت الرب، لذلك أسرع أن يأخذه من بين الناس (راجع حك 4: 14)، لئلا في رحلة حياته الطويلة يدخل في متاهات غير مطروقة.

بالحق يلزمنا أن نحزن على الموتى، لكن فقط على الذي تتلقفهم جهنم ويفترسهم الجحيم.

أما نحن إذ في رحيلنا نكون في رفقة ملائكة حراس، ونلتقي بيسوع المسيح، يلزمنا بالأحرى أن نحزن أننا نمكث طويلاً في خيمة الموت (2 كو 5: 4). فإننا ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغربون عن الرب” (2 كو 5: 6). شوقنا الوحيد هذا الذي عبَّر عنه المرتل: “ويل لي، فإن غربتي طالت عليّ…”[188].

القديس جيروم

أن نعمته ورحمته لقديسيه،

وافتقاده لمختاريه. [15]

يتميز أولاد الله بالحكمة الحقيقية، فيدركوا مقاصد الله، وتتكشف لهم خطته من نحوهم، أما الأشرار المتمسكون بخطاياهم والمعتمدون على عقولهم وحدها وعواطفهم فيعجزون عن إدراك مقاصد الله.

يتمادى الأشرار في شرهم فيخطئون في تقييمهم لأحداث الحياة. يرون في الحياة البارة والعبادة والخدمة حرمانًا من التمتع بشهوات العالم كما يتمتعون هم، فيتهمون الأبرار بالجهالة والغباوة، لأنهم لا يشاركونهم ملذاتهم. بينما هم يتمادون في شرورهم، إذا بالرب من السماوات يستهزئ بجهلهم.

v     قد يظن الشعب الذي من خارج الكنيسة أننا حزانى، لكن في الواقع نحن دائمًا فرحون. نبدو كأننا فقراء، وفي الحقيقة لدينا غنى لا يُعد روحيًا وماديًا. كالعادة الحياة المسيحية هي النقيض تمامًا لما يظهر على السطح[189].

القديس يوحنا ذهبي الفم

v     روح الإنسان القديس تنتعش بالتفكير في الأمور التقوية وممارستها، فإن الروح تكافح من أجل ما هو صالح (وتجد فيه مسرتها)[190].

القديس ديديموس الضرير

لكنه إذ يحل الموت يتغير الوضع تمامًا، لا تعود توجد فرصة للإصلاح، فيحل اليأس بالأشرار، ويمتلئون بؤسًا ومرارة، ويطأطئون رؤوسهم في خزي، لأن الموت قد اقتلعهم من شهواتهم وأفكارهم الشريرة التي لم تنفعهم. تصير ذكراهم على الأرض نفسها عارًا وخزيًا.

لحظات الموت بالنسبة للأشرار مفزعة للغاية، إذ تحل لحظة الكشف عن الحقيقة ورفع الستار عن كل خداع.

بعد الموت يصير الأشرار في فزعٍ يتقدمون من خوفٍ إلى خوفٍ؛ تستد أفواههم لتنطق آثامهم نفسها شاهدة ضدهم.

لكن البار الذي مات يَدين الأشرار الباقين أحياء،

والشيبة التي انقضت بسرعة،

تحكم على شيخوخة الأثيم الكثيرة السنين. [16]

أبرز بركات الموت المبكر بالنسبة للأبرار حديثًا وعن فاعلية هذا الأمر وأثره على الأشرار، إذ في موت الأبرار المبكر تبكيت لهم، فمع سرعة انتقالهم، إلا أنهم قاموا بأعمال لم يقم بها الشيوخ الأشرار. لقد انتهت حياتهم على الأرض سريعًا، لكنها تبقى شاهدة على الشيخوخة الأثيمة التي لم تقدم ثمرًا لائقًا.

فإنهم يبصرون آخرةَ الحكيم،

ولا يفقهون ماذا أراد الرب في شأنه،

ولماذا جعله في أمان. [17]

يتطلع الشيوخ الأشرار إلى الأبرار في مرارةٍ، ويقارنون أنفسهم بهم، هؤلاء الذين ماتوا في حداثة سنهم. فإنهم وهم شيوخ يخشون الموت ويرهبونه، بينما كان الأبرار في أمانٍ وسلامٍ حتى في تسليم أرواحهم.

يقف الأشرار في دهشة، وكما يقول المرتل: “لتبكم شفاه الكذب المتكلمة على الصديق بوقاحة بكبرياء واستهانة” (مز 31: 18). “لأن سواعد الأشرار تنكسر وعاضد الصديقين الرب” (مز 37: 17). ويقول الحكيم: “الصديق ينجو من الضيق ويأتي الشرير مكانه” (أم 11: 8)، “لا يثبت الإنسان بالشر، أما أصل الصديقين فلا يتقلقل” (أم 12: 3). “لا يصيب الصديق شر، أما الأشرار فيمتلئون سوءا” (أم 12: 21).

v     إن أثبت أحد أن عمله باق (1 كو 3: 14)، فسينال أجرته. سيكون مثل الثلاثة فتية في أتون النار (دا 3: 1-10)، ينال أجرته حياة سماوية مع مجدٍ[191].

v     أولئك الذين يُدعون في سلام يلزمهم أن يهدفوا نحو طول الأناة حتى لا تُكسر قوانين السلام[192].

الأب أمبروسياستر

v     الإنسان الذي سلاحه من ذهب يعبر خلال نهرٍ من النار، ويخرج مضيئًا بأكثر بهاءٍ، أما الذي يعبره ومعه قش، فسيفقده وهو نفسه يهلك معه[193].

v     إذ تتكثف محبتنا لمجيء الله لا يوجد أي نوع من الخطايا لا يدمر![194]

القديس يوحنا ذهبي الفم

يُبصرون ويَزدرون،

ولكن الرب يهزأ بهم. [18]

يدخل الأشرار في صراع بين تلامسهم مع أمان الأبرار وسلامهم الداخلي، وبين ادعائهم أنهم يتظاهرون بالسلام، وقد فقدوا كل شيء! يستخفون بحياة الأبرار، فيهزأ الرب بهم. وكما يقول المرتل: “الساكن في السماوات يضحك، الرب يستهزئ بهم” (مز 2: 4).

وبعد ذلك يصيرون جُثة حقيرة،

وعارًا بين الأموات أبد الدهور.

فإنه يُحطمهم صامتين مُطرِقين برؤوسهم،

ويُزعزعهم من أسسهم،

ويُتركون بورًا حتى النهاية،

ويكونون في العذاب وذكرهم يزول. [19]

مهما طل عمرهم فإنهم يومًا ما يصيرون جثة حقيرة، يموتون بلا رجاء في التمتع بالأمجاد الأبدية. يدخلون القبور في عارٍ وخزيٍ، في صمتٍ يطرقون رؤوسهم إلى أسفل، إذ ليس لديهم حجة للشر الذي ارتكبوه. يزعزع الموت أساساتهم، إذ وضعوا كل رجائهم في الزمنيات، ويصيرون أشبه بصحراءٍ قفرٍ بلا ثمر. يدخلون إلى العذاب الذي ينتظرهم، وتزول ذكراهم نهائيًا.

يضيف هنا مصير الأشرار بعد الموت وقبل حلول يوم الدينونة، الأمر الذي كثيرًا ما صوره سفر إشعياء النبي:

“وأما أنت فقد طُرحت من قبرك كغصنٍ أشنع كلباس القتلى، المضروبين بالسيف، الهابطين إلى حجارة الجب، كجثةٍ مدوسةٍ” (إش 14: 19).

“ويخرجون ويرون جثث الناس الذين عصوا عليَّ، لأن دودهم لا يموت، ونارهم لا تُطفأ، ويكون رذالة لكل ذي جسدٍ” (إش 66: 24).

وإذا حُسبَت خطاياهم يأتون خائفين،

وآثامهم تتهمهم في وجوههم. [20]

يترقبون يوم الدينونة في رعبٍ شديدٍ، لأن الذي يدينهم هو آثامهم. إن كان الرب هو الديان، لكنه رحوم، ويطلب خلاص الكل! أما هم فأعطوا الله القفا، وأعطوا الآثام الوجه، فسقطوا في ثمر الآثام التي اختاروها بإرادتهم الحرة.

هنا يقدم لنا سفر الحكمة مفهومًا رائعًا لغضب الله ودينونته للأشرار، فإنه ما كان يريد هلاك أحدٍ، لكنه يقدس حرية الإرادة، فمن يلقي بنفسه في الهلاك بإرادته يجني ما اشتهاه.

v     “أدخلوا إلى الملكوت، لأني كنت جوعانًا فأطعمتموني” لذلك ستدخلون إلى الملكوت ليس لأنكم لم تخطئوا، بل لأن بإحسانكم أزلتم خطاياكم. كذلك للآخرين: “اذهبوا إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته”. هم أيضا خطاة إذ أنهم متأصلون في خطاياهم ومتأخرون في خوفهم منها. عندما يعرضون خطاياهم أمام عقولهم، هل يستطيعون من أية جهة أن يتجاسروا فيقولوا إنهم يُدانون بغير حقٍ، وأنه قد أعلنت هذه العبارة الصادرة من قاضٍ بارٍ كهذا ضدهم بدون استحقاق؟ فبالنظر إلى ضمائرهم وكل جراحات أرواحهم، كيف يجسرون فيقولوا إننا نُدان ظلمًا؟ لقد قيل عنهم في سفر الحكمة: “آثامهم تتهمهم في وجوههم” (حك 4: 20) سيرون بلا شك أنهم يدانون بعدل عن خطاياهم وشرورهم. ومع ذلك مكانه يقول لهم أنه ليس بسبب ما تفكرون فيه بل “لأني كنت جوعانا فلم تطعموني” فلو ابتعدتم عن كل أعمالكم هذه والتفتم إليّ لخلصتم من كل جرائمكم وخطاياكم باحساناتكم، لخلصتكم الآن احساناتكم وبرأتكم من الخطايا العظيمة لأن “طوبى للرحماء، لأنهم يُرحمون” (مت 5: 7) ولكن الآن “اذهبوا إلى النار الأبدية، لأن الحكم بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة” (يع 2: 13)[195].

القديس أغسطينوس


 

من وحي حك 4

لأقتنيك يا أيها البرّ الخالد!

v     خلقتني على صورتك،

فتشتاق نفسي إلى الخلود.

لكن امتدت يدي لتسجل عهدًا مع الموت!

عوض العهد معك يا أيها الحياة،

اخترت بإرادتي أن أنضم إلى حزب الموت،

وصارت الظلمة مع الفساد والظلم دستوري.

 

v     أتيت إليّ، وشاركتني طبيعتي.

أحببتك، لأنك بادرت بالحب نحوي.

لأقتنيك، يا أيها الخالد.

لست أطلب طول عمر،

ولا كثرة ذرية،

ولا ذكريات على الأرض.

فأنت كل كفايتي وشبعي!

 

v     أقدم لك نفسي بكل طاقتها،

وجسدي بكل أعضائه وأحاسيسه،

فأصير بالحق بتولاً.

روحك القدوس يجددني ويجٌَملني،

يهيئني كعروسٍ سماوية خالدة!

 

v     تشرق بنورك عليٌ،

فتصير أنت بٌَري، وقداستي، وخلاصي!

اشتهيت أن أقتنيك بكل كياني،

فتهرب الخطية من أعماقي.

تحلّ فيّ بنعمتك،

فلا أعرف غير النصرة الدائمة،

مع السلام الداخلي وسط المعركة،

والشبع بك.

 

v     أصير بنعمتك شاهدًا لعمل خلاصك،

فيود الكثيرون أن يقتنوك!

ويرجع كثير من الأشرار إليك!

 

v     قلبي لن يستريح،

حتى تستريح أنت في البشرية.

تحزن نفسي على من وضعوا قلوبهم في ذريتهم.

وسكبوا روح الشر فيهم،

صاروا فروعًا بلا ساقٍ ثابت.

صاروا عصافة تبددها الريح.

عوض تخليد ذكرى والديهم،

صاروا غمًا ومرارة لهم.

 

v     لست أطلب ذكرى في العالم،

ولا أشتهي طول العمر هنا.

يوم واحد معك تحسبه كألف سنة.

نعمتك الغنية تقيم مني عجبًا!

ليأتِ الموت، فإنه لن يرعبني!

ها أنت تُعد لي الراحة الأبدية!

 

v     لست اطلب وقار الشيخوخة الظاهري،

إنما أطلب نعمتك واهبة الحكمة.

تهبني بروحك القدوس قوة الشباب،

وبه أتمتع بحكمة الشيوخ.

 

v     أرفع عيني، فأرى حبيبك أخنوخ عندك،

نقلته إليك، لأنه التصق بك.

حملته من وسط الأشرار،

حتى لا تتعذب نفسه بأفعالهم الأثيمة

خطفته من بين معاصريه،

لتحفظه لعملٍ عظيمٍ يوم مجيء ضد المسيح.

افتقدته نعمتك لينعم بأمجادٍ عظيمة!

 

v     أخيرًا ماذا أطلب سوى أن أستقر في حضنك.

احفظني فيك، يا من بادرتني بحبك.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى