تفسير إنجيل يوحنا الأصحاح 19 للأب متى المسكين

الأصحاح التاسع عشر
الجزء الرابع من سير القضية

داخل دار الولاية (1:19-3)

الجلد بدون حُكم مُسبق – والاستهزاء بالمسيح كملك


1:19 فَحِينَئِذٍ أَخَذَ بِيلاَطُسُ يَسُوعَ وَجَلَدَهُ.

«بذلت ظهري للضاربين، وخدي للطم، ووجهي لم أستر عن خزي البصاق.» (إش6:50 ‏حسب الترجمة السبعينية)
«وبجلداته شُفينا……» (إش5:53 ‏حسب الترجمة السبعينية)


‏لا يزال بيلاطس يأمل في إطلاق المسيح. ورأى أنه يمكن إرضاء الشعب الهائج بإجراء عقوبة شكلية, دون حكم رسمي, تستدر عطف الشعب، فأقدم على هذا العمل وهو مقتنع ببراءة المسيح, وقد أعلن ذلك وعمل على إطلاقه, لهذا قام بعملية الجلد: «إني لم أجد فيه علة للموت, فأنا أؤدبه وأطلقه.» (لو22:23)
‏وهنا تجدر الإشارة للتنبيه، أن هذا التجاوز المجحف الذي تورط فيه بيلاطس بعملية الجلد والاستهزاء، كان, دون أن يدري, أساساً لاهوتيأ للخلاص, لأن المسيح أكمل به ما هو مستحق توقيعه بالفعل من العقوبة على الإنسان, فحمله هو على ظهره ورأسه ليعطينا حق البراءة. فالآلام, والجلد على الظهر, والاستهزاء الذي احتمله المسيح, إضافيا فوق الموت, استكمل به المسيح الخلاص اللازم لنا. لذلك تحتل هذه الآلام من يد الحاكم الروماني, وهي غير اللازمة وغير القانونية أيضاً، إذ لم تثبت عليه تهمة واحدة من التي سُجلت في عريضة الدعوى.
‏وقد تفنن بيلاطس في الاستهزاء بالمسيح، بقصد أن يجرده من كرامة الملوكية التي كرهها اليهود, وذلك فقط استرضاء لهم. وواضح أن جيع أنواع التهكمات التي أُجريت عليه، أُجريت للتهزئة بملوكيته فقط:
«فعروه وألبسوه رداء قرمزيا»، وهو اللون الخاص بملابس الملوك.
‏«وضفروا إكليلاً من شوك، ووضعوه على رأسه»، وواضح أنه كان بمسابة إكليل الغار الذي وضع على رأس الملوك الراجعين من الانتصار!!
«وقصبة في يمينه»، هى قضيب الملك.
«وكانوا يجثون قدامه, كما يسجد الناس للملوك عادة.
«ويستهزئون به قائلين: السلام يا ملك اليهود».
‏«وبصقوا عليه» أقصى ما يمكن أن يُهان به ملك.
‏«وأخذوا القصبة، وضربوه على رأسه»‏، أي على إكليل الشوك، استهزاء بملوكيته (مت28:27-30)
‏ولم يدر الحاكم أنه إنما يكمل كأس آلام الخلاص، ليستطيع بها المسيح أن يسترد للانسان كرامته وملوكيته أمام الله أبيه. وبإكليل الشوك الذي ألبسه أخيراً فوق رأس المسيح، أعاد للانسان بالنهاية إكليل المجد الذي كان قد نزُع منه: »الذي أحبنا, وقد غسلنا من خطايانا بدمه, وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه, له المجد والسلطان إلى أبد الأبدين آمين.» (رؤ5:1-6)
‏تصحيح المفهوم:
+ يقول القديس كيرلس الكبير: (إنه جُلد ظلما) في شرحه لإنجيل يوحنا صفحة 606.
+ يتهيأ لكثيرين، أنه بعد الحكم بصلب المسيح، أعاد الجند الجلد والاستهزاه مرة أخرى. وهذا خطأ يلزم التنبيه إليه. وقد نتج هذا من اللبس الحادث في سرد الرواية. فمثلاً، في إنجيل مرقس يقول بغاية الوضوح هكذا: «وأُسلم يسوع, بعد ما جلده, ليصلب» (مر15:15)، بمعنى أنه بعد أن جلده بيلاطس أمام الجموع، وهو في حالة الاستهزاء، ولابس إكليل الشوك والثوب الارجواني، بقصد من بيلاطس أن يكتفي بذلك, وبعدها يأمر بإطلاقه، هاج الشعب وزاد الصخب, وطلبوا صلبه, فيئس من كل محاولات الإفراج عنه وسلمه لهم ليُصلب. ولكن القديس مرقس جمع كل ما تم من عمليات الجبلد والاستهزاء، ولم يفصلها, أثناء سرده, عن الصلب، بل أضافها لها، لأنه لم يشير سابقاً إلى المحاولة التي قام بها بيلاطس لإطلاقه, والتي استلزمت الجلد والاستهزاء!
كذلك في إنجيل القديس متى نجد أنه جمع عملية الجلد والاستهزاه مع الصلب. لأنه أيضاً لم يتعرض لمحاولة بيلاطس لإطلاق المسيح بالمرة.
+ أما إنجيل القديس لوقا، فكان واضحاً للغاية في سرد هذه الأحداث، إذ فصل بين محاولة إطلاق المسيح وبين الحكم بالصلب. وبعد النطق بالحكم بالصلب، لم يذكر اي شيء عن جلد أو استهزاء.
‏+ ولكن في إنجيل القديس يوحنا اتضحت الحقائق، إذ سُردت رواية محاولة بيلاطس إطلاق المسيح ومعها الجلد والاستهزاء. ولما لم تأت هذه المحاولة بالنتيجة التي كان يطلبها بيلاطس, اضطر اضطراراً وتحت التهديد، أن يسلم لهم يسوع ليصلب مباشرة، دون أي جلد أو ‏استهزاء.
+ ولكن حتى وإن كانت الكتيبة قد اجتمعت فعلاً على المسيح بعد النطق بالحكم, كما يُفهم خطأ من سرد إنجيلي القديسين متى ومرقس, وأكتملت تمثيليتها بل تمثيلها بالملك، فهذه العملية تتناسب فعلاً مع الوحشية الرومانية لدى الجنود.
+ وحينما يقول كل من القديس متى والقديس مرقس: «وبعدما استهزأوا به, نزعوا عنه الرداء, الثوب الارجواني, وألبسوه ثيابه, ومضوا به للصلب» (مت31:27؛ مر21:15), فإنه يُفهم من هذا أنه بعد ما تمت عملية الاستهزاء العلني أمام اليهود خارج دار الولاية، ولم تأت بالنتيجة التي كان يترجاها بيلاطس, وهي أن يتمكن من إطلاق سراحه بعد ذلك، أدخل المسيح مرة أخرى إلى دار الولاية ونزعوا عنه إكليل الشوك والثوب الارجواني (رمز الملوكية)، وذلك ليتسنى, بمقتضى كرامة القانون وهيبة المحكمة, محاكمته بملابسه العادية. فحكموا عليه وسُلم لهم ليصلبوه.
‏وقد كشفت لنا أبحاث الحفريات الحديثة في أورشليم التي قام بها الضابط وارن, عن صالة كبيرة تحت الأرض، قرر مستر فرجسون بعد فحصها أنها المكان الذي تألم فيه المسيح وجُلد واستُهزى، به. وهي في موقع قلعة أنطونيا, مركز دار ولاية بيلاطس, وفيها لا يزال هناك عمود مقطوع تاجه قائم بمفرده، وليس له اتصال بتركيب هيكل المبنى (لأن الصالة مقببة بقبو يعلو العمود، ولكن دون أن يتلامس معه، وواضح أنه العمود الذي كان مستخدماً لربط المحكوم عليه وجلده). وتاريخ هذه الصالة يرقى إلى زمن هيرودس.

2:19 وَضَفَرَ الْعَسْكَرُ إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ وَأَلْبَسُوهُ ثَوْبَ أُرْجُوانٍ.

«محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن… مُحتقر فلم نعتد به» (إش3:53)
‏كان هذا العمل بأمر بيلاطس، ليمثلوا بالمسيح تمثيلاً كملك تحت الإهانة، وقد أتقنوا جداً عملية الاستهزاء بكل صنوف الوقاحة المتاحة, وقد فلت زمام تعقلهم، لأن الأمر صادر من رئيسهم!
‏«ضفر العسكر إكليلا من شوك, ووضعوه على وأسه»: ‏القصد أن يهزأوا بملوكيته، فألبسوه إكليلاً من شوك عوض إكليل الغار الذي يطوقون به الملوك عند رجوعهم من انتصاراتهم. ولكن ألم يقل المسيح: «ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو33:16)؟ لقد رجع المسيح من نصرته العظمى غالباً العالم ورئيسه وكل مصادر الخطية والموت والهلاك، وحمل لعنة الإنسان في جسده، فلاق به أن يلبس إكليلاً من شوك رمز لعنة الإنسان «ملعونة الأرض بسببك … شوكاً وحسكاً تنبت لك.» (تك17:3-18)
‏كان منظر المسيح وهو لابس إكليل الشوك, هو منظر الإنسان مطروداً من أمام وجه الله, خارجاً من جنة عدن، حاملاً اللعنة والشوك، ومستقبلاً التعب والشقاء. وها هو المسيح قد وفى العقوبة بكل بنودها، وما بقي منها إلا الموت، آخر عدو للإنسان، والذي هو(أي المسيح) وشيك أن يدوسه ليعود بالإنسان إلى حيث خرج.
‏يعقد بعض العلماء أن نوع هذا الشوك اسمه العلمي ( )، وهو موجود بكثرة في أورشليم ، وأشواكه حادة جداً، إذا انغرست في اللحم تدميه. ويقول أخرون إنه نبات ( ) وأسمه العبري «سارح» أو «سيراخ»
«وألبسوه ثوب أرجوان»: «من ذا الآتي من أدوم بثياب حُمر، من بصرة، هذا البهي بملابسه … ما بال لباسك محمر، وثيابك كدائس المعسرة؟ قد دست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد.» (إش1:63-3)
«وهو متسربل بثوب مغموس بدم، ويدعى اسمه كلمة الله.» (رؤ13:19)
‏وهو الثوب الذي خلعه عليه هيرودس تهكماً من ملوكيته أيضاً، عندما أرسله بيلاطس إليه، لما علم هذا أن المسيح من الجليل. وكان هيرودس والي الجليل، ولكنه كان مقيماً في أورشليم، «فاحتقره هيرودس مع عسكره، واستهزأ به، وألبسه لباساً لامعاً, ورده إلى بيلاطس.» (لو11:23)
‏ومعروف أن لباس الملوك هو الأحمر اللامع.

3:19 وَكَانُوا يَقُولُونَ: «السّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ». وَكَانُوا يَلْطِمُونَهُ.

«في ظلعي فرحوا واجتمعوا، اجتمعوا علي شاتمين ولم أعلم، مزقوا ولم يكفوا.» (مز15:35)
‏كانت هي تحية قيصر الرسمية, كما كان يقوها الألمان لهتلر: «هايل هتلر». وهي التي أخذ عنها كلمة «السلام الملكى», ليقال بالموسيقى وليس بالفم؛ وهي تحية الملوك العظام.
‏لم يدر هؤلاء الجنود البؤساء أنهم فعلاً يحيون ملك الملوك، «ورئيس ملوك الأرض» (رؤ5:1‏)، ولم يكن استهزاؤهم إلا استهزاه بجهالتهم وعمى عيونهم، التي نضح عليها اليهود فعموا بعماهم!
‏«وكانوا يلطمونه»: ‏كان المسيح، بعد الجلد، ينزف دماً، وظهره متورم تجتاحه الآلام، كموجات مرعبة تسري في جسده المتهرأ بلا توقف، ثم بدأوا يلطمونه على الوجه وعلى الرأس: «وبصقوا عليه، وأخذوا القصبة, وضربوه على رأسه» (مت30:27)
«اسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض …، ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا علي, الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف, شعبي لا يفهم!! ويل للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الإثم، نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين!! ‏تركوا الرب, استهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى وراء …، ‏كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم، من أسفل القدم، إلى الرأس ليس فيه صحة! بل جرح, وأحباط، وضربة طرية, لم تعصر ولم تُعصب ولم تُلين بالزيت. بلادكم خربة، مدنكم محروقة بالنار!!» ( إش2:1-7)
«وكانوا يقولون: السلام يا ملك اليهود، وكانوا يلطمونه»! هذا هو سلام العالم، سلام بالفم ولطمة باليد، وحق للمسيح أن يقول: «سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم…» (يو27:14)

الجزء الخامس من سير القضية
خارج الولاية (4:19-7)

الإعلان الثاني والثالث عن براءة المسيح
«هذا هو الرجل», «جعل نفسه ابن الله»


4:19 فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ أَيْضاً خَارِجاً وَقَالَ لَهُمْ: «هَا أَنَا أُخْرِجُهُ إِلَيْكُمْ لِتَعْلَمُوا أَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً».

‏كانت حيرة بيلاطس واضحة، فلو كان لديه من الأدلة ما يكفي للحكم، لحكم. ولكن لم يكن أمامه أية أدلة يستند عليها، بل كان أمامه من الأدلة الدامغة على براءته، ما جعله يكاد يتوسل ملتمساً براءته. وقد أقدم عل فعلة شنعاء، بأن ظلمه ظلماً قاسياً وعنيفاً، ليرضي ظلم رؤساء الكهنة القساة وعنفهم! ولسان حاله أنه: يهون جلده، حتى الدم, وتهون إهانته حتى التراب، أمام تبرئته من الصلب! ولكن هيهات، فحسب لسانه هو: «ما كتبت قد كتبت»
‏«ها أنا أخرجه إليكم لتعلموا أني لست أجد فيه علة واحدة»: بيلاطس يحاول أن يوقظ روح الإنسانية في اليهود، ويدفعهم دفعا إلى روح العدالة, بإعلانه الجهوري عن براءة من يتهمونه, براءة لا يشوبها الشك ولا «علة واحدة», ويستدر رحمتهم بمنظر المسيح الدامي والمهان جداً! هذا كله من وراء المسيح, فالمسيح كان حتى هذه اللحظة داخل دار الولاية: «‏ها أنا أخرجه إليكم».
«لست أجد فيه علة واحدة»: «رئيس هذا العالم يأتى وليس له فىّ شيء». ‏وبيلاطس هنا يدين نفسه إدانة مخزية. فلماذا، إذن، وبأي حق، وبأي إنسانية، تأمر بجلده بضربات قد تؤدي إلى موته، تأمر بإهانته هكذا وهو بريء!!

5:19 فَخَرَجَ يَسُوعُ خَارِجاً وَهُوَ حَامِلٌ إِكْلِيلَ الشَّوْكِ وَثَوْبَ الأُرْجُوانِ. فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «هُوَذَا الإِنْسَانُ».

«يا جميع عابري الطريق, تطلعوا وانظروا أن كان حزن مثل حزني…»» (مراثى 12:1)
+ «بُليت عظامي. عند كل أعدائي صرت عاراً،… ورعباً لمعارفي… الذين رأوني خارجاً هربوا عني، نُسيت من القلب مثل الميت, صرت مثل إناء مُتلف، لأني سمعت مذمة من كثيرين، ‏الخوف مستدير بي بمؤامرتهم معاً علي، تفكروا في آخذ نفسي.» (مز10:31-13)
+ «‏اذكر يا رب عار عبيدك الذي أحتمله في حضني!! … ، الذي به عير أعداؤك… ، عيروا آثار مسيحك!!» (مز50:89‏)
‏+ «كان منظره كذا مفسداً أكثر من الرجل, وصورته أكثرمن بني آدم… لا صورة له ولا جمال، فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومرزول من ‏الناس, ‏رجل أوجاع ومختبر الحزن، وكمُستر عنه وجوهنا. ‏محتقر فلم نعتد به، لكن أحزاننا حملها, وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه, وبحُبره شُفينا… والرب وضع عليه إثم جميعنا. ظٌلم، أما هو فتزلل، ولم يفتح فاه…، ضُرت من أجل ذنب شعبي.» (إش14:52-9:53)
«هوذا الإنسان»: هوذا الإنسان ليس ملكاً بعد، لقد رفٌع عنه كل كرامة، «الذي له الكرامة والمجد إلى دهر ‏الدهور.» (اتى17:1)
‏ألبسه الهزء والسخرية، «اللابس النور كثوب» (مز2:104)
‏أزال بهاء منظره، وحطم قوته «البهي بملابسه، المتعظم بكثرة قوته» (إش1:63)
ألبسه تاج الشوك، وهو الذي «على راه تيجان كثيرة» (رؤ12:19)
‏قال لهم: «هو ذا الإنسان»، لعلهم يتعرفون عليه في أخوة الإنسانية وآلامها!! فجحدوه كإنسان متألم، وهو الإله المتمجد، ملك الملوك ورب الأرباب. أهانوا خروجه إليهم، الذي سيأتي في مجده ومجد أبيه مع ملائكته القديسين ليدين المسكونة بالعدل: «العار قد كسر قلبي فمرضت، انتظرت رقة، فلم تكن، ومعزين فلم أجد.» (مز20:69)
هموذا الإنسان!! هذا هو التجسد. نعم وكيف صار الكلمة جسداً! هذا هو الإخلاء في أعمق مظاهره ومعانيه! كيف مار الإله في هيئة عبد؟ (راجع في7:2) ولم يكتف بهيئة العبد، بل حمل على هيئة العبد عار العبيد والأسياد ومذلة بني الإنسان، ودفع بمذلته ثمن كبريائا، تهيداً ليدفع بموته ثمن موتنا ويعطينا الحياة!
‏هذه هي طاعة العبد، أدخلوه دار الولاية، فدخل. وألبسوه عار الإنسان، فلبس. وأخرجوه ليكون منظراً للناس والملائكة، فخرج. هو راض بكأسه الذي أخذه من يد الآب لشثربه رشفة رشفة!
‏في يوم ميلاده، يوم إعلان تجسده، ظهرت الملائكة في السماء جوقات جوقات تسبح لملكها وتمجد مهللة، ولكنها في هذا اليوم انحصرت مذعورة، وصمتت السماء، استعداداً لساعة الظمة على الأرض.
‏أما بيلاطس فخاب رجاؤه لأنه ترجى أن يسمع كلمة رحمة من اليهود، فسمه «اصلبه», «اصلبه»، لأن لصوص الكرم تعاهدوا وتربصوا: «فلما رآه الكرامون تأمروا فيما بينهم قائلين: هذا هو الوارث هلموا نقتله، لكى يصير لنا الميراث». (لو14:20)

6:19 فَلَمَّا رَآهُ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْخُدَّامُ صَرَخُوا: «اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!» قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاصْلِبُوهُ لأَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً».

‏نعم، لا يكفيهم الجلد على الظهر، ولا الضرب على الرأس؛ واللطم والبصاق على الوجه لا ينفعان شيئاً! هذا كله لا يكفي لغسل خطاياهم ورفع تعدياتهم، هذا لا يكفي ولا يصلح قط ليكون ذبيحة للفداء، إنهم بروح جميع الأنبياء يطلبون بل ويصرخون بأعلى أصواتهم أن «يُذبح المسيح»، فليس أقل من الذبح فداء، ولا دون الصليب خلاص.
«خذوه أنتم واصلبوه, لأني لست أجد فيه علة»: ‏قول بيلاطس يُترجم هكذا: أنا غير موافق على صلب المسيح، إذا كنتم مصممين على قتله، ‏فخذوه كما أتيتم به، واصلبوه أنتم! قالها بيلاطس مع شيء من السخرية.
‏أراد بيلاطس أن ينفض عن نفسه تحمل «دم البار»: «لست أجد فيه علة واحدة» (يو38:18‏)، «إياك وذلك البار» (مت19:27). وبقوله مرة ثالثة: «لست أجد فيه علة»، وضع القضية بكافة ملابساتها على رؤوسهم وحمّلهم دم فريستهم! وكل نتيجة أعمالهم. إن تصريح بيلاطس بهذا الوضوح والعلانية، جعل اليهود وحدهم هم المسئولين عن صلب المسيح أمام هيئة القضاء العالى في السماوات, ولدى ذوي البصيرة من الروحيين والأنبياء: «إله آبائنا أقام يسوع ‏الذي أنتم قتلتموه، معلقين إياه على خشبة» (أع30:5‏). وليس هنا ذكر لبيلاطس، أو الرومان! «إن إله إبراهيم اسحق ويعقوب، إله آبائنا مجد فتاه يسوع، الذي أسلمتموه أنتم, وأنكرتموه أمام وجه بيلاطس, وهو حاكم بإطلاقه, ولكن أنتم أنكرتم القدوس البار, وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل, ورئيس الحياة قتلتموه, الذي أقامه الله من الأموات، ونحن شهود لذلك.» (أع13:3-15)
‏وهذا ذكر تاريجي يبرى بيلاطس من دم المسيح حقاً. ولكن الخطأ الذي وقع فيه، هو أنه لم يستطيع أن يقف عند قوله، بمعنى أنه لم يستطع أن ينفذ ما يعتقده من جهة تبرئة المسيح. هنا لعنة السياسة، فسياسة الدولة تضحي بالحق في سبيل سلامة كيانها: يموت هو ولا أموت أنا. هذا هو عجز السيامة!! وعجز السياسة يأكل من جسم القانون!!

7:19 أَجَابَهُ الْيَهُودُ: «لَنَا نَامُوسٌ وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللَّهِ».

‏رفض بات للمساومة التي دخل فيها بيلاطس. وما كان يجب عليه أن يفتح باب الحوار مح الشعب والشاكين، في أمر إزهاق روح بريء. ثم الخطأ الثاني أن يخيرهم بين إطلاقه من عدمه, بأن يوازنه بمجرم محترف محكوم عليه بالفعل.
‏اليهود هنا يزكون طلبهم بضغط، معتبرين أن حكمهم «إلهي»، وما عليه إلا التنفيذ، كما تراءى لهم، أو ربما كما أعطتهم الدولة الحاكمة من ضمانات في عدم التدخل في شئونهم الدينية. فالناموس اليهودي يقول بحسب سفر اللاويين (16:24‏): «من جدف على اسم الرب فإنه يُقتل، يرجمه كل الجماعة رجماً، الغريب كالوطني، عندنا يجدف على الاسم، يُقتل».
‏ولكن ما هو عمل بيلاطس كقاض تأكد له بالفحص الشخصي والسماع المتأني لليهود من براءة المسيح؟ بالإضافة إلى معرفته ائسابقة كوالى للبلاد بشئون قيام هذه الحركة الجديدة التي يقودها المسيح في البلاد والتي يتبعها كثير من الشعب والرؤساء، هل كان من واجبه، بل بالأحرى هل هو في حدود صلاحياته، أن يبرىء إنساناً يتهمه اليهود بمخالفات دينية تدخل في اختصاصات رؤساء الكهنة؟

الجزء السادس من سير القضية
داخل دار الولاية (8:19-11)


‏الإعلان عن مصدر السلطان الذي يحكم به بيلاطس، والخطية الأعظم التي يتحملها رؤساء الكهنة وحدهم

8:19 فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ هَذَا الْقَوْلَ ازْدَادَ خَوْفاً.

‏لقد أحس بيلاطس بالرهبة تسري في كل كيانه، منذ تحدث مع المسيح في اختلائه الأول معه (33:18-38), وسماعه القول الذي قاله المسيح والذي يوحي بأصله الإلهي، وبرسالته فوق العادة من أجل الحق في العالم كله. وهنا، وعند سماعه بأصل المسيح يُعاد وصفه مرة أخرى بأكثر وضوح أنه ابن الله، زاد إحساسه بالخوف. إذ الآية لا تقول أنه ابتدأ يخاف بل «ازداد خوفاً». وقد انعكس هذا الخوف عل الإجراء الذي كان قد عمله في التو، إذ أمر بجلده؛ صحيح أنه جلد إنساناً له علاقة بالآلهة اليهودية مُرسلاً من عالم آخر! إن العبادات الرومانية ليست غريبة من هذا اللقب: «ابن الله»، خصوصاً وأن عبادات الشرق كان لها إشعاعات مؤثرة في السنين الأخيرة. فبولس الرسول يحكي لنا، بل ويستخدم معلومة مستمدة من أشعارهم: «كما قال بعض شعرائكم أيضاً لأننا أيضاً ذريته.» (أع28:17)
‏فالسؤال الذي بدأ يرعب قلب بيلاطس، هل سيجره اليهود لكي يدخل في حرب مع الآلهة؟ «وإذ كان من الله ، فلا تقدرون أذ تنقضوه، لئلا توجدوا محاربين لله أيضاً» (أع39:5‏)… لقد بدأ يزداد عنده، مع الخوف، الإحساس بالشؤم في هذه القضية. وكان بيلاطس على حق في كل أحاسيسه. فالواقف أمامه هو حقاً وبالحقيقة ابن الله، الذي تهتز وتسجد أمامه كل عروش السموات والأرض. وكان عل حق، كل الحق، عدما أحس بالشؤم من صراخ اليهود الذي ظل يرن في أذنه حتى اليوم: «اصلبه اصلبه»، فقد تلوثت يداه بالفعل بدم «ذلك البار»، الذي لم تكن حقيقته عن زوجته بعيدة …
‏إن إحساس بيلاطس بالخوف، ثم بازدياد الخوف بتقدم القضية نحو لحظة الصلب، يكشف تماما عن أن أحاسيس هذا الرجل كانت صادقة. وصراخه في وجه اليهود مرات ثلاث: «أنا لا أجد فيه علة واحدة‏» هو ليس فقط الصدق والحق، بل هو النبوة العفوية التي تستمد وحيها من فم المسيح: «من منكم يبكتني على خطية.» (يو46:8‏)

9:19 فَدَخَلَ أَيْضاً إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَقَالَ لِيَسُوعَ: «مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟» وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يُعْطِهِ جَوَاباً.

«ظُلم، أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه, كشاة تُساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه. (إش7:53)
‏«من أين أنت»: هل أتيت من نسل إنسان؟ أم من كائن إلهي: أمن السماء أنت أم من الأرض؟ «فالجموع لما رأوا ما فعل بولس، رفعوا صوتهم بلغة ليكاونية قائلين: إن الألهة تشبهوا بالناس، ونزلوا إلينا.» (أع11:14)
كان من الصعب جداً على المسيح أن يقول لليهود من أين هو: «فاحتاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تعلق أنفسنا، إن كنت أنث المسيح، فقل لنا جهراً» (يو24:10). ولما قال لم يصدقوا: «أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون» (يو25:12)، فكم وكم يكون لبيلاطس؟ لا يمكن بالكلام أن يدرك إنسان من هو المسيح، لا بد من الأستعلان، والوسيلة الوحيدة لدى المسيح لكي يعرف بيلاطس من هو حقاً, هي أن يُصلب!! حتى يعرف، ليس بيلاطس وحده, بل كل العالم! لهذا كان صمت المسيح لم يكن تمنعاً، أو عزوفاُ عن الكلام، لأنه لا يستطيع أن يزيد على ما قاله سابقاً (25:18)، أما استعلانه الكلي، فيستحيل, لأن عقارب الساعة لم تكن قد بلغت السادسة بعد!
‏كان الذي يقلق بيلاطس الأن، هو الإجراءات العنيفة التي اتخذها في حقه، لقد بدأت تضغط على أعصابه، إنه يود أن يعرف نفسه هل هو بريء فيما صنع، أم أنه واقع تحت اتهام الألهة!! لذلك حاول بصورة أخرى أن يبتز من المسيح الجواب:

10:19 فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «أَمَا تُكَلِّمُنِي؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَاناً أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَاناً أَنْ أُطْلِقَكَ؟».

‏لم يكن بيلاطس, بهذا القول، يُرهب المسيح. كما لم يكن يهدد، بل كان يتوسل باسم السلطان الذي في يده. لم يرفع السلطان فوق المسيح، بل جعله تحت أمره، لو هو أسر إليه بسره، فيريح نفسه وينير الطريق أمام النطق اللائق بالحكم. أن يصمت المسيح» في نظر بيلاطس, وأمام الناس، وفي أي مكان وزمان، فهذا معقول ولا فرق يتأتى منه, أما الآن فأنا بيلاطس، لي الكلمة الأخيرة لا سدل بها الستار على هذه القضية العصية! فكيف تصمت ولماذا؟ كان بيلاطس الروماني يظن في بادىء الأمر، أن على المسيح أن يرتجف أمامه، وبالنهاية انعكس الوضع.
المسيح لم يكسر صمته بالنسبة لسلؤال، بل أراد أن يصحح لبيلاطس من أين يستمد مصدر سلطانه، في أن يصلب أو يطلق! المسيح لم يكن مشغولاً فيما سيحدث له على يد بيلاطس, بل عينه كانت فوق، مسلطة على الآب الذي خرجت من لدنه المشورة الآزلية، لتتم في وقتها على يد بيلاطس أو غيره.
‏أما صمت المسيح، مع جلال هدوئه، فقد صور في قلب بيلاطس الرد على سؤاله: «من أين أنت؟»

11:19 أَجَابَ يَسُوعُ: «لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ».

‏هذا التصور المديد الذي تصوره بيلاطس في أمر سلطانه، أنه هكذا كما يريد يفعل، هو الذي حرك المسيح ليرده إلى الصواب، ويضعه هو وسلطانه تحت التدبير السماوي العالى.
‏كان هذا، من فم المسيح، القول الفضل في العلاقة بين السلطة المدنية والسلطة الإلهية في حكومة الناس والعبث بمصائرهم .
‏فليس تعيين الحاكم والقاضي من قبل السلطة المدنية العليا كالإمبراطور، يعطيه السلطان المطلق أن يعمل كما يشاء أو حتى كما تشاء السلطة العليا التي تشرف عليه وتراجعه بمقتض القوانين الوضعية. إذ لا يزال فوق حكومة الناس حكومة الله، فاته يضع حدودا لصاحب السلطان لا يتعداها: «ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله» (رو1:13)
‏حينما قال المسيح لبيلاطس: «لو لم تكن قد أُعطيت من فوق»، فقد كان يشير إلى المكان الذي أتى منه, ردا على سؤال بيلاطس: «من أين أنت»؟ هذه أوليات المعرفة الإنجيلية لسلطان الله في العالم وعلى الناس: «قامت ملوك الأرض، واجتمع الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه. لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع، الذي مسحته، هيرودس وبيلاطس البنطي, مع أمم وشعوب إسرائيل، ليفعلوا كل ما سبقت يدك ومشورتك أن يكون» (أع26:4-28)، «هذا أخذتموه مُسلماً بمشورة الله المحتومة، وعلمه السابق وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه» (أع23:2). فإن كان بيلاطس يحكم بسلطان، ففوق سلطانه الشخصي، هناك القانون الذي يعمل بسلطانه. فبقدر أمانته للقانون، يكون أميناً في سلطانه. وفوق القانون والسلطان المدني، عين الله التي لا تغفل ولا تنام!!
‏بيلاطس لم يكن أميناً في سلطانه الذي يعتز به, بل أساء إليه, فبينما هو ينطق بالبراءة ثلاثاً, نطق بالإعدام تحت الخوف والإرهاب. هذه تُحسب له خطية إزاء القانون, وبالتالي إزاء الله. ولكن الذي دس هذه القضية، بل هذه الخطية, في يد بيلاطس، يتحمل أضعاف ما يتحمله بيلاطس. يقول المسيح: «لذلك الذي أسلمني إليك له خطية أعظم»!!
‏فبيلاطس أخطأ في الإلتزام بالقانون والسلطان الذي أعطاه أن يقضي، وهو قانون مدني, تحت عين الله على كل حال. أما قيافا, ومن معه, فقد فاق في خطئه كل تعقل وكل تصور، فقد استخدم «القانون»، أي الناموس الإلهي نفسه وسلطانه الذي أخذه من الله، استخدمه لتلفيق تهمة القتل: «لنا ناموس، وحسب ناموسنا يجب أن يموت» (يو7:19). بيلاطس أخطأ في الإلتزام بالقانون المدني فله خطية، وقيافا واليهود استخدموا القانون الإلهي وسلطان الله في ارتكاب خطية قتل عمد مع سبق إصرار واعتراف، فلهم خطية أعظم!
الله هو الذي دفع المسيح ليد قيافا, ومن معه, ويد بيلاطس، لا لكي يحكم قيافا, ومن معه, بقتله مخالفين الناموس، بل ليتعرفوا على المسيا حسب الناموس، ودفعه ليبلاطى لكي يحكم بيلاطس بحسب عدل القانون الروماني، وليس لكي يلغي القانون الروماني، بسلطانه الشخصي، فيحكم بسلطانه بغير ما يحكم به القانون الروماني! ولكن لأن الكأس، كأس الآلام المبرحة والفضيحة والإهانة والصليب والدم المسفوك, قد تسلمها المسيح من الله راضياً بمشورة الله الأزلية، وان كانت خلفت خلاصاً لنا ومجداً له, إلا أن الخير الوفير المترتب على شرب المسيح لكأس الموت، لا يمكن أن يشفع أبداً في خطية بيلاطس والخطية الأعظم التي لقيافا ومن معه!
‏نعم، كان لا بد أن يموت المسيح, ولكن موت المسيح كان لا بد له من قلب الإنسان الخائن ونفوس طامحة وحاقدة وقلوب جامدة وشخصيات مهزورة, وهي حاضرة في كل زمان ومكان. لم يضف الله على خبثهم, ولا كلفهم بتشغيل مواهبهم الشيطانية، بل تركهم يعملون حسب مشيئاتهم وغرائزهم», «حيثما تكون الجثة فهناك تجتمع النسور» (مت28:24‏). ولكنهم، وقت الحساب، يقفون في الصف وخطاياهم أمامهم!!
‏وقيافا، كان بحكم وظيفته التي أعطاها له الله، له الامتياز الأول والأعظم في التاريخ اليهودي كله، ومن بين جميع رؤساء الكهنة منذ أن قامت للكهنوت رئاسة على يد هارون، وذلك أن يتعرف على المسيا ويقدمه للشعب والعالم.!!
قيافا خيب أمال هارون، أباه الأول في كرامة كهنوته, وخيب أمال موسى نبيته في نبوته! وخيب أمال داود، ملكه الأغر في ملوكيته؛ وخيب أمال الآباء جيعاً والأنبياء الذين اجتهدوا بكل جهد, ووصفوا المسيح الآتي بكل الإشارات والإمارات, حتى يسهل على الكهان ورؤساء الكهان في ملء الزمان أن يتعرفوا عليه. ولكن قيافا ونسيبه اشتركا في التربص بالمسيح, الابن الوحيد الوريث، كلصوص الكرم، ووضعوا الخطط, ونصبوا الشراك، خارج الكرم في جثسيماني، وقالوا: «هلموا نقتله» (مت38:21‏). استخدموا سلطانهم الكهنوتي, وناموسهم الإلهي، وزوروا الحقائق, ولفقوا التهم, وقبضوا عليه, وأوثقوه كلص، وأسلموه للحكم, وتوسلوا بكل وسيلة لدى بيلاطس القاضي الأممي أن يحكم لهم. ولما أكتشفوا أنه كشف حسدهم وكيدهم وغشهم، بينما هو طالب بإطلاقه, تمسحوا في الحال في قيصر الملك الوثئي، وادعوا الرعوية له, وجحدوا الله ملكهم الأبدي, وأنكروا مسيحهم الأزلى، و باعوا أمتهم ثمناً لقتل مسيا الدهور ومسيح الخلاص.
«لذلك الذى أسلمني إليك, له خطية أعظم»: كانت هذه هي آخر كلمة قالها المسيح في ختام هذه المحاكمة, وكانت بمثابة كشف الحساب النهائي لكل القضاة بكل أتعابهم، وأصحاب الأدوار الذين قاموا بتكميل قصة الصليب، وحيث أعلن المسيح أنه هو الديان الحق الوحيد, الذي سوف يمثل أمامه كل الذين خانوا الحق والأمانة، وتعدوا القانون والناموس عمدا, وباعوا ضمائرهم وإلههم فى سبيل أمجادهم الشخصية وأطماعهم الدنيوية.

الجزء السابع والأخير فى سير القضية 
خارج دار الولاية (12:19-15)


تهديد القاضى, فليحيا قيصر, وليمت المسيح

12:19 مِنْ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ بِيلاَطُسُ يَطْلُبُ أَنْ يُطْلِقَهُ وَلَكِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَصْرُخُونَ: «إِنْ أَطْلَقْتَ هَذَا فَلَسْتَ مُحِبّاً لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَلِكاً يُقَاوِمُ قَيْصَرَ».

‏«من هذا الوقت»: ليس بعد هذا الوقت، ولكن لحظة قال المسيح قولته وكشف لبيلاطس: إن «العلي متسلط في مملكة الناس، وأنه يعطيها من يشاء … وعد انتهاء الأيام أنا نبوخذنصر رفعت عيني إلى السماء، فرجع إلي عقلي، وباركت العلي، وسبحت، وحمدت الحي إلى الأبد، الذي سلطانه سلطان أبدي، وملكوته إلى دور فدور. وحُسبت جميع سكان الأرض كلا شيء، وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل … الذي كل أعماله حق، وطرقه عدل، ومن يسلك بالكبرياء فهو قادر على أن يذله.» (دا32:4-37)
‏فعندما أدرك بيلاطس ما قاله المسيح، تأكد له خوفه الذي خافه، وابتدأ يسعى (يطلب) بنفسه، وليس لدى اليهود، أن يطلقه. ولكن إصرار بيلاطس على الإطلاق، كان يقابله من قيافا المتربص ازدياد وهياج في الصراخ, فكانت وراءه جوقة خدام (ضباط ) الهيكل المدربة والملقنة متى وكيف يعلو صوتها! كان سعي قيافا ومن معه لسفك دم المسيح جنونياً، رصد له كل قوته وماله وسلطانه ودهاءه، وبمساعدة الشيطان! «هذه ساعتكم، وسلطان الظلمة.» (53:23)
‏«إن أطلقت هذا, فلست محباً لقيصر, كل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر»: ليحيا قيصر, وليمت المسيح!! وفي جنون وفقدان وعي المسئولية عن ثبات الأمة وكرامتها, استهان قيافا بيهوديته وانزلق إلى التهديد، حتى راهن بولائه لله، في سبيل سفك دم المسيح، واتمى تحت رجلي قيصر, متقمصاً الولاء للامبراطورية الرومانية والدفاع عن «الحب والأمانة» لقيصرها!! وكان ذلك منه بقصد اكتساب الحق بعدئذ في إلقاء التهمة على بيلاطس، أنه يخون أمانته وحبه لقيصر, بل ويقاومه متسبباً في قيام الثورة ضد روما!!
‏وهكذا, وبعد ما استفرغ قيافا اللعب بكل أوراقه الدينية, من جهة الولاء للناموس، وتعدي الناموسى، والإلتزام بالناموس, «لنا ناموس»، وبعد أن وجد أن كل ذلك كان لعبة مكشوفة لدى بيلاطس، الذي حينما وزنها بميزان العدالة وجد أنه ليس فيه علة واحدة مما يقولون! أسرع قيافا بالورقة الأخيرة والخطيرة، ورقة اللعب بالسياسة, وترك الولاء للناموس وصاحب الناموس للالتجاء إلى الولاء لقيصر وحب قيصر، لمحاولة زعزعة كرسي بيلاطس من تحته بالإلتجاء إلى الشكاية لقيص!
‏ولكن يا للحزن المرير؛ كان مجرد التهديد بهذه السياسة, بإعلان الولاء لقيصر, معناه إعطاء الله القفا دون الوجه. فكان هذا السلوك المشين من رئيس كهنة، بمثابة ترك عبادة الله الحي والسجود للأوثان! وهكذا, وفي ساعة، انقلبوا من يهود متعصبين للناموس إلى رومان متعصبين لقيصر!! وكانت هذه التهديدات الخطيرة قد لقنها قيافا لخدامه (الضباط)، ولكل الشعب، ليصرخوا بها صراخاً بلغ عنان السماء, وظلت يتردد في أذن يوحنا ستين سنة! وظلت تترده أجواء السماء والأثير، وتردده الأيام إلى يوم الدين!
«محباً لقيصر»: هذا النعت ليس تركيباً من ألفاظ اليهود، بل كان هذا «لقبا» للضباط العظام الذين يقومون بأعمال جليلة لحساب الإمبراطورية، وبالتال لقيصر, ولكن اللقب المضاة وهو «ليس محباً لقيصر»، معناه نوع من الخيانة، أو نعت لمن يتكلم ضد قيصر. ومعروف أن طيباريوس قيصر كان ذا أذن مفتوحة لكل وشاية!!
‏وليلاحظ القارىء كيف انتقل اليهود من الوضع الأقل في الاتهام (بالكلام): «ليس محباً لقيصر», إلى الوضع القاتل: «يقاوم قيصر»، الذي معناه الخيانة والثورة السافرة.
‏فلو أخذنا في الاعتبار, وهذا مهم للغاية, أنه كان معروفاُ لدى اليهود أن بيلاطس كان على غير وفاق مع قيصر، بالإضافة إلى معرفتهم الوثيقة بالتصرفات الأخرى سواء كانت رشاوي، أو تجاوزات أخلاقية ووظيفية، لأدركنا مدى خطورة هذا التهديد عليه.

13:19 فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ هَذَا الْقَوْلَ أَخْرَجَ يَسُوعَ وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلاَيَةِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ «الْبلاَطُ» وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ «جَبَّاثَا».

‏بمجرد أن أدرك بيلاطس ما يخططه اليهود, وأنهم على استعداد فعلاً أن يبيعوا أنفسهم لقيصر ليتخلصوا منه، لم يكن أمامه إلا حل من اثنين: إما الوقوف مع الحق والقانون، وبالتالي مح المسيح لتبرئته، وإما الانسحاب نهائيا من أمام العاصفة الهوجاء وتسليم المسيح لهم ليصنعوا به ما يريدون. وفي الحل الأول فقط، تكون المجازفة بكرسيه وربما بحياته هو. لذلك فضل الحل الثاني: فلأحيا أنا، وليمت المسيح! وقد تغلب الخوف من قيصر على خوفه من المسيح. فقد أيقظت فيه تلويحات اليهود بالإلتجاء إلى قيصر، القسوة التقليدية التي لا تعرف الرحمة.
‏«أخرج يسوع, وجلس على كرسي الولاية»: كان المسيح داخل دار الولاية، فأخرجره خارجاً. وجلس بيلاطس على كرسي الحكم، بمعنى جلس ونطق في الحال بحكم الصلب. وهنا يكمل القديس متى هذا المشهد هكذا: «فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً، بل بالحري يحدث شغب، أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع، قائلاً: إني بريء من دم هذا البار، أبصروا أنتم. فأجاب جميع الشعب وقالوا: دمه علينا وعلى أولادنا.» (مت24:27-25)
«جباثا»: ومعناه «الرصيف الذي يتبع البيت»، وهو مكان مرتفع مستدير، يقع بين قلعة أنطونيا وبين الهيكل، حيث كلمة «باثا» أى البيت, تعني هنا «الهيكل». هذه الأوصاف كلها هي ذكريات شاهد عيان.

14:19 وَكَانَ اسْتِعْدَادُ الْفِصْحِ وَنَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَقَالَ لِلْيَهُودِ: «هُوَذَا مَلِكُكُمْ».

‏بعد ما حدد القديس يوحنا المكان الذي فيه نطق بالحكم، حدد اليوم ثم حدد الساعة. أما اليوم فحددة بالنسبة للفصح، وليس لأيام الأسبوع، كما يقول بعض الشراح. فهو يوم الاستعداد للفصح، ولكن كلمة «الاستعداد» تُستخدم كالعادة لتدل على الاستعداد للسبت أيضا, ولكن القديس يوحنا أوضحها صراحة أنه استعداد للفصح. ولكن الحاصل أنه كان يوم الجمعة وهو بطبيعته يسمى الاستعداد للسبت «باراسكيفي»، ففي هذه السنة كان الاستعداد للفصح هو أيضاً الاستعداد للبت، لأن عيد الفصح كان يوم السبت.
‏وفي مكان قادم (الآية31:19‏) عاد القديس يوحنا وأوضح ما يدل دلالة قاطعة أن يوم عيد الفصح في هذه السنة كان يوم السبت بقوله: «لأن يوم ذلك السبت كان عظيماً»، أي كان يومأ مقدساً كونه عيد الفصح، ومقدساً كونه يوم السبت أيضاً.
«الساعة السادسة (من النهار)»: يقول العلماء، ومنهم وستكوت، إن التوقيت الذي سجل به القديس يوحنا الساعات، كال توقيتاً على غرار التوقيت الغربي في روما، وكان سائداً في شمال اسيا الصغرى، وهو التوقيت بالساعة الرسمية التي يُذبح فيها الفصح, والتي يبدأ فيها بأكل الفطير.
‏هنا يبدو قول القديس بولس الرسول مفصلاً على الواقع والتقليد حرفا بحرف: «إذا، نقوا منكم الخميرة العتيقة، لكي تكونوا عجيناً جديدا كما أنتم فطير. لأن فصحنا أيضاً، المسيح، قد ذُبح لأجلنا. إذا، لنعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث, بل بفطير الإخلاص والحق.» (اكو7:5-8)
‏وهنا حبك للتاريخ الخلاصي. فإن الساعة التي خلص الله فيها إسرائيل من عبودية مصر وسخرة فرعون، كانت هي نفس الساعة التي انخبلت فيها إسراشيل وقدمت فيها عريسها ليُذبح. ليخلص به العالم من عبودية الخطية وسخرة الشيطان. نعم، وفي هذه الساعة، حل الأصل محل الصورة، وذُبح حمل الله عوض الخروف الداجن، واستعلن المخلص الذي عبر بشعبه؛ فانتهى الطقس، وبلغت الذكرى منتهى تحقيقها» وفصح مصر صار فصح العالم.
«هوذا ملككم»: «أنا هو الرجل ‏الذي رأى مذلة بقضيب سخطه ،أبلى لحمي وجلدي. كسر عظامي، ثقل سلسلتي, فلا أستطيع الخروج، ميل طرقي, ومزقني. جعلني خراباً، مد قوسه ونصبني كغرض للسهم، أدخل في كليتي نبال جعبته, صرت ضحكة لكل شعبي, وأغنية لهم اليوم كله, ‏أشبعني مرائر، وأرواني أفسنتيناً، وجرش بالحصى أسناني, ذكراً تذكر نفسي, وتنحني في، ‏جيد أن ينتظر الإنسان، ويتوقع بسكوت خلاص الرب!» (مراثي1:3-26)
‏هنا بيلاطس يقول الحقيقة, دون أن يدري. فحقاً بالحقيقة «هوذا ملككم»!! ولكن عيونهم لا تبصر, واذانهم لم تسمع!! هنا بيلاطس يسخر، ولكن ليس من المسيح, بل من اليهود. ولكن القديس يوحنا لم يكن يسخر، بل هو يسجل أمام التاريخ, أنه في هذا اليوم وفي الساعة السادسة صدر الأمر الإلهي بأن يُرفع ابن الإنسان عن الأرض، ليجذب الجميع، ويملك على العالم.

 

15:19 فَصَرَخُوا: «خُذْهُ! خُذْهُ اصْلِبْهُ!» قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «أَأَصْلِبُ مَلِكَكُمْ؟» أَجَابَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ: «لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلاَّ قَيْصَرُ».

‏«فصرخوا»: وتعني: «صرخوا بصوت واحد عالى، وبجميع الأصوات كلها»: إنهم يجحدون أي علاقة تربطهم بالملك المسيح. خذه خذه، وكأنه أصبح عارأ عليهم، وهم يتبرأون من وجوده. اصلبه، ليتخلصوا من تعييره وتبكيته لهم ولأعمالهم. كانت شهوة رؤساء الكهنة في التخلص من المسيح ممزوجة بالتشفي، فلم يكن أقل من الصلب يريح نفوسهم، التي أقلقها فيهم.
«قال لهم بيلاطس: أأصلب ملككم؟»: هنا بيلاطس يضمر لليهود إحراجأ ما بعده إحراج. فنحن لو نحينا جانباً نظرة اليهود، أن هذا إدعاء من المسيح, وأنه ليس ملكاً، نجد هنا بيلاطس يطلق سؤالاً عامأ قد لا ينصب على المسيح! أأصلب ملككم؟ وفي الحقيقة، فإن ملكهم هنا، في ضمير القديس يوحنا هو الله. كان يجب أن يلتفت رؤساء الكهنة إلى هذا التحذير، فهو يمس كرامة اليهود، ولكنهم قبلوا المهانة، وزادوا عليها لأنفسهم.
«أجاب رؤساء الكهنة ليس لنا ملك إلا قيصر»: لينتبه القارىء، فالذي يرد هنا هذه المرة ليس اليهود عامة، ولا رؤساء الكهنة والخدام أصحاب جوقة الهتاف، ولكن رؤساء الكهنة فقط، ممثلوا الأمة اليهودية، فهؤلاء هم الذين يتنكرون ألا يكون لهم ملك. كيف؟ وأين الله؟ لقد طمسوا معالم إيمانهم وفخر أمتهم، لقد جدفوا تجديفاً.
‏كيف؟ ومن الذي قال: «إننا ذرية إبراهيم ولم نستعبد لأحد قط»؟ (يو33:8). أهكذا يبيعون حريتهم ويقبلون العبودية علنا في سبيل سفك دم مخلصهم؟! لقد مات رجاؤهم في المسيا إلى الأبد، ليى لنا ملك إلا قيصر! نعم, هذا حق، لأنهم أنكروا ملكهم, بل أسلموه لقيصر ليقتله لهم!! انزلاقهم في منحدر السياسة الرهيب أسقطهم بالنهاية في يد قيصر، وجعلهم يتنازلون برضاهم عن ملكوت الله, واستبدلوه بملكوت العالم ورئيسه!
لقد تخلصوا من المسيح، وارتاحوا لقيصر، لقد جحدوا ملوكيته أولاً، ثم تمادوا فجحدوه كلية. لقد سمع الله هذا الصوت من السماء، وكتب أمامه سفر تذكرة، واستجاب. كما حدث في أيام صموئيل النبي: «فقال الرب لصمؤئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك, لأنهم لم يرفضوك أنت, بل إياي رفضوا, حتى لا أملك عليهم.» (1صم7:8)
‏هم طلبوا أن يملك عليهم قيصر، فملكه الله عليهم بالفعل، فاستعبدهم، وأذلهم, وخرب أورشليم فخر مدائنهم؛ مدينة الملك العظيم صارت هي وهيكلهم محرقة بالنار، ذبح كهنتهم عل مذبح ذبائحهم، نجس قدس أقداسهم، نفاهم إلى أقصى الأرض وشتتهم في جميح ممالك العالم: «مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي» (عب31:10‏)
‏في نهاية هذا المشهد، لا يسعنا إلا أن نقول إن اليهود وبيلاطس، على السواء، متهمون بالخيانة، اليهود للسلطان الذي أخذوه من الله وللمبادىء والناموس وملكهم الإلهي، وبيلاطس لمركزه كقاضى ووالى، وأمانته للحقيقة والعدالة.

 

ثالثا: النهاية (16:19-42)

‏في هذا الجزء من رواية المسيح يختص إنجيل يوحنا ببعض الوقائع، التي لم يذكرها أحد غيره مم الإنجيليين:
‏( أ ) الإصرار عل كنابة العنوان (20-22).
‏( ب ) الوصية الأخيرة بخصوص والدته العذراء القديسة مريم والتلميذ المحبوب (28-30‏).
(ج ) الطعن بالحربة في جنب المسيح وخروج الدم والماء (31-37‏).
‏( د ) خدمة نيقوديموس للجسد (39-42‏).
‏( ه ) يوحنا شاهد عيان حى الآية (35).
‏وينقسم هذا الجزء من الإنجيل إلى العناصر الأتية:
1 _ الصلب (16-22).
2- المرافقون للصليب (23-27).
‏3_ النهاية: «قد أكمل» (28-30)
4- طلبان يقدمان إلى بيلاطس، يستجيب لهما في الحال (31-42‏).
‏ويلاحظ في رواية يوحنا يوحنا أن أسلوبه يتميز بالتلميح المستمر لتكميل ما قيل بالأنبياء في العهد القديم، سواء من جهة النبوات أو تحقيق الصور(24 و28 و36 و37‏)، رافعاً المسيح إلى مرتفع المجد، فوق مجرى حوادث الآلام. مؤكداً إرادة الله والمسيح في كل ما يحدث، وبصورة خامة، يقف عندها القديس يوحنا وقفة استعلان واشارة وتنبيه، عندما يطبع على الرب صورة «الحمل الفصحى» كمذبوح ومأكول.

1- الصلب (16:19-22)

16:19 فَحِينَئِذٍ أَسْلَمَهُ إِلَيْهِمْ لِيُصْلَبَ, فَأَخَذُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ

«أخذوه»: أي قبلوه منه, وهي نفس الكلمة التي جاءت في الأصحاح الأول «إلى خاصته جاء وخاصتم لم تقبله». وهكذا أسلوب القديس يوحنا في اختياره للكلمات يحمل وراءه الشرح والمقارنة والتهكم والاستعلان بطريقة غاية في الحذق، أو على الأصح غاية في الاستنارة. فاليهود لم يقبلوه من يد الله، ولا من الآباء, ولا من نبوات الأنبياء ليفرحوا به ويحبوه، ويصيروا به أبناء الله الحى؛ بل قبلوه من يد بيلاطس الوالي الأممي ليصلبوه، قبلوه كمدعي البنوة لله، وكمضلل الشعب ومفسد الأمة, بل وفاعل شر وكاسر الناموس, كمقاوم لقيصر، وهادم للهيكل, قبلوه ليسفكوا دمه ويشفوا غليلهم فيه ويقبلوا دمه عليهم وعلى أولادهم إلى الأبد!
‏تسلموا فريستهم وأسرعوا, فلم يعد من الزمن ما يكفي أن يواروه التراب قبل حلول السبت وهو العيد، حيث لا يحل بقاء أجساد معلقة على خشبة.
‏كانت لهفة ونشاط وتشفي اليهود الغيورين على اليهودية وعلى الناموس وعلى الحرف القاتل، متساوية تماما مع لهفة الجنود الرومان المتعصبين لغطرسة الجنس الروماني المتفوق المتعصب لسيادته، وكان كل منهما يسعى للفتك بفريسته!! «لماذا ارتجت الأمم… قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معآ على الرب وعلى مسيحه.» (مز1:2-2)
‏بيلاطس لم ينطق بنفسه بالحكم، كما تقتضي الأصول المتبعة في القضايا، وهذا نتحققه أيضاً من الأناجيل الثلاثة. فقد سلمه لرؤساء الكهنة ومضوا به (مت26:27؛ مر15:15؛ لو25:23). لقد حاول أن يختزل إجراءاته ضد العدالة، إلى أقصى حد ممكن. فكان مسوقاً في هذه القضية ضد إرادته . وهذا واضح غاية الوضوح في رواية إنجيل القديس متى: «فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً (محاولاته المتكررة لإطلاقه)، بل بالحري يحدث شغب, أخد ماء وغسل يديه قدام الجمع قائلا: إني بريء من دم هذا البار، أبصروا أنتم. فأجاب جميع الشعب، وقالوا: دمنا علينا وعلى أولادنا.» (مت24:27-25‏)
‏فبهذا الإجراء وهذه السياسة التي سار عليها بيلاطس من أول القضية لنهايتها، أصبح اليهود وعلى رأسهم رؤساء الكهنة هم وحدهم المتحملين تنفيذ سفك الدم, بل وتنفيذ الحكم إرادياً, (لأن عسكر الرومان قاموا بالعمل) بمقتضى قانون غريب عنهم, أي الصلب، لأن الموت صلبا ليس في صلب الناموس، بل هو وسيلة رومانية وثنية.
‏كما يلاحظ القارىء المدقق، أن بيلاطس لم يقل «أسلمه إليهم ليصلب», كمن يعطيهم حق الصلب، بل النطق الوحيد فيما يختص بالصلب جعله بيلاطس مبنيا للمجهول وفاعله غير محدد « ليصلب». صحيح أنهم لم يصلبوه بأيديهم، ولكن هم الذين صلبوه, وانما بأيدي الأمم, وهي أيدي أقوام أثمة: «وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه» (أع23:2), «ورئيس الحياة قتلتموه… ونحن شهود لذلك.» (أع15:3).
‏ولكن كما سبق وقلنا، فإن كلا من اليهود وبيلاطس مدانان بالخيانة للحق والقانون والعدالة، وبالتالى لله!!

17:19 فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «مَوْضِعُ الْجُمْجُمَةِ» وَيُقَالُ لَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ «جُلْجُثَةُ».

«خرج»: «فقال الرب لموسى: قتلاً يُقتل الرجل. يرجه بحجارة كل الجماعة خارج المحلة.» (عد35:15) – «فأخذ إبراهيم حطب المحرقة, ووضعه على إسحق ابنه. وأخذ بيده النار والسكين.» (تك6:22‏)
‏خرج خارج المدينة, فمكان المحاكمة كان قريباً من الباب الشمالي الغربي المؤدي إلى خارج المدينة، حيث مكان الصلب.
‏ولكن في كلمة «خرج» معاني روحية التقطها القديس بولس في رسالته إلى العبرانيين: «فإن الحيوانات التي يُدخل بدمها عن الخطية إلى الأقداس، بيد رئيس الكهنة، تُحرق أجسامها خارج المحلة. لذلك، يسوع أيضاً، لكي يقدس الشعب بدم نفسه، تألم خارج الباب. فلنخرج، إذاً, إليه خارج المحلة, حاملين عاره (الصليب)، لأن ليس لنا هنا مدينة باقية، لكننا نطلب العتيدة.» (عب11:13-14)
‏طريق الآلام : هو الطريق الذي سار فيه المسيح وهو حامل صليبه من أمام قلعة أنطونيا، أي دار الولاية, من المرتفع الذي يقال له جباثا، أي البلاط, ماراً بشوارع المدينة، حيث استقبلته النسوة بالبكاء والنواح، ليس على مستوى المعرفة والروح، بل من منظره الذي كان يستدر الدموع من الصخور, لو عزت دموع الإنسان. ولكن المسيح أبى بثمدق أن يُبكى عليه وهو مصدر الفرح السماوي الذي لا يؤول إلى حزن: «وتبعه جمهور كثير من الشعب والنساء اللواتي كن يلطمن أيضاً و ينحن عليه. فالتفت إليهن يسوع وقال: يا بنات أورشليم, لا تبكين علي، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن، لأنه هوذا أيام تأتي يقولون فيها: طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد، والثدى التي لم ترضع … لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون باليابس» (لو27:23-31).
‏والذي يلفت النظرى أنه لا يزال في كل يوم جمعة، وقبل الفصح، كل سنة, وحتى اليوم, يُقام احتفال بمسيرة في طريق الآلام عينه، حيث تسير نفس الجموع ويشكل النساء فيها الجزء الأعظم, وبكاؤهن لم يجف. وتقف المسيرة في أربع عشرة محطة, بعضها مأخوذ اسمه من الكتاب المقدس، والآخر من التقليد، وينتهي طريق الآلام الآن عند كنيسة القبر المقدس حيث تقام صلاة احتفالية كبرى بواسطة آباء الفرنسيسكان.
«حامى صليبه»: حينما حمل المسيح الصليب، اختفى مفهوم الصليب من العالم كأداة للموت والتعذيب؛ وحل محل هذه الصورة المرعبة المفهوم الجديد للصليب، كرمز الإيمان والرحمة والرقة والبذل والإسعاف والحب والسلام والقداسة والكرامة والمجد؛ يحمله الأطفال للفرح، ويحمله الشباب للنصرة الأخلاقية، وتحمله النساء للعفة والطهارة, ويحمله الرجال للحكمة والكمال، ويحمله الرهبان كسلاح على الصدر والظهر، ويحمله الشيوخ كغلبة على العالم, ‏تحمله الهيئات للرحمة المجانية، ‏وعلامة الإسعاف في المخاطر والإنقاذ المجاني، كأعلى ما بلغت إليه المشاعر الإنسانية، وترفعه الجيوش علامة لوقف القتال وطلب الصلح والسلام، ويحمله الملوك مرصعاً في تيجانهم للكرامة والمجد. وصار للصليب عشرات الأشكال ومئات الألوان, وصار هو الوحدة الزخرفية المفضلة لتكميل كل الفنون.
كان يئن تحت ثقله, وهو الحامل كل شيء بكلمة قدرته. عرقه يتصبب ويتساقط من جبينه، وهو مسخن, فكان يتقطر ممزوجاً بالدم، من الأشواك المغروسة حول رأسه، لم يذق طعاماً ولا ماء ولا نوما منذ عشاء الخميس. الظهر متورم وجروحه تنزف, والوجه متألم من اللطم، والرأس مرضوض من الضرب، والمهانة أحنت نفسه فيه، وبلغ به الحزن حتى الموت قبل الموت! «تطلعوا وانظروا, إن كان حزن مثل حزني» (مراثي12:1)، «نفسي حزينة جداً حتى الموت!!» (مت38:26). لقد سبق أن أحسها قبل أن تأتي عليه!!
‏الدوار ألم به، عيناه لم تعودا تنظران الطريق، موجات الوجع تلو موجات، ونوبات من الرعدة العصبية تسري وتعصف بالجسد، «من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وأحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت» (إش6:1‏)، هاوية ليس لها قرار، يشيعه إليها جمهور الشامتين!!
‏«إن المياه قد دخلت إلى نفسي, غرقت في حمأة عميقة وليس مقر، دخلت إلى أعماق المياه, والسيل غمرني، تعبت من صراخي, يبس حلقي, كلت عيناي… ، أكثر من شعر راسي الذين يبغضونني بلا سبب, اعتز مستهلكي أعدائي (فوقي) ظلماً, حينئذ رددت الذي لم أخطفه, … لأني من أجلك احتملت العار، غطى الخجل وجهي، صرت أجنبياً عند إخوتي…، وتعييرات معيريك وقعت علي…، نجني من الطين فلا أغرق، نجني من مبغضي ومن أعماق المياه، لا يغمرني سيل المياه ولا يبتلعني العمق، ولا تطبق الهاوية علي فاها…، أنت عرفت عاري وخزيي وخجلي, قداقك جميع مضايقي، العار قد كسر قلبي فمرضت، أنتطرت رقة فلم تكن ومعزين فلم أجد.» (مز1:69-20)
‏من دار حنان إلى دار قيافا، إلى دار هيرودس، إلى دار الولاية، من الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إلى الداخل، مهانة تلو مهانة، ومن تعذيب إلى تعذيب، مصنفات من الضرب والتنكيل والفضيحة صنفتها قلوب رؤساء وخدام وجنود، أعظمهم من لم يعرف الرحة، وأقلهم وُلد فيها. جمعتهم جميعا قسوة الإنسان، وحركتهم طاعة الشيطان!
سار حاملاً عار الصليب، محمولاً بمجد الله، منحنيا تحت ذلة الخطاة، شامخا بعمل الخلاص. في الهيئة كإنسان، مُعسر فيه رؤساء اليهود، فقتلوه؛ وفي الحقيقة هو ابن الله، فارتاع منه قاضي الرومان، وعمل على إطلاقه. «‏لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم, حتى يبصر الذين لا يبصرون، ويعمى الذين يبصرون» (يو39:9). لاهوته لم يفارق ناسوته، ليكمل ناسوته أشنع صنوف الألم والذبح، لنبلغ بهما الخلاص!
‏النسوة لم يحتملن منظره، فتوجعن، ولطمن، ونحن؛ «أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن» (إش10:53)، وأما نحن فنعبده حاملاً الصليب ونسجد لجسده الممزق ودمه المسفوك، ونقبل جروحه التي بها شفينا وحيينا. ضعفه صار لنا قوة، وانحناؤه صار لنا استقامة، وسقوطه تحت الصليب صار لنا قيامة. خطواته على طريق الآلام صارت لنا طريقاً نعبر به من الضيق إلى السعة، ومن هوان الأرض إلى مجد السماء. فإن كنا نبكي، نبكي على خطايانا، التي حملته ثقل هذه الآلام، وكن حزننا حتما يتحول إلى فرح للخلاص.
«إلى الموضع الذي يقال له موضح الجمجمة ويقال له بالعبرانية جلجثة»: لقد اخترق الموكب، والمسيح في المقدمة, المسافة من دار الولاية (قلعة أنطونيا) حتى إلى ما بعد باب سور المدينة الشمالي الغربي الذي يدعى باب دمشق, وقديمأ كان يسمى «باب إسطفانوس», لأن خارج هذا الباب رجموا الشهيد الأول للمسيحية. أما بعد خروج المسيح من باب المدينة فكانت الحقول المتاخمة وطريق رئيسي، وهنا وبحسب رواية القديس مرقس، ثقل حمل الصليب على الجسد المنهك: «فسخروا رجلأ مجتازاً (نحو المدينة) كان آتيأ من الحقل وهو سمعان القيرواني، أبو ألكنسدروس وروفس، ليحمل صليبه»(مر21:15)، وفي إنجيل القديس لوقا: «رجلاً قيروانياً كان آتياً من الحقل ووضعوا عليه الصليب ليحمله خلف يسوع وتبعه جمهور كثير من الشعب والنساء اللواتي كن يلطمن أيضاً وينحن عليه» (لو26:23-27)
‏عندما نزل المسيح من فوق جبل الزيتون داخلاً الى أورشليم, بكى عليها لأنها لم تعرف زمان افتقادها. والآن, وهو خارج منها, هم يبكون لأنهم لم يعرفوا أن هذا هو زمان افتقادهم.
«موضع الجمجمة»: تقول المصادر التقليدية أن هذا الاسم يرجع إلى أن جمجمة أدم كانت مدفونة هناك. ويرجح العلماء أن هذا الاسم هو صفة لشكل المرتفع الذي كان يتم فوقه عمليات الصلب، إذ أن شكله الجغرافي (الأرضي) يشبه الجمجمة.
‏وكان الموضع خارج باب المدينة وبالقرب منها، على بعد دقائق: «لأن المكان الذي صُلب فيه يسوع كان قريباً من المدينة» (يو20:19)، وكان المكان بقرب مدافن أخرى وعلى الطريق الرئيسي. وتقول أحد المصادر اليهودية أن هذا المكاذ بالذات كان مخصصا للرجم، وفيه توجد «مغارة إرميا». وكاذ المسطح المرتفع شيه هضبة، ولها شكل الجمجمة، تعلو قليلاً من الأرض المجاورة، حيث يوجد بستان، وفي البستان صار أقدس مكان على الأرض، مغارة جديدة منحوتة، هي التي استودع فيها يوسف ونيقوديموس الجسد الطاهر، وربما كان يملكها القديس يوسف الرامي كما سيجي ذكره.

18:19 حَيْثُ صَلَبُوهُ وَصَلَبُوا اثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مَعَهُ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا وَيَسُوعُ فِي الْوَسْطِ.

«وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب، وكذلك رؤساء الكهنة أيضاً وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: خلص آخرين, وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها. إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به. قد اتكل على الله فلينقده الآن، إن اراده، لأنه قال: انا ابن الله.» (مت39:27-43)
«فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك» (خر13:12)
القديس يوحنا يعبر على صلب المسيح عبوراً ، يذكر «الكلمة» فقط دون أي مزيد من الوصف أو التوضيح, إما لفظاعة الآلام, أو لرعبة المنظر، أو حتى لتعيير المعيرين، تماماً كما عبر على حادثة الجلد بذكر الكلمة فقط، مع أن الصليب هو قمة الحوادث كلها وقمة الآلام كلها .
‏والرومان هم وحدهم الذين جعلوا هذا العقاب على مستوى المجرمين الخطرين، وخصصوه بالأكثر للعبيد، وكانوا ينكلون بالمحكوم عليهم شر تنكيل. ويقول الخطيب شيشرون الروماني عن عملية الصلب: (إنها قسوة ورعب).
‏وللأسف كانت رجل اليهود قد انزلقت في استخدام هذه العقوبة قبل ذلك. فالمعروف في التاريخ، أن رئيس الكهنة ألكسندر حناؤس، سنة 88 ق.م صلب 800 شخصأ في وقت واحد. ولما جاء الإمبراطور قسطنطين الأول وقبل الإيمان المسيحي، ألغى الحكم بالصلب وانتهى نهائياً من العالم بمنشور تحذيري.
‏لقد ورثت الكنيسة القبطية هذا المنهج الروحي الميتافيزيقي في التعبير والتصوير عن الصلب والألام. فمن أجل التقاليد القبطية المعروفة التي عبرت عنها بالتصوير، بإحدى الأيقونات القديمة, لصلب المسيح، أنها صورته وهو بكامل ملابسه, وليس بحالة العري كما يظهر في الصور الأجنبية التي دخلت خلسة إلى الفن القبطي بعد ذلك. كذلك، فإنه محظور في الفن القبطي التعبير عن آلام الشهداء بالتصوير. فأي صورة لأي شهيد، مهما كان نوع استشهاده، تصور والشهيد لابس ملابس بيضاء وعلى رأسه إكليل مرصع، وفي يديه سعفة نخيل رمز النصرة، دون أي إشارة فنية عن الألم الذي جازه. لأن الصلب لا يرى عند الروحيين، أو بالعين الروحية، في إطاره الجسدي المحدود, بل يُنظر بالمنظر المعقول أنه «موت لفداء» و«ألم لخلاص» و«بذل لحب» و«وضع للنفس لقيامة». وهكذا يمتنع، بحسب الفكر اللاهوتي السليم, أن يُنظر للصليب نظرة جسدية محصورة ومتوقفة فقط عند الآلام والعذاب, بل لا بد من الانطلاق بها فوراً لرؤية القيامة الكائنة فيه والحياة والغفران والمجد وبهجة الخلاص، حتى إن الكتاب المقدس نفسه عبر عن حادثة الصلب بالمجد: « … لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد» (يو39:7)، أي لم يكن قد صُلب.
‏وفي الحقيقة، نجد أن تراث الغرب التقليدي هو الذي يتمادى جداً، بل ويتوقف كثيراً عند الإحساس بالصليب، والحياة في آلامه، والتأمل في تعاذيب المسيح, وعبادة قلبه المطعون وجروحه الخمسة. أما التراث الشرقي فيحيا القيامة ويتوقف عندها كثيراً، ولا يرى الصليب إلا في نور القيامة. والى الآن كثير من الشرقيين، تحيتهم التقليدية اليومية وعلى مدار السنة هي : «أخرستوس آنستى» أى «المسيح قام».
«وصلبوا اثنين آخرين معه, من هنا ومن هنا, ويسوع في الوسط»: «ما هذه الجروح في يديك؟ فيتول: هي التي جُرحت بها في يت أحبائي.» (زك6:13)
«ثقبوا يدي ورجلى. أحصي كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسرن» (16:22-17‏)
‏يقول عنهما كل من القديس متى والقديس مرقس إنهما كانا لصين: «وصلبوا معه لصين واحداً عن يمينه وآخر عن يساره، فتم الكتاب القائل: وأحصي مع أثمة» (مر27:15-28)، ‏ويقول القديس لوقا إنهما: «صلبوه هناك مع المذنبين واحداً عن يمينه والآخر عن يساره» (لو33:23)، وكلمة «مذنب» لا تفيد «مذنب» بل «مجرم» وغير إشارة إشعياء المشار إليها في إنجيل القديس مرقس، يجب الإشارة هنا أيضأ إلى المزمور 16:22 «جماعة من الأشرار اكتنفتني (أحاطوا بي)».
‏ويختص القديس لوقا وحده بسرد الحديث الذي دار بين اللصين وخاصة كلام اللص التائب: «أو لا أنت تخاف الله» (لو40:23)، وعجبي هنا على اللص الذي يخاف الله!! ثم بين التائب والمسيح الذي قال للمسيح: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك» (لو42:23)، وهي المقطع المحبوب الذي تسبح به الكنيسة في يوم الجمعة العظيمة أو الحزينة، ساعة ذكر الصلبوت, وتردده مرات ومرات, وكأن كل متعبد ينطق بلسان هذا اللص الطوباوي الذي سرق ملكوت السموات بعد سرقة العالم، ولكن كان فيه بارقة من خوف الله، قادته إلى التوبة. والكنيسة تناجيه أنه «الحلو اللسان والمنطق», ثم توازن بينه وبين الذين عاشروا المسيح وتأملوا مجده على الجبل المقدس، وكيف أعوزهم هذا الإيمان وقت المحنة؛ وتقارن بينه وبين بطرس التلميذ المقدام، صاحب السيف المسلول, والذي سمع الصوت آتيا من المجد الأسنى: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت، له اسمعوا» (مت5:17‏)، كيف أنكر بينما اللص آمن واعترف به وهوع لى الإقرانيون!! وفي التقليد القبطي يقال أن اسم هذا اللص «ديماس», وقد رد المسيح عليه, فاستجيبت طلبته في الحال: «الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس» (لو43:23‏), مما يوضح لنا بأجلى بيان، أن بالصليب افتتح المسيح الفردوس المفقود، واسترده لحساب الإنسان. وأن أول قدم وطئته كانت هي قدم هذا اللص الطوباوي «ملك التائبين» يسير وراء «ملك المجد». وكان هذا إيذاناً بدخول أفواج الخطاة التائبين من كل لسان وأمة وشعب!!
‏وفي الحقيقة تقدم الكنية القبطية هذا الفصل الكنسي رسمياً، مسنوداً بالألحان من الخورس على مدى وقت ليس بقليل، كدرس تعبيري ذي وزن عال، من جهة معنى انفتاح القلب بالإيمان البسيط الذي يورث الحياة الأبدية. الإيمان الذي لا يقوم على براهين ونصوص ومعرفة وعلم. فاللص، وهو في أشد محنته، آمن بالمسيح المصلوب معه، وهو على مستواه في نفس المحنة والمهانة وقسوتها! لا تعليم ولا إغراء ولا فهم ولا منطق, فهي ومضة من النور الحق، انفتح لها قلبه فرأى المسيح في مجده وفي مجيئه الآتي في ملكه. فنطق الفم, كان كما أحس القلب. كيف اشتهى أن يذكره المسيح مجرد ذكر وهو آت في مجد ملكوته, فكانت له شهوته وأعظم, إذ رافق المسيح في رحلته لانفتاح الفردوس المغلق، ولم تذهب نفسه إلى الهاوية, فكان أول الغالبين للموت والناجين من الهاوية وراء المسيح, لأنه كان أول من آمن بالقيامة والمجيء الثاني.
‏وفي تقليد الإنجيل بحسب القديس لوقا، كان هذا النطق الملكي للمسيح على الصليب هو النطق الثاني، لأن الأول قال فيه: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.» (لو34:23).
‏أما لماذا لم يذكر القديس يوحنا حديث اللصين معا, وحديث اللص مع المسيح ورد المسيح عليه، فيقول العالم والمؤرخ الكنسي إدرزهايم اليهودي المتنصر إنه يبدو أن القديس يوحنا, وبعد أن سلم بيلاطس المسيح للعسكر للصلب، انطلق بسرعة إلى المدينة وأحضر الأم العذراء القديسة مريم وأختهاه ومريم زوجة كليوباس ومريم المجدلية. فلم يكن يوحنا حاضراً بداية عملية الصلب ولا الأم القديسة, ولهذا لا نجد في إنجيل القديس يوحنا ذكرا لأي من التعييرات التي كان الشامتون يعيرون بها المسيح، سواء كانوا من رؤساء الكهنة أو الذين ساروا في موكبهم» فلم يذكر إنجيله شيئأ من ذلك قط, وهذا، بحد ذاته، يوضح لنا إلى أي مدى كان القديس يوحنا يعتمد على المشاهدة والسماع الشخصى في تسجيلاته.

19:19 وَكَتَبَ بِيلاَطُسُ عُنْوَاناً وَوَضَعَهُ عَلَى الصَّلِيبِ. وَكَانَ مَكْتُوباً: «يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ الْيَهُودِ».

«عنواناً»: يلاحظ أن القديس يوحنا يستخدم الاصطلاح اللاتيني الرسمي. وكان من عادة الرومان أن يضعوا فوق رأس المصلوب لوحة بها اسمه وعلة صلبه، كما يتصح ذلك من إنجيل القديس مرقس وإنجيل القديس متى: «وجعلوا فوق رأسه علته مكتوبة هذا هو يسوع ملك اليهود.» (مت37:27)
‏ومن كلام القديس يوحنا يفهم العلماء, بحسب أصول اللغة, أنه يقصد أن بيلاطس كتب بنفسه هذا العنوان، ومن كلمة: «كتب» يفسرون أنه كتب هذا العنوان بعد أن شيعوا المسيح إلى المكان المعد؛ بل ويعتقدون أيضاً أن بيلاطس هو الذي أمر بصلب المسيح في ‏الوسط .
‏وعلى كل حال, سواء كتابة العنوان أو الوضع الذي صٌلب فيه المسيح, فبيلاطس عبر والى أخر لحظة عن المرارة والسخط الذي كان يشعر به طوال المحاكمة من اتهام اليهود، وخاصة لما ركزوا, بغير حق وبغير وعي, على كونه «ملك». فهو هنا ضرب سهمين في طلقة واحدة، فأصاب كرامة اليهود في الصميم، الأمر الذي احتج عليه رؤساء الكهنة بشدة، فقابل احتجاجهم بإصرار على ما كتب؛ والسهم الثاني ألغى به كل صدى لصراخهم من جهة استخدامهم هذا اللقب لتهديد بيلاطس لدى قيصر، فالآن «ملككم قد مات» وفرصتكم في الشكاية قد ماتت يضاً! ولكن لا يستبعد بعض الشراح أن بيلاطس كان يكن للمسيح شعوراً فائقا، أراد أن يعبر عنه.
‏وهكذا, وبالنهاية، حقق بيلاطس رغبة قيافا التي ظل يحلم بها ويعمل لها: «أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها.» (يو49:11-50)ا
‏وهذه النبوة نفسها كانت، في وجهها المنظور لقيافا، أن يهلك المسيح هلاكاً لتنجو الأمة من الرومان، الأمر الذي أكمله بقتل المسيح بسكين الحقد والتشفي، وأهلك أمته، بحماقته، هلاكاً؛ لأنه لم يحسن الرؤيا ولم يفسر الحلم كدانيال المبارك، ولكنه كان كهامان الذي أعد الصليب ليصلب نفسه عليه.
‏أما في وجهها غير المئظور ليوحنا وللمسيح ولنا، فهي أن يقدم المسيح ذبيحة على مذبح محبة الله، فيقوم، لينجو من الهلاك من آمن من اليهود، ويخص العالم، ولا يهلك كل من يؤمن بهّ.

20:19 فَقَرَأَ هَذَا الْعُنْوَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ لأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ يَسُوعُ كَانَ قَرِيباً مِنَ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ مَكْتُوباً بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَالْيُونَانِيَّةِ وَاللَّاتِينِيَّةِ.

‏يُعتقد أن الرضع الأصح كما جاء في بعض المخطوطات أن اللاتينية قبل اليونانية.
‏كان المكان لا يبعد عن سور المدينة أكثر من بضع دقائق، وكان على الطريق العام المؤدي إلى دمشق. فبطبيعة الحال قرىء من كثيرين» بل من عشرات الألوف، سواء الخارجين أو الداخلين إلى المدينة أو المسافرين نحو الشمال. ويلاحظ أن الوقت هو الفصح، وكان يؤم أورشليم عدة ملايين من اليهود الذين في الشتات من جميع أنحاء العالم, وبكل اللهجات واللغات. وهكذا حملوا معهم الأخباره وملأوا الدنيا ومهدوها للبشارة بالمصلوب الذي تعين بالقيامة من الأموات أنه ابن الله, ملك الملوك ورب الأرباب؛ حيث صار الصليب هو هو عرش النعمة الذي نستمد منه القوة والخلاص والحياة، بل وبه وبمن عليه، نملك معه.
‏أما ترتيب اللغة التي كُتب بها العنوان هنا، فهو بحسب التقليد الرسمي: أولاً اللغة الوطنية التي تخص البلد (العبرية)، ثم لغة الدولة الرسمية (اللاتينية)، ثم اللفة العامة (اليونانية). وفي الحقيقة، فإن هاته اللغات الثلاث توافق لغة «الدين» ثم لغة «المجتمع» ثم اللغة «الفكرية». وكأنما كان عمل الرومان حتى وفي صلب المسيح أن يمهدوا للكرازة بالمسيح على مستوى العالم بمستوياته الثلاثة: الدينية والاجتماعية والفكرية.
‏وكانت قد بدأت حركة تنوير العالم بكل ممالكه وفرض اللفة اليونانية على جميع البلاد، كلغة رسمية للتكلم بها، والتعامل مع الحكومات الرومانية المحلية. كما بدىء بشق الطرق العامة الرئيسية لتربط ممالك الدنيا كلها مع روما, ومن هنا جاء المثل المشهور: كل الطرق تؤدي إلى روما!, بل وعلى كل طريق وًضعت العلامات التي تدل على عدد الفراسخ التي تبعد عن قلب روما من أول الطريق حتى نهايته. كل هذه، كانت الدولة الرومانية جادة في تنفيذه، وكأنما كانت تمهد للكرازة بملكوت الله في العالم كله.

21:19 فَقَالَ رُؤَسَاءُ كَهَنَةِ الْيَهُودِ لِبِيلاَطُسَ: «لاَ تَكْتُبْ: مَلِكُ الْيَهُودِ بَلْ: إِنَّ ذَاكَ قَالَ أَنَا مَلِكُ الْيَهُودِ».

‏لأول مرة يكتب القديس يوحنا «رؤساء كهنة اليهود»، وكأنما يضعها القديس يوحنا في مستوى ملك اليهود.
‏لقد أدركوا في الحال، وربما قبل أن يُعلق العنوان على الصليب، أن بيلاطس قصد تسجيل تهمتهم على أنها حقيقة رغماً عن أنفهم. قابلوه محتجين وبلغة شبه آمرة: «لا تكتب», اللهجة التي قابلها بيلاطس بجفاء ظاهر وتعالي الحاكم الآمر.
‏ويلاحظ في المقابلة بين ما كتبه بيلاطس بخصوص كلمة «ملك» إذ وضع لها أداة التعريف ( أل) والنسب معاً لليهود: «الملك الخاص باليهود» ليجعل منه الشخصية الملكية الاول. فكان احتجاج اليهود وطلبهم أن يكتب «ملك» بدون أداة التعريف، ليعطوها صفة الإدعاء وليس الحقيقة: «قال أنا ملك». وكأنما أراد بيلاطس أيضاً, ومن جهة أخرى, أن يجردهم من طملقهم الكاذب، ونسبهم المزعوم لقيصر: «ليس لنا ملك إلا قيصر», ولكن لا هذا ولا ذاك!!.

22:19 أَجَابَ بِيلاَطُسُ: «مَا كَتَبْتُ قَدْ كَتَبْتُ».

إن تعالي بيلاطس في الرد وعناده في عدم التغيير، يعبر عن وقفة الحاكم الروماني المعتد بعمله الرئاسي. ولكن وراء صوت بيلاطس الحاكم، كان صوت الحكومة الأعلى التي تُملي ماذا ينبغي أن يكتب التاريخ، وماذا يسجل؛ لأن من فوق الصليب هذا، ومن تحت هذا العنوان عينه, طالب المسيح بملكه الحقيقي. فقد نصب المسيح نفسه على الصليب ملكاً بجدارة، إلى أبد الآبدين: «دُفع إلّى كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (مت18:28‏). ولم تكن الكتابة التي كُتبت إلا إعلانا ثابتا أبديا، أملاه بيلاطس على كل ممالك العالم، ليسود ويملك على العالم, وبكل لغة! «ما كتبت قد كتبت», «أحتى الآن لا تفهمون.» (مت9:16‏)

2- المرافقون للصليب (23:19-27)‏

23:19- 24 ثُمَّ إِنَّ الْعَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْماً. وَأَخَذُوا الْقَمِيصَ أَيْضاً. وَكَانَ الْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لاَ نَشُقُّهُ بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ». لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: «اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً». هَذَا فَعَلَهُ الْعَسْكَرُ.

«إلهى إلهي لماذا تركتني …، كل الذين يرونني يستهزئون بي. يفغرون الشفاه، ويغضون الرأس، قائلين، اتكل على الرب، فلينجه، لينقذه لأنه سر به….., ‏كالماء انسكبت. انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع، قد ذاب في وسط أمعائي. يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي …، جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلتي، أحصى كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون في، يقسمون ثيابي بينهم, وعلى لباسي يقترعون» (مز1:22-18)
«العسكر»: هم عساكر الرومان، الذين تحت إمرة بيلاطس خاصة. بعد أن انتهوا من رفع المسيح، جلسوا تحت الصليب يقتسمون الغنيمة. ومن النص يبدو أن الجو كان بارداً، إذ أن المسيح كان يلبس أربعة أنواع من الثياب، منها ما كان على الرأس وحول الكتف, ومنها ما يدثر به فوق الجسد، ومنها الملابس الداخلية، وتحتها كان يلبس قميصا منسوجا نسيجا واحدا بغير خياطة. هذه كلها، جردوه منهاى وبقي ما يستر جسده فقط. لأنه وان كان الرومان قد اعتادوا أن يصلبوا ضحاياهم عرايا تماما (كما نرى تماثيلهم التي نحتها أشهر مثاليهم)، إلا أنه في الشرق، وعند اليهود، كان محظورا حسب الناموس أن يُعرى المحكوم عليه من كل ملابسه.
‏ويصف العلامة اليهودي المتنصر إدرزهايم بشيء من التفصيل، ومع ذكر الأسماء كل أنواع هذه الملابس.
‏كان عدد العساكر أربعة، فكان من السهل تقسيم الملابس الخارجية, وهي تنطق بالعبرية «لابوس»، أما القميص ‏فهو ثوب رئيس الكهنة، وهو قصير إلى الركب فقط: «وفي وسط السبع المنائر شبه ابن إنسان, متسربلا بثوب إلى الرجلين، ومتمنطقا عند ثدييه بمنطقة من ذهب» (رؤ13:1)، وهو, بحسب وصف إدرزهايم, ثمين جدا، وهو الذي يلبسه رؤساء الكهنة لأنه خاص بالنذيرين, وهو منسوج من أوله إلى آخره بغير قطع ولا خياطة. وهذا الطقس بدأ به موسى أيام خدمته, فكان يلبس مثل هذا الثوب الأبيض بدون خياطة، ويخدم به أمام الله.
‏وهكذا ذهب المسيح، كرئيس كهنة، بملابسه المستورة في الداخل إلى الصليب، ليباشر تقديم الذبيحة. ولأنه هو الحمل، نُزع عنه الرداء وهو صامت أمام من يجزه!!
‏«فقال بعضهم لبعض: لا نشقته, بل نقترع عليه لمن يكون»: لقد أطال الشراح قديماً وحديثأ الحديث عن هذا القميص، واتفقوا على أنه يمثل الكنيسة التي لا تنقسم، كقول القديس كبريانوس، الذي يضيف أنه «منسوج كلة من فوق»، أي أن وحدة الكنيسة مقررة ومعانة من فوق، من الله، وليس لإنسان أن يمزقها. ويزيد على ذلك العالم بولتمان, وهو غير تقليدي, فيقول على ضوء الأبحاث والتعاليم الرابية في التلمود وغيره، إن هذا الثوب هو مثل الثوب الذي صنعه الله لآدم، وأعطى مثله لموسى ليخدم به. ويقول آخرون، إنه مئل قميص يوسف الخاص الذي أعطاه له أبو علامة الحب، الذي نزعه من عيه إخوته ولطخوه بالدم، ثم ألقؤا قرعة على يوسف نفسه، يموت أولا يموت.
‏ولكن بهذه الأعمال التي كان يقوم بها العسكر في غير اكتراث، وبالمنظر الدامي أمامهم وكأنهم بلا شعور إنساني، كانوا مدفوعين، يوقعون أعمالهم على صوت داود النبي الآتي من وراء الزمان كلمة كلمة، كما قالها في المزمور الثاني والعشرين أعلاه.
«هذا فعله العسكر»: ‏لفتة لتأكيد الفعل: تقسيم الثياب والقاء القرعة، والفاعل «العسكر»، ورده إلى المستوى التاريخي والنبوي، بشىء من الضمان الشخصي كشاهد عيان.
‏ولا يفوتنا هنا، في أسلوب القديس يوحنا, كيف يوزع في ختام المشهد الأدوار التي قام بها كل فريق حسب نوع عمله، ويرده إلى النبوة الخاصة به، وكمن يوقع الحوادث على النبوات.
‏فالأول: بيلاطس (كملك) يكتب ما يخصه: «هذا هو ملك اليهود» إعلاناً للعالم كله.
والثاني: رؤساء الكهنة: «ينبغي أن يموت إنسان واحد عن الشعب»، وبهدمهم هيكل جسده، هدموا هيكل عبادتهم.
‏الثالث: اللص. قدم التوبة مُعلناً عن أول ثمرة للصليب: «اليوة تكون معي في الفردوس». وهو أول نطق ملكى من فوق عرش الخلاص.
‏الرابع: العسكر؛ اقتسموا ثيابه، وألقوا قرعة على القميص، اكتفوا من اللؤلؤة بصندوقها.
الخامس: النسوة؛ أتين ليقدمن مشاركتهن القلبية بعواطف النساء، كمندوبين فوة العادة عن البشرية التي في المسيح: «يا آمرأة».
‏السادس: التلميذ الذي كان يحبه؛ في صمت، قدم ما يجب أن يقدم من أمانة التلمذة للمعلم الذي «أحبهم إلى المنتهى».
‏السابع: المسيح يسوع؛ «يا أمرأة هوذا ابنك … هذه أمك». البشرية التي في المسيح تُسلم الأمانة لمن يستحقها، وسر «الكلمة صار جسداً»، يستودعه المسيح للكنيسة.

25:19 وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ أُمُّهُ وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ.

‏كان الذين يحيطون بالصليب نوعين من الناس: نوع العسكر الذين يقومون بوظيفتهم الكريهة، ومعهم رؤساء الكهنة والمعيرون، ومعهم جوقة الهتافة الملازمين لهم, يرددون أصواتهم، وربما بالثمن‏. .
‏أما النوع الثاني، فكانوا واقفين على بعد، في بدء عملية الصلب، ولكن بعد أن خفت جدة العملية وتفرق رؤساء الكهنة ومن معهم, لأن الساعة التاسعة كانت بالنسبة لهم من أحرج الساعات التي يتحتم عليهم أن يكونوا فيها داخل الهيكل يؤدون وظائفهم من جهة الصلوات واعداد خراف الفصح. فلما ابتعد الأعداء، اقترب الأحباء, وهن النسوة اللاتى أحضرهن يوحنا ووقف معهن يحرسهن.
‏وكن مجموعتين: المجموعة الأقرب للمسيح، وهن مريم الأم العذراء القديسة، وأختها. والمجموعة الثانية، مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية. هذا الترتيب والتفصيل بين الأسماء، أخذ به أكثر العلماء تدقيقاً, ومنهم العالم والأسقف وستكوت.
‏ويوضح لنا هذا الترتيب بالنسبة للنسوة الثلاث القديس متى هكذا: «وكانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد، وهن كن قد تبعن يسوع من الجليل، يخدمنه، وبينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسى، وأم ابني زبدي, (مت55:27-56‏). فإذا طابقنا هذه الأسماء على الأسماء الواردة في إنجيل القديس مرقس: «وكانت أيضاً نساء ينظرن من بعيد، بينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب الصغير، ويوسي وسالومة» (مر40:15). بهذه المقارنة يتبين لنا أن أم ابني زبدي هي سالومة. وهي التي جاء ذكرها في إنجيل القديس يوحنا مع القديسة مريم هكذا: «واختها», ونحن نعلم أسلوب القديس يوحنا في ذكر الأسماء، فهو يمتنع نهائيا في إنجيله عن ذكر اسمه أو اسم أمه، أو حتى اسم أم المسيح.
‏والأمر المحير للعلماء هو أن ذكر «مريم المجدلية» يجىء هنا مفاجأة باعتبارها شخصية معروفة دون إشارات سابقة! أو أي تفسير.
‏و يلاحظ أيضأ أن القديس يوحنا حرص على وصف مريم أنها زوجة كلوبا, بدل أن يقول مريم أم يعقوب ويوسي, لئلا يظن من جهة «يعقوب» أنه أخو القديس يوحنا. كذلك نجد أن القديس مرقس حرس أن يصف يعقوب بالصغير، لئلا يُظن أنه يعقوب أخو القديس يوحنا. لأنه كان يوجد شخصان باسم «يعقوب», واحد منهما، وهوالأكبر سناً هو يعقوب ابن زبدي، أخو القديس يوحنا. كذلك، ولأن القديس متى أورد اسم «ابني زبدي»، فلم يجد ضرورة أن يصف يعقوب بـ «الصغير».
‏والملاحظ كذلك أن القديس يوحنا يسلك في ترتيبه لذكر الأسماء سلوكاً إنجيلياً واعياً، فيجعل القديسة مريم الأساس, ويضيف إليها «أختها» إضافة دون أن يذكر اسمها لأنها أمه, ولأنه يبدو أن القديسة مريم العذراء لم يكن لها إلا أخت واحدة, هي أم يوحنا.
‏وبعد ذلك، يذكر مريم الأخرى زوجة كليوباس، وآخر الكل يضع مريم المجدلية، مع أن كلا من القديس متى والقديس مرقس يضعها في المقدمة لما كان يبدو أنها ذات أهمية وتقوى كثيرة بين النسوة.
‏ويقول كل من «وستكوت» و«هنجستبرج» و«إدرزهايم»، ومعهم شراح كثيرون، أن كلوبا أو كليوباس، هو حلفائوس أو «حلفى» الذي ورد اسمه في إنجيل القديس متى، كوالد لأحد التلاميذ المدعو يعقوب، المدعو هنا بالصغير: «فيلبس وبرثولماوس توما ومتى العشار يعقوب بن حلفى ولباؤس الملقب تداوس.» (مت3:10‏)
‏أي أن المريمات الثلاث اللاتي كن عند الصليب، هن: مريم القديسة العذراء أم المسيح، ومريم أم يعقوب الصغير أحد التلاميذ وهي زوجة كلوبا أو كليوباس، ومريم المجدلية.
‏وفي نهاية عملية الصلب وانفضاض معظم الملتفين حول الصليب، تسنى للعذراء مع القديس يوحنا الاقتراب من الصليب فصارا في مواجهة المسيح.


26:19 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفاً قَالَ لِأُمِّهِ: «يَا امْرَأَةُ هُوَذَا ابْنُكِ».

بعد أن انجلت الظلمة التي خيمت على الأرض حزناً على قتل النور الذي انحجب عن قلوب صالبيه، وقفت العذراء القديسة مريم تحت الصليب, مصلوبة!! تشخص نحو ابنها، وسيف يجوز في نفسها, كما سبق وأنبأت به نبوة سمعان الشيخ, حينما كانت تحمل ابنها طفلاً، وهي تدخل الهيكل لتكمل عنه القرابين!! «وباركهما سمعان، وقال لمريم أمه: ها إن هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم، وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف، لتعلن أفكار من قلوب كثيرة» (لو34:2-35)لاوهلا). لقد كانت على علم سابق بما هو حادث أمامها الآن, فالمسيح سبق ووعاها بكل ما سيحدث له، كما قال لتلاميذه، حتى إذا كان، تستطيع من وراء حزنها أن تدرك سر الذبيحة والخلاص والمجد. لم تكن آلام المسيح غريبة عنها، فلحمه من لحمها ودمه من دمها، وسر القداسة وحد الآلام بينهما. لم نسمع أنها صرخت، كما لم نسمع أنه صرخ. فالآلام امتصها الجسد, والروح هيمنت، فكان الصمت وكان الهدوء.
‏هذه هي الأم، هذه هي المرأة الوحيدة من بين كل الناس التي شاركت المسيح آلام صليبه! حول الصليب تجمع الشامتون والحاقدون, ولم يكن أحد يذرف دمعة إلا هذه الأم، التي بكت بالدمع المتواصل! لقد نابت عن البشرية في وداع فاديها.
‏يلاحظ أن إنجيل يوحنا يستظهر هنا على الأناجيل الثلاثة في أمر النسوة حول الصليب. فبينما نجد الأناجيل الثلاثة يلخصون موقف النسوة في نهاية مشهد الصليب باختصار، ويتفقون على أنهن كن ثلاثا فقط، وكن واقفات على بعد يشاهدن فقط، ولم يذكروا حضور العذراء القديسة مريم؛ نجد أن إنجيل يوحنا ينفرد بالعدد أربع من النسوة، ويقسمهن إلى قسمين: اثنتان منهن قريبات وأخصاء للمسيح، أمه وأخت أمه، واثنتان ذوات صلة التلمذة فقط وهما مريم أم أحد التلاميذ, يعقوب الملقب بالصغير, ومريم المجدلية.
‏كذلك ينفرد إنجيل يوحنا بذكر العذراء مريم, وبذكرنفسه التلميذ المحبوب, وكيف اقتربا من الصليب، فكانا على مستوى النظر والسماع والكلام للمسيح المرتفع على الصليب. وظهور القديسة مريم العذراء فجأة مع القديس يوحنا، يوضح ببيان أن القديس يوحنا ترك مشاهد الصلب الاولى، وأسرع بإحضار الأم الحزينة، لإحساسه الذي لم يخب قط بما يريد المسيح أن يقوله لأمه، ككلمة وداع أخيرة يستودع بها أنبل وأقدس قلب بعد قلبه. إن الإنسانية، في المسيح، تؤدي دور بنوتها المخلصة للأمومة. ‏وهذا لم تسجله الأناجيل الثلاثة، لأن القديس يوحنا وحده فقط كان هو الحاضر، وهو وحده الذي سجل هذا الحضور.
‏«التلميذ الذي كان يحبه»: إن وضع هذه الصفة لهذا التلميذ في هذا المكان والزمان يئبىء في الحال بما سيكلفه به المسيح.
«يا أمرأة»: أعطى المسيح لأمه صفتها الاولى: «يا امرأة», والمسيح يرفع البشرية, التي منها أُخذ, من صفتها الخاصة به كأمه، إلى مستواها العام للانسان ككل،أمنا. فهي، بموته، تأخذ صفة الأمومة للتلميذ، وبالتالى للكنيسة كلها. فالمسيح هنا لا يسلم أمه باعتبارها الخاص به وحده، بل يسلم, فيها, البشرية التي قبلت, من أجله, قوة العلي وتقدست بحلول الروح القدس فيها ليأخذ منها ابن الله الوحيد القدوس جسده المعلق الآن على الصليب، والمزمع أن يحتل يمين العظمة لله. فكما أن الجسد المقدس صار جسدنا، هكذا ينبغي أن الأم التي حملت به وولدته, تصير أمنا.
المسيح هنا يرد الأم, المرأة المولود منها, إلى صفتها الطبيعية «امرأة»، ولكن في وضعها الجديد، الذي يعلو فوق حواء الأولى علو المسيح عن آدم .
‏نحن لا نولد الآن من مريم العذراء, نحن نولد بالروح من المسيح, ونعيش بالروح من الجسد الإلهي بدمه الإلهي والروح الأزلى الذي فيه. ولكن كل من يولد من المسيح بالروح، يحمل في ولادته الروحية الجديدة علاقة المسيح بالأم التي ولدته بالجسد حتماً.
‏إذ كان كل ابن لآدم يولد الآن، وله علاقة متسلسلة حتمية «بحواء»، فهذه «المرأة حواء» هي أم عامة لأجسادنا، فكيف نولد الآن من المسيح ولا تكون لنا علاقة «بالأم العذراء،» التي ولدته. هذه «المرأة مريم» هي أم عامة لأرواحنا. والمسيح بقوله لمريم العذراء أمه: «يا امرأة» يضعها في مستواها الروحي العام للإنسان عامة؛ كأم ليوحنا التلميذ المحبوب أولاً، وكأم لكل من أحب المسيح وأحبه المسيح بالتالى.
«هوذا ابنك»: إن العذراء القديسة مريم لم يكن لها أبناء قط إلا المسيح, وهوذا المسيح يهبها يوحنا ابناً ‏بالتبتى، عوضاً عنه، يسند قلبها المكسور.
المسيح لم يختر العذراء مريم لتكون أما له، بل لقد تعينت أما له من السماء بقوة يمين العلي وروحه القدوس. فمن السماء، اتخذها أماً، وتعينت لذلك مسبقاً بوعود, وتقديس، ونبوات, رآها إشعياء النبي: «ها العذراء تحبل، وتلد ابنا، وتدعو اسمه عمانؤئيل» (إش14:7). إنها ثمرة قسم إلهي صدر من فم العلي، أن تخرج من نسل داود في الميعاد ليملك الخارج من أحشائها ملكه الأبدي. والذي بشرها بالحبل الإلهي ملاك، والذي حضر الولادة ملاك.
‏وإن كان المسيح، بهذه اللفتة: ‏هوذا ابنك»، قد رفع القديس يوحنا إلى مرتبة الاخوة بالنسبة لنفسه, أي للمسيح: «لا يستحي أن يدعوهم إخوة» (عب11:2)، فكيف نستحي أن ندعى أمه أمنا؟
‏كذلك لا ننسى أن القديسة مريم الذ راء هي من أصل يسى، من جذر داود, التي بواسطتها يستمد المسيح علاقته بداود والأبا، كابن له: «أوصنا لابن داود» (مت9:21‏)، ومنها يستمد المسيح علاقته بالقسم إلذي أقسم به الله لداود من جهة مملكته الأبدية: «أقسم الرب لداود بالحق لا يرجع عنه، من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك» (مز11:132)، «حيذ كلمت برؤيا تقيك… وجدت داود عبدي، بدهن قدسي مسحته… أنا أيضاً أجعله بكرا أعلى من ملوك الأرض… وكرسيه مثل أيام السموات… والشاهد في السماء أمين.» (مز19:89-37)
‏معنى هذا، أن القديسة مريم العذراء هي الصلة القائمة والدائمة بالجسد بالأباء والأنبياء والسماء، التي يستمد المسيح عبرها كل وعود الله لداود والأنبياء كافة. فكأنما تسليم القديسة العذراء مريم «ام» المسيح إلى يوحنا ليكون هو ابنها ولتكون هي «أما» له، هو بمثابة تسليم العهد القديم بمواعيده الصادقة والأمينة التي تحققت في المسيح ليوحنا، وبالتالي للكنيسة» لتكون للكنيسة، كما كانت مريم العذراء للمسيح، صلة حية ثابتة ودائمة بكل ميراث وتراث الآباء والأنبياء، وتكون الكنيسة الجديدة بمثابة الابن بالتبني (للعهد القديم)، الابن الذي ورث من أمه أمجادها وتراثها وهي محفوظة ومصونة في كنفه.
‏إن وصية المسيح كآخر وصية، وهو على الصليب، هي ومضة النور التي ربطت العهدين.

27:19 ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: «هُوَذَا أُمُّكَ». وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ.

«أخذها التلميذ إلى خاصته»: ‏إلى صميم رسالته، إلى علية صهيون ويوم الخمسين، إلى الكرازة منذ لحظتها الأولى.
كان القديس يوحنا مرتبطاً بالقديسة مريم أم المسيح برباط الدم, فهو ابن أختها سالومة. فكان أقرب إليها بالروح وبالجسد من إخوة الرب الذين كانوا إخوة من يوسف خطيب مريم , أي إخوة ليس بالدم ولا حتى بالنسب، لأن يوسف لم يتزوج العذراء بل ظل خطيبها فقط, يرعاها حتى مات. وهوذا القديس يوحنا يأخذ دور يوسف في الرعاية مرة أخرى.
الله يرفع الأمومة والبنوة بارتفاع المسيح على الصليب من مستوى الدم واللحم، إلى مستوى الوحدة الروحية لبناء الكنيسة، الكنيسة التي بنُيت على الأمومة الإلهية والبنوة الرسولية. والملاحظ أن المسيح لما ارتاح إلى هذا الإجراء الذي صنعه، وكان آخر إجراء من إجراءات الخلاص، قال: «قد أكمل».
‏القديس أفرام السرياني يتغثن بأشعاره, في القرن الرابع, وهو يتأمل العذراء القديسة تحت أرجل المسيح المصلوب واقفة، فيراها صورة متجلية للكنيسة. ويضيف قائلأ: كما أن موسى عين يشوع ليرعى الشعب من بعده، هكذا، وبصورة ما, عين المسيح يوحنا، ليرعى أمه العذراء، أي الكنيسة، من بعده.
«ومن تلك الساعة, أخذها التلميذ إلى خاصته»: ‏كان للقديس يوحنا منزل في أورشليم، ولو أن إقامته كانت في الجليل؛ وذلك حسب تحقيق كثير من العلماء. ولقد نفذ التلميذ الوصية في الحال، فلم تحضر العذراء الساعة الأخيرة ولا يوحنا، وذلك عن قصد، لأنها كانت ساعة لا تطيقها مشاعر الأم. لقد أسرع بها يوحنا إلى بيته، ولهذا نجد أن وصف القديس يوحنا للساعات الأخيرة للصلب مختصر، فهو كان غائباً في البداية، ولم يحضر عند إنزال الجسد.
‏يلاحظ هنا أهمية هذا التسجيل بالنسبة لعقيدة الكنيسة بخصوص عذراوية القديسة مريم أم المسيح، فهنا يمعن الآباء العظام القديسون أثناسيوس وابيفانيوس وإيلاريون، في اتخاذ تسليم العذراء ليوحنا البتول وليس لإخوة الرب أو لأي أحد أخر، برهانأ واضحأ هادئاً رزيناً كون العذراء لم يكن لها أولاد سوى المسيح ابنها وابن الله.
‏والمعروف بحسب التقليد، أن القديسة مريم العذراء بقيت مع القديس يوحنا تمارس حياة التقوى والشهادة في أورشليم مدة إحدى عشرة سنة بعد موت الرب، وتنيحت عن 59 سنة. ومكان قبر القديسة العذراء مريم يقع في وادي قدرون. ولما جاءت الملكة هيلانة، بنُت عليه كنيسة. والكنيسة الموجودة الآن بناها الصليبيون.
‏كما يوجد تقليد أخر، أن العذراء رافقت القديس يوحنا في سفره إلى أفسس وعاشت ودُفنت هناك، لأنه يوجد حتى الآن, في تركيا الحديثة, على أحد التلال الواقعة على بعد خمسة أميال من سلقوك, وهى أزمير أصلاً، واسم التل بانايا كابيولو، قبر للعذراء القديسة يحكي في صمت وإصرار أن العذراء رافقت يوحنا في كل مكان ذهب إليه.

3- النهاية: قد أكمل (28:19-30)

الموت الإرادى
28:19 بَعْدَ هَذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ: «أَنَا عَطْشَانُ».

‏«لصق لسانى بحنكى» (مز15:22)
«وفى عطشى يسقوننى خلاً» (مز21:69)
إذ أكمل المسيح رغبته في تسليم أمه إلى يوحنا, وبعد أن أكمل الإطار الكلي للخلاص حسب الترتيب الذي بدأه: «وهو عالم بكل شيء» ، والآن رأى, وصحتها علم, أن كل شيء قد كمل.
«كل شيء قد كمل»: ‏يلاحظ المقابلة بين قول القديس يوحنا «قد كمل»، وقول المسيح بعد ذلك «قد أُكمل»، وهي نفس اللفظة. وقد اهتم القديس يوحنا، منذ البدء، بمقابلة كل أحداث الآلام بما جاء عنها. في النبوات، حاسباً ذلك شهادة ذات وزن إنجيلي عال للغاية. والآن، يؤكد أنه لكي يتم الكتاب، يورد هنا قمة الآلام ونهايتها: أي قول المسيح:«أنا عطشان». والقديس يوحنا هو الوحيد الذي سجل هذا القول للمسيح، الذي به يدرك العالمون ببواطن الأمور، وخاصةىالأطباء، ماذا يعني: «أنا عطشان» بالنسبة للمسيح الذي لم يتأوة أو يشتكي من أي ألم سابق في أنواع العذاب التي صادفها، بل يصفه الواصف كما تنبأ عنه النبي، أنه «كشاة سيق للذبح، ولم يفتح فاه». ولكنه هنا لم يستطع، بل فتح فاه اضطراراً، كإنسان بلغ به العذاب ما بعد أقصاه، لأنها لحظة الاحتضار الحتمي، لفقدان كل الدم، حيث بلغ الإحساس بالعطش إلى مراكز المخ العليا، التي لا يمكن لإنسان التحكم فيها. وهنا، العطش يحمل داخله قمة «كل شيء», أي كل التعذيب اللائق بالخلاص, الذي يوازنه «قد أكمل»، لأن وراء العطشى القاتل لا يتبقى إلا تسليم الروح.
‏يلاحظ هنا أن القديس يوحنا ضمن القول: «رأى يسوع أن كل شيء قد كمل», كل ما سبق وسجله الإنجيليون الثلاثة, سواء من جهة التعيير من كل فئة، أو من جهة ساعات الظلمة الثلاث وانشقاق حجاب الهيكل، والزلزلة، وشهادة رئيس الجند، وقول المسيح: «ألوي ألوي لما شبقتني»، وتفسير الجموع الخاطىء لهذا القول. لأن تركيز القديس يوحنا كان على شخص المسيح نفسه، وعلى ما فات على الإنجيليين تسجيله من أقواله وهو على الصليب.
‏وكل شيء قد أكمل, في نظر المسيح, يعني أن كل ما يلزم لذبيحة الخلاص وتقديمها أمام الآب قد استوفاه لقيام حياة جديدة للانسان. فقد أُكملت خيلقة السماوات الجديدة والأرض الجديدة ليسكن فيها البر، على نمط ما صنعه الله بالكلمة في البدء حينما «أُكملت السموات والأرض وكل جندها. وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل» (تك1:2-2)، وهوذا المسيح قد فرغ للتو, في اليوم السادس, ليدخل راحته في اليوم السابع أيضاً ليستريح من كل أعماله التي عمل.
‏لقد استجابت الطبيعة لكلمة المسيح: «قد أكمل». فابتدأ العالم القديم يعطي إشاراته أنه تداعى أمام العالم الجديد الذي خلق، فتزلزلت الأرض، وتشققت الصخور، لأن صخر الدهور المقتطع بغير يد من لحم الإنسان ودمه، صار هو الجبل الذي يملأ العالم والسماء، وهو الذي سحق العالم الوثني سحقاً مع رؤساء وسلاطين عالم الظلمة, كما تداعى النظام القديم للعبادة المرتبطة بالعالم القديم، فانشق حجاب الهيكل من أعلى إلى أسفل، وكأنها ومضة من السماء أتته من فوق لتلغي وجوده، لما انشق جنب «الحجاب الجديد», أي جسده, ليفتح عالم الله على الإنسان, وليصير طريقاً للعبور إلى قدس أقداس الله. وانحل سلطان الموت لحظة قبول المسيح للموت في داخله، فظفرت به الحياة التي فيه, وحاصرته، وأطبقت عليه، وسحقته سحقاً، فبطل عمله. وتفتحت القبور وخرجت أجساد الراقدين، تستقبل فجر اليوم الجديد الذي صنعه الله لأزمنة الخلاص (مت52:27-53).
‏هذا التكميل أو التتميم فهمته الكنيسة، كما قاله المسيح تماماً: «وأقوال الأنبياء التي تقرأ كل سبت، تمموها، إذ حكموا عليه، ومع أنهم لم يجدوا علة واحدة للموت, طلبوا من بيلاطس أن يُقتل، ولما تمموا (أكملوا) كل ما كُتب عنه، أنزلوه عن الخشبة، ووضعوه في قبر» (أع27:13-29). يلاحظ القارىء في هذه الآية صدى قوياً لتسجيل القديس يوحنا، وبنفس الكلمات، فهو تقليد كُتب قبل أن يكتب يوحنا إنجيله.
‏لقد كانت مسرة الرب أن يعمل في السبوت, والآن قد أكمل تعاليمه، بل وآلامه، قبل أن يلوح السبت ليدخل، ونحن معه، إلى راحته الأبدية في سبت الله الروحي.

29:19 وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاًّ فَمَلَأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ الْخَلِّ وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ.

‏هذا الإناء يذكره فقط القديس يوحنا، كذلك نوع هذا الخل، وهو نوع من النبيذ الفاسد، يشربه العسكر لرخصه. ولكن وجود إسفنجة وقصبة أو زوفا خاصة لرفعها، يعني تمامأ أنها جزء من ترتيبات الصلب كلها، كانت موجودة ومعدة لمثل ذلك العمل. فالوعاء للاسفنجة، والإسفنجة للوعاء، لأنه يستحيل إعطاؤه كأساً ليشرب . وقد اشتركت الأناجيل كلها في ذكر هذا المشهد، ولكن القديس يوحنا هو الوحيد الذي يقول أنه قبل أن يشرت. وواضح أن تقديم الخل كان عملاً فيه نوع من الرحمة، وليس المقصود به المضايقة.

30:19 وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاًّ فَمَلَأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ الْخَلِّ وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ.

‏هنا يذكر الكتاب أن المسيح رضي أن يشرب من الخل. أما في بداية الصلب، كما جاء في إنجيل القديس متى (34:27)، رفض المسيح المشروب المخدر حينما قدموه إليه، وكان خلاً ممزوجا بمرارة، ليلطف من آلام الجسد المبرحة، ولكن المسيح جاء «ليذوق الآلام لأجل الكل» وقد «لاق … أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام» (عب10:2)، و«ينبغي أن المسيح يتألم بهذا» (لو26:24). وأخيراً، ذاق الخل ليستطيع أن ينطق الكلمة الأخيرة: «قد أكمل»، ويكمل الكتاب القائل: «وفي عطشي، سقوني خلاً.» (مز21:69)
‏وواضح في إنجيل القديس يوحنا، أن المسيح أسلم الحياة وهو في ملء الحياة، ومالكاً لكل قواه. وتم قوله: «ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي، لى سلطان أن أضعها، ولى سلطان أن آخذها أيضاً» (يو18:10). وإن كان المسيح قد طلب هنا أن يشرب، فلكي يستطيع أن ينطق الكلمة الأخيرة, بصوت عال كما جاء في الأناجيل الأخرى، لهذا قيل: «فلما أخذ … قال».
«قد أكمل»: «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته.» (يو4:17), إنها صرخة النصر الأخيرة، فقد أكمل عملاً، يشق على أي كاتب ماهر أن يصفه، بل يشق على أي تصور أن يصفه. لم يستطيع القديس يوحنا، بكل ما كان له من وعى إنجيلي ورؤيوي أن يزيد على هذا كلمة، أو يشرح ما تحتويه بكلمة. ففي ظنه أن كتب الأرض لا تسعها، ولا الأرض تسع الكتب إذا كُتبت. فقد أكمل عملاً أخذه من الآب، وأكمله بكل شروطه التي عرفناها والتي لم نعرفها بعد, أن ينزل من الحضن الآبوى، ويلبس عار الإنسان عوض النور الذي يلبسه. وأن يصير في الهيئة كعبد, ويتضع تحت أرجل عبيده، أن يأخذ خطية الإنسان أخذاً، لتدخل جسده دخولاً، فيقبل بها اللعنة قبولاً! فيصبح بالخطية واللعنة قابلاً للمذلة، متقبلاً للاذلال, ومستحقاً للموت، بسبب ما وضعه على نفسه، لا بسبب ما وضعه عليه الآخرون. منظوراً للناس كأنه مستحق الضرب والإذلال, وهو مضروب ومذلول بسبب ما أخذه عنا. ومن واقع ما حمله من شر الإنسان، طمع فيه الشيطان، إذ وجد له فيه مدخلاً وليس مأخذاً! لأنه من الداخل، كان ما كان، نور ليس فيه ظلمة البتة، قدوس بلا عيب ولا شر.
‏زحف عليه الموت حتى غطاه، عن حق وعدالة، لأن الخطية التي لبسها واللعنة التي صار إليها هما والموت رفيقان وصنوان لا يفترقان! فلا يمكن أن يؤخذ واحد ويُترك الأخر، فأخدهما كليهما ليوفي بالواحد كيل الآخر! فبالموت، داس الموت، لما داس الخطية, وبالحياة والقداسة التي له, انفصل عن الخطية والخطاة, وارتفع إلى أعلى السموات، بعد أن صنع تطهيراً أبدياً لخطايانا، وجلس في يمين العظمة في الأعالى (عب3:1‏).
‏قام, حقا قام, ولكن لم يكن في ذلك عجب, لأن القيامة كانت فيه، قبل أن يموت, وفي الموت, وما بعد الموت، فهو الحي الأزلي الذي لا يموت. ولكن العجب العجاب والمعجزة الكبرى أن يموت من هو حقاً «القيامة والحياة». يقولون إنه مات بالجسد! ولكن، وحتى هذا الجسد، كيف يموت وهو الذي وُلد من الروح القدس، ومن عذراء تقدست بالروح القدس؟ فله جسد بلا خطية، وعاش ولم يقبل أن يدخل على جسده خطية، فأعلن المسيح إعلاناً: «من منكم يبكتني على خطية؟» (يو46:8)، متحدياً لا الأعداء، بل فكر الإنسان؟ فكيف يموت جسد مثل هذا، والموت هو استحقاق الخطاة: «لأن أجرة الخطية هي موت»؟ (رو23:6)؟ هنا معجزة المسيح والصليب والموت. فلولا أنه أخذ منا عنصر الموت، أي الخطية، وقبله في جسده قبولاً، وارتضى بملء إرادته أن يقف من الله أبيه موقف الإنسان المتعدي عوض المتعدين، ليقبل منه التخلي مع من قبلوا التخلية من الله, لا شكلاً، بل بالحقيقة، وإلا ما استطاع أن يلطمه عبد رئيس الكهنة، ولا أن يبصق في وجهه أعضاء السنهدريم، ولا أن يهزأ به العسكر، ولا أن يمدوه على الصليب، ولا أن يتجرأ عليه الموت ويدخل إلى أعماقه!!
‏أن يموت المسيح بالحقيقة، فليست هذه معجزة الإنسان، بل معجزة الله، أن يبذل ابنه الوحيد بذلاً، ويتركه للموت تركاً، بل ويسحقه بالحزن سحقاً! ومعجزة موت المسيح كلها، هي معجزة حب وقداسة. حب الله للعالم الساقط واللاهي عن سقوطه! وقداسة المسيح التي ألبسها الخطية والموت لبساً! فحب الله الآب للإنسان وازن ثقل الصليب والآلام لابنه الحبيب، فتعادلا، وفاض الحب ولا يزال فائضاً! وقداسة المسيح وازن «عنصر» الخطية في «الإنسان» بكل صنوفها وقبحها، وفي الناس جيعاً, كل الناس، فرفعها عن كاهل الإنسان، بل محتها محواً، بعنصرها القاتل، كما من جسد المسيح المقام، كذلك من كل جسد في المسيح يؤمن بمن مات وقام! فهذا الخلاص «قد اكمل» «وتم الفداء».
«ونكس رأسه»: وصحتها «أمال», أو «أحنى» رأسه, ‏الذي لم يكن له أين يسند رأسه، أسندها أخيراً على الصليب كما على حضن الله. لأنه «كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا، ويدخل إلى مجده» (لو26:24)، «لأن الذي دخل راحته، استراح هو أيضاً من أعماله، كما الله من أعماله.» (عب10:4)
«وأسلم الروح»: رآه إشعياء، بالنبوة، في هذا المنظر عينه: «أنه سكب للموت نفسه» (إش12:53). لم تؤخذ ‏روحه منه كبشر؛ بل سكب هو، بنفسه، روحه بإرادته, كمن يذبح ذبيحة ويسكب روحها مع دمها. هكذا المسيح قبل سفك دمه بيد الذابحين، أما روحه فسكبها بيده في يد الآب سكبياً. فأسلمها له تسليماً، كمن يستودع وديعة، هو وشيك أن يستردها: «يا أبتاه في يديك أستودع روحي.»» (لو46:23)
‏والآن، يليق بنا أن نسترجع من إنجيل القديس يوحنا والثلاثة الأناجيل الأخرى، ما قاله المسيح على الصليب. هي سبع كلمات:
‏ما قبل الظلمة التي جاءت على الأرض:
1- «يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.» (لو34:23)
2- «الحق الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس.» (لو43:23‏)
3- «يا امرأة هوذا ابنك … هوذا أمك.» (يو26:19)
‏أثناء الظلمة:
4- «إيلي إيلي لما شبقتني.» (مت46:27؛ مر34:15‏)
‏بعد الظلمة:
5- «أنا عطشان» (يو28:19)
6- «قد اكمل» (يو30:19)
7- «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي.» (لو46:23)
هي سبع كلمات لم يحوها إنجيل واحد بأكملها، ولكن الأربعة معاً احتووها، لتخرج لنا هكذا، باتحاد الأصوات، كما من قيثارة بيد داود!

4- طلبان يُقدمان إلى بيلاطس

يستجيب لهما فى الحال
الأول: طلب تكسير السيقان للتعجيل بالموت (31:19-37).
31:19 ثُمَّ إِذْ كَانَ اسْتِعْدَادٌ فَلِكَيْ لاَ تَبْقَى الأَجْسَادُ عَلَى الصَّلِيبِ فِي السَّبْتِ لأَنَّ يَوْمَ ذَلِكَ السَّبْتِ كَانَ عَظِيماً سَأَلَ الْيَهُودُ بِيلاَطُسَ أَنْ تُكْسَرَ سِيقَانُهُمْ وَيُرْفَعُوا.

«المسيح افتدانا من لعنة الناموس, إذ صار لعنة لأجلنا, لأنه مكتوب ملعون كل من عُلق على خشبه» (غل13:3)
ينفرد القديس يوحنا بسرد دقائق هذه الحادثة، ويركز كثيراً على أهميتها بشهادته .
‏«الأستعداد»: ‏هو اليوم السادس من الأسبوع في العادة. الآن «اليهود»، ويقصد بهم القديس يوحنا أعضاء السنهدريم, وهم لا يزالون يناورون، وقد تمموا شهوة حقدهم، واكملوا تزييف قضية القتل حتى النهاية؛ سبقوا وذهبوا إلى بيلاطس يطالبون بضرورة إنزال الجسد من على الصليب تتميماً لحرفية الناموس: «واذا كان على إنسان خطية حقها الموت، فقُتا، وعلقته على خشبة. فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم. لأن المعلق ملعون من الله. فلا تنجس أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيباً.» (تث22:12-23)
‏ولأن في ظنهم، لن يموت المسيح سريعاً، وهكذا يدخل (السبت) اليوم التالي للصلب فتتنجس به الأرض وهو معلق، طلبوا مسبقاً بكسر سيقان الكل, أي المسيح واللصين، ليعجلوا من الآن بموته. وواضح من هذاء الإتجاه إلى مزيد من التشفي لكسر ساقيه وهو حي!! بالإضافة إلى الاطمئنان إلى أنه يموت أيضاً ميتة لا قيام منها حينماتُكسر ساقاه! وكان الطلب، ولو أنه لا يدخل في صلاحية القانون الروماني ويمكن رفضه، إلا أن بيلاطس وافق عليه.
وكلمة «الاستعداد» تجوز على يوم ما قبل السبت كما تجوز على يوم ما قبل العيد, فالثلاثة الأناجيل أخذوها بمعنى الاستعداد للسبت, أما القديس يوحنا فأخذها بالاعتبارين, أي اعتبار السبت، ولأن هذا السبت هو المحسوب أول أيام الفطير وهو «عيد الفطير» اعتبر يوم هذا السبت عظيماً: «سبعة أيام تأكلون فطيراً, اليوم الأول تعزلون الخمير من بيوتكم. فإن كل من أكل خميرا من اليوم الأول إلى اليوم السابع تُقطع تلك النفس من إسرائيل. و يكون لكم في اليوم الأول محفل مقدس. وفي اليوم السابع محفل مقدس. لا يُعمل فيهما عمل ما, إلا ما تأكله كل نفس، فذلك وحده يُعمل منكم.» (خر15:12-16)
‏السبت العظيم: كان لا بد أن يأتي هذا السبت هكذا عظيماً, ليس على مستوى أيام طقس اليهود بعد، بل على أزمنة الخلاص, وكل ساعاته مقبولة, لأنه كان لا بد أن يدخل المسيح بعد عناء الصليب وتكميل الرسالة الشاقة جداً إلى راحة سبته العظيم, الذي أشرقت شمسه في السماء وليس على الأرض, ليبقى سبتاً إلهياً إلى أبد الأبد. لم يُخلق سبت، منذ أن خُلق الزمن والى أن يزول الزمن، مثل هذا السبت الذي دخل فيه المسيح إلى راحته وأدخلنا معه حيث لا زمن بعد، بل حياة أبدية وسيرة مقدسة مكتوبة مفرداتها في السموات: «فلنخف أنه، مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته، يرى أحد منكم أنه قد خاب منه … فلنجتهد أن ندخل تلك الراحة.» (عب1:4و11)
‏ويوم الاستعداد يبدأ من مساء الخميس، من الساعة السادسة وحتى الساعة السادسة مساء يوم الجمعة عشية السبت. وبعض الشراح الذين ينحازون لتوقيت الثلاثة الأناجيل الزمني، يعتبرونه يوم 15 نيسان، مثل بولتمان وكثيرون», وآخرون يعتبرونه 14 نيسان اليوم الذي يُذبح فيه الفصح، والذي صُلب فيه المسيح, مثل وستكوت وريمون براون وآخرون كثيرون, حيث يوم 16 نيسان يكون أيضاً عيدا رسمياً هو عيد ترديد حزمة الباكورة, أي باكورة القمح: «وكلم الرب موس قائلاً: كلم بني إسرائيل، وقل لهم: متى جئتم إلى الأرض التي أنا أعطيكم وحصدتم حصيدها, تأتون بحزمة أول حصيدكم إلى الكاهن، فيردد الحزمة أمام الرب للرضا عنكم, في غد السبت يرددها الكاهن.» (لا9:23-11)
‏وهذا السبت هو السبت الأول بعد الفصح. أما «غد السبت» بالنسبة للمسيح ولنا، فهو عيد القيامة، حيث قدم المسيح نفسه للآب كباكورة من بين الراقدين, كحصاد وفير جداً لحبة الحنطة التي ماتت يوم الجمعة!! فعندما كان رئيس الكهنة وزمرته منهمكين في استلام باكورات الشعب ‏منذ فجر الأحد، والشعب كله مسرع إسراعاً لتقديم باكوراته، كان المسيح قد قام وقدم نفه باكورة، وابتدأ يجمع أول حزمة من حصيده من المريمات والتلاميذ، ليرفعها ويرددها على المذبح الناطق السمائي, رائحة بخور تدخل إلى عظمة الآب السمائي.
‏ويلاحظ أن كلا من إنجيلي القديس مرقس والقديس يوحنا يتفقان، كل واحد مع الأخر، في كون المسيح صُلت يوم الجمعة، وهو يوم الاستعداد: «ولما كان المساء، إذ كان الاستعداد, أي ما قبل السبت, جاء يوسف الذي من الرامة مشير شريف، وكان هو أيضاً منتظراً ملكوت الله، فتجاسر ودخل إلى بيلاطس، وطلب جسد يسرع» (مر42:15-43). ولكن يتفق إنجيل القديس متى مع القديس لوقا في أن ذلك اليوم كان 15 نيسان، أي ثاني يوم ذبح الخروف، في حين أن إنجيل يوحنا يؤكد في مواضح كثيرة، كما سبق وذكرنا، أن المسيح يوم الفصح 14 نيسان.
«لكي لا تبقى الأجساد على الصليب»: ‏كان القانون الروماني يمعن في التشهير بالمجرمين، فكان يُبقي على أجسادهم معلقة على الصلبان ربما لأيام، وحتى لكي تفتك بها طيور السماء، وذلك عبرة للمجرمين، ولزيادة هيبة القانون. ولكن الناموس اليهودي يمنع ذلك، باعتبار أن من عُلق على خشبة هو ملعون من الله، فإذا بقي على الخشبة لثاني يوم فإنه ينجس الأرض، أي أرض إسرائيل! «فلا تبت جثته على الخشبة, بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلق ملعون من الله. فلا تنجس أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيباً.» (تث23:21)
«أن تُكسر سيقانهم»: كانت الآلة التي تكسر بها السيقان مطرقة خشبية ثقيلة. وكانت هذه العملية بحد ذاتها عملاً وحشياً، لا يطيق الإنسان النظر إليها، وكانت الآلام الناتجة لا يمكن وصفها. وكان هذا الإجراء عقوبة قائمة، بحد ذاتها، عند الرومان، والآن أرفقوها بالمصلوب. ولكنهم بالنسبة للمصلوب المعلق الذي تتعذب روحه من طول فترة النزع الأخيره ربما كان يُحتسب هذا عمل رحمة (أعتقد أنها حتى للحيوان لا تعتبر رحمة). والمعروف أن المصلوب قد يمكث على الصليب في نزعه الأخير ربما إلى أيام. لهذا نجد أن بيلاطس، في إنجيل القديس مرقس، يتعجب كثيراً من سرعة موت الرب على غير العادة.
‏وفي العادة، لم تكن تكمل الوفاة بتكسير السأقين، فكان يجري على المصلوب ما هو معروف في القضاء بالضربة القاضية من أجل الرحمة بحد السيف، أو بضربة عنيفة تحت الإبط والذراع ممدودة أو بطعنة حربة مصوبة للقلب لتقضى في الحال على المتألم. وهذه كانت تعتبر ملحقات لعقوبة الصلب ، لتقليل زمن النزع للموت.
‏واليهود اختاروا سحق العظام للساقين. ولكن احتراسهم الشديد جداً للقضاء على المسيح، جعلهم حتى وبعد موته يستوثقون من غرضهم بطعنة الحربة.


32:19 فَأَتَى الْعَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ الأَوَّلِ وَالآخَرِ الْمَصْلُوبَيْنِ مَعَهُ.

‏العسكر كانوا أربعة, فكان لكل مصلوب حارسه. بهذا تفهم لماذا ذكر اللصان أولاً مع أن المسيح في الوسط. فكل حارس كمل الأمر الصادر إليه، فلما جاء الحارس المنوط بحراسة المسيح، رأى أنه مات، فامتنع عن إجراء الكسر. وهكذا كُسرت ساقا اللص المجدف والتائب كليهما. فالعالم لا يستطع، في صب غضبه, أن يفرق بين البار والشرير، فحادثة واحدة تحدث لكليهما: لواحد تٌحسب له نقمة، ولآخر تُحسب له نعمة، لواحد يأخذها كأجر، والآخر يأخذ عنها الأجر!!

33:19 وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ.

«لأنهم رأوه قد مات»: الرب مات سريعاً! هذا كان موضع تعجب بيلاطس، الذي أراد أن يستوثق من هذه الحقيقة، فاستدعى قائد المائة، وسأله وتحقق فعلاً أنه مات: «فتعجب بيلاطس أنه مات كذا سريعاً، فدعا قائد المائة، وسأله: هل له زمان قد مات؟» (مر44:15)
‏إن كان القديس بولس اشتهى أن ينطلق وهو صحيح وسليم يدب على الأرض، فكم تكون نفس الرب بعد هذا العذاب المرير، لقد كان الموت بيده كما كانت الحياة، فلما استوفى متطلبات الموت وعلاماته، وأكمل نزيف الذبيحة بالقدر الذي يكفي لخلاص العالم، اكتفى الرب بهذا الحد وانطلق: «إنه خير لكم أن أنطلق» (يو7:16)، فلماذا التأخير في إتيان الخير؟
‏النفس بقدر تعلقها بالعالم، والأهل والأحبة، ومسرات الدنيا، تتعوق في الجسد كثيرا، لا تشاء أن تفارقه, والرب أنهى معركته مع العالم، وسلم الأم للحبيب، وكانت أمامه في الأعالي مسرات عظمى تنتظره، فلماذا التعوق على الأرض؟ وبقدر ما كانت أعمال الأرض الكثيرة، التي أعطاه الآب ليكملها، تشده كما يشد الجوع والعطش الإنسان للجرى وراء الأكل، بقدر ما أسرع في فك الربط عنها, لما أكملها حتى النهاية، كالشبعان الذي يزهد الأكل في النهاية: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو34:4)، «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يو4:17‏)، «قال قد أكمل ونكس رأسه وأسلم الروح.» (يو39:19)
‏وكل إنسان يسلم الروح، تتنكس رأسه عن غير إرادة. أما يسوع فنكس رأسه أولاً، ثم أسلم الروح، هذه بإرادته وتلك بإرادته، ليبقى سيدا على الموت لما يستقبله. فقد استدعى المسيح الموت، ومات، كما يستدعي الإنسان النوم وينام: «لى سلطان أن أضعها»، «ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي» (يو18:10). فالموت، فى اعتبار الرب، ليس أكثر من نوم تعقبه اليقظة: «لعازرحبيبنا قد نام, لكني أذهب لاوقظه… وكان يسوع يقول عن موته، وهم ظنوا أنه يقول عن رقاد النوم. فقال لهم يسوع حينئذ علانية: لعازر مات» (يو11:11-14‏). وذهب، وبالفعل أيقظه!… وداود في المزمور لم ير في موت الرب وقيامته معاً إلا كنائم ثمل من الخمر استيقظ فجأة: «فاستيقظ الرب كنائم كجبار معيط (ملتهب) من الخمره فضرب أعداءه إلى الوراء، جعلهم عاراً أبدياً» (مز65:78-66)، «لماذا تطلبن الحي بين الأموات، ليس هو ههنا، لكنه قام.» (لو5:24-6)
‏وبعدما سلم المسيح أمه لتلميذ سبق فأحبته، وسلم الجسد لفريسى سبق وولده مع غنى له قبر، سبق فأعدوه، حينئذ انسل من الجسد الميت، لمهمة أخرى كانت تنتظره, إذ ‏«ذهب فكرز للأرواح التي في السجن.» (1بط19:3)

34:19 لَكِنَّ وَاحِداً مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ.

«فينظرون إلي الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له.» (زك10:12)
«ويكون في ذلك اليوم أن لا يكون نور… ويكون في ذلك اليوم أن مياهاً حية تخرج من أورشليم, نصفها إلى البحر الشرقي ونصفها إلى البحر الغربي… ويكون الرب ملكاً على كل الأرض» (زك6:14-9)
‏لقد كان ذلك ليستوثق الحراس من صحة موت المسيح. وكان الطعن بالحربة إحدى الوسائل القانونية للاجهاز على المحكوم عليهم بالموت للتعجيل بالموت. ولكن يد النبوة كانت هي التي حركت هذا الشك في قلب ذلك العسكري ليتتم ما كان مقضياً به على الأرض.
‏«الحربة»: وهي الحربة التي نراها الآن في أيدي الجنود الخيالة. وطعنة الحربة تخترق الجسم بسرعة شديدة، فهي مدببة الطرف، حادة إلى أتصى حد. ويقول العلماء أنه لكي تصل إلى القلب وتمزقه، وهذا هو الفرض الأساسي من الطعن، يلزم أن تأتي الضربة من اليمين إلى اليسار. وهذا هو ما تسلمناه بالتقليد تماماً، فالمتوارث عند الآباء أنه طُعن في جنبه الأيمن.
«وللوقت خرج دم وماء»: «الذى أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه.» (رؤ5:1‏)؛ «وقد غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف.» (رؤ14:7)
‏اهتمام القديس يوحنا لهذه الحقيقة بشهادة موثقة من الحق، جعل الآباء ينظرون إليها نظرة روحية ولاهوتية خاصة. لأن اشتغال القديس يوحنا الأساسي هو الشهادة للاهوت المسيح, وأول وأهم معنى لخروج الدم والماء من جسد المسيح الميت هو الأمر الذي يخالف طبيعة الإنسان، هذا يعنى أن الجسد مات، ولكن لم ير فساداً وبالتالي فهو جسد ابن الله حقاً.
+ فخروج الدم والماء معاً شىء، وخروج الدم له معناه، ثم خروج الماء له معناه أيضاً.
+ فخروج الدم والماء معاء يذكرنا بكأس العشاء، وهو كأس الإفخارستيا الممزوج. فنحن هنا أمام صورة حية لذبيحة ميتة، على مستوى التحقيق البشري، بالرؤيا العينية، والمعاينة الفاحصة، وشهادة شهود جنود متمرسين في القتل. وفي نفس الوقت، ذبيحة حية عل المستوى الفائق على الطبيعة، فينبوع الدم والماء، ولو أن له الشكل والقوام والمادة الطبيعية، ولكنه في مناسبة وفي وضع يخالف كليا وبصورة قاطعة كل دلائل الموت الطبيعي وعلاماته التي تمت وكملت. فالحياة هنا التي يتحرك بها الدم والماء، هي حياة فائقة عن علامات الحياة الطبيعية للدم. إذن، فهي جسد ميت بحسب الإنسان، وهي، وبآن واحد، ذبيحة حية ناطقة على المذبح الناطق السمائي، بحسب الإيمان، تعلن أنه قد تم الفداء، وأن العقوبة اُستكملت، فتم الغفران أيضاً. فالموت بآلامه قبل بكل شروطه من الحي الذي لا يموت، وبه استطاع البار أن يبرر كثيرين.
‏كذلك، نحن هنا أيضاً أمام صورة حية طبق الأصل من ليلة العشاء: «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت28:26). فخروج الدم والماء من جسد المسيح الميت, هو بمثابة ينبوع الحياة الأبدية الذي انفتح على الكنيسة على يد القديس يوحنا وبشهادته. فالكأس الذي قدمه المسيح ليلة العشاء, بعد أن قسم ومزق الجسد، والدم فيه على مستوى السر, استعلنه اليوم والجسد ممزق (مكسور) بالفعل، والدم مسفوك بالحق. فهناك إفخارستيا علنية، وهنا إفخارستيا علنية مشروحة.
+ أما خروج الدم بحد ذاته, سائلاً يسيل ويجري، ويخضب الجسد، فهذا علامة الحياة ولا شك، ولكن أي حياة؟ فدم المسيح هو «بروح أزلى», «فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلى قدم نفسه لله, بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة، لتخدموا الله الحي.» (عب14:9)
‏وعلى خروج «الدم» من جنب المسيح المطعون، ورثنا صلاة القسمة السريانية التي يقولها الكاهن وهو «يقسم الجسد»:
‏هكذا بالحقيقة تألم كلمة الله بالجسد, وذُبح وأحنى رأسه على الصليب, وانفصلت نفسه من جسده, أما لاهوته فلم ينفصل قط لا من نفسه ولا من جسده, وطُعن بالحربة وجرى منه دم وماء غفرانا لكل العالم, وتخضب بهما جسده وأتت نفسه واتحدت بجسده, وعوض الخطية المحيطة بالعالم مات الابن بالصليب وردنا من التدبير الشمالي إلى اليمينى, وأمن بدم صليبه وألف السمائيين مع الأرضيين، والشعب مح الشعوب والنفس مع الجسد, وفي ثالث يوم قام من القبر, ‏واحد هو عمانوئيل ‏وغير مفترق إلى طبيعتين من بعد الأتحاد, وغير منقسم إلى طبيعتين, هكذا نؤمن وهكذا نعترف وهكذا نصدق, أن هذا الجسد لهذا الدم، وهذا الدم لهذا الجسد, أنت هو المسيح إلهنا الذى طُعن فى جنبه ‏فوق الجلجثة بأورشليم لأجلنا, أنت هو حمل الله الحامل خطية العالم, اغفر ذنوبنا واترك خطايانا وأقمنا عن جانبك اليمين. (القسمة السريانية)
‏بهذا المعنى يقدم لنا العالم وستكوت, بكل جرأة، وهو أسقف كرسي درهام بإنجلترا، وكان أحد لوردات مجلس العموم في زمانه، يقدم لنا هذا التفسير بهذا المعنى:
(نحن نؤمن أنه من اللحظة التي مات فيها المسيح بدأ جسد الرب يأخذ استعداده بالتغييرات التي انتهت باستعلان القيامة. وأن خروج الدم والماء من جنبه، يلزم أن يعتبر كعلامة حياة من موت. وهي تكشف عن حقيقة بشريته, وبمعنى سري, دوام الحياة البشرية فيه. فهو، ولو أنه ميت، فهو ميت بالنسبة لحياتنا المائتة، إلا أن الرب كان حيا، وبينما كان معلقاً على الصليب أعلن علنا أنه ينبوع لقوة التطهير والحياة التي كانت تتبعه حياً وميتاً.)
+ وأما خروج الماء بحد ذاته, فهو يذكرنا في الحال بقول الرب: «من آمن بي، كما قال الكتاب، تخرج من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه» (يو38:7-39). إذا, أصبح خروج الماء من جنب المسيح, هو بالحري أعظم تعبير عن الروح الذي اُستعلن منسكباً من جسد المسيح الميت! وهل مات المسيح إلا لكي يعطينا حياته؟ إذن، فالماء الذي خرج من جنب المسيح كان يحمل الحياة. ونحن لو تأملنا في سر المعمودية, باعتباره سر الموت مع المسيح, لانتبهنا في الحال أننا في المعمودية ننال الاغتسال الروحي بالماء، الذي خرج من جنب المسيح الميت الحامل للحياة. أي أننا، إذ نموت معه، ننال الحياة من سر الماء لنحيا كما هو حي. فى المعمودية هو سر موت مع المسيح، لحياة مع المسيح. وبمعنى آخر هو ولادة جديدة؛ لأن الولادة الجديدة, الثانية, تحتم موتأ مسبقاً للولادة الاولى. وموت هذه الولادة اللحمية ماته المسيح من أجلنا، حتى نجوز مباشرة بموته إلى الولادة الثانية الروحية، أي نحيا معه. هكذا نفهم أن الماء الخارج من جنب المسيح، هو حقاً خارج من جسد ميت، ولكنه حقاً بالحقيقة مُحيي وحامل الحياة الجديدة لميلاد الإنسان الجديد. فهو أعظم تعبير لاهوتي عن سر المعمودية.
‏ونقدم هنا بعض تفسيرات للأباه القديسين والعلماء الأولين:
أولاً: الشرقيون:
1- كلوديوس أبوليناريوس: هو قديس تعيد له الكنيسة الغربية إلى الآن في 8 يونيو، عاش في القرن الثاني سنة 0170> وله كتابات وصلت إلينا أسماؤها وبعض محتوياتها، ولكن معظمها ضاع. كان مدافعأ قوياً عن الإيمان، له دفاع قوي ضد ماوكوس أوريليوس، ويعتبر أول من شرح معنى خروج الدم والماء، وقد نسبهما إلى الكلمة, كلمة الإنجيل, والروح التقديسي، بمعنى أنهما شهادة تاريخية وسرية.
2- أوريجانوس: ‏مصري سكندري (185-254). وهو عالم لاهوتي وشارح للانجيل (وله أخطاء مأخوذة عليه). وقد أخذ عنه القديس جيروم رأيه في الدم والماء أنهما علامتا حياة في الجسد الميت: (في كل الأجساد الميتة يتجمد الدم ولا يخرج منها ماء نقي. ولكن نجد في المسيح العجيبة في جسده، أنه وحتى بعد الموت كان في الجسد دم وماء، خرجا من جئبه).
3- كيرلس الأورشليمي: نسب الدم والماء إلى نوعي المعمودية، معمودية الماء ومعمودية الدم: (إن المخلص إذ قد فدى العالم بالصليب، لما طُعن في جنبه، أعطى الدم والماء حتى إن البعض في أيام السلام يعتمدون بالماء، والأخرين في أيام الاضطهاد يعتمدون بصبغة دمائهم، أي بدم موتهم).
4- يوحنا ذهبي الفم (عظة 85): (ليس كأنه بدون سبب أو كأنها صدفة أن يخرج هذان من جنب المسيح. ولكن لأن الكنيسة تأسست بهذين معاً. والذين انفتحوا على الإيمان يعلمون هذا، إذ أنهم وُلدوا ثانية من الماء، واُطعموا من الدم والجسد. إذا، فهذان السران ابتدأ من هنا، حتى حينكا تتقرب إلى الكأس المقدس الرهيب، تعلم أنك تشرب في الحقيقة من ذات الجنب المطعون).
5- القديس كيرلس الإسكندرى: (إن الرب قد عين هذه الحقيقة لتكون هي الصورة الأولى لسر الأولوجيا (الإفخارستيا) وسر ‏المعمود‏ية المقدسة. لان المعمودية المقدسة هي بالحقيقة من المسيح ابتدأت، وبالمسيح تُكمل، وقوة الأولوجية المقدسة تنبع لنا من جسده المقدس).
6- القديس ‏غريغوريوس النزينزي: (ومزجت لنا كأساً من كرمة حقيقية التي هي جنبك الإلهي غير الفاسد, هذا الذي من بعد أن أسلمت الروح فاض لنا منه ماء ودم، هذان الصائران طهراً لكل العالم)
7- أبوليناريوس من لاودكا: (الرب قدم لنا جنباً عوضاً عن جنب, فالمرأة, حواء, التي أتت من الجنب، الشر الذي أتى منها حله الرب بآلامه، لأن من جنب أتت المشورة التي أفسدت الإنسان، ولكن من الجنب المقدس نبع لنا ماء ودم, وبهما اغتسل العالم من خطاياه. والمادتان اللتان كانتا تعملان بانفراد في الناموس، جاءتا معاً فيه، كان في الناموس رش الدم للتطهير, والماء للتقديس. لأن كل شيء قد رُتب مسبقاً، ليكون بجسد المسيح، الدم والماء الأقدسان، حتى وان كان الجسد قد مات بالفعل على الوضع البشري، إلا أنه يملك في نفسه قوة الحياة ‏العظمى).
‏ثانياُ: العلماء والآباء اللاتين (الغرب):
1- ترتليان: (الاستشهاد هو معمودية أخرى. والدم والماء، عنصرا التطهير والتقديس, نبعا من الجنب المجروح للرب … فلنا تطهير ثان قائم بذاته، هو تطهير بالدم, الذي قال عنه الرب: «لي صبغة أصطبغ بها» (لو50:12). وها هوذا قد اصطبغ وجاء لنا بالماء والدم. وإذ نعتمد بالماء، نتمجد بالدم. نُدعى بالماء, ونُختار بالدم. لهذا أرسل لنا هاتين المعموديتين من جنبه المجروح، حتى إن كل من يؤمن، يغتسل بدمه، والذي يغتسل بالماء يستعد لشرب الدم). (لقد مات، لكي من الجرح الذي أصاب جنبه, تتشكل الكنيسة الأم للأحياء بالحقيقة).
2- القديس أمبروسيوس: يأخذ نفس أفكار أوريجانوس ثم يشرحها؛ (بعد الموت يتجمد الماء في أجسادنا, ولكن من الجسد الذي لا يفسد, مع أنه ميت, نبعت منه حياة للكل, الماء والدم اللذان خرجا منه, الماء للاغتسال، والدم للفداء).
3- القديس أغسطينوس: (إن رقاد أدم, لكي يصنع الله من ضلعه حواء، كان موتاً للمسيح؛ لأنه لما علق على الصليب بلا حياة، وطُعن جنبه بالحربة, خرج منه دم وماء، ونحن نعلم أنهما السران اللذان بهما بُنيت الكنيسة، التي هي رمز حواء).
‏هكذا يرى القارىء أن موضوع خروج الدم والماء من جنب المسيح, احتل ركناً هاما من تفسيرات الآباه في الشرق والغرب, الذين ردوه إلى العناية الإلهية، كتدبير سابق تأسيسه منذ خروج حواء من جنب أدم، ومنذ أن ضربت الخطية جذورها السامة في طبيعة الإنسان وقتلته. وقد استعلن الآباه عموماً في هاتين العلامتين, الدم والماء, العنصرين المؤسسين لسري الكنيسة, الإفخارستيا والمعمودية, أو بالمعنى الذي يحويه «الدم والماء» سر استبدال الموت بالحياة في الاغتسال بالماء الحي الخارج من جنب المسيح، الميت؛ وذلك بعد الانفكاك من أسر العبودية للخطية, بالفداء بسر الدم الذي نبع من الجنب المطعون, أي من الذبيحة الحية!
هذا الحادث يسجله القديس يوحنا في رسالته الأولى. ولكن عند تدوين القديس يوحنا لإنجيله، كانت قد ترسخت في ذهنه هذه الرؤية الواقعية التي رأها وهو واقف تحت الصليب، والكنيسة (الأم) مستندة على ذراعيه. وقد سجلها في رسالته قبل كتابة إنجيله بزمن ليس ببعيد, ووثقها أيضاً بالشهادة، ثم رفع شهادته إلى مستوى شهادة الحق, أي الله: «هذا هو الذي أتى بماء ودم, يسوع المسيح. لا بالماء فقط, بل بالماء والدم, والروح هو الذي يشهد, لأن الروح هو الحق.» ( ايو6:5)
‏المعنى المختبىء هنا هام للغاية، فكلمة «أتى» فيها إفادة تاريخية قائمة على انتظار سابق، بلا شك حدده الله بواسطة الأنبياء. وتشديد القديس يوحنا على تلقيب المسيح بأنه «يسوع المسيح» يفيد أن «الماء والدم» يتعلقان به شخصياً من واقع رسالته وشخصه الإلهي (المسيا= يسوع) المستعلن. أي أن عنصري الماء والدم يتعلقان تعلقاً أساسياً بوظيفة المسيح الخلاصية وطبيعته الإلهية، ويعلنان هذا، لأن القديس يوحنا سيتمادى بعد ذلك ويجعل هذين العنصرين يشهدان للمسيح ولنا.
‏الدم: بلا شك يتعلق «الدم» هنا بما تم عل الصليب؛ فالمسيح «جاء بالدم» من واقع ذبيحته. والدم على الصليب هو عمل الفداء، الذي هو موضوع مجيئه الأساسي. فيينبوع الدم الذي انفتح بالحربة، بعد كمال الموت, أي بعد تكميل ذبيحة الفداء, هو بعينه ينبوع الفداء والخلاص. فالمسيح جاء بهذا الدم، وإن كان بشكله وقوامه الطبيعي، ولكن أيضاً بمستواه «الإلهى», «بروح أزلى», «وبقوته الفدائية» بسبب «ذبيحته الكفارية», «وقوة الحياة» التي فيه, التي «لا تزول», وذلك عوض رش دم الحيوانات المذبوحة في العهد القديم، والتي كان مفعولها قاصراً عل تخليص الجسد من العقوبة الجسدية. وفي هذا المعنى، وبهذا الدم، أصبحت كلمة «الفداء بالدم»، وعمل الدم الإلهي، بكل معانيها الروحية العالية التي وردت في الأسفار المقدسة، منبثقة من هذا الدم المنسكب حياً من الجنب الميت المطعون، لذبيحة المسيح الفدائية.
‏+ فبهذا الدم صرنا نحن غير اليهود قريبين من الله والمسيح: «ولكن الآن في المسيح يسوع، أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين، صرتم قريبين بدم المسيح.» (أف13:2)
+ وبهذا الدم تم الصلح بين مطالب الله العالية وعجزنا الفاضح: «عاملاً الصلح بدم صليبه.» (كو10:1)
+ وبهذا الدم يتم تقديس الإنسان ودخوله في العهد الجديد لله: «… دم العهد الذي قدس به.» (عب29:10)
+ وبهذا الدم يعبر عنا ملاك الهلاك لننجو: «وهم غلبوه بدم الخروف, وبكلمة شهادتهم.» (رؤ11:12)
+ وبهذا الدم نحصل على الكفارة فلا نُطالب بدين الموت: «… بالإيمان بدمه, لإظهار بره، ‏من أجل الصفح عن الخطايا السالفة.» (رو25:3)
+ وبهذا الدم نحصل على التبرير المجاني باعتبار الدم ثمناً مدفوعاً عن كل الخطايا: «متبررون الآن بدمه» (رو9:5‏)
+ وبهذا الدم نكون قد اغتسلنا من كل دنس وتعد، وصرنا أطهاراً أمام الله: «غسلنا من ‏خطايانا بدمه.» (رؤ5:1‏)
+ وبهذا الدم يكون المسيح قه اشترانا من العالم لحساب الله أبيه، لنحيا معه: «…‏واشتريتنا لله بدمك.» (رؤ9:5)
+ وبهذا الدم نتطهر من جميع خطايانا: «ودم يسووع المسيح ابنه، يطهرنا من كل خطية.» (1يو7:1)
واضح أيضاً هنا أن اللاهوت المسيحي المتركز في عملية الفداء والكفارة والخلاص يدور كله حول «الدم» ولكن أية حالة من حالات الدم؟ لا بد أن يكون الدم الذي له هذه الفعاليات والصلاحيات العظمى، دماً مسفوكاً, دم ذبيحة اُكملت حتى الموت التام, دماً حياً فيه قوة حياة أبدية من ذبيحة إلهية ميتة موتاً اختيارباً ولكن بلا أي عيب ولا لوم. وهذه الشروط جيعا تنجمع في الدم الخارج من جنب المسيح المطعون, بعد أن قال: «قد أكمل»، وقد شهد شهود محايدون بصحة وكمال موته, بعد أن تأكدوا, بطعنة قاتلة, التي لم تزد الموت موتاً، ولكنها ‏فجرت من الموت حياة!!
الماء: كان الماء الخارج من جنب المسيح الميت يشبه الماء الذي صبه إيليا على الذبيحة ولحستها النار الإلهية وقت إصعاد الذبيحة, والقصة شيقة وهي كالأ تي: كان إيليا يتحدى أنبياء البعل الذين قدموا ذبيحتهم فلم يقبلها الله، فقدم هو ذبيحته ووضع الماء عليها للتعجيز، أو لإظهارمعجزة قبول الله لذبيحته كالأتي: «ثم رتب الحطب، وقطع الثور، ووضعه على الحطب، وقال: أملأوا أربع جرات ماء، وصبوا على المحرقة وعل الحطب، ثم قال: ثنوا، فثنوا. وقال: ثلثوا، فثلثوا. فجرى الماء حول المذبح، وامتلأت القناة أيضاً ماء. وكان عند إصعاد التقدمة، أن إيليا النبي تقدم وقال: أيها الرب، إله إبراهيم واسحق واسرائيل، ليُعلم اليوم أنك أنت الله في إسرائيل، وأني أنا عبدك، وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور. استجبني يا رب، استجبني. ليعلم هذا الشعب أنك أنت الرب الإله، وأنك أنت حولت قلوبهم رجوعاً. فسقطت نار الرب، وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب، ولحست المياه التي في القناة.» (امل33:18-38)؛ كانت «المياه» في ذبيحة إيليا هي المعجزة الأوولى، لأن عنصر الماء عنصر يقاوم النار، ويمكن أن يطفئها إذا لم تكن ناراً إلهية، لها شكل النار المادية، ولكها فائقة ومتفوقة عن عل عجزها، ولها القدرة أن تُشعل الماء كالحطب سواء بسواء.
‏هكذا كان خروج الماء من ذبيحة المسيح يخالف ويقاوم معنى الموت الذي ماته، لو لم يكن موت المسيح الذي ماته موتاً له شكل الموت الجسدي ولكنه موت فائق عن عجز الجسد، وله قدرة أن يطفىء الموت ذاته ويحيي الجسد!
‏حينما تقدم المسيح ليعتمد من يد يوحنا المعمدان, امتنع هذا وقال: «أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي؟ فأجاب يسوع وقال له: اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر. حينئذ سمح له» (مت14:13-15) إذاً, فالمعمودية في نظر المسيح هي تكميل للبر.
‏الماء الخارج من ذبيحة المسيح هو لتكميل البر. لذلك ذكره القديس يوحنا في إنجيله بعد الدم، وليس قبل الدم. المسيح لما صعد من ماء المعمودية، انفتحت السموات، ونزل روح الله وحل على المسيح، واستقر، وصوت الآب من السماء قال: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت». هذا كله يستعلن لنا معنى المعمودية وقوتها عند المسيح, وفيه، بل ومنه أيضاً . فهي أولاً مرتبطة بالسماء من فوق, وعلاقتها أساسية بروح الله, فهي من من أسرار السموات، وسر يقوم فيه روح الله بالعمل الأساسي. أما قوتها فواضحة في استعلان البنوة لله الحائزة على مسرة الله. وماء الأردن تحت يد يوحنا, استعلن لنا سر المعمودية الأعظم في المسيح. إلى هنا تنتهي مهمة معمودية يوحنا، أي تنتهي باستعلان وقيام المعمودية القائمة في المسيح بالروح. هنا تسليم وتسلم، ماء المعمدان يسلم ماء الروح في المسيح, فينتهي عمله.
‏معمودية يوحا انتهت، أي توقفت، بخروج ماء الحياة من جنب ذبيحة المسيح المطعون؛ التي هي المعمودية الجديدة من جنب المسيح، حيث بدأت الحياة الجديدة للانسان بروح الله وبدأ فعل بر العهد الجديد يملأ العالم: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم, وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (مت19:28)
‏والآن، لننظر مرة أخرى لينبوع الماء والدم الفائض من جنب ذبيحة المسيح المطعون وهو ميت، كيف امتد هذا الينبوع, ينبوع الدم والماء, امتداداً تاريخياُ وسرياً بآن واحد، من ناموس موسى كعنصر للتطهير المادي والتقديس الشكلي في العهد القديم؟
«الماء والدم»: ‏الماء, كان في العهد القديم لغسل الأدوات أو لغسل الجد للتطهير الماد‏ي من الدنس الشكلي؛ كمجرد ‏غسيل.
‏والدم, وهو دم حيوانات, كان يستخدم بالرش أيضاً للتطهير الشكلي: «لأن موسى بعد ما كلم جميع الشعب بكل وصية بحسب الناموس، أخذ دم العجول والتيوس, مع ماء وصوفاً قرمزياً وزوفا , ورش الكتاب نفسه وجميع الشعب قائلاً: هذا هو دم العهه الذي أوصاكم الله به. والمسكن (الهيكل) أيضاً وجميع آنية الخدمة, رشها كذلك بالدم, وكل شيء تقريبا يتطهر حسب الناموس بالدم, وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عب19:9-22)؛ حيث المغفرة، هي رفع عقوبة جسدية عن خطية اقترفت بدون عمد ضد وصايا شكلية للناموس.
‏بهذا يتجلى أمامنا مسار التاريخ وسر الله، من ناموس موسى إلى ناموس المسيح، فينبوع الماء والدم الخارج من جنب المسيح يحمل نفس العنصرين إنما للتطهير والتقديس الروحي للعهد الجديد: «دم المسيح الذي، بروح أزلي, قدم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي» (عب14:9)، «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا.» (مت28:26)
‏كذلك الماء الذي كان «لغسل كؤوس وأباريق وآنية نحاس وأسرة» (مر4:7‏)» أصبح ماء المعمودية الجديدة بالروح, ماء لغسل الخطايا: «قم، واعتمد واغسل خطاياك» (أع16:22)، ماء يغتسل به للخلاص: «لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثانى, وتجديد الروح القدس» (تى5:3)، وماء لميلاد جديد للانسان بالروح، لميراث ملكوت الله: «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.» (يو5:3)
‏هكذا نرى أن شهادة القديس يوحنا لهذا السر الذي استعلن في آخر لحظة بطعنة الحربة, والذبيحة معلقة على الصليب، ربطت ربطاً محكماً بين تسلسل الدور التاريجي بالنسبة لعمل الماء والدم في العهد القديم الذي لم يكن له أي قيمة من جهة الروح، وعمل الماء والدم بجوهرما الروحي، بل الإلهي، في العهد الجديد، كونهما نبعا من ذبيحة المسيح الفدائية بعد تقديمها على الجلجثة وقت المساء: ‏«هذا هو الذي أتى بماء ودم، يسوع المسيح، لا بالماء فقط, بل بالماء والدم. والروح هو الذي يشهد، لأن الروح هو الحق.» (ايو6:5)
القديس يوحنا في رسالته الأولى، يحذر من الانتحاء ناحية الفصل بين عمل الماء وعمل الدم، فالفداء حتمي، وله الأولوية في قبول المسيح وفي شهادة الإيمان. لذلك وضع القديس يوحنا الشهادة لخروج الدم قبل الماء (يو34:19‏). فقبل العماد، يلزم الاعتراف والشهادة بالدم المسفوك بموت المسيح على الصليب كفارة للخطايا. هنا يجوز العماد، ويكون العماد بمثابة ختم الروح على الخليقة الجديدة المفدية لله. القديس يوحنا لا يقبل فصل السرين، ويؤمن بعملهما معاً.
‏ولقد انتحى الآباء في إقامة سر الأولوجيا (الإفخارستيا) منذ بكور ممارسته في الكنيسة سواء في تعاطيه أو في شرحه, إلى مزج الخمر بالماء لهذا الغرض بالذات، أي لجمع فعل الدم والماء الخارجين من جنب المسيح معاً في كأس واحدة.
‏وإليك طعن في صحة تقديم كأس الإفخارستيا بدون مزجه بالماء:
[ليت الآرمن يخزون، الذين لا يمزجون الماء بالخمر في الأسرار, لأنه يبدو أنهم لا يؤمنون بخروج الماء, بل الدم فقط, من جنب المسيح التي هي المعجزة الأعظم] ….. ثيئوفيلا كت
‏وثيئوفيلا كت هذا كان بطريركاً لبلغاريا في القرن الحادي عشر. وهو يتبع القديس ذهبي الفم في آرائه، وقد شرح كل العهد الجديد بلغة سهلة وتأمل عميق.
«والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح والماء والدم, ‏والثلاثة هم في الواحد» (1يو8:5 ‏)
‏واضح أن جمع «الماء» و «الدم» و «الروح» ‏معاً كثلاثة على التساوي، هو محاولة لجعها شهادة قانونية من ثلاثة: «على فم شاهدين أو على فم ثلاثة شهود يقوم الأمر.» (تث15:19)
‏ويلاحظ أن مفردات هذه الآية جاءت لغوياً هكذا: كلمة «الروح» (محايدة), و«الماء» (محايد)، و «الدم» (محايد) ثم في الحال يرفع الكاتب المحايد إلى حالة المذكر العاقل في لفظ «ثلاثة»، سواء في البداية بقوله: «هم يشهدون»، أو في النهاية بقوله: «والثلاثة هم …».
‏والقديس يوحنا جعل شهادة الدم والماء والروح، كل من الثلاثة له شهادة في الإنساذ كقوة. ولكن القديس يوحنا لما أضاف «الروح» و«الدم» و«الماء» معا، صار الثلاثة ولهم ضمير مذكر سالم. أي أن «الثلاثة» يعبرون بفم شخصي واحد، بمعنى أن كل من الماء والدم ينطق بالروح في الإنسان نطقاً، بفعل الله الذى تم. ففي المعمودية، الروح يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله، والدم في الإفخارستيا: «إلى وسيط العهد الجديد يسوع، والى دم رش، يتكلم أفضل من هابيل.» (عب24:12)
‏وفي الحقيقة إن الذى يشهد للمسيح في العالم من داخل الكنيسة، هو الماء في المعمودية، والدم في الإفخارستيا، والروح في التكريس والتقديس من داخل هذه الأسرار: «فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز، وشربتم هذه الكأس، تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» (اكو26:11)، «ونحن شهود له بهذه الأمور، والروح القدس أيضاً الذي أعطاه الله للذين يطيعونه.» (أع32:5‏)
‏والإهتمام البالغ الذي ركز به القديس يوحنا على ينبوع الدم والماء الخارج من جنب ذبيحة المسيح المطعون، والذي استجبنا نحن أيضاً له وركزنا على تركيزه، إنما كان لسبب لاهوتي واضح، وهو أن القديس يوحنا يرى في الجسد المصلوب على الصليب قمة إنجيل الخلاص، ومنتهى عمل الله للفداء، وأنه هو هو «حمل الله الذي يرفع خطية العالم»، كما سمع ذلك من فم معلمه الأول المعمدان (يو29:1)، وهو ينبه ذهن القارىء إلى أن الدم والماء الخارجين من جنب المسيح، يحملان له الغسل الحقيقي من خطاياه، والتقديس الداخلي لحياة جديدة، والدخول في عهد المسيح بدمه. وهو يعدد في رسالته، ويكشف، عمل الروح القدس من خلال سري الدم والماء، والشهادة الحية الشخصية التي يشهد بها الروح والماء والدم بفم واحد للمسيح في داخلنا أنه ابن الله، وأنه أعطانا الحياة الأبدية. فإذا قبلنا شهادة الروح للمسيح، صارت لنا حياة أبدية؛ وكل ذلك في تسلسل بديع:
«والذين يشهدون, للمسيح, في الأرض هم ثلاثة الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد»، «هذه هي شهادة الله، التي قد شهد بها عن ابنه»، «من يؤمن بابن الله، فعنده الشهادة في نفسه»، ‏«وهذه هي الشهادة, أن الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هي في ابنه»، «من له الابن، فله الحياة؛ ومن ليس له ابن الله، فليست له الحياة.» (1يو8:5-12)

35:19 والَّذِي عَايَنَ شَهِدَ وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ.

القديس يوحنا يعلن صراحة أنه كان شاهد عيان, وليس بالمشاهدة العابرة. بل إنه «عاين» أي تحقق من الرؤيا, وكلمة «شهد» تفيد هنا أنه سجلها في إنجيله، وهو نفسه يختم على هذا التسجيل أنه حق, لسيب هام وخطير، لا يستطيع أن يبوح به علنا، وهو لا يخرج عن أن الروح القدس كان يوضح له الحقائق التي يرى بالإلهام والفهم، ويؤكد له بالروح صحة ما يمليه عليه ويكتبه.
‏ثم يعود القديس يوحنا يختم على صدق روايته ومعاينته لهذه المعجزة فيقول، إنه يعلم أنه يقول «الحق» بمعنى أنها ليست رواية شخصية من رؤيا شخصية, إنه في كمال إدراكه ووعيه المسيحي وليس عن دهش أو منظر معقول أو غيبة. بمعنى أن الإملاء الروحي من الروح القدس لم يأته وهو في غيبوبة, بل وهو في صحو الذهن وكمال ملكة الإدراك والتمييز. أما لماذا هذا الإثبات لصحة ما كتب، فهو ليؤمن القارىء. ليس مجرد الإيمان بخروج الدم والماء فقط بل بكل ما كتبه. فغاية القديس يوحنا من إنجيله هي الإيمان الكلي بالمسيح!

36:19 لأَنَّ هَذَا كَانَ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: «عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ».

القديس يوحنا بقوله: «هذا كان ليتم الكتاب» يجمع بين حادثة عدم كسر عظام الساقين مع حادثة طعن جنبه بالحربة, لأن الأولى تسببت في الثانية. وهنا موضع التدبير العجيب، فلأنهم وجدوه قد مات, فلم يجدوا ضرورة لكسر الساقين, وهكذا تحاشى التدبير الإلهي أن تمس عظام المسيح بأذى، وذلك بحسب الطقس والنبوة معاً. ولكن لكي يتأكدوا من موته بالأكثر لجأوا إلى طعن جنبه بالحربة، فكان هذا بدوره تدبيراً آخر لتتم النبوة، وفي نفس الوقت لتستعلن قوة الحياة النابعة من ذبيحة الموت.
«عظم منه لا يُكسر منه»: الإشارة المباشرة هنا لطقس خروف الفصح الذي كان هو الرسم التحضيري لذبيحة الفصح الحقيقية، كما سبق الشرح في الآية31:19 وما بعدها. أما الإشارة الثانية، فهي تخص تتميم النبوة «كثيرة هي بلايا الصديق، ومن جميعها ينجيه الرب، يحفظ جميع عظامه, واحد منها لا ينكسر.» (مز19:34-20)
‏والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: وهل كان المسيح يجوز هذه الحوادث المحددة ليتم المكتوب عنه في النبوات؟ والجواب على هذا هو العكس تماماً، فأنه سبق وأنبأ بالروح على فم الأنبياء على مدى عصور مختلفة ومتباعدة ما سيلاقيه المسيح عند مجيئه. والسبب في ذلك هو غاية في الأهمية والخطورة، وهو لكي حينما يتمم المسيح المكتوب عنه, يتعرف عليه حفظة الناموس والأنبياء، ولا يكون عذر البتة لمن ينكره أن يتنكر له: «لو لم أكن قد جئت وكلمتهم, لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم» (يو22:15)، «لو كنتم تصدقون موسى، لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني. فأن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك, فكيف تصدقون كلامي» (يو46:5-47‏)، «فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية, وهي التي تشهد لى.» (يو39:5)
‏فالإيمان بالمسيح، في بداية الكرازة, كان يقع بين النبوة وتتميمها؛ لأن ما سبق وكتبه الله بالروح على قلوب الأنبياء ونطقه على ألسنتهم، كان يلزم حتما أن يتم! ولهذا السبب كان التشديد على إجراء طقس تقديم الفصح واكله بكل حذر وتدقيق، حتى يتسلط نور النبوة الطقسي على ذبيحة المسيح في حينها، للتعرف عليه والحفاظ على هيكل جسده سالما: «لا يبقوا منه إلى الصبأح، ولا يكسروا عظماً منه، حسب كل فرائض الفصح يعملونه.» (عد12:9‏)
‏ولعل الأمر المشدد عليه بأن «لا يبقى منه إلى الصباح»، هو الذي كان وراء سرعة إنزاله من على خشبة الصليب لتكتمل فيه ملامح الفصح، خلواً من كرامة السبت التي ظهرت في الطريق.
‏وإن كان الأمر في الطقس يختص بخروف الفصح بحد ذاته، فماذا كان يضيره لو تكسرت كل عظامه؟ أو لو بقي ممه شيء إلى الصباح، إن كانت هي مسألة أكل وذكرى وتاريخ؟ ولكن كان الطقس يحمل ملامح إلهية دقيقة وحساسة, ليبرز في الميعاد الصورة المجيدة للفصح الحقيقي الذي عظمه هو هيكل الله, الذي لا يستطيع أحد أن يفسده, بل هو الإنسان الجديد الكامل في كل شيء حسب صورة خالقه، بل هو الكنيسة التي لا عيب فيها! فنحن، وعلى ضوء حقيقة ذبيحة المسيح الإلهية، لو عدنا إلى تدقيقات الطقس، نجد كيف أحاط الناموس ذبيحة الفصح القديم بهيبة وجلال وتقديس تفوق في اهتمامها البالغ ما تستحقه ذبيحة حيوانية! وذلك كان، في الحقيقة، هو سبق تصوير بارع لحقيقة ومضمون الفصح الإلهي! ومجد القيامة بذات الهيكل الجسدي الذي مات مقاما في المجد والكرامة.

37:19 وَأَيْضاً يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ: «سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي طَعَنُوهُ».

‏الإشارة هنا إلى سفر زكريا: «وأفيض عل بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات، فينظرون إلي (أنا) الذي طعنوه، وينوحون عليه، كنائح عل وحيد له، ويكونون في مرارة عليه، كمن هو في مرارة عل بكره» (زك10:12). ولكن القديس يوحنا، هو نفسه، سبق في سفر الرؤيا وسجل هذا المشهد الحزين لعودة المسيح وجنبه كما هو مفتوح، فيتعرف عليه الذين طعنوه سواء بالحربة، أو بالتجديف، أو الإنكار، أو بالخطية: «هوذا يأتي مع السحاب، وتنظره كل عين، والذين طعنوه، وينوح عليه جميع قبائل الأرض، نعم آمين» (رؤ7:1). ولكن من حيث تكميل النبوة، يكون المقصود هو سفر زكريا فقط. وقد عدل القديس يوحنا ما جاء في السبعينية في قول النبي من : «فينظرون إلى» بصيغة المتكلم، إلى «ينظرون إلى الذي طعنوه» بصورة الغائب ‏ويقال أن هذا هو الأصح.
‏وهكذا، كما جاءت الطعنة لتكميل نبوة سابقة، هكذا أيضاً جاءت الطعنة كعلامة مرافقة لجنب المسيح، حيث ستكون علامة تبكيت مر للذين طعنوه, كالذي ذاقه بطرس عند صياح الديك بعد أن أنكر من أحبه.
‏ولنا مقابلة أخرى وشيكة مع جنب الرب المفتوح، الذي وضع توما يده فيه فصرخ: «ربي وإلهي». وهكذا أصبح الجنب المفتوح في إنجيل القديس يوحنا علامة تكميل نبوة سابقة منذ الدهر السالف، وعلامة استعلان قادمة من الدهر الاتي، كما انه علامة تعرف وايمان، والجرح طري ينطق بالقيامة من الأموات. منه خرج سران، وتشكلت كنيسة، وانفتح لنا باب السماء عبر الحجاب الذي شقته الحربة المباركة.
‏الثاني: طلب جسد يسوع
«مبادرات محبة نشطة من تلاميذه جريئة, ولكن في الخفاء»!


38:19 ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ وَهُوَ تِلْمِيذُ يَسُوعَ وَلَكِنْ خُفْيَةً لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ سَأَلَ بِيلاَطُسَ أَنْ يَأْخُذَ جَسَدَ يَسُوعَ فَأَذِنَ بِيلاَطُسُ. فَجَاءَ وَأَخَذَ جَسَدَ يَسُوعَ.

‏هنا، وفي الآية القادمة، نشعر بحركة صحوة بين تلاميذ خاملين كانوا في الظل، أو بحسب تعبير القديس يوحنا: «خفية لسبب الخوف»، هذا من جهة هذا الرجل المقدام يوسف الرامي. أما من جهة نيقوديموس، فيسرع القديس يوحنا ويعرفنا بزيارة الليل والظلام، هناك في البداية!
‏الموت الذي شتت صف تلاميذ النهار، ورحلات الحب ودروس الجبل، جذب الصف الثاني من تلاميذ الخفاء والخوف وزيارات الليل؛ لأن جلال الموت لمعلم محبوب، يشعل نار الجرأة في بعض القلوب النبيلة. والعرفان بالفضل والجميل، له عشاقه ورواده في وقت المحنة وزمن الملمات. والمحبة الصادقة لا تهاب المخاطر، وان كان يُحسب لها الحساب.
«يوسف الذي من الرامة»: «الرامة»: يختلف على موقعها العلماء ، فمنهم من يقول إنها المدينة المعروفة باسم «رام الله»، واخرون «الرملة»، واخرون «رامتايم صوفيم» بلد صموئيل النبي. وكون يوسف هذا من الرامة أصلاً، يعني أنه كان مستوطناً في أورشليم بداعي وظيفته التي عُين فيها كـ «مشيرا» في السنهدريم، مما اضطره للاقامة في أورشليم. وأن يذكر أن له «قبراً جديداً» بجوار سور المدينة في بستان، يعني أنه مستوطن حديثاً مما كلفه أن يكون له ملك أرض، وأن يحفر له فيها قبرا: «فأخذ يوسف الجسد ولفه بكتان نقي، ووضعه في «قبره الجديد» الذي كان قد نحته في الصخرة.» (مت59:27-60)
‏هذه الأمور، لوتأملناها معاً، لشعرنا بالعناية الإلهية التي هيأت هذا الإنسان بهذه الظروف معاً. وقد تجتعت له صفات ذُكرت في الأربعة الأناجيل هي غاية في الكرامة.
‏فالقديس متى يقول عنه: «رجل غني». وهنا الإشارة واضحة لسفر إشعياء: «وجعل مع الأشرار قبره ومع غني عند موته.» (إش9:53‏)
‏والقديس مرقس يقول: «مشير شريف, وكان هو أيضاً منتظرأ ملكوت الله, فتجاسر ودخل إلى بيلاطس، وطلب جسد يسوع.» (مر43:15)
‏والقديس لوقا يقول: «وكان مشيراً ورجلاً صالحاً بارا. هذا لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم» (لو51:23-52). ثلاث صفات عالية القدر، واخرها هي التي أهلته لهذا الموقف الأخير، والصلاح والبر هما اللذان أعلاه لشرف التلمذة ولرفض رأي اليهود وعملهم الدنيء.
‏أما القديس يوحنا فاكتفى باللقب الأكثر شرفاً: «وهو تلميذ يسوع», وان كان قد سبق وألمح إلى موقفه في الآية (42:12): «ولكن مع ذلك آمن به كثيرون من الرؤساء أيضاً، غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به لئلا يصيروا خارج المجمع، لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله» (يو42:12-43)
‏ويلاحظ أن الصفة التي يذكرها القديس لوقا كونه «مشير»، تعني، بحسب العلامة إدرزهايم، أنه عضو فى مجلس السنهدريم، خاصة ما أضافه بقوله إنه «لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم», «فالرأي» هنا هو رأي مجلس السنهدريم الأخير، «وعملهم» هو الإجراءات التي اتخذت في سبيل القبض عليه أو صلبه.
‏والقديس مرقس يستعلن لنا الصفة البارزة في هذا العضو الصالح والبار، أنه كان «متجاسرا» في ذهابه إلى بيلاطس شخصياً وطلبه جسد يسوع, مما يكشف ضمناً عن موقف لا بد أن يكون قد وقفه إزاء زملاء السوء في المجلس المشنوم، إذ لا بد أنه حجب صوته ولم يعطهم الموافقة على ما قالوه وعملوه. كما أن أقوال الأناجيل الثلاثة عن هذا الرجل توضح كيف كان يجتمع مع التلاميذ ومع المسيح، ويكشف نيات وأعمال مجلس السنهدريم والرؤساء. من هنا نعتقد أن بواسطته صارت المعرفة للتلاميذ بكل التفاصيل الدقيقة لمجريات الحوادث في الجانب الأخر, سواه قبل الصليب أو بعده.
«سأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع»: ‏لقد سبق أن وافق بيلاطس لرؤساء اليهود على هذا الطلب ضمناً مع طلب تكسير سيقان المصلوبين الثلاثة: «سأل اليهود بيلاطس أن تسكر سيقانهم, ويرفعوا.» (يو31:19)
‏ولكن يوسف هذا ذهب بمفرده ليمنحه بيلاطس حق استلام الجسد وانزاله, فأذن له بيلاطس بنوع من الإمتياز, لأن هذا الإجراء لم يكن سهلاً، إذ كان الولاة عادة يتعاطون رشاوي لمنح مثل هذه التصاريح. ولكن بيلاطس أعطى تصريحه بإيجابية سهلة, وكان هذا العمل النبيل أخر ذكر لاسمه في الإنجيل.
‏وليس من السهل أن نعبر على الاسم المبارك «يوسف» دون أن نشير إلى العناية الإلهية التي احتفظت بهذا «الغني», المشير, الصالح, البار, المتجاسر» كتلميذ ولكن في السر، إلى الميعاد الذي جُهز له، بل وربما وُلد من أجله، ليتسلم الجسد المقدس الذي للابن الوحيد من فوق خشبة الصليب، الأمر الذي لم يتجاسر عليه لا تلميذ من التلاميذ ولا حتى قريب من المقربين. ولا شك أن هذه الصفات الخمس أهلته لهذه المهمة الجليلة والخطيرة والحرجة جداً بآن واحد!
‏ثم هل لنا أن نتأمل في ما عمله «يوسف مصر» في أبيه «إسرائيل» المتغرب في مصر، كيف «وقع يوسف على وجه أبيه وبكى عليه وقبله, وأمر يوسف عبيده الأطباء أن يحنطوا أباه، فحطط الأطباء إسرائيل … فقال فرعون اصعد وادفن أباك كما استحلفك … ودفنوه في مغارة حقل المكفيلة التي اشتراها إبراهيم مع الحقل ملك قبر من عفرون الحثي أمام ممرا.» (تك1:50-13)
‏ووجه المقارنة يتعدى الأسماء والمواقف، ويدخل في صميم اللغة، فقد استخدم القديس يوحنا لفظة: «فأخذا جسد يسوع ولفاه بأكفأن مع الأطياب، كما لليهود عادة أن يكفنوا»، وهي نفس كلمة «يحنطوا» كما جاءت في سفر التكوين في تكفين إسرائيل ملى أيدي أطباء يوسف : «وأمر يوسف عبيده الأطباء أن يحنطوا أباه».
‏وهذا هو يوسف الجديد، يحنط ويدفن جسد إسرائيل الجديد، في قبره الذي نحته جديداً، الذي اشتراه ملك قبر أمام سور أورشليم الغربي .

39:19 وَجَاءَ أَيْضاً نِيقُودِيمُوسُ الَّذِي أَتَى أَوَّلاً إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرٍّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَناً.

‏«وجاء أيضاً نيقوديموس»: «نيقوديموس» هو المعروف في التلمود باسم نيقوديموس بن جوريون، وأنه كان غنياً جداً، ويقال أنه في حفل زواج ابنته قدم لها عريسها صداقاً قيمته مليون دينار ذهبي. وفي التقليد القديم يذكر أنه تنصر وصار مسيحياً. وفي روايات التاريخ يُقال أنه مات في حصار أورشليم.
‏بداية الآية تشير إلى موقف موحد حدث بالضرورة بين يوسف ونيقوديموس، فهما عضوان في مجلس السنهدريم, وكانا ولا شك على رأي مخالف لرأي المجمع والرؤساء، بل وعلى مستوى المعارضة للاجراءات والأعمال التي اتخذها رؤساء الكهنة، والتي كانت في نظرهما غير قانونية، فوق أنها شائنة وفظيعة، بالنسبة لمعلم يعلمون أنه قد أتى من الله معلماً؛ بل ويؤمنون به؛ بل وينتظرون على يديه ملكوت الله (راجع يو2:3؛ 41:12؛ 43:15).
‏ونيقوديموس سبق له أن حاول الدفاع عن قضية المسيح، ولكنه ارتدع تحت رادع إرهاب الفريسيين: «قال لهم نيقوديموس الذي جاء إليه ليلاً وهو واحد منهم، ألعل ناموسنا يدين إنساناً لم يُسمع منه أولاً ويعرف ماذا فعل؟ أجابوا وقالوا له: ألعلك أنت أيضاً من الجليل؟ فتش وانظر إنه لم يقم نبي من الجليل، فمضى كل واحد إلى بيته» (يو50:7-53). لذلك كان يجمعهما للأسف «الخوف من الفريسيين» بصفتهما عضوين في مجلس السنهدريم، وكانا يعلمان المصير المرعب إذا ما جاهرا بتلمذتهما للمسيح: القطع من السنهدريم، وربما من شعب إسرائيل، وهذا كان هو السيف المسلط.
‏وواضح أنهما تعاهدا، بعد أن رأيا المسيح قد رُفع على خشبة الصليب بالفعل، أن يوزعا الأدوار على نفسيهما بغاية السرعة لأن غروب الشمس كان وشيكاً. فاضطلع يوسف بشراء الكتان النقي للف الجسد، ونيقوديموس قام بشراء مزيج المر والعود. كما عهد إلى يوسف بعملية طلب جسد يسوع من بيلاطس لصفته البارزة وهي الجسارة. ثم تقابلا عند الصليب، وقد فارقهما الخوف والرعب من الفريسيين وابتدءا عملهما بجسارة وعلانية بانزال الجسد المقدس، بكل كرامة, لأن روح الله كان ثالثهما.
«وهو حامل مزيج مر وعود نحو مئة مناً»: «كل ثيابك مر وعود وسلخة» (مز8:45)؛ «بسلام تموت، وبإحراق (أطياب الدفن) آبائك الملوك الأولين الذين كانوا قبلك، هكذا يحرقون لك ويندبونك قائلين: آه يا سيد.» ( إر5:3)
‏«مر وعود»: أما المر فهو المادة الراتنجية المستخرجة من سيقان شجرة معروفة باسم «كوميفورا مولمول»، وتنمو في شبه الجزيرة العربية. واسم المادة بالعبرانية كالعربية «مر». وقد أخذ الأوربيون الاسم كما هوMyrrh وقد ذُكر كثيراً في مواضع عديدة من العهد القديم.
‏والمر له مفعول مطهر، ويستخدم في الطب على هذا الأساس, وهو معروف منذ القدم، من أكثر من ألفي سنة، وقد استخدمه قدماء المصريين في التحنيط (هيرودوت68:2) كما استخدمه بنو إسرائيل في عمل المسحة المقدسة (خر22:30). ويضرب به الأمثال في التعطير. وكان أحد مكونات الهدايا التي قدمها المجوس للمسيح في بيت لحم (مت11:2)، كما قُدم للمسيح على الصليب ممزوجاً بخل (مر23:15).
«العود»: هو غالباً المادة المستجرجة من شجرة تسمى بشجرة الفردوس، وخشبها يسمى خشب السنر، واسمها العلمي ( )، وتنمو نواحي آسيا الإستوائية. وهو أيضاً ثمين للغاية يوزن بوزن الذهب، ورائحته نفاذة تبقى لسنين عديدة. وهو أيضاً مذكور في الكتاب المقدس. يُضرب به المثل «كشجرات عود غرسها الرب» (عد6:24‏)، «كل ثيابك مر وعود وسلخة (قرفة).» (مز8:45)
أتى نيقوديموس وهو حامل هذه الهدية التذكارية الثمينة جداً سواء في قيمتها المالية العالية التي يقدرها العلامة إدرزهايم بمقدار ما يساوي الان مئتين وخسين جنيها إنجليزيا، آنئذ، او فى قيمتها بالنسبة للجسد المقدس, بحد ذاته, أو قيمتها بالنسبة للبشرية ككل وهي تستودع جسد ابن الله سر مجدها وخلاصها، جسد إكليلها وفخرها كابن الإنسان, أو قيمتها في المقابل بالنسبة لما صنعه اليهود عامة والرؤساء الذين أهانوا اسمهم، واسم اليهود، واسم إسرائيل، واسم شعب الله المختار، بل واسم الإنسانية جميعاً بما فعلوه بهذا الجسد الطاهر.
‏والمزيج منهما هو أبسط ما يمكن أن يسمى بمواد للتحنيط، أي لحفظ الجسد من الفساد، حسب العادة التي اكتسبوها من فراعنة مصر بتحنيط أجساد عظمائهم؛ لأن المزيج الكامل للتحنيط يتعدى العشرات من الأصناف.
‏والكمية التي ذكرها القديس يوحنا ليست في الحقيقة مبالغاً فيها، لأن لف الجسد كله يحتاج إلى مثل هذه الكمية التي يساوي وزنها بالموازين الحالية ما يقرب من 36 كجم.
‏ونحن نقرأ في تحنيط جسد «آسا» الملك: »اثم اضطجع آسا مع ابائه … فدفنوه في قبوره التي حفرها لنفسه في مدينة داود, وأضجعزه في سرير كان مملوا أطيأباً وأصنافاُ عطرة حسب صناعة العطارة، وأحرقوا له حريقة عظيمة جداً.» (2أى13:16-14)
‏ويحكى في التلمود اليهودي: (إنه عند دفن غمالائيل الأكبر، عملوا له حريقاً من الأطياب والعطور بلغ80 رطلاً (الرطل 360 جراماً تقريباً) فلما سألوا أونكيلوس (أحد الربيين) عن سبب هذه الكثرة رد قائلاً: أليس غمالائيل أفضل من مائة ملك مثل آسا؟)
‏واضح، إذاً، أن الكثرة التي حملها نيقوديموس من الأطياب هي في الحقيقة تعبير رائع وصامت عن التوقير الملكي الذي كان يكنه هذا الفريسي المتمرس في تاريخ ملوك أبائه.
‏ولكن لا يفوتنا أن هذه الأطياب الحلوة، ذات الرائحة اللذيذة والمسرة، هي أيضأ تعبير آخر عن صنف الذبيحة المقدمة، كما رتب لها, ليس الأنبياء وحسب، بل والمسيح نفسه كان يرى أن ذبيحة حبه لا بد أن تكون عطرة الرائحة عند أحبائه كما هي عند أبيه: «فأخذت مريم مناً (واحداً بـ 300 دينار) من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمي يسوع، ومسحت قدميه بشعرها. فامتلأ البيت من رائحة الطيب … فقال يسوع: اتركوها، إنها ليوم تكفيني قد حفظته.» (يو3:12 و7)
‏ولقد اختزنت الكنية المرتشدة بالروح أطيأب الرب وعطوره التي تركها مح أكفانه في القبر الفارغ واعتبرتها ذخيرة حياة أو مسحة موت لقيامة، عجنتها بالزيت الطيب وصنعت منها دهن ميرونها واوقفته على مسح المعمدين الخارجين من من جرن المعمودية، الذين دفنوا مع الرب لشركة موته، فتمسحهم بهذا الميرون عينه، كمسحة قيامة من الأموات لشركة الرب فى قيامته. وظلت هذه الذخيرة تتناقلها أيدى الأساقفة الأمناء على مر الأجيال، وحتى زماننا هذا. وصدر في ذلك قول بولس الرسول: «لأننا رائحة المسيح الذكية لله» (2كو15:2)، وكأن بولس الرسول يرى مفدى الرب ذبائح سرور تفوح منها رائحة ذبيحة المسيح: «اسلكوا فى المحبة، كما أحبنا المسيح أيضاً، وأسلم نفسه لأجلنا، قرباناً وذبيحة لله، رائحة طيبة.» (أف2:5)

40:19 فَأَخَذَا جَسَدَ يَسُوعَ وَلَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ مَعَ الأَطْيَابِ كَمَا لِلْيَهُودِ عَادَةٌ أَنْ يُكَفِّنُوا.

‏وتحقق قول الرب فى الحال والتو، إذ لما ارتفع، جذب إليه أكثر التلاميذ بعدا وأشدهم خوفا، وأقلهم إيمانا، عربون «للجميع»!! «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع» (يو32:12)
‏وإن كان الملائكة قد خلقوا لأعمال وخدمات تعينوا لها وتعينت لهم، فيوسف ونيقوديموس وُلدا, معينين في المقاصد الإلهية، لخدمة الجسد المصلوب وتكريم جروح الرب.
‏لقد تبدد خوف يوسف وتحول إلى جسارة ما بعدها جسارة، وليل نيقوديموس الذي كانت تحلو له فيه الزيارة، والظلام حالك، تحول له إلى نهار ومجاهرة. لقد أفاض عليهما الجسد تباشير من أنوار العهد الجديد. وكأن الروح الذى أسلمه يسوع على الصليب اتخذ طريقه فى الحال، وتوزع على قلوب الزين كانوا ينتظرون ملكوت الله!
«فأخذا جسد يسوع ولفاه بأكفان مع الأطياب»: حملوا الذي يحمل المسكونة كلها على كفه؛ وأنزلوا الذى علقوه على خشبة، وهو الذي «يعلق الأرض على لا شيء‏» (أي7:26). كنز الحياة حملوه ميتاً على الأذرع، وأسندوا الرأس التي تسند الأكوان، وتقيم الجبال الرواسي، فلا تميد!
طيبوا الجسد، وهو منبع الطيب، وعطروه، وهو الذى «يجعل البحر كقدر عطارة.» (أى31:41)
‏لفوه بالكتان، وهو اللابس النور كالثوب، وكفنوا بالدموع ، من هو مصدر الفرح والابتهاج.
‏في صمت مهيب، تبادلا إحكام الرباط، «والكلمة» بين أيديهما بلا حراك، وهو يعد لجسده القيامة!
‏«ولفاه بأكفان»: القديس يوحنا يستخدم كلمة «لفاه» في إعداد الجسد للدفن، وتأتي بمعنى «ربط»‏. كذلك يستخدم كلمة «الأكفان» بالجمع، بمعنى أن القماش مقسم لكل عضو بمفرده.
‏أما كل من القديس متى والقديس مرقس والقديى لوقا، فيستخدمون كلمة مشابهة ( ) تُرجمت بالعربية «لفة» ‏أيضاً، وتأتي بمعنى «لفة» صحيحا. كما تأتي كلمة «الكفن» بالمفرد بدون اصطلاح الدفن، كمجرد قماش «لفه بكتان نقي» (مت59:27‏).
‏والفارق في المعنى يبدو وكأن في إنجيل يوحنا أن يوسف ونيقوديموس أجريا عملية التكفين الأصولية, وهي ربط كل ذراع وكل ساق بأشرطة من الكفن، كذلك لفا ‏الجسد كله والرأس بمفرده.
‏أما في الأناجيل الأخرى، فتبدو العملية وكأنها مجرد لف الجسد بثوب واحد من الكتان على سبيل التكفين المبدئي، ليتم تكفينه حسب الأصول، بعد انقضاء السبت.
‏وهكذا يأتي تقليد القديس يوحنا في التكفين مخيبا لآمال الذين يأخذون بقصة اكتشاف كفن تورين المنطبع عليه صورة جسد المسيح ووجهه. وهذا الكفن قطعة واحدة من القماش بطول 14 قدم, وأقل من أربعة أقدام عرضاً. وأول ذكر لاكتشاف كفن تورين حدث سنة 1353 م في كنيسة ليراى بمدينة تروي بفرنسا. ولو أنه حدث ذكر لهذا الكفن قبل ذلك بمائة سنة في نواحي تركيا. وقد قامت بعض الهيئات العلمية الأمريكية حديثأ بتحليل الألوان المنطبعة على الكفن وأثبتوا أنها لا تحمل أي أثر عضوي، بل أصباغاً من أكاسيد ومعادن.
«مع الأطباب»: يبدو أن المر والعود كانا على هيئة مسحوق، وقد أضيف إليهما بعض الزيوت العطرة، فتكرن مزيج سائل يمكن دهن الجسد به قبل ربطه.
«كما لليهود عادة أن يكفنوا»: عادة اليهود هذه سبق أن وصفها القديس يوحنا في دفن لعازر: «فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة ووجهه ملفوف بمنديل، فقال لهم يسوع حلوه ودعوه يذهب.» (يو44:11)
‏الساقان اللتان سارتا على الماء ولم تميدا، ربطوها بقماط! والذراع التي فكت أسر شعب إسرائيل (مز15:77‏)، قمطوها برباط! والرأس مع الوجه بمنديل لفوه، وحجبوه، وأنت الذي «تحجب وجهك، فترتاع (كل خليقة).» (مز29:104‏)
‏لقد تعلم اليهود من المصريين كيف يحنطون الجسد. ولكن احتفظ اليهود بتمسكهم أن لا يفضل من الجسد شيء. في حين أن المصريين كانوا ينزعون الأعضاء الأكثر تحللاً مثل المخ والأحشاء، فكانت توضع فى قوارير خاصة بجوار التابوت، بعد أن يجروا عليها أصولاً أخرى للتحنيط.
‏والمصريون كانوا يحنطون برجاء عودة الروح من العالم الآخر, وأما اليهود فكانوا يحنطون لمجرد تكريم الجسد.
‏وأما يوسف ونيقوديموس، فبينما كانا منهمكين في خدمة الجسد الممزق، كانت النفس تعمل عملها العظيم لكرازة العالم الآخر: «مماتاً في الجسد، ولكن محيى في الروح، الذي فيه أيضا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن.» (1بط18:3-19‏)
‏وهكذا كسر المسيح السبت حتى في موته، إذ ذهب وكرز للأرواح المحجوزة في سجن سبى خطاياها، بانتظار الفادي الذي ألقى عليهم ظل صليبه، فانفكت قيودهم، وقادهم صاعداً في موكب نصرته: «سبى سبياً وأعطى الناس عطايا.» (أف8:4)

41:19 وَكَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ بُسْتَانٌ وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ جَدِيدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ.
‏حملوا الجسد بين أيديهم، وساروا به، وهو الذي تسير الأفلاك والنجوم على هداه! من فوق رابية الجلجثة، انحدروا قليلآ حيث أعد يوسف بستانا ونحت فيه قبراً بوحي من الروح و بإلزام. ولم يدر آنئذ أنه وضع الأساس لأقدس بقعة على الأرض، لتبنى عليها أعظم كاتدرائيات العالم عبر كل العصرم والأزمان، ليؤمها شعوب الأرض طراً، وحيث يطرح على أعتابها الملوك تيجانهم، ويحنون الرؤوس والركب. لقد أراد يوسف قبراً لدفن موتاه! فصار قبرا لإعلان القيامة والحياة! وسواء في بستان جثيماني، حيث تألم متوجعاً، أو في بستان الجلجثة, حيث حمل لعنة الخطية في الجسد حتى القبر، فالمسيح يعيد في أذهاننا صورة أدم كيف خالف وهو في بستان الفردوس، وكيف حل عليه العقاب وحلت عليه وعلى أولاده لعنة الموت، وذلك تمهيداً للقيامة من البستان أيضاً التى بها أعاد آدم وبنيه إلى الفردوس مرة أخرى.
«قبر جديد لم يوضع فيه أحد»: ‏مضادة كبرى، أن يستودع جسد الابن الوحيد في قبر, ليس لدى الإنسان وحسب، بل ولدى الملائكة، إذ حسبوها أيضاً مضادة أعظم من أن تحل: «لماذا تطلبن الحى بين الأموات.» (لو6:24)
‏فإن كان ولا بد أذ يٌسند الجسد القدوس في قبر، فلا بد أذ يُخلى القبر من معناه، فلا يكون قبرا قط فيما كان وفيما سيكون، لأن الذي توسده هو قاهر الموت ومقيم الحياة!
‏والذي لا تسعه السموات العلا، إن وسعه قبر فهو السماء الجديدة بعينها.
‏وصخر الدهور، لا يسكن الصخور؛ وإن هو سكنها فهي قُدت من خلود.
‏والجسد، بالرؤيا العتيقة، هو قسط المن، وهو هو لوحا العهد! فجسد «الكلمة» لا يعتريه لحد؛ وإن احتواه، فهو تابوت عهد الله الذي مقره السماء: «وانفتح هيكل الله في السماء، وظهر تابوت عهده فى هيكله.» (رؤ19:11)
‏السلام للقبر, مخزن الحنطة، وأهراء الحياة، الذي اختزن فيه «يوسف» مؤونة الدنيا، ليسد عوز عجاف السنين لكل العالمين!
‏السلام للقبر، الذي انهزمت فيه ظلمة الموت، وخرج النور ليضىء طريق الخلود.
‏السلام للقبر، الذي احتجز الأطيات والحنوط, التي سقطت عن الجسد، فصنعت منها الكنيسة مسحة الروح والحياة، ليعبر بها أولادها نهر الموت، كعباءة إيليا التي سقطت عنه، ففلق بها أليشع الأردن، وعبر.

42:19 فَهُنَاكَ وَضَعَا يَسُوعَ لِسَبَبِ اسْتِعْدَادِ الْيَهُودِ لأَنَّ الْقَبْرَ كَانَ قَرِيباً

‏الآية اعتذارية عن عدم تقديم كل واجبات التكفين أو التجنيز. فعامل السرعة هو الذي حتم اختصار الإجراءات في تكريم الجسد، من جهة؛ وعامل السرعة بسبب اقتراب السبت، من جهة أخرى، هو الذي حتم اختيار هذا القبر الخاص بيوسف، كونه قريباً من الجلجثة، حيث الصليب.
«هناك وضعا يسوع»: في سفر الأعمال يبرز «فعل الوضع في القبر» كمرادف حتمي لفعل القتل! فالموت لا يصبح موتاً إلا إذا أصبح الجسد موضوعاً في قبر: «… إذ حكموا عليه، ومع أنهم لم يجدوا علة واحدة للموت، طلبوا من بيلاطس أن يُقتل, ولما تتموا كل ما كُتب عنه, أنزلوه عن الخشبة, ووضعوه فى قبر» (أع27:13-29)
‏يلاحظ القارىء في هذا الوصف المؤثر الحزين اللائم أن وضع الجسد في القبر، بالرغم من أنه تم على يدين حانيتين لصديقين مؤمنين: يوسف ونيقوديموس؛ إلا أن فعل الوضع في القبر كان في نظر القديس لوقا كاتب سف الأعمال، عملاً جحودياً وعدائياً من أمة اليهود التي خانت عريسها وقتلته، ثم دفنته بيديها! وكأن دفنه هو التكميل لشماتة موته. ولكن الدفن، في الوجه اللاهوتي، أعطى توكيداً لموته، وبالتال لاكتمال موجبات الفدية.
‏لقد شدد المسيح على أن تكون هذه آيته التي يعطيها لجيل فاسق وشرير: «جيل شرير وفاسق، يطلب آية، ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام, وثلاث ليال, هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال» (مت39:12-40). ليى جزافا أن يقول المسيح «قلب الأرض»، لم يقل «تحت التراب» ولا «في باطن قبر» بل في «قلب الأرض» مشيراً إلى المركز الأعمق الذي يحتجز الأرواح، والذي انطلق هو إليه ليقوم برسالته التبشيرية في عالم الأرواح المحبوسة، على مستوى يونان الذي اتخذه المسيح مثلاً, عن قصد, بسب إرساليته بالمناداة لخلاص أهل نينوى.
‏وهذا ما يراه القديس بولس في نزول المسيح إلى القبر بالجسد, مشيراً إلى نزول آخر على مستوى الكرازة: «إذ صعد إلى العلآء، سبى سبياً، وأعطى الناس عطايا، وأما أنه صعد، فما هو إلا أنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نزل, هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل» (أف8:4-10). وبهذا يحكم القديس بولس الربط اللاهوتي بين «نزول المسيح» إلى القبر بالجسد ومنه لنزول النفس إلى أقسام الأرض السفلى، وبين صعوده إلى أعلى السموات. فكما أنه، بنزوله، أفرغ من البشرية كل أوزار خزيها وعقوبتها حتى التراب؛ هكذا، بصعوده، ملأ الكل حتى إلى أعلى السمرات. ويلاحظ توكيد بولس الرسول على النزول أولاً، كسبب وعلة وقوة صعوده: «وأما أنه صعد,» فما هو إلا إنه نزل أيضاً أولاً».
‏فسلام للقبر، محط «قلب» كل الأرض, محط «الأقسام السفلى». والجسد فيه مسجى، بانتظار تكميل الرسالة, بخروج المقيدين في الهاوية, المقيدين بالذل والحديد، المسبيين في ظلمة الخطية، والمأسورين منذ الدهر في الجحيم بقيود من له سلطان الموت.
‏هوذا أشرق عليهم نور, فك أسرى الرجاء, وسبى سبي الجحيم، وصعد بهم كجبار، وهم في موكب نصرته، وعلى رؤوسهم فرح وابتهاج أبدي.

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 18 تفسير إنجيل القديس يوحنا
الأب متى المسكين
تفسير يوحنا 20
تفسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى