تفسير سفر الحكمة ١٢ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني عشر

زنابير تتقدم جيشك!

في الأصحاح السابق قدٌَم لنا الحكيم صورة رائعة لعمل الله مع شعبه في الخروج، كعينة لرعاية الله لكنيسته في كل جيلٍ، فإنه يسمح بالضيق لتأديب شعبه إلى حين، ثم يعود فيسمح للشعب الظالم أو المضايق للكنيسة أن يشرب من ذات الكأس التي ملأها لكنيسته. أبرز الحكيم أن القائد الحقيقي للخلاص هو حكمة الله العامل في القائد كما في الشعب.

الآن يكمل الحكيم حديثه، موضحًا أنه إله كل البشرية، فهو القائد الحقيقي الذي يدعو كل إنسانٍ، من كل أمةٍ وشعبٍ للتوبة.

ليس عنده محاباة، ففي تأديبه لمضايقي شعبه يطيل أناته عليهم منتظرًا توبتهم، ولكن بغير إلزامٍ أو قهرٍ. هذا ويوضح الكاتب أن الله نموذج لشعبه، وأن الخطية تحمل في ذاتها فسادها ومرارتها وعقوبتها.

  1. الروح القائد1-2.
  2. حلم الله في معاملة كنعان3-11.
  3. إله يعتني بالجميع12-13.
  4. لا محاباة لدى الله14- 18.
  5. الله نموذج لشعبه19-22.
  6. الخطية تحمل عقوبتها في داخلها23-27.
  7. الروح القائد

فإن روحك غير القابل للفساد،

هو في كل شيء. [1]

لقد وعد الله شعبه بأرض الموعد، لكنه لا يُكره الشعوب القائمة في الأرض. وبخهم شيئًا فشيئًا، لأنه محب لجميع الناس، ويطلب توبتهم وخلودهم. إنهم خليقته المحبوبة لديه التي يطلب عدم فسادها.

روحك غير القابل للفساد“، روح الله يهب الحياة الأبدية للخليقة، ولا يُسر بفسادها وهلاكها، لأنه هو نفسه غير قابل للفساد.

روح الله يملأ كل المسكونة، وهو قدوس، يقدس ولا يمسه فساد. إنه يود أن يعمل في الكل، ولكن ليس قسرًا. يعمل في غير المؤمنين لكي يؤمنوا، وفي المؤمنين لكي يحملوا ثمر الروح (غل 5: 22).

يقصد بكل شيءٍ هنا كل البشرية، فإنه يوجد في كل إنسان ومضة من قبل الله، نسمة الحياة التي قدمها الله لآدم (تك 2:7)، ليتمتع بها كل نسله.

v     الابن والروح القدس هما مصدر التقديس، بهما تتقدس كل خليقة عاقلة حسب استعدادها[489].

v     الروح القدس المنبثق عن الله (الآب) هو مصدر القداسة، القوة الواهبة الحياة، النعمة التي تعطي كمالاً، خلاله ينعم الإنسان بالتبني، يصير الفاسد في عدم فساد، إنه واحد مع الآب والابن في كل شيء، في المجد والأبدية والقوة والملكوت واللاهوت، هذا ما يختبر بتقليد معمودية الخلاص[490].

v     هذا تجديدنا، يجعلنا على صورة الله من جديد، وذلك بغسل التجديد والروح القدس الذي يجددنا فنصير أبناء الله، نصير خليقة جديدة مرة أخرى بشركة الروح ويخلصنا مما كان عتيقًا[491].

v     بواسطة غسل الميلاد الجديد والتجديد بالروح القدس نصير أبناء الله[492].

v     الحياة الجديدة هي الحياة التي وصفها الإنجيل والتي عاشها المسيح على الأرض، وهذه تستلزم من الإنسان وداعة وصبرًا واحتمالاً وطهارة قلب وجسد وتجردًا عن الغنى. وهكذا تتحقَّق على الأرض حياة الطوباويِّين في السماء. ولابد من التذكر بأن الروح القدس هو العامل والمحرِّك الأساسي في هذا التجديد للحياة، وفي تغيُّرها إلى حياة مع المسيح. فهو الذي يحملنا إلى أن ندعو الله أبًا حقيقيًا لنا؛ وهو الذي يشركنا بنعم الفداء العظيمة؛ وهو الذي يجعلنا، كما يقول القدِّيس يوحنا أبناء للنور، مشتركين هكذا بالمجد الأبدي المزمع أن يتجلَّى فينا. وبكلمة مختصرة الروح القدس هو الذي يجعلنا نملك كل ما يريدنا الله أن نملكه، وأن نفهم بالإيمان المواعيد بما سنملكه في الحياة الأخرى[493].

v     بالروح القدس استعادة سكنانا في الفردوس،

صعودنا إلى ملكوت السماوات،

عودتنا إلى البنوَّة الإلهيَّة،

دالتنا لتسمية الله “أبانا”،

اشتراكنا في نعمة المسيح،

تسميتنا أبناء النور، حقِّنا في المجد الأبدي،

وبكلمة واحدة حصولنا على ملء البركة في هذا الدهر وفي الدهر الآتي[494].

 القديس باسيليوس الكبير

ولذلك فإنك تُوبِّخ شيئًا فشيئًا،

الذين يَزِلُّون،

وتُنذرهم، مُذكِّرًا إيَّاهم بما يخطئون فيه،

لكي يُقلعوا عن الشر،

ويتكلوا عليك أيها الرب. [2]

في تأديبه للبشر يوبخهم شيئًا فشيئًا، لعلهم يرجعون إليه، فإنه لا يُسر بهلاك الأحياء (تك 1: 23).

يرى القديس أغسطينوس أن الله لا يعاقب على كل خطية نرتكبها، إنما على قلة قليلة جدًا من خطايانا حتى خلال هذا العقاب أو التأديب ندرك عنايته بنا، ونضع في اعتبارنا الدينونة الأخيرة[495].

فإن كان الله يؤدب شيئًا فشيئًا، فلأنه يريدنا أن نختبر مرارة الخطية، ونهرب من العقاب الأبدي بالرجوع إليه والالتصاق به.

v     بحق ٍ قال بولس إن غضب الله مُعلن… في هذا الزمان الحاضر. يحجم الله عن تنفيذ العقوبة الكاملة، حتى لا ينزع فرصة التوبة، مما يؤدي إلى رجوع (الخطاة) فيخلصوا أو ينصرفوا (عن الله) ولا يكون لهم عذر[496].

 ثيؤدور أسقف المصيصة

يعالج الحكيم تساؤل البعض، ربما كانوا من الملوك أصدقائه الأمميين، لماذا صبٌ الله ضربات قاسية على فرعون وشعبه، وأيضًا على سكان كنعان الأصليين؟

يكشف الحكيم عن تدبير الله، أنه لم يحدث هذا عن محاباته لشعبٍ معينٍ، ولا عن وجود بغضةٍ إلهية ضد شعب ما أو أمة ما، فإنه يود للجميع أن يتقدسوا، وأن يتمتعوا بقوة إلهية. فغاية التوبيخ الإلهي والتأديب الآتي:

أ. يذّكر الخطاة بخطاياهم، لذا غالبًا ما يحمل نوع التأديب كشفًا عن خطايا معينة.

ب. يطلب الله أن يمرر الخطية في أفواههم، فيكفوا عنها.

ج. يدرك الخطاة ضعفهم فيلجأوا إلى الله مصدر قوتهم، ويتكلوا عليه. فكل توبيخ أو تأديب لا يحمل كراهية، بل مشاعر حبٍ لبنيان الذين تحت التأديب أو العقوبة.

  1. حلم الله في معاملة كنعان

وأما الذين كانوا قديمًا سكان أرضك المُقدسة، [3]

فقد أبغضتَهم لأجل أعمالهم الممقوتة،

من سحرٍ وطقوسٍ مُدنَّسة. [4]

البغضة هنا موجهة ليس ضد الأشرار أنفسهم، بل ضد الخطية التي يتحالفون معها، فيسقطوا تحت الحكم الطبيعي والثمر الذي للخطية. وكأن الأشرار يشربون من ذات الكأس التي يملأونها لأنفسهم. فالمعركة قائمة بين القداسة الإلهية والشر.

v     من يتمرغ في حفرة مملوءة وحلاً ويغطس فيها، يسقط في حبال الغرور (ويسلم نفسه للهلاك)[497].

 القديس أمبروسيوس

v     من يقدر أن يقول لله: لماذا تدين العالم (الذي في الخطية)؟ كيف يمكن لله الديان العادل أن يُتهم عندما يُدان جُرم العالم؟[498]

 القديس أغسطينوس

وقتل أطفالٍ بغير رحمة.

ومآدب لحم ودمٍ بشري يأكلون فيها حتى الأحشاء. [5]

مما يحزن قلب الله أن الإنسان في ممارسته للعبادة (الوثنية) يتحول إلى وحشٍ كاسرٍ، فكان الكنعانيون يقدمون للبعل ذبائح بشرية (إر 19: 5)، ويجيزون أطفالهم في النار حيث يقدمونهم للكهنة الذين بدورهم يلقونهم على التماثيل النحاسية الملتهبة نارًا، وسط ضربات الطبول العالية. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم أن الحيوانات المفترسة لا تفترس من هم من بني جنسها، أما الإنسان فيفترس أخاه ويقتله.

من بين طقوسهم أيضًا أكل لحوم الذبائح البشرية في ولائمٍ طقسية.

ولعل يفتاح الجلعادي قد تأثر بمثل هذه العادات مما حمله على التسرع بنذر تقديم أول من يقابله ذبيحة، وكانت ابنته الوحيدة (قض 11: 39).

الله محب كل البشرية لا يطيق هذه الأعمال الوحشية.

مع كهنتهم ضمن الطاقم الوثني،

والوالدون القاتلون بأنفسهم لنفوسٍ لا حول لها،

قد أردت أن تُهلكَهم بأيدي آبائنا. [6]

ربما يتساءل البعض: لماذا سمح الله بقتل الكنعانيين بواسطة الإسرائيليين؟ يجيب الحكيم: لماذا تدينون الله على قتل أناسٍ يقومون بقتل أطفالهم الذين ليس لهم من يدافعون عنهم، ولا قوة لهم على مقاومتهم؟ لقد صعد صراخ هؤلاء الأطفال الأبرياء ضد والديهم، وبلغ الشر أقصاه، لذلك سمح الله بقتلهم ليس دفعة واحدة، بل جماعة فجماعة، لعلهم يرجعون عن شرورهم.

لكي تكون الأرض التي هي أكرم عندك من كل أرض،

عامرة بأبناء لله كما يليق بها. [7]

إذ لم يتراجع الوثنيون عن شرورهم أراد أن يحل شعبه موضعهم، لكي يكونوا خميرة مقدسة للمؤمنين في العالم كله، وذلك بمجيء مخلص العالم متجسدًا منهم.

ومع ذلك فإنك أشفقت على أولئك أيضًا لأنهم بشر،

فبعثتَ بالزنابير تتقدمُ جيشكَ،

لكي تُبيدهم شيئًا فشيئًا. [8]

الله في طول أناته كان يشفق على هذه الأمم الوثنية، فلم يسحقهم ولا سمح بالوحوش تفترسهم دفعةً واحدةً، إنما يسمح بطردهم أو قتلهم تدريجيًا لعلهم يرجعون إليه.

غالبًا ما يقصد بالزنابير في الكتاب المقدس أداة للتأديب، خاصة بالسماح بهجوم جيوش الأعداء لإزعاجهم. جاء في سفر إشعياء النبي: “ويكون في ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب في أرض أشور” (إش 7: 18).

لا لأنك عجزتَ عن إسلام الأشرار إلى أيدي الأبرار بالقتال،

أو عن تدميرهم مرةً واحدة بُوحوشٍ ضاريةٍ،

أو بأمرٍ جازم. [9]

كان يمكن أن يبيد الوثنيين بضربةٍ واحدةٍ من المؤمنين، كما حدث مع جيش سنحاريب، لكنه يبقى يعطي الفرص لمراجعتهم لأنفسهم.

لكنك بإجراء حُكمكَ شيئًا فشيئًا،

منَحتَهم مُهلة للتوبة،

وإن لم يخفَ عليك أن طبيعتهم شريرة.

وأن خُبثَهم غريزيٌّ،

وعقليَّتهم لا تتغيَّر أبدًا. [10]

هنا يتحدث عن الكنعانيين بوجه عام كقبائل ودويلات تشربت الشر من جيلٍ إلى جيلٍ، حتى امتزجت الشرور بطبيعتهم، وسيطرت على أفكارهم، وأفقدتهم حتى عاطفة الأمومة والأبوة. لكن دون شك وُجدت قلة تشتاق بالناموس الطبيعي إلى التعرف على الحق، والتمتع بالحياة الأبدية. هذه القلة التي كادت تُحسب كأنها عدم أمام جمهرة الأشرار لم ينسها الله، وذلك كما حدث في مصر عند خروج موسى النبي ومن معه.

دُعيت هذه القلة من المصريين باللفيف، كما ورد في سفر الخروج: “وصعد معهم لفيف كثير أيضًا مع غنمٍ وبقرٍ ومواشٍ وافرة كثيرة” (خر 38:12). هذا اللفيف منهم من خرجوا مع العبرانيين بإيمانٍ حي بالله، ومنهم من ارتبطوا بهم لمجرد انبهارهم بالآيات والعجائب التي صنعها موسى. وكان الفريق الأخير سببًا في سقوط العبرانيين في ضعفات في البرية (عد 4:11).

أما بالنسبة للكنعانيين فمنهم أيضًا من قبلوا الإيمان بالله، ودعوا بالدخلاء. وقد وُجد دخلاء بين اليهود حتى عصر الرسل (أع 10:12، 43،13).

v     لنتطلع إلى الأجيال الغابرة، ونتعلم أن الرب – من جيلٍ إلى جيلٍ – يقدم فرصة للتوبة للراغبين في العودة إليه.

فقد بشر نوح بالتوبة، والذين سمعوا له خلصوا.

أعلن يونان هلاك أهل نينوى، وإذ تابوا عن خطاياهم استرضوا الله بالصلاة، واقتنوا خلاصًا بالرغم من كونهم غرباء عن (عهد) الله.

بالروح القدس تكلم خدام نعمة الله عن التوبة.

وتكلم رب الكل بنفسه بقسمٍ قائلاً: “كما أنا حي يقول الرب، لا أريد موت الخاطي بل توبته” (حز 32: 11 LXX)، ثم يضيف هذه المشورة الصالحة: “توبوا يا بيت إسرائيل عن شروركم، قل لأبناء شعبي، لو صارت خطاياكم من الأرض إلى السماء، ولو أصبحت أحمر من القرمز، وأحلك من ثوب الحداد، والتفتم إليّ بكل قلوبكم قائلين: “أيها الآب”، فإني استجيب لكم كما لشعبٍ مقدسٍ[499].

القديس إكليمنضس الروماني

v     إنه (الحكمة) يدعو الصالحين والأشرار أن يدخلوا، وذلك لكي يقوِّي الصالحين وينقل الأشرار إلى حالٍ أفضل. قد تم هذا القول اليوم، وهو أن “الذئب والحمل يرعيان معًا” (إش 65: 25).

إنه يدعو الفقراء والجدع والعميان، بهذا يُظهر أننا نحن المعوقين لا نُستبعد من ملكوت السماوات… إنه يرسلهم إلى مفارق الطرق (مت 22: 9)، لأن الحكمة تغني بصوتٍ عالٍ في الممرات (أم 1: 20). يرسلهم إلى الشوارع، إذ يبعثهم إلى الخطاة لكي يأتوا من الطرق الواسعة إلى الطريق الضيق الذي يؤدي إلى الحياة (مت 7: 13-14). إنه يرسلهم إلى الطرق العامة والمناطق المسيَّجة، هؤلاء الذين لا ينشغلون بأية شهوة للزمنيات، بل يسرعون نحو طريق الإرادة الصالحة[500].

القديس أمبروسيوس

v     صار أهل نينوى أشرارًا، وحكم الله عليهم أن “تنقلب نينوى” (راجع يونان 3: 4).

لم يرد الله أن يصدر حكمًا بدون أن يفعل شيئًا، وإنما أراد أن يقدم لهم فرصة للتوبة والتغيير، لذلك أرسل نبيًا عبرانيًا، حتى عندما يقول: “تنقلب نينوى” لا يتم الحكم، بل ينالوا رحمة الله بالتوبة[501].

v     الله الذي يدين شيئًا فشيئًا هؤلاء الذين يُعاقبون يعطيهم فرصة للتوبة (حك 12: 10). وعدم معاقبتهم على كل شيءٍ في الحال إنما يوقف عقوبة الخاطي[502].

العلامة أوريجينوس

لأنهم كانوا ذرية ملعونة مُنذ البدء.

ولم يكن عفوُك عن خطاياهم خوفًا من أحدٍ. [11]

v     بكونهم كائنات بشرية، فإن طبيعتهم صالحة، هذه التي أوجدها وصنعها الله؛ ولكن إذ هم مولودون بالخطية، وعُيِّنوا للهلاك، ما لم يولدوا من جديد، إذ ينتسبون للبذرة التي لُعنت منذ البداية بخطأ عصيان الأبوين الأولين.

على أي الأحوال، هذا الخطأ تحوَّل إلى الخير بواسطة الخالق نفسه للأواني التي للغضب، حتى يكشف عن غنى مجده في الأواني التي للرحمة (رو 9: 33)، فلا ينسب أحد لنفسه الاستحقاق… إنما يتحقق الخلاص بالنعمة، فمن يفتخر فليفتخر بالرب (2 كو 10: 17)[503].

v     بالحقيقة إن كانت البذرة لا تحمل فيها فسادًا، فماذا تعني العبارة الواردة في سفر الحكمة: “وإن لم يخف عليك أن طبيعتهم شريرة، وأن خبثهم غريزي، وعقليتهم لا تتغير أبدًا، لأنهم كانوا ذرية ملعونة منذ البدء” (راجع حك 12: 10-11)؟

الآن حتى إن استخدم هذا عن حالة معينة، فإن هذه الكلمات تنطق بما يخص البشرية.

إذن كيف يكون خبث كل إنسانٍ غريزيًا، وذريته ملعونة منذ البد، ما لم يكن ذلك خاصًا بالحقيقة أنه: “بإنسانٍ واحدٍ دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع فيه” (رو 5: 12)؟[504]

القديس أغسطينوس

  1. إله يعتني بالجميع

فإنه من الذي يقول: ماذا صنعت؟

أو من الذي يعترض على حُكمك؟

ومن الذي يُحاكمك، لأنك أهلكت الأمم التي خلقتها؟

أو من الذي يأتي قدامك،

ليدافع عن أناسٍ ظالمين؟ [12]

إنه لأمر عجيب أن يتعدى الإنسان حدوده، ليأخذ موقف الناقد لتصرفات الله. عوضًا عن أن يدين نفسه على شروره، وأن ينتقد البشرية عن انحرافها، في جسارةٍ وغباوةٍ يقول لله: ماذا صنعت؟ معترضًا على قضاء الله، متهمًا إياه بالظلم والعنف والقسوة.

الله الذي يحكم للمظلومين، مهشمًا أضراس الظالم (أي 17:29)، منقذًا أولاده من الرجل الظالم (مز 48:18) يُتهم بالظلم.

إذ ليس سواك إله يعتني بجميع الناس،

حتى تريه أنك لا تحكم ظلمًا. [13]

كثيرًا ما يؤكد الحكيم أن الله إله جميع البشر، يعتني بالكل، ولن يحكم بالظلم. أبواب مراحمه مفتوحة لكل الأمم والشعوب، إن رجعت إليه تجد الحضن الإلهي ينتظرها ويُسر بها. ولعل إرسالية يونان النبي لأهل نينوى، وموقف الله من توبتهم، من أروع الأمثلة لمحبة الله لكل البشرية دون محاباة.

هذا وقد دعا كثير من الأنبياء في العهد القديم الشعوب الوثنية الرجوع إلى الله للتمتع بعمله، فيفرحوا ويسبحوه.

“يحمدك الشعوب يا الله، يحمدك الشعوب كلهم” (مز 67: 3).

“تفرح وتبتهج الأمم لأنك تدين الشعوب بالاستقامة، وأمم الأرض تهديهم. سلاه” (مز 67: 4).

“يحمدك الشعوب يا الله، يحمدك الشعوب كلهم” (مز 67: 5).

“حدثوا بين الأمم بمجده، بين جميع الشعوب بعجائبه” (مز 96: 3).

“قدموا للرب يا قبائل الشعوب، قدموا للرب مجدًا وقوة” (مز 96: 7).

“عند اجتماع الشعوب معًا والممالك لعبادة الرب” (مز 102: 22).

“واحبوا نور الحكمة يا حكام الشعوب” (حك 6: 23).

“هوذا قد جعلته شارعًا للشعوب رئيسًا وموصيًا للشعوب” (إش 55: 4).

“آتي بهم إلى جبل قدسي، وأفرحهم في بيت صلاتي، وتكون محرقاتهم وذبائحهم مقبولة على مذبحي، لأن بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب” (إش 56: 7).

“وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب، فيعلمنا من طرقه، ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب” (اش 2: 3).

“فيقضي بين الأمم، وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب في ما بعد” (إش 2: 4).

“قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيًا للشعوب” (إر 1: 5).

يصوِّر لنا القديس مار يعقوب السروجي محبة الله الفائقة. فإن كان الأشرار يشربون من كأس شرهم مرارة وهلاكًا أبديًا، فإن الله بحبه يسمح بإعلان غضبه على خطاياهم، لا للنقمة ولا لهلاكهم، وإنما لكي يكشف لهم عن ثمر شرهم. بهذا يدعوهم للتوبة كي يتمتعوا بحنوِّه فتُغلق أبواب الغضب عليهم، وتنفتح أبواب السماء لترحب بهم.

إنه يشَّبه الخاطئ بفتاة نائمة، يوقظها الله بتهديداته، حتى لا يحلّ بها الهلاك بغتة!

v     تطلع الاستعلان من الله على (يونان) النبي، ليذهب يرد الشعوب الأممية إلى التوبة.

أرسله إلى نينوى ليدعو بانقلاب خيراتها، لكي بتهديدها تبطل الشرور.

قال له: قم، أمضِ، وأكرز هناك لأهل نينوى، وتكلم في آذانهم بالكرازة التي أقولها لك…

لو أراد الله أن يضرب نينوى بسبب كثرة آثامها، لما أرسل إليها لتبتعد عن الشرور.

لو وضع وجهه ليؤذيها حقيقة، لأرسل الغضب بغتةً وضربها.

أرسل إليها لكي تشعر بالموقف، وتطلب المراحم لتخلصها.

رفع يده ليضرب ويهلك النائمة، ودعاها وأيقظها، حتى لا تُلطم في نومها…

استيقظت الغيرة على العدالة ضد الشقية، وأرسل إليها بالنعمة لتستيقظ بالتوبة.

خرج الغضب على المدينة ليهلكها، وتقدم الحنان وغلق الأبواب أمام الغضب فلم يدخلها.

لولا وجود هذه المراحم، ما الحاجة أن يُرسل الكارز.

أرسله إلى المكان ليرده من الشرور، وبالتوبة يكون له راحة، ولا يحل الفساد.

القديس يعقوب السروجي

استطاع النوتية الأمميُّون أن يدخلوا بيت الله وهم في السفينة في وسط البحر، وقدموا ذبائح تسبيح وشكر مقبولة لدى الله، وتمتعوا بمخافة الرب (يونان 1: 16) التي حرم كثيرون من شعب الله أنفسهم منها.

v     نظر الملاحون إلى البحر، وقد سكت من أمواجه، فازدادوا خوفًا من الله رب البحار… تحققوا من الأعجوبة الحادثة أن الدوامات قد أرسلت وراء يونان. أدركوا العمل بإفرازٍ أن الرب قد أمر أمواج البحر فأطاعته. بإيمان تحققوا أن الرب في البحر، فذبحوا ذبائح، ونذروا نذورًا بحبٍ عظيمٍ.

دخلوا إلى أهل بيت أدوناي (الله) والتجأوا إليه، وبدأوا يذبحون ذبائح كاملة هناك.

القديس يعقوب السروجي

  1. لا محاباة لدى الله

وليس لملِكٍ أو سلطانٍ أن يُجابهك في أمر الذين عاقبتَهم. [14]

الله ضابط الكل، عادل في أحكامه، ليس من يستطيع أن يواجهه في أمر معاقبة الأشرار المصرين على شرهم.

“هو الصخر الكامل صنيعه. إن جميع سبله عدل، إله أمانة لا جور فيه، صديق وعادل هو” (تث 32: 4).

“وقال: عادل أنت أيها الرب، وجميع أحكامك مستقيمة، وطرقك كلها رحمة وحق وحكم” (طوبيا 3: 2).

الله قاض عادل، وإله يسخط في كل يوم” (مز 7: 11).

“لأنك أقمت حقي ودعواي، جلست على الكرسي قاضيًا عادلاً” (مز 9: 4).

“لأن الرب عادل، ويحب العدل المستقيم يبصر وجهه” (مز 11: 7).

“خوف الرب نقي ثابت إلى الأبد، أحكام الرب حق عادلة كلها” (مز 19: 9).

عادلة شهاداتك إلى الدهر فهمني فأحيا” (مز 119: 144).

“فسهر الرب على الشر وجلبه الرب علينا، لأن الرب عادل في جميع أعماله التي أوصانا بها” (با 2: 9).

لأنك عادل في جميع ما صنعت وأعمالك كلها صدق، وطرقك استقامة، وجميع أحكامك حق” (دا 3: 27).

الرب عادل في وسطها، لا يفعل ظلمًا، غداة غداة يبرز حكمه إلى النور لا يتعذر، أما الظالم فلا يعرف الخزي” (صف 3: 5).

“ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون. اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن اتان” (زك 9: 9).

“وهذا ما صلى به نحميا: أيها الرب الرب الإله خالق الكل المرهوب القوي العادل الرحيم يا من هو وحده الملك والبار” (2 مك 1: 24).

“يا من هو وحده المتفضل العادل القدير الأزلي مخلص إسرائيل من كل شر الذي اصطفى آباءنا وقدسهم” (2 مك 1: 25).

v     يقدم البعض اتهامات باطلة ضد الله، أو بالأحرى ضد أسفار العهد القديم… لا يشك أحد في أن إرادة الله كلها عادلة[505].

 القديس أغسطينوس

v     يقول بولس إنه من الخطأ القول بأن الله ظالم من أجل سخطه على البشر. لأنه كيف يمكن لمن يدين العالم أن يُظن فيه أنه ظالم، إنه كان لقبه نفسه “الديان” يُظهر أنه لا يفعل شيئًا بدون حكم، وحيث يوجد الحكم بالتبعية يوجد العدل. لأن الكلمتين “قاض” و”قضاء” مُشتقتان (في اليونانية) من “العدل”.

العدل والظلم عدوان طبيعيان – فكيف يمكن أن يُنظر إلى الله أنه ظالم، لمجرد محاربته للظلم؟[506]

 العلامة أوريجينوس

وبما أنك بار،

فأنت تسوس بالبرّ الكل،

وتحسب الحُكم على من لا يستوجب العقابَ،

أمرًا مُنافيًا لقُدرتك. [15]

الله خالق كل البشرية في محبته للجميع وعدله لا يحابي أحدًا، فالكل أمامه سواسية. حقًا ليس من كائنٍ ما يقدر أن يقف أمامه أو يراجع في أحكامه، لكنه بعدله الإلهي يحاكم كل أحدٍ حسب استحقاقه.

v     من يشك في هذا فليقرأ ما قاله بطرس عندما زار الأممي كرنيليوس: “بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه، بل في كل أمةٍ الذي يتقيه ويصنع البٌر مقبول عنده” (أع 34:10-35). يلزمنا أن نذهب إلى أبعد من ذلك، ونقتبس ما يقوله ربنا في الإنجيل: “الذي يؤمن بي لا يُدان، والذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد” (يو 18:3)[507].

 العلامة أوريجينوس

v     الله لا يظهر محاباة لأشخاص؛ إنه يحكم على الأعمال[508].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

v     كُلنا وُلدنا متساوين، أباطرة وعامة الشعب، ونموت متساوين. بشريتنا من نوعٍ واحدٍ[509].

 القديس جيروم

لأن قُوتك هي مبدأ برّك.

وبما أنك تسود الجميع،

فأنت تُشفق على الكل. [16]

الله كمثال خالد لبني البشر يقدم لنا مفهومًا صادقًا للقيادة والتدبير، إذ يُقال:

“بما أنك تسود الجميع، فأنت تشفق على جميع الناس” (12: 16).

“أما أنت فإنك تسود قوتك، فتحكم بالرفق” (12: 18).

هكذا نرى في الله قائدنا السيادة ترتبط بالشفقة؛ والقوة بالرفق. فالقائد الحي هو الذي يسود بحبه وحنوه وترفقه، ليس على من يرعاهم فحسب، بل على جميع الناس. فالحب ليس له حدود!

حتى في تأديبه يلاطف الله جميع الناس، ويود أن يتمتعوا برحمته.

تعرض قُوتك عندما يتشكك البشر في كمال قُدرتك.

وتخزي جسارة الذين يعرفونها. [17]

حينما يعرض الله قوته، لا يعرضها كنوعٍ من الاستعراض لنوال مجدٍ ما، ولا ليرهب خليقته. لكنه يعرضها أمام غير المؤمنين لكي يقبلوه فيتمتعوا بقوته، ويتعرف عليها الجهلاء الذين لم يدركوا الإمكانات الإلهية.

كما يعرضها أيضًا أمام الذين يعرفونها فكريًا أو عقليًا دون أن يختبروها في حياتهم العملية، يعرضها لكي يَخْزوا، وتتحول معرفتهم إلى خبرة حياة مع القدير.

أما أنت فإنك تسود قٌوتك، فتحكم بالرِّفق،

وتسوسنا بكثيرٍ من العطف،

لأن في يدك القدرة على العمل متى شئت. [18]

مرة أخرى إذ نعرف أن الله هو القدير، فإن قدرته هي للتمتع بحنانه ولطفه، وسيادته أو سلطانه إنما لتدبير حياتنا والعمل لبنياننا. إن تجاوبنا معه تظهر قدرته خلال نعمته المجانية التي يهبها لمؤمنيه، فيمجدون الله القدير العامل فيهم. هكذا يربط كثير من الآباء قدره الله بنعمته.

v     لتقترب، أيها الحبيب، من الإيمان، لأن قدراته كثيرة جدًا. أصعد الإيمان (أخنوخ) إلى السماء، وغلب الطوفان، وجعل العاقر تنجب. إنه نجىٌَ من السيف، وأصعد من الجب، أغنى الفقراء، وحلٌ الأسرى، وخلص المضطهدين، وأطفأ النار، وشق البحر، وزعزع الصخر، وأعطى العطاش ماءً للشرب، وأشبع الجياع. إنه أقام الموتى وأخرجهم من الجحيم، وهدٌأ الأمواج، وشفى المرضى. قهر الأعداء وحطم الحصون. سدٌ أفواه الأسود، وأطفأ لهيب النار. أنزل المتكبرين وكرَّم المتواضعين. كل هذه الأعمال القديرة صنعها الإيمان[510].

القديس مار أفراهاط

  1. الله نموذج لشعبه

وبأعمالِك هذه علَّمت شعبك،

أن البار يجبُ عليه أن يكون مترفقًا،

وجعلتَ لأبنائِك رجاءً حسنًا،

لأنك تمنحُ التوبة عن الخطايا. [19]

يقدم الله نفسه مثالاً ونموذجًا للترفق بجميع الناس. “تاركًا لنا مثالاً لكي تتبعوا خطواته” (1 بط 2: 21).

البار الحقيقي يحمل روح الله فيحب الجميع، ولا ييأس من خلاص أحد، فإن الله يمنح التوبة عن الخطايا للمشتاقين لمعرفة الحق أو للخلاص الأبدي.

التوبة هي منحة من الله، وليست عملاً بشريًا مجردًا، بأن يحاسب الإنسان نفسه بنفسه. فإن هذا الحساب قد يدفع إلى ندامة بلا رجاء في مراحم الله، كما حدث مع يهوذا الذي بسبب ثقل شعوره بالجريمة شنق نفسه.

ماذا علّم الله شعبه خلال تصرفاته حتى مع الأشرار؟

أ. بحنوه على الأشرار، وتأديبهم تدريجيًا وليس دفعة واحدة، علمنا أن نحمل روحه، فنحب جميع الناس، حتى المقاومين لنا [19].

ب. لله خطة معينة سواء في حنوه أو تأديباته، مؤكدًا أن لكل شيءٍ المكان المناسب والزمن اللائق، فلا نتعجل الله في تأديبه للأشرار [20].

ج. يبقى الله أمينًا ويحقق وعوده التي قدمها للآباء، حتى وإن أدَّب الأبناء [21].

د. في وسط التأديب البطيء لمقاومينا نركز أنظارنا على مراحم الله، فلا نيأس ولا تتحطم نفوسنا [22]. فإن كان الله يترفق بالمقاومين، فيجلدهم قليلاً، فلنذكر كيف يطيل أناته جدًا علينا، فنمتلئ رجاء أننا ننعم برحمته يوم الدينونة.

فإن الذين كانوا أعداء أبنائك،

ومستوجبين للموت،

إن كنتَ عاقبتهم بمثلِ تلك العناية والتساهل،

مقدمًا لهم زمانًا وفرصة للإقلاع عن شرهم. [20]

يستخدم الحكيم كل وسيلة ليجتذبنا إلى طول الأناة على الأشرار، فإن الله نفسه الديان حتى في معاقبته هنا للأشرار، يؤدبهم برفقٍ وتساهلٍ، منتظرًا موعد توبتهم. في تعليق القديس مار يعقوب السروجي على تهديد الله بهلاك نينوى يوضح كيف أنه يحكم لكي يستأنف الإنسان قضيته، مقدمًا التوبة الصادقة مع التواضع شفيعًا أمام محكمة لله، فيعلن الله ليس فقط براءته، بل سروره الإلهي بهذه البراءة.

v     الموت هو تغرب واستقصاء عن الله؛ والحياة هي خلود، والسلام هو شركة معه[511].

جيناديوس أسقف القسطنطينية

فبأية دقةٍ حاكمتَ أبناءَك،

الذين وعدتَ آباءَهم،

بأقسامٍ وعهودٍ مملوءة بالوعود الصادقة؟ [21]

إن كان الله يترفق هكذا حتى بمضايقي شعبه، فكم بالأحرى يتحنن على أبنائه المتعلقين به، والذين وضعوا ثقتهم في وعوده.

وهكذا فإنك إذ تؤدِّبنا بجلْدِ أعدائنا ألف مرة،

لكي نتذكر حلمك إذا حكمنا،

وننتظر رحمتك إذا حُكمنا. [22]

مهما بدت التأديبات التي تحل بالشرير قاسية ومرة، تُحسب خفيفة للغاية إن قورنت بما سيعانيه في اليوم الأخير إن لم يتب.

المؤمن الجاد في حياته يتطلع إلى تأديبات الله للأشرار أنها طول أناة، لأن الله ينتظر توبتهم ورجوعهم، حتى لا يسقطوا تحت العقاب الأبدي. هي درس للأشرار أنفسهم كما للصديقين.

  1. الخطية تحمل عقوبتها في داخلها

لأجل ذلك فالذين عاشوا في الغباوة عيشة ظُلم،

عذبتهم برجاسات أنفسهم. [23]

يعود للحديث عن تأديبه للمصريين تدريجيًا فيؤكد الآتي:

أ. أنه يتطلع إلى الأشرار كأطفالٍ بلا فهم. بدأ أولاً بالسخرية كيف يعبدون الحيوانات حتى الحشرات الحقيرة أقاموا منها آلهة [24-25].

ب. إذ لم يكترثوا بالسخرية سقطوا تحت تأديبات أشَّد [26-27]، انتهت بقتل الأبكار وغرق فرعون وجيشه في البحر.

كثيرًا ما يوضح هذا السفر أن ما يحل بالخاطئ من متاعب، وإن كانت بسماح من الله لتأديبه، لكنها هي ثمرة طبيعية للفساد الحالّ بالخطية. الخطية ذاتها تحمل جرثومة الفساد، وتحمل المرارة فيها.

v     يبقى سؤال واحد يحتاج إلى إجابة: هل تعيشون بالتقوى في هذا العالم أم بالشر؟ فإن كنتم لا تعيشون بالتقوى يلزمكم ألا تتعجبوا إذا أدبكم الرعاة هنا، وإن كنتم لا تعانون منا، بل الله هو يؤدبكم بقبائح نفوسكم[512].

القديس أغسطينوس

فإنهم في ضلالهم تجاوزوا طرق الضلال

مُتَّخذين ما يستحقره أعداؤهم من الحيوانات آلهة،

مخدوعين كأطفالٍ لا يفقهون. [24]

رأينا كيف سقط المصريون في عبادة الحيوانات بل والحشرات الضعيفة، في بلاهة سقطوا، كأطفالٍ غير حكماء في هذه العبادة.

لذلك بعثت عليهم عقاب أولادٍ لا عقل لهم،

حُكمَ للسُخرية. [25]

إذ عبد المصريون الحيوانات غير العاقلة، صبغ عليهم عدم التعقل، وصاروا موضع سخرية.

ظنوا انهم قادرون أن يمارسوا قوات وعجائب بالسحرة، ووقف السحرة في عجز أمام الضربات التي حلت بفرعون وشعبه.

v     حاول الطاغية فرعون أن يقابل الآيات الإلهية التي أظهرها موسى وهرون بخدعٍ سحرية قام بها السحرة الذين له (خر7: 1-12). وعندما حوَّل موسى عصاه مرة ثانية إلى حية أمام أعين المصريين، ظن أولئك أن سحر السحرة يمكن أن يصنع معجزات مماثلة بعصيهم. ولكن ثبت أن هذا خداع عندما أكلت الحية التي كانت عصا موسى عصي السحرة – التي كانت تبدو كحياتٍ – ولكن لم يكن لها أية وسيلة للدفاع عن نفسها أو أية قوة للحياة، بل كانت مظهرًا خادعًا فقط، زيفه السحرة بمهارةٍ أمام من كان من السهل خداعهم[513].

القديس غريغوريوس النيسي

لكن الذين لم يتعظوا بتأديبٍ السُخرية

ذاقوا الحُكم اللائق بالله. [26]

كان يليق بفرعون ورجاله أن يعيدوا النظر في موقفهم بعد أن صاروا موضع سخرية، وفي مركز الضعف. لكنهم أصروا على الاستمرار في عنادهم، واقتفوا أثر موسى وشعبه، بل وأرادوا العبور وراءهم في ذات الطريق الذي ظهر وسط مياه بحر سوف، فهلكوا.

v     لقد قدَّم لنا ما يخص خروج إسرائيل لكي نعرف الذين يخلصون بالمعموديَّة… البحر هو رمز للمعموديَّة، فخلَّص الشعب من فرعون كما تخلُص أنت من طغيان إبليس في المعموديَّة. أهلك البحر العدو، وفي المعموديَّة تُقتل عداوتنا لله. خرج الشعب من البحر أصحَّاء وسالمين، ونحن أيضًا نخرج من الماء كمن هم أحياء يخرجون من بين الأموات.

القدِّيس باسيليوس الكبير

اِغتاظوا من تلك البهائم التي كانت تُعذبهم،

ورأوا أنهم يُعاقبون بالتي حسبوها آلهة،

فعرفوا الإله الحق الذي جحدوه،

ولذلك حل عليهم العقاب الأخير. [27]

العقاب الأخير  بعد الضربات العشر هو غرقهم في بحر سوف كرمزٍ للهلاك الأبدي في البحيرة المتقدة نارًا، وألقوا بأنفسهم فيه في غباوةٍ واستهتارٍ.

 


 

من وحي الحكمة 12

هب لي حكمتك يا أيها القائد الإلهي

v     أنت هو القائد الإلهي العجيب!

أراك في غير محاباة، تحنو على الجميع.

تترفق بمؤمنيك، وأيضًا في أبوتك تؤدب.

حبك يشع من لطفك كما من حزمك.

باللطف تجتذبنا إلى الحضن الإلهي.

وبالحزم تمرر الخطية في أفواهنا.

نحبك بالحق، ونبغض الخطية بالحق.

 

v     في جهالة قدم الوثنيون للحجارة ذبائح بشرية.

قلوب الأمهات والآباء سلمت الأطفال للذبح والحرق.

الأطفال العاجزون عن الدفاع صاروا ضحية فساد والديهم.

تحولت العبادة إلى حفلات ماجنة،

لا تعرف إلا الشر والفساد.

سادهم اللهو والدعارة.

 وسيطر العنف والقتل عليهم.

لم تبدهم يا حكمة الله دفعة واحدة،

لكنك سمحت بدمار مدينةٍ فمدينةٍ.

وفي هذا كله تركت مجالاً لمن يرجع إليك أن ينجو.

 

v     يا حكمة الله أنت تعتني بالكل!

أنت إله الجميع، ليس لديك محاباة.

حينما أخطأ شعبك في البرية لقوا مصرعهم بالموت.

شربوا من مياه الخطية التي أحبوها،

امتلأ الكأس فشربوه!

وفي هذا كله أنت طويل الأناة مع المؤمنين وغير المؤمنين.

 

زر الذهاب إلى الأعلى