تفسير سفر صفنيا ٣ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث

إذ تصمم أورشليم على مسلكها الشرير يدعوها: “المتمردة المنجسة، المدينةالجائرة“. إنها لم تسمع لصوت الرب، ولم تقبل التأديب، ولا اقتربت إلى إلهها. تحولت القيادات فيها إلى فئات مدمرة عوض العمل لحساب ملكوت الله. لذلك تسقط مع بقية الأمم تحت السخط، ليقيم أورشليم جديدة متهللة، تضم الشعوب معًا كنيسة متعبدة بشفاه نقية، يسكن الرب في وسطها.

 

المدينة الجائرة 1-7:

وَيْلٌ لِلْمُتَمَرِّدَةِ، الْمُنَجَّسَةِ، الْمَدِينَةِ الْجَائِرَةِ. [1]

يصف أورشليم بسمات مشينة للغاية، فيدعوها متمردة ونجسة وجائرة. فمن الخارج هي مدينة الله التي كان يليق بها أن تكون وكالة الله، لكن بسلوكها متمردة عليه، فتصير أشر من المدن الوثنية. وهي مركز العبادة، حيث فيها الهيكل المقدس، لكن في حياتها نجسة. هذه السمة في العبرية Moreah وهي تقترب من كلمة المريا Mariah، اسم التل الذي بُني عليه الهيكل. فعوض المريا صارت Moreah أي نجسة لا موضع لقداسة الله فيها. وأخيرًا فهي جائرة لا تشهد لمراحم الله وترفقه بالفئات المحتاجة إلى عونٍ. بمعنى آخر اختارها مدينته فعوض الطاعة له صارت متمردة، وفيها أقام هيكله حيث العبادة، لكن عوض القداسة صارت نجسة. وقدم لها وصية الحب والرحمة نحو القريب، لكنها صارت جائرة لا تسمع للوصية الإلهية. يوصي الرب ملك يهوذا وسكان أورشليم قائلًا: “أجروا حقًا وعدلًا، وأنقذوا المغصوب من يد الظالم والغريب واليتيم والأرملة لا تضطهدوا، ولا تظلموا، ولا تسفكوا دمًا زكيًا في هذا الموضع” (إر 22: 3).

ثلاث سمات خطيرة تفقد الشعب كما الشخص شركته مع الله القدوس واهب الحياة والقداسة والحب. هذه السمات هي : التمرد أو عدم الطاعة، والنجاسة أو عدم القداسة، وأخيرًا الجور أو الظلم وعدم المحبة. هده السمات الثلاث تمس حياة الإنسان الداخلية وعلاقته بالله وعلاقته بأخيه. فالتمرد هو عدم طاعة لله وعدم حفظ لوصيته. والقداسة تمس بالأكثر أعماقه الداخلية. والجور يمس بالأكثر علاقته بإخوته. هذا وإن كان كل سمة لها انعكاساتها على هذه المجالات الثلاثة، إذ لا فصل بين الطاعة لله وتقديس الإنسان وحبه للقريب.

أ. التمرد أو عدم الطاعة:

يرى القديس أغسطينوس في شرح لقول المرتل: “من وصاياك أتفطن، لذلك أبغضت كل طريق الشر ” (مز 119: 104) ربطا بين هذه السمات الثلاثة. فهو يرى في طاعة وصايا الله تمتعًا بغنى معرفة الحكمة، وبهذا الغنى يشمئز من كل طرق الشر، ويحب البرّ ويبعض الظلم.

*    بالطاعة لوصايا الله يبلغ (المرتل) فهم الأمور التي يشتاق أن يعرفها… هذه هي كلمات أعضاء المسيح الروحية: “بوصاياك أنال فهمًا”… فالذين يحفظون الوصايا ينالون غنى أعظم في معرفة الحكمة… وبحب البرّ يبغض كل ظلمٍ… تُعطى الحكمة العلوية لمن يطيع الله، وينال فهمًا من وصاياه(29).

القديس أغسطينوس

*    ليس ما يسر الله مثل الطاعة(30).

القديس جيروم

ب. أما عن القداسة فقيل:

*    “اللهم في القداسة طريقك” (مز 77: 13). فإن كنت غير مقدس، فطريق الله ليس فيك. ما هو طريق الله؟ “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو 14: 6). إنه المخلص القائل بهذا. إذن الطريق هو ابن الله. طريق الله هو الإنسان المقدس وحده. إن أردنا أن يسكن المسيح فينا، فلنكن قديسين، لأن طريق الله هو القداسة(31).

*    إنسان القداسة لا يحتاج أن يخشى تلك النار “قدامه تذهب نار وتحرق أعداءه حوله” (مز 97: 3) ليخشها الخاطي. فالنار تطهر القديسين، وتحرق الخطاة “قدامه تذهب نار”. “الصانع ملائكته أرواحًا، وخدامه نارًا ملتهبة” (مز 104: 4)(32).

القديس جيروم

ج. بخصوص الظلم قيل:

*    كما أنه لا يمكن أن يوجد توافق بين المسيح وبليعال، وبين البّر والجور (2 كو 6: 14-15)، هكذا يستحيل لنفسٍ واحدةٍ أن تحب الصلاح والشر. يا من تحبون الرب لتبغضوا الشرير، الشيطان ؛ في كل عمل يوجد حب لواحدٍ وبغض للآخر(33).

*    الإنسان المتكبر، يقتني في كبريائه مصدر كل الشرور الأخرى، ولا يقدم ندامة، إذ يظن أنه موضع استحسان الله. الكبرياء ضد الله، إذ لا يخضع له، حيث يحسب المتكبر أنه بار. إنه لا يتوب عن شروره، إنما يتفاخر برياءٍ بأعماله الصالحة(34).

القديس جيروم

لَمْ تَسْمَعِ الصَّوْتَ. لَمْ تَقْبَلِ التَّأْدِيبَ.

لَمْ تَتَّكِلْ عَلَى الرَّبِّ. لَمْ تَتَقَرَّبْ إِلَى إِلَهِهَا. [2]

هنا يكشف عن مرض أورشليم المستعصي، وهو رفضها للإصلاح، وعدم ثقتها في الطبيب السماوي، وهروبها منه. يحمل مرضها ثلاث سمات خطيرة:

أ. رفضها لصوت طبيبها السماوي، وعدم رغبتها في الإصلاح.

ب. عدم اتكالها عليه، كمن يعجز عن أن يداويها ويشبع احتياجاتها.

ج. عدم اقترابها إليه، كأنها تطلب أن يرحل عنها، ولا يسكن في داخلها. يقول موسى النبي: “لأنه أي شعب هو عظيم له آلهة قريبة منه كالرب إلهنا في كل أدعيتنا إليه” (تث 4: 7). إنه يود أن ينسب نفسه إليها، فيُدعى إلهها لكنها تبتعد وتتغرب عنه.

*    كانت (أورشليم) هكذا من أجل رفضها إلى النهاية الاستماع لكلمة النبي المرسلة إليها، وعدم قبولها بأية وسيلة التعليم من المصدر. وإن بدت تتعهد بالتغيير إلى حين، لكنها عادت مرة أخرى إلى سماتها الشريرة. على أي الأحوال لم تبالِ بإرسال الله النبي لها، ولم تتخذ قرارًا أن تصغي إليه مؤخرًا، محتقرة مثل هذه الخبرة الرائعة. على العكس لقد نسيته تمامًا، وأعلنت الحرب ضده، مهاجمة أورشليم بعد إبادة العشرة أسباط، المدينة التي بها كان يوجد هيكل الله(35).

ثيؤدور أسقف المصيصة

العجيب أن الطبيب السماوي نزل إلينا واقترب منا، لكننا نحن نرفض الاقتراب منه. لذا لاق بنا أن نصرخ مع المرتل قائلين: “إليك يا رب أرفع نفسي. يا إلهي عليك توكلت” (مز 25: 1-2).

*    “إليك يا رب أرفع نفسي”؛ بالشوق الروحي أرفع نفسي التي انحطت على الأرض باشتياقات، جسدانية. “يا إلهي عليك توكلت، فلا أخزى” (مز 25: 2). إلهي باتكالي علي ذاتي بلغت إلى ضعف الجسد هذا. أنا الذي بهجري لله اشتقت أن أكون مثل الله، أخشى الموت من أصغر الحشرات. الآن في سخرية أخزى من كبريائي “عليك توكلت فلا أخزى”(36).

القديس أغسطينوس

*    “طوبى للرجل الذي تعلمه يا رب” (مز 94: 12). طوبى للرجل الذي يقبل الله معلًما له… طوبى للرجل الذي تدربه يا رب وتعلمه في شريعتك، في أسفارك المقدسة… فإنها تعطيه راحة في أيام الشدة، وتحفر حفرة للخاطي (الشرير)(37).

القديس جيروم

يقدم لنا النبي مفهومًا رائعًا للتدين، ألاَّ وهو التقرب إلى الله، فإنه يريدنا أن نلتصق به.

*    “الرب قد ملك، لبس الجلال” (مز 93: 1). الرب هو ملك، لبس جلال الآباء (البطاركة) والأنبياء والشعب المؤمن. إنه يلبس الجلال؛ وكأن البطاركة (إبراهيموإسحق ويعقوب) والأنبياء هم ثوب المسيح. إنهم المنطقة التي أشير إليها في إرميا. أتريدون أن تعرفوا أن القديسين يشبهون منطقة الله وثوبه؟ يقول الله نفسه: “لأنه كما تلتصق المنطقة بحقوي الإنسان هكذا ألصقت نفسي بشعبي” (راجع إر 13: 11). شعب الله ملتصقون به، كالتصاق ثوب الإنسان بجسمه. ولكن لأن هذه المنطقة، أو هذا المجد الذي يلتحف به الرب، قد طرح على الجانب الآخر من الفرات، واُلقي في شق بالصخرة فقد فسد (إر 13: 4-12)… الرب ليس عاريًا، فإنه لا يستطيع أن يبقى بلا منطقة، لا يمكن أن يكون بلا غطاء. فإذ فقد الشعب الأول صنع لنفسه ثوبًا من الأمم(38).

القديس جيروم

رُؤَسَاؤُهَا فِي وَسَطِهَا أُسُودٌ زَائِرَةٌ.

قُضَاتُهَا ذِئَابُ مَسَاءٍ لاَ يُبْقُونَ شَيْئًا إِلَى الصَّبَاحِ. [3]

قادتها أمثلة خطيرة في الشر والظلم والافتراس؛ هؤلاء كان يلزم أن يكونوا أطباء لها، يعالجون أمراضها، إذا بهم كأسودٍ زائرةٍ في وسطها وكذئاب مساءً يفترسون بالليل، ولا يتركون أثرًا للفريسة في الصباح. إنهم يفتكرون بكل من هم حولهم، غير مبالين بالشريعة الموسوية أو الناموس الطبيعي.

أما القضاء فمن أجل مجاملتهم للرؤساء المتشبهين بالأسود يسلكون في الظلمة كذئاب تظهر في المساء لكي تفترس وتأكل. يأكلون اللحم والعظم حتى لا يبقون من الفريسة شيئًا إلى الصباح.

أَنْبِيَاؤُهَا مُتَفَاخِرُونَ، َهْلُ غُدْرَاتٍ.

كَهَنَتُهَا نَجَّسُوا الْقُدْسَ. خَالَفُوا الشَّرِيعَةَ. [4]

لم يعد الأنبياء يقدمون مشيئة الله ويعلنون عن وصيته، إنما من أجل الكرامة الزمنية والملذات والمكاسب المادية يخدعون النفوس بالكلمات الناعمة الكاذبة ومحاباة الوجوه. لم يعودوا رسل السماء وسفارة الله، بل صاروا كعدو الخير الضال والمخادع، ليس للحق موضع فيهم، صاروا خائنين وغادرين، ليس من يثق بهم. وكما يقول الرب على لسان إرميا: “هأنذا على الأنبياء يقول الرب الذين يأخذون لسانهم ويقولون: قال. هأنذا على الذين يتنبأون بأحلامٍ كاذبة يقول الرب، الذين يقصونها ويضلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم، فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة يقول الرب” (إر 23: 32).

هكذا ضل الأنبياء الكذبة، وضللوا الشعب، فنطقوا بما هو من عندهم ونسبوه لله. أما الكهنة فعوض الخدمة في الهيكل لأجل تقديس الشعب، صاروا هم أنفسهم علة نجاسة للقدس أو للهيكل. وعوض التعليم بالشريعة والوصية الإلهية، ليرجع الشعب إلى الله بالتوبة والطاعة، صاروا هم أنفسهم مخالفين للشريعة. خان الكهنة العهد الإلهي وأفسدوا العبادة وشكلوا الكلمة الإلهية حسب أهوائهم لخدمة أنفسهم ومداهنة العظماء والأغنياء.

اَلرَّبُّ عَادِلٌ فِي وَسَطِهَا لاَ يَفْعَلُ ظُلْمًا.

غَدَاةً غَدَاةً يُبْرِزُ حُكْمَهُ إِلَى النُّورِ. لاَ يَتَعَذَّرُ.

أَمَّا الظَّالِمُ فَلاَ يَعْرِفُ الْخِزْيَ. [5]

لقد ظن اليهود أن سرّ تقديسهم ونجاحهم ونصرتهم على الأمم وجود أورشليم مدينة الله وقيام العبادة في هيكل سليمان. حقًا الله حاضر، لكن لا يظلل عليهم بجناحي حنوه ورحمته، بل لينظر ويحقق عدله الإلهي مؤدبًا شعبه على ما حلّ به من فساد دون رغبة في الرجوع إليه والتوبة عن الفساد،

كأنه يقول: أنتم تفتخرون بأن الله في وسطكم. فليكن، فإنه عادل، فلماذا لا تكونون أنتم عادلين مثله؛ إنه نور، فلماذا تمارسون أعمال الظلمة، وتفعلون الشر كما في الخفاء، كأن الله لا يراكم ولا يسمع كلماتكم ولا يدرك أفكاركم؟

وجود الله القدوس في وسطكم لا يبرركم، بل بالعكس يُدينكم على فسادكم. “لأن الرب إلهك سائر في وسط محلتك لكي ينقذك ويدفع أعداءك أمامك، فلتكن محلتك مقدسة لئلا يري فيك قذر شيء فيرجع عنك” (تث 23: 14). “قل لهم: تكونون قديسين، لأني قدوس الرب إلهكم” (لا 19: 2). “يتكلون على الرب قائلين: أليس الرب في وسطنا؟ لا يأتي علينا شر” (مي 3: 11).

غداة (صباحًا) غداة يبرز حكمه إلى النور“؛ فإن كان الله في طول أناته لم يؤدب بعد، لكن مع كل صباح جديد فليترقبوا حكم الله في النور، أي علانية، حيث يؤدب وليس من يقدر أن يبرر نفسه أو يقاوم التأديب ويهرب منه. إنه لا يتعذر عليه تحقيق أحكامه.

النفوس التائبة تقول مع إرميا النبي: “مراحمه لا تزول؛ جديدة في كل صباح” (مراثي 3: 22-23)، أما المعاندون فيلزمهم أن يترقبوا التأديب الإلهي في كل صباح. إن كان الله يهدد الخطاة المتهاونين والمستهترين بأن يوم التأديب قادم سريعًا، فانه لا يود حزن البشر ومرارتهم، إنما وهو يهدد إنما ليفتح الباب ليتمتعوا بمراحمه الفائقة خلال توبتهم.

*     يمطر على الأشرار فخاخًا” (مز 11: 6). بدون أي شكٍ فإن الرب هو الذي يعد فخاخًا للخطاة أنفسهم لكي يصطاد الذين أساءوا استخدام حريتهم، ولكي يدفعهم إلى السلوك في الطريق المستقيم تحت لجامه، فيجعل في قدرتهم أن يتقدموا بذاك القائل: “أنا هو الطريق” (يو 14: 6). لذلك ففي إرميا (16: 16) يرسل الرب صيادي سمك وصيادي وحوش لينصبوا شباكهم من أجل السمك المفقود وسط الدوامات، ويصطادوا الوحوش الجائلة على الجبال والتلال لنتمتع بالخلاص… فهذه العبارة وما بعدها لا تعد باتوبة للخطاة كما يعتقد كثيرون، بل بالحري تقدم وعدًا بالشفاء(39).

القديس جيروم

قَطَعْتُ أُمَمًا.

خَرَّبْتُ شُرُفَاتِهِمْ.

أَقْفَرْتُ أَسْوَاقَهُمْ بِلاَ عَابِرٍ.

دُمِّرَتْ مُدُنُهُمْ بِلاَ إِنْسَانٍ، بِغَيْرِ سَاكِنٍ. [6]

كان يليق بشعب الله أن يتعظ بتأديبات الله للأمم الوثنية المحيطة بهم، فإنه أطال أناته عليهم، لكن في الزمن المحدد سقطوا تحت أحكامه الحازمة جدًا حتى زالت ممالك، وضربت قصور ملوكها، ودمرت مدنها العظيمة، وتحولت إلى قفر بلا ساكن.

ولعله يقصد هنا أمم كنعان السبع المذكورة في لاويين (18: 28)، أو الأمم المحيطة بهم، وقد سمح الله بخرابهم حتى تتعظ أورشليم ويرجع يهوذا إلى الرب بالتوبة.

يرى القديس جيروم وكثير من الآباء أن الأمم التي يقطعها الرب تُشير إلي الهراطقة الذين ينادون بالتعاليم الخاطئة، لكن سرعان ما يُقطعون.

*    “إلهي، اجعلهم مثل عَجَلةْ” (مز 83: 13) فلا يكون فيهم استقرار، بل يكونون دومًا غير مستقرين ليس لهم وضع ثابت، بل دومًا يكونون متحركين يتدحرجون (كالعجلة) إلى خلف وقدام. فكما أن العجلة ليست ثابتة في ذاتها هكذا الهراطقة لا يستقرون بثباتٍ في تعاليمهم وآرائهم، إنما دومًا يغيرونها(40).

*    إنهم لا يبحثون عن المعرفة لأجل الخلاص، وإنما يبحثون عن تعليمٍ جديدٍ ليتغلبوا على الخصم. ليسقطوا بآرائهم المتضاربة الكثيرة، وليكن لهم ملجأ واحد، هو أنت يا الهي!(41)

 القديس جيروم

فَقُلْتُ: إِنَّكِ لِتَخْشَيْنَنِي.

تَقْبَلِينَ التَّأْدِيبَ. فَلاَ يَنْقَطِعُ مَسْكَنُهَا حَسَبَ كُلِّ مَا عَيَّنْتُهُ عَلَيْهَا.

لَكِنْ بَكَّرُوا وَأَفْسَدُوا جَمِيعَ أَعْمَالِهَا. [7]

يتحدث الله معنا بلغتنا، حيث قدم لشعبه مثلًا بالأمم المحيطة كان يتوقع منهم أن يحملوا مخافته ويقبلوا تأديبه ويرجعوا إليه، فلا يحل الخراب الذي تكلم به عليهم. فمع تهديدهم بالخراب يود ألاَّ يسقطوا فيه، بل يخلصوا منه. هدد بالأنبياء أنه سيقطع عنهم المسكن أو يزيله من أورشليم، لكنه بتهديده يود ألاَّ يزيله متى رجعوا إليه.

بقوله “مسكنها” ينسب الهيكل إلى أورشليم أو إلى الشعب لا إلى نفسه، فلم يقل “مسكني“. هذا هو أسلوب الله في تعامله مع شعبه. فإن تقدسوا يحسبهم شعبه ويدعو أعيادهم أعياده، وسبوتهم سبوته، وهيكلهم هيكله، وإن لم يتقدسوا لا يحسبهم شعبه ولا أعياده ولا سبوته ولا مدينته ولا هيكله.

ما يحزن قلبه أنه وهو يتوقع امتثالهم بما حدث بجيرانهم فيتوبون ويرجعون إليه، إذا بهم في عنادٍ يبكرون لكي يغيظوا الله بإفسادهم كل أعمالهم. اجتهدوا بالأكثر في البحث عن توقيتٍ مبكرٍ ليمارسوا كل دنسٍ ونجاسةٍ.

العجيب في الإنسان، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة، يريد أن يكون الله طويل الأناة معه، ومنتقمًا مع مقاوميه. فقد كان الشعب اليهودي يطلب النقمة من الشعوب الوثنية المقاومة لهم، وفي نفس الوقت يرتكبون هم ذات شرور الأمم ويسقطون في عبادة الأصنام ورجاسة الأمم، وهم يترقبون طول أناة الله عليهم.

*   

“حتى متى الخطاة يا رب، حتى متى الخطاة يفتخرون؟” (مز 94: 3) في عدم طول الأناة لا تريد البشرية أن يكون الله طويل الأناة مع الغير. كمخلوقات بالحق نود أن نكون موضع شفقة، فنطلب من الله طول الأناة علينا، وألاَّ يكون طويل الأناة على أعدائنا. عندما نخطئ نتوسل إلى الله أن يطيل أناته علينا، ولكن عدما يخطئ أحد ضدنا لماذا لا نتوقع طول أناة الله عليه؟(42)

القديس جيروم

*    أنكم تتذمرون لأن الأشرار لا يُعاقبون (الآن)؛ لا تتذمروا لئلا تُعاقبوا معهم. هذا الإنسان ارتكب سرقة ويحيا؛ أنتم تتذمرون على الله لأن الذي ارتكب سرقة منكم لم يمت… فإن كنتم تودون إصلاح يد الغير (فلا تسرق) فلتصلحوا أنتم ألسنتكم. تريدون إصلاح القلب من جهة إنسان (فلا يسرقك)، فلتصلحوا أنتم قلوبكم من نحو الله، لئلا وأنتم تشتهون نقمة الله، فإنها إذ تحلّ تجدكم أنتم في البداية. فإنه سيأتي، سيأتي ويدين الذين هم مستمرون في شرهم، الجاحدين طول أناته وامتداد رحمته، فتكنزون لأنفسكم الغضب يوم الغضب(43).

القديس أغسطينوس

 سقوط الكل تحت السخط 8:

لِذَلِكَ فَانْتَظِرُونِي يَقُولُ الرَّبُّ.

إِلَى يَوْمِي أَقُومُ إِلَى السَّلْبِ،

لأَنَّ حُكْمِي هُوَ بِجَمْعِ الأُمَمِ وَحَشْرِ الْمَمَالِكِ،

لأَصُبَّ عَلَيْهِمْ سَخَطِي، كُلَّ حُمُوِّ غَضَبِي.

لأَنَّهُ بِنَارِ غَيْرَتِي تُؤْكَلُ كُلُّ الأَرْضِ. [8]

كأن الله يتطلع إلى القلة القليلة المقدسة من شعبه ليحدثهم عن خطته حتى في لحظات غضبه. يسألهم أن يتطلعوا إلى أزمنة المجد القادمة. فإنه بعد أن يحل يوم العقوبة أو التأديب على كل الأمم، تأكل غيرته كل الأرض، ليقيم مملكته السماوية. ففي غيرته لا يطلب دمار الناس، بل دمار ما هو أرضي فيهم، ليصيروا هيكلًا مقدسًا له، يحمل سمات سماوية مقدسة.

“أقوم إلى السلب”: بعد التأديب الحازم يحمل الرب غنائم النصرة حين ترجع الأمم وتؤمن به، فتصير غنائمه المفرحة.

 قيام أورشليم المتعبدة 9-10:

لأَنِّي حِينَئِذٍ أُحَوِّلُ الشُّعُوبَ إِلَى شَفَةٍ نَقِيَّةٍ،

لِيَدْعُوا كُلُّهُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ، لِيَعْبُدُوهُ بِكَتِفٍ وَاحِدَةٍ. [9]

إذ ينزع عن الأمم ما هو أرضي ليهبهم مما عنده ما هو سماوي، فإنه ينزع عنهم ما حلّ بالبشرية أيام نوح حين بلبل ألسنتهم لكي لا يقيموا لأنفسهم برجًا رأسه في السماء. الآن يجعل كل الأمم تقدم ذبيحة الصلاة والتسبيح بشفةٍ (بلغةٍ) نقية. ما هي هذه اللغة النقية إلاَّ لغة الروح؟ في المسيح يسوع تجتمع الكنيسة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها، تتعبد له بروح سماوي مقدس، بفكرٍ واحدٍ وقلبٍ واحدٍ. هذا ما أعلنه الله خلال الأنبياء بخصوص كنيسة العهد الجديد، نذكر على سبيل المثال: “في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان” (إش 19: 18). “ويكون الرب ملكًا على كل الأرض؛ في ذلك اليوم يكون الرب وحده واسمه وحده” (زك 14: 9).

إذ يصير للكل فكر واحد عمل الكل معًا حاملين نيره الهين أو الحلو كما بكتفٍ واحدةٍ؛ فيشترك الكل في عمل صليبه الواحد يفرحٍ وبهجة قلبٍ!

*    إذ نفذ صبر اليهود لم يعودوا بعد يحتملون (تسابيح الأطفال للسيد المسيح)، فحاولوا أن يسكتوا هؤلاء الأطفال الذين أشار إليهم الرب في إشعياء: “هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب” (إش 8: 18). حيث أن الكبار وشيوخ اليهود صمتوا، وأيضًا الفريسيين وهم يجزون على أسنانهم في حسدٍ مملوء حقدًا، صرخ الأطفال ومجدوا المسيح. فإنهم إن صمتوا، فالحجارة ذاتها تصرخ، أي الأمم الذين كتب عنهم في الإنجيل: “الرب قادر أن يقيم من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم” (راجع مت 3: 9). تُشير هده الحجارة إلينا نحن الذين في وقت ما كنا قساة القلوب، والآن نومن بالمسيح يسوع، وتمتعنا بالبنوة بين أبناء إبراهيم، وصرنا أبناء الله القدير، الذي له المجد إلى الأبد الأبد، آمين(44).

القديس جيروم

*    حيث أن هذا النص (إش 11: 6) لا يُشير حرفيًا إلى حيوانات مفترسة، فليقل اليهود عندما يتحقق هذا بالفعل. فإن الذئب لا يرعى مطلقًا مع حملٍ. فإن كان هذا يحدث أنهما يرعيان معًا، فبماذا ينفع هذا الجنس البشري؟ فالنص لا يُشير إلى وحوشٍ مفترسٍة بل إلى شعبٍ مفترسٍ. إنه يُشير إلى السكيثيين وأهل تراسيا وأهل موريتانيا، والهنود والسامريين والفارسيين. لقد أظهر نبي آخر هذا بوضوح أن كل هذه الأمم سوف تأتي معًا تحت نيرٍ واحدٍ، وكل واحد يسجد له في مكانه (صف 3: 9؛ 2: 11). يقول أنه لا يعود الشعب يتعبد له في أورشليم، بل في كل موضع في العالم. لا يعود يؤمر الشعب بأن يذهب إلى أورشليم، بل يبقى كل واحدٍ في بيته ويقدم هذا العبادة(45).

القديس يوحنا الذهبي الفم

مِنْ عَبْرِ أَنْهَارِ كُوشٍ الْمُتَضَرِّعُونَ إِلَيَّ،

مُتَبَدِّدِيَّ يُقَدِّمُونَ تَقْدِمَتِي. [10]

يُشير هنا إلى مجموعة من اليهود تشتتوا فذهبوا إلى كوش، لذا يدعوهم “متبددي” وهم يتضرعون إلى الله منتظرين الرجوع والإصلاح، هؤلاء إذ يقبلون الإيمان بالسيد المسيح يقدمون تقدمه الرب الروحية (رو 12: 1) خارج أرض إسرائيل، بكونهم كنيسة العهد الجديد. 

يرى العلامة أوريجينوس أنه إذ يتطلع إنسان ما إلى إسرائيل أنه سيخلص بقبولهم الإيمان بعدما يدخل ملء الأمم الإيمان (رو 11: 25)، فإنه يجتمع الأمم مع إسرائيل ليعبدوا الله كما تحت نيرٍ واحدٍ بكتفٍ واحدةٍ (صف 3: 9). ومن أقاصي إثيوبيا (كوش) يقدمون له ذبائح (صف 3: 10)، وكما جاء في المزامير: “تبسط إثيوبيا يدها لله، وإلى ملوك الأرض” (راجع مز 68: 31-32)(46).

كثيرًا ما تحدث القديس جيروم عن شعب الله المقدس بكونه ثوب الجلال الذي يلتصق به الرب. يرى أن الرب قد لبس الجلال (شعبه المتمتع بجلال نعمته)، (مز 97: 1)، وإذ فقد الشعب الأول لم يبقَ الرب عاريًا بل صنع لنفسه ثوبًا من الأمم.

*    يقول: “الرب قد ملك، فلتبتهج الأرض، ولتفرح الجزائر الكثيرة” (مز 97: 1). لا تفرح جزيرة واحدة، أي اليهودية، بل جزائر كثيرة، أي العالم كله!(47)

*    كل غايته في الصعود علي الصليب أن يرفعنا من الأرض. أظن أن صليب المخلص هو السلم الذي رآه يعقوب. على ذاك السلم تنزل الملائكة وتصعد. وعلى ذاك السلم الذي هو الصليب، كان اليهود ينزلون والأمم يصعدون(48).

القديس جيروم

4. أورشليم المتواضعة 11-12:

فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لاَ تَخْزِينَ مِنْ كُلِّ أَعْمَالِكِ الَّتِي تَعَدَّيْتِ بِهَا عَلَيَّ.

لأَنِّي حِينَئِذٍ أَنْزِعُ مِنْ وَسَطِكِ مُبْتَهِجِي كِبْرِيَائِكِ،

وَلَنْ تَعُودِي بَعْدُ إِلَى التَّكَبُّرِ فِي جَبَلِ قُدْسِي. [11]

إذ يعلن عن الإصلاح الجذري بإقامة أورشليم الجديدة، وظهور كنيسة العهد الجديد، فإنها لا تعود تخزى بعملٍ شريرٍ، إذ ينزع المتكبرين الذين يفتخرون بالبركات التي كانت لشعب إسرائيل بطريقةٍ حرفيةٍ شكليةٍ قاتلةٍ. زال عن إسرائيل ما كانوا يظنون أنه سرّ جمالهم من اعتزازهم بهيكل سليمان وأورشليم كمدينة الله الخ، وقُدم للمؤمنين الجمال الداخلي حيث وهبهم روحه القدوس.

هذه القلة المقدسة تتسم بروح التواضع ولا تقبل الكبرياء.

*    ماذا إذن؟ هل هلك جميعهم، ونُزعوا من أصل داود ومن سبط يهوذا؟ لا، فإن بعضًا من هذا الجذر آمنوا، وفي الواقع عدة آلاف من الرجال من هذا الأصل آمنوا، وذلك بعد قيامة الرب. لقد هاجوا وصلبوه، وبعد ذلك بدأوا يرون معجزات تتم باسم المصلوب. ارتعبوا إذ رأوا قوة عظيمة تتم هكذا باسمه، هذا الذي كان بين أيديهم يبدو كمن هو عاجز عن فعلها. فنُخسوا في قلوبهم وأخيرًا آمنوا بأن اللاهوت كان مخفيًا فيه، هذا الذي ظنوا أنه كسائر البشر. لقد طلبوا مشورة الرسل، فأجابوهم: “توبوا وليعتمد كل واحد منكم علي اسم يسوع المسيح” (أع 2: 38). لقد قام المسيح ليدين الذين صلبوه، فحول حضرته من اليهود إلي الأمم؛ وقد بدا الله كمن يعمل لصالح بقية إسرائيل. وقد قيل له من أجلهم: “من أجل داود عبدك لا ترد وجه مسيحك” (مز 132: 10). إن كان القش يُدان، فلتُجمع الحنطة معًا. لتخلص البقية كما يقول إشعياء: “تخلص البقية” (راجع إش 10: 21). فمنهم جاء الاثنا عشر رسولًا، ومنهم الخمسمائة أخ الذين أظهر الرب نفسه لهم بعد قيامته (1 كو 15: 6)، ومنهم اعتمد عدة آلاف (أع 2: 41)، الذين وضعوا ثمن ممتلكاتهم عند أقدام الرسل. بهذا تحققت الصلاة التي قدمت هنا لله: “من أجل داود عبدك لا ترد وجه مسيحك” (مز 132: 10)(49).

القديس أغسطينوس

وَأُبْقِي فِي وَسَطِكِ شَعْبًا بَائِسًا وَمِسْكِينًا،

فَيَتَوَكَّلُونَ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ. [12]

يرى القديس أغسطينوس هنا نبوة عن إسرائيل الذين صاروا كرمل البحر، فإن البقية منهم سوف تخلص بقبولهم الإيمان بالسيد المسيح(50).

إذ يُنزع عنهم الكبرياء ويمارسون التواضع يتكلون على الرب، ويثقون في عمله فيهم. هنا يربط بين التواضع الحقيقي والإيمان الحيّ المملوء ثقة في عمل الله.

*    بعض الذين صلبوا المسيح تحققت فيهم معجزات، حيث خرج منهم من صاروا مؤمنين، وُأعطي لهم دم المسيح. كانت أياديهم أثيمة وحمراء بسفك دم المسيح. أولئك الذين سفكوا دمه، قام هو بغسلهم. الذين اضطهدوا جسده المائت الذي رأوه، صاروا هم أنفسهم جسده، أي الكنيسة. لقد سفكوا فديتهم، حتى يشربوا منها، وبعد ذلك تحولوا إلى الإيمان به(51).

القديس أغسطينوس

5. أورشليم الصادقة 13:

بَقِيَّةُ إِسْرَائِيلَ لاَ يَفْعَلُونَ إِثْمًا،

وَلاَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْكَذِبِ

وَلاَ يُوجَدُ فِي أَفْوَاهِهِمْ لِسَانُ غِشٍّ،

لأَنَّهُمْ يَرْعُونَ وَيَرْبُضُونَ وَلاَ مُخِيفَ. [13]

تتسم هذه البقية المقدسة التي تقبل الإيمان بالسيد المسيح بسمات فائقة: التواضع المصحوب بالإيمان العملي [12]، وقداسة السلوك وعدم فعل الإثم، والنطق بالحق وعدم التكلم بالكذب [13]. ليس للغش موضع في قلوبهم ولا في سلوكهم ولا في أفواههم! إنهم مخلصون في أفكارهم وأعمالهم وكلماتهم، صادقون في كل شيءٍ.

6. أورشليم المتهللة 14:

تَرَنَّمِي يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ. اهْتِفْ يَا إِسْرَائِيلُ.

افْرَحِي وَابْتَهِجِي بِكُلِّ قَلْبِكِ يَا ابْنَةَ أُورُشَلِيمَ. [14]

أما ثمر التواضع المرتبط بالإيمان الحيّ، والقداسة في الفكر والعمل والقول، فهو الفرح الداخلي الحقيقي. ليس للكنيسة عمل سوى الشكر الدائم لله والتسبيح والهتاف والبهجة غير المنقطعة. أنه فرح “بكل القلب”، الذي يحل فيه مصدر الفرح ولا يترك موضعًا فيه لغيره.

*    “رنموا للرب ترنيمة جديدة” (مز 96: 1). يُهدم الإنسان القديم ويُبنى الإنسان الجديد، لذلك تُرنم ترنيمة جديدة. “رنمي للرب يا كل الأرض” (مز 96: 1). الأرض التي تحولت بكل قلبها للرب، تترنم على الدوام بتسابيح الشكر بعذوبة صوتٍ شبابي(52).

*    “السماوات تحمد عجائبك يا رب” (مز 5: 89)… إن كان يُقال للخاطي: “أنت تراب وإلى تراب تعود” (تك 19: 3)، فلماذا لا يقال للقديس أو البار: “أنت سماء والى سماء وتعود”؟ فإن القديسين كما الرسل “مواطنتهم في السماء” (راجع في 3: 20). بهذا فإن “السماوات تحمد عجائبك” تتنبأ عن التوبة التي يكرز بها الرسل والتي بها نقبل معرفة ربنا يسوع المسيح. فإن كنا نطيع نصيحتهم ونتبع مثالهم، نحن أيضًا ندعي “سماءً” إذ نقتدي بالذين لهم مواطنة هناك… الفردوس هو موطن القديسين!(53)

القديس جيروم

*    “افرحوا في الرب أيها الصديقون” (رجع مز 33: 1). افرحوا أيها الصديقون، لا في أنفسكم، فإن هذا ليس فيه أمان، بل افرحوا في الرب. “بالمستقيمين يليق التسبيح” (مز 33: 1). هؤلاء يسبحون الرب، إذ يخضعون له، وإلاَّ فإنهم ينحرفون ويضلون “أحمدوا الرب بالعود” (33: 2). سبحوا الرب، مقدمين له “أجسادكم ذبيحة حية” (رو 12: 1). رنموا له بربابة ذات عشرة أوتار” (مز 33: 2). لتكن أعضاؤكم خادمه لحب الله ولحب قريبكم… “غنوا له أغنية جديدة” (مز 33: 3) ؛ غنوا له أغنيه نعمة الإيمان. “أحسنوا العزف بهتافٍ” (مز 33: 3)، غنوا له بمهارةٍ بفرحٍ(54).

القديس أغسطينوس

7. أورشليم مسكن الرب 15-17:

قَدْ نَزَعَ الرَّبُّ الأَقْضِيَةَ عَلَيْكِ.

أَزَالَ عَدُوَّكِ.

مَلِكُ إِسْرَائِيلَ الرَّبُّ فِي وَسَطِكِ.

لاَ تَنْظُرِينَ بَعْدُ شَرًّا. [15]

سرّ فرح الكنيسة أنه نزع عنها الأحكام وشطب قضاياها من القائمة، ولم تعد موضع اتهام، فقد احتل البار القدوس موضعها وقبل حكم الموت عنها، أخذ ما لها وأعطاها ما له بكونه الابن القدوس البار.

العدو إبليس، الذي احتل مركز القيادة على البشرية وصار رئيس هذا العالم، لم يعد له موضع في كنيسة المسيح الحقيقية. لقد أزال الرب العدو، وشهَّر به بالصليب علانية، وملك في وسطها، فصار دستورها برَّه وقداسته، لا يستطيع الشر أن يقتحمها.

*    لتعيشي يا أورشليم في فرحٍ تامٍ، تحيين في سعادة كاملةٍ وفي شبعٍ، فقد نزع الرب كل أعمالك الشريرة، وخلصك من قوة عدوكٍ، هذا الذي كنت خاضعة له تدفعين جزاء العقوبة. الآن الرب في وسطك، يظهر ملكوته برعايته لك،ِ فلا يعود يقدر ذلك الاضطراب أن يقترب إليك(55).

ثيؤدور أسقف المصيصة

*    إذ ننشغل بالمعنى الأعمق للعبارة، فإنها بوضوح تؤمر أورشليم أن تفرح متهللة، وأن تكون على وجه الخصوص سعيدة، وأن تبتهج بكل القلب، إذ تُمحى معاصيها بالمسيح. صهيون الروحية المقدسة -أي الكنيسة، جماعة المؤمنين المقدسة- يتبررون في المسيح، وفيه وحده. به وخلاله يخلصون، إذ يهربون من أذى الأعداء غير المنظورين، إذ لنا الوسيط الذي تجسد وأخذ شكلنا، ملك الجميع، أي كلمة الله الآب. شكرًا له، فإننا لا نعود نرى شرًا بعد، إذ نخلص من قوات الشر. إنه (الكلمة) درع الإرادة الصالحة، والسلام، والحصن واهب عدم الفساد، وسيط الأكاليل، الذي يبطل حرب الأشوريين غير المتجسدين، ويفسد خطط الشياطين(56).

القديس كيرلس السكندري

*    أعرف أن بعض المفسرين يفهمون هذا النص عن العودة من بابل، وتجديد أورشليم، وأنا لا أعارض كلماتهم هذه. فالنص ينطبق أيضًا على ما حدث في ذلك الحين. لكن يمكنكم أن تجدوا محصٍّلة أكثر دقة، خاصة بتجسد مخلصنا. إذ شفى حزانى القلوب بغسل الميلاد الجديد حيث جدد الطبيعة البشرية، معلنًا حبه لنا، إذ سلم نفسه لأجلنا. فإنه “ليس حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبَّائه” (يو 15: 13). وأيضًا “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية”(57).

ثيؤدورت أسقف قورش

*    نحن في حرب ضد الشيطان إلي حين، وعندئذ نحتاج إلي مسكنٍ فيه ننتعش(58).

القديس أغسطينوس

فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يُقَالُ لأُورُشَلِيمَ:

لاَ تَخَافِي يَا صِهْيَوْنُ.

لاَ تَرْتَخِ يَدَاكِ. [16]

إذ يسكن الرب وسط شعبه، ويحل في قلب المؤمن، يطلب رفع الأيادي الطاهرة بلا رخاوة، وبلا خوف. فإذ يزول عدو الخير، وتتبدد أعماله، فلا يكون لها موضع في كنيسة المسيح، في دالة ترفع الكنيسة يديها وتطلب بدالة من أجل أولادها كما من أجل كل البشرية.

أما سرّ عدم خوفها فهو ما تمتعت به من حرية مجد أولاد الله، فتتحدث معه كما الابن أو الابنة مع أبيها بلا خوف.

*    “الرب حصن حياتي، ممن أرتعب؟” (مز 27: 1). الرب يصد كل الهجمات ويعطل كل شباك عدوي، فلا أخشى إنسانًا. “عندما اقترب إلي الأشرار ليأكلوا لحمي” (مز 27: 2) لا. بينما يقترب مني المجرمون ليتعرفوا عليّ ويؤذوني، حتى يتشامخوا علي، أتغير إلى ما هو أفضل. حتى أنهم بأسنانهم المهاجمة لن يفنوني بل يفنون شهواتي الجسدية(59).

القديس أغسطينوس

الرَّبُّ إِلَهُكِ فِي وَسَطِكِ جَبَّارٌ يُخَلِّصُ.

يَبْتَهِجُ بِكِ فَرَحًا.

يَسْكُتُ فِي مَحَبَّتِهِ.

يَبْتَهِجُ بِكِ بِتَرَنُّمٍ. [17]

إذ ترجع البقية إلى الرب، ينسب الرب نفسه إليها معتزًا بها، فيُقال لها “إلهك”، كما يقال: “إله إبراهيم، إله اسحق، إله يعقوب”.

إنه في وسط كنيسته الإله القدير، القادر أن يخلص إلى التمام. يدافع عنها ويهبها حياة النصرة. هذا هو موضوع بهجته وفرحه بحبه لها ويتأمل جمالها الروحي كمن يصمت لا في تجاهل لها، بل في محبته العظيمة نحوها. أنه يستريح في محبته لها.

يا للعجب، فإننا نعلم أن الله هو مصدر بهجتنا وتهليلنا وسعادتنا، أما أن نسمع عن الله أنه يبتهج ويُسر بنا ففي هذا نرى عجبًا! حقًا كما يقول ابن سيراخ “لذة الله في بني البشر”، وكما يقول السيد المسيح نفسه “يكون في السماء فرح بخاطى واحد يتوب” (لو 15). إنه الأب الذي يفرح باحتضان أبنائه، وتقديم أمجاد سماوية لهم.

*    بالتأكيد سيخلص، لكنه سيفعل هذا بحسب الطريقة التي وعد بها. ولكن بأية طريقة وعد بها؟ أن نريد الخلاص، وأن نستمع إليه. فإنه لا يقدم وعدًا لألواح خشبية(60).

القديس يوحنا الذهبي الفم

8. أورشليم المتمتعة بالخلاص 18-19:

أَجْمَعُ الْمَحْزُونِينَ عَلَى الْمَوْسِمِ.

كَانُوا مِنْكِ. حَامِلِينَ عَلَيْهَا الْعَارَ. [18]

لقد ملك الحزن على قلوب المسببين، فرفضوا الترنم بالقيثارات. وكما يقول المرتل: “على أنهار بابل هناك جلسنا، فبكينا عندما تذكرنا صهيون؛ على الصفصاف في وسطها علقنا قيثاراتنا. لأنه هناك سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذبونا سألونا فرحًا قائلين: رنموا لنا من ترنيمات صهيون. كيف نُرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟ إن نسيتك يا أورشليم تُنسى يميني…” (مز 137). أما وقد رد الرب السبي، ودخل بهم إلى أورشليم الروحية، وصارت لهم حرية أولاد الله، صار كل كيانهم قيثارة روحية يعزف عليها روح الله القدوس تسابيح الخلاص والشكر والحمد. لقد زال عارها، وتبدد حزنها، وحملت مجدًا داخليًا وفرحًا سماويًا فائقًا.

هَئَنَذَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أُعَامِلُ كُلَّ مُذَلِّلِيكِ،

وَأُخَلِّصُ الظَّالِعَةَ،

وَأَجْمَعُ الْمَنْفِيَّةَ،

وَأَجْعَلُهُمْ تَسْبِيحَةً وَاسْمًا فِي كُلِّ أَرْضِ خِزْيِهِمْ، [19]

إذ تتمتع البقية المقدسة بالخلاص من سبي إبليس وعاره لا يقف ضعفها عائقًا في طريق مجدها الحقيقي. فالمخلص الساكن فيها يتعامل مع من سبق فأذلها، نازعًا سلطانه عليها وكاسرًا جبروته وقوته.

إن كان العدو قد جعلها عرجاء، عاجزة عن الحركة، فإن المخلص يتحرك لحسابها، فلا تشعر بعد بالضعف والعجز.

وإن كان العدو قد سباها ونفاها وشتتها بعيدًا عن وطنها، فإن المخلص يجمعها من المنفى، ويدخل بها كما إلى بيتها السماوي.

وإن كان العدو قد شوَّه صورتها وسكب عليها العار والخزي، فإنها تحمل اسم مخلصها في كل الأرض وتصير هي نفسها تسبحه، مصدر فرٍح لكثيرين.  

9. أورشليم المجيدة 20:

فِي الْوَقْتِ الَّذِي فِيهِ آتِي بِكُمْ،

وَفِي وَقْتِ جَمْعِي إِيَّاكُمْ.

لأَنِّي أُصَيِّرُكُمُ اسْمًا وَتَسْبِيحَةً فِي شُعُوبِ الأَرْضِ كُلِّهَا،

حِينَ أَرُدُّ مَسْبِيِّيكُمْ قُدَّامَ أَعْيُنِكُمْ. قَالَ الرَّبُّ. [20]

يختم السفر بالإعلان عن كنيسة العهد الجديد ككنيسة مجيدة، تعكس في داخلها بهاء مجد عريسها السماوي. هذه التي كانت قبلًا موضع سخرية وهزء الآن صار اسمها في شعوب الأرض كلها، مصدر فرح لكل البشرية. الكل في دهشة يتعجب كيف صارت المسبية حرة، والتي في عار صارت في مجدٍ فائقٍ!

*    يتحقق خلاص البشرية بحنو الله وحده. لا نقتنيه كأجرة لبرنا، بل بالحري هو هبة وصلاح إلهي. لهذا يقول الرب: “لأجلكم أخلص وأُحيي”، وأرد الذي صار للغير إليَّ، وأجعله بارزًا، أكثر شهرة من الآخرين، وأحرره من العار السابق ومن سبيه وعبوديته. إني أجعلهم شعبًا حرًا ليّ. الآن، كما قلت، جعل كليهما هبة، للذين رجعوا من بابل في ذلك الحين، وما وهبه لكل الشعب فيما بعد. نحن الذين كنا قبلًا مستعبدين للشيطان، صرنا الآن أحرارًا من تلك العبودية العنيفة، والذين كانوا ساقطين في تعدد الآلهة بلا تعقل صاروا لله؛ صاروا أكثر شهرة من الوثنيين والبرابرة حسب النبوة. ونحن الذين كنا قبلًا بعيدين صرنا قريبين كقول الرسول الإلهي(61).

ثيؤدورت أسقف قورش

إذ يتمتع المؤمن بالخلاص يبتهج به الله كموضع سرورٍ له، وينعكس هذا على كل من يلتقي بهم المؤمن فيصير سٌر فرح لكثيرين، إذ يتلامسون مع السيد المسيح الساكن فيه، ينبوع الفرح. يصير مجرد اسمه تسبحة يتغنى بها الناس.

أينما حلٌ المؤمن الحقيقي يحٌول الموضع كما إلى سماءُ، وذلك بنعمة الله العاملة فيه. وما نقوله عن المؤمن نقوله عن الكنيسة ككلٍ، حيث يتحول اسمها إلى تسبحة يطوٌبها الكثيرون، كمصدر فرح وتهليل لهم.

هذه هي خبرة القديسة مريم التي حملت مخلصها في أحشائها، فصارت تسبحة في شعوب الأرض كلها، وكما قالت: “منذ الآن جميع الأجيال تطوبني”.

من وحي صفنيا 3

أنت تهدم وتبني!

 

*    لست أأتمن يدًا على هدمي سوى يدك الإلهية، هي تهدم وتبني!

تهدم تمردي ونجاساتي وظلمي، تنزع كل عقوقٍ في داخلي.

تبدد كل تشامخ تسلل إلى أعماقي، تقتل كل فكر ذئبي مفترس.

*    عوض جفافي تهبني روح العبادة الحية،

فيجري في داخلي نهر روحك القدوس، يحول قفري إلى جنة وفردوس.

يهبني شركة الطبيعة الإلهية.

أجد مسرتي في التمتع بالطاعة والتواضع والوداعة.

أحمل طاعتك وأتمتع بتواضعك وأنعم بوداعتك.

لك المجد يا من تعمل في الخطاة، وتهب عبيدك برَّك ليختفوا فيه.

*    روحك العجيب يقيم مني أورشليم المتهللة،

ويحوِّل أعماقي إلى هيكل قدسك، فأصير مسكنًا لك،

لا يعرف إلاَّ فرح السماء، وتهليل الملائكة!

أتمتع بخلاصك وأنعم بعربون مجد الأبدية.

لك المجد يا واهب المجد لمحبيك!

فاصل

فاصل

تفسير سفر صفنيا 2 تفسير سفر صفنيا
القمص تادرس يعقوب ملطي
مراجع
تفسير العهد القديم

 

زر الذهاب إلى الأعلى