تفسير سفر المكابيين الأول 8 للأنبا مكاريوس أسقف المنيا

التحالف مع الرومانيين

 

بينما كانت المنطقة في ذلك الوقت تخضع لمتغيرات سياسية وعسكرية، كانت اليهودية -عقب انتصارات المكابى- تتبلور كأمة لها هوية ومصالح وأصدقاء وتحالفات، فقد بدأ القادة هناك في فتح قنوات دبلوماسية مع القوى الأخرى في العالم مثل روما واسبرطة وغيرها، ولكن لماذا اتجه اليهود -في استراتيجية التحالف- إلى تلك الجهات البعيدة، بينما لم يتحالفوا مع الأمم القريبة منهم (راجع آية 19) ليس ذلك فحسب بل أنهم يعقدون تحالفًا مع مملكة هي ضد السلوقيين والذين كان من المفروض أنهم خاضعين لسلطتهم حتى ذلك الوقت، إن الشريعة نفسها ترفض ذلك (التحالف مع الأمم القريبة)،  كما أدان الأنبياء مثل تلك الخطوة وكان يحل باليهود عقابًا سريعًا عند كل محاولة منهم في هذا الاتجاه، راجع (حزقيال 17: 11-21 وأخبار الأيام ثان 36: 13-19 وإرميا 27: 1-15).

ولكنه بعد الانتصارات التي حققها اليهود، صاروا مقتنعين بأن الله يسمح لهم بالتحالف مع الرومان لأن الشريعة تمنع التحالف مع “سكان الأرض” راجع (خروج 27: 32،33 و24: 12-15 وتثنية 7: 2) في حين تسمح بالتحالفات مع الأمم البعيدة، حيث يتضح لنا ذلك من قصة الجبعونيين (يشوع 9: 3- 27) ورغم وجود أوجه للشبه بين وفد الجبعونيين ووفد اليهود لروما هنا، إلا أن اليهود لم يكونوا مخادعين مع الرومان، بل واضحين مستقيمين.

ولقد أدان الأنبياء بشدة تحالف اليهود مع القوى الوثنية، ولكن يهوذا المكابى تحالف مع روما لأنها ليست شريرة مثل ” أشور وبابل” ولا ” قصبة مرضوضة” مثل مصر، ولذلك لم يتحالف مع البطالمة في مصر.

هذا وقد وجد بعض الشراح في (إشعياء 26: 11، 15 و55: 5 وملاخي 1: 5 – 14) نبوات عن تحالف مع روما، حيث فسرت يد الرب على أنها يد روما، وأشارت (الآية 15) إلى الإمبراطورية الرومانية، وفي (إشعياء 55: 5 وملاخي 1: 5 – 14) إشارة إلى وجود كهنة غير مخلصين في  وقت يكون فيه اسم الرب عظيما بين الأمم كما تأتى الكلمة الرومانية Jove مثل اسم إله إسرائيل.

ومع أن اليهود لم يجنوا في الواقع أية ثمار من تلك التحالفات، إلا أننا سندرك مع الوقت كيف كان ذلك بتدبير من الله لصالح المسيحية التي استثمرت الوجود والنفوذ الروماني – أيّما استثمار – في الكرازة بالإنجيل.

يهوذا ُيبهر بانجازات الرومان العسكرية

هنا عرض لقوة روما وسياساتها نحو الأعداء، جولاتها القتالية والتي نتج عنها خضوع أمم كثيرة لسلطانها. غير أنه يجب الانتباه هنا إلى أن تلك الأخبار كانت مما سمعه يهوذا “وسمع يهوذا.. آية 1” مما يفسر لنا بعض المفارقات الخفيفة في تلك الأخبار العسكرية الواردة في النص.

جولات روما مع الأمم البعيدة

1وسمع يهوذا باسم الرومانيين أنهم رجال ذوو بأس ويعطفون على كل من ينضم إليهم، وكل من جاءهم صادقوه. 2وُقصّت عليه حروبهم وما قاموا به من مآثر في قتال الغاليين، وأنهم أخضعوهم وفرضوا عليهم الجزية، 3وما فعلوا في بلاد إسبانية واستيلاؤهم على معادن الفضة والذهب التي هناك، 4وأنهم استولوا على البلد كله بفضل فطنتهم وطول أناتهم، مع أن ذلك البلد كان بعيدا جدًا من ديارهم. وكان كذلك أمر الملوك الذين جاؤوا من أقاصى الأرض وأغاروا عليهم، فقد سحقوهم وضربوهم ضربة شديدة. وأما سائر الملوك فإنهم يحملون إليهم الجزية كل سنة.

نشأة روما:

        ترجع تسمية روما بهذا الاسم إلى “روميليوس” الذي أسسها سنة 753 ق.م.، فقد بناها أولًا كمدينة فوق أحد التلال السبعة في إيطاليا، على الضفة الشمالية لنهر التيبر، حيث كانت مكانها مستوطنة سابقة لبعض القبائل، ثم ما لبثت أن شملت روما جميع التلال، وكان سكانها يتكونون من عدة قبائل، ثم صارت مع الوقت إمبراطورية واسعة الأطراف عاصمتها روما، حيث أصبحت محط أنظار العالم في العلم والفلسفة والفنون والأساطير، وأهم من ذلك أنها أصبحت فيما بعد عاصمة العالم اللاتيني المسيحي.

        أما السبب الحقيقي خلف تطاير شهرتها ووقوع رعبتها على كافة الشعوب، فقد كان انتصارهم على “هانيبال” والذي من أصل أفريقى وكان يحكم قرطاجنة (قرطاج) وهي عاصمة مملكته، وبعدما غزا أممًا كثيرة أراد أن يظفر بالروم، فنزل بإيطاليا واستمرت الحرب بينه وبين بلادها عشر سنوات قتل فيها الكثير من الروم، وفي النهاية حاصر روما نفسها مؤملًا الاستيلاء عليها، فلما ضيق عليها الحصار وأوشك حكامها على الاستسلام، برز من بينهم أحد القادة يسمى “سفناو” والذي استمهلهم في القيام على رأس جيش قوامه ثلاثين ألف مقاتل، خرج بهم سرًا واتجه نحو أفريقيا حيث أوقع بها الهزائم ثم قتل شقيق هانيبال ويدعى “أسترويل” ومن ثم قفل عائدًا إلى روما، وصعد إلى سور المدينة ونادى في هانيبال منبئًا إياه باجتياحه أفريقيا وقتله لأخيه ثم ألقى إليه برأسه فاغتاظ وارتعب، ولكنه ورغم ما أصابه من الذعر فلم يتخل عن حصار روما بل زاده ذلك إصرارًا، فأعاد سفناو الكرّة ولكن هذه المرة اتجه إلى قرطاجنة نفسها عاصمة ملك هانيبال وضيق الخناق بدوره عليها فلما أوشكت على السقوط، أرسل إليه أهلها يستنجدون به، فقرر عندئذ الإسراع لنجدتها وقبل أن ينصرف عن روما قام بقتل جميع الأسرى الروم لديه. وفي طريق عودته تقابل في البحر بسفناو وقام قتال بينهما هزم فيه هانيبال ووقع أسيرًا غير أنه آثر الانتحار، فاستولى سفناو على جميع بلاده(1).

ومن هنا وقع رعب الرومان على جميع الشعوب التي سمعت بذلك.

الغاليين Gouls:

    والتي ُعرفت لاحقًا ببلاد الغال (فرنسا وبلجيكا) وهم في الأصل قبائل من البربر، سكنوا أولًا خلف جبال الألب، ثم عبروا الجبال وهاجموا بلاد كثيرة حتى وصلوا إلى مكدونية فاحتلوها سنة 279 ق.م. ثم بلاد اليونان أيضًا حتى وصلوا في زحفهم إلى روما، غير أن جنود “الكابيتول” هزموهم ولم يطلقوهم إلا بفدية كبيرة من الذهب.

وقد اضطر أنطيوخس الأول بسبب مضايقاتهم الكثيرة إلى ترك فريجية الشمالية لهم سنة 270 ق.م. حيث أقاموا بها مطلقين عليها أسم غلاطية (نسبة إليهم) ثم عادو ليشتبكوا مع الرومان سنة 225 ق.م. غير أن الرومان ألحقوا بهم هزيمة منكرة، حيث قتلوا منهم أربعين ألفًا وأسروا الباقين ونهبوا ممتلكاتهم.

ولكن بعض العلماء لا يستبعدون أن يكون الغاليين المذكورين هنا في السفر هم سكان غلاطية بآسيا الصغرى والتي أخضعها الرومان سنة 190 ق.م. حيث كان لها أهمية أكبر بالنسبة لليهود، ويروى أولئك العلماء أن هذا الرأي هو أكثر منطقية حيث كانت هناك حملة في تلك المنطقة سنة 189 ق.م. بقيادة القائد الروماني “جنايوس مانيلوس فولسو” تلك الحملة التي حصدت أموالًا طائلة تصل إلى “مائتى طالن”(2) من تلك المدن.

إسبانية Spain:

        شبه جزيرة في جنوب غرب أوروبا، عرفت في عهد الرومان باسم “هسبانيا Hispania ” سكنها في البداية بعض قبائل “الليجوريين والسلتيين” من إيطاليا، وذلك خلال القرن السادس، ولكن القوقاز أو الفينيقيين (الايبريين) طردوهم من هناك. تعرضت أسبانيا للغزو من قرطاجنة سنة 237 ق.م. ثم ُضمّت إلى روما سند 206 (ويرى البعض سنة 201) عندما أغار عليها الرومانيين طمعًا في مناجمها من الذهب والفضة، غير أن خضوعها كان جزئيًا حيث استمرت مقاومة أهلها حوالي مائتى سنة.

قدمت أسبانيا إلى روما اثنان من الأباطرة وأسهمت بأفضل الجنود، وقد أحكم الرومان سيطرتهم عليها تمامًا في سنة 123 ق.م. بعد محاولات عديدة بدأت في سنة 197 ق.م. ُهزموا فيها أكثر من مرة. وبما أن أسبانيا تقع بعيدًا عن روما، فإنه من المنطقي أن تكون روما قد أخضعت جميع البلاد الواقعة فيما بينها وبين أسبانيا، ووضعتها روما تحت الجزية شأن المقاطعات الرومانية الأخرى، كما حدث بعد ذلك في سوريا.

وربما كان المقصود من “الملوك الآتين من أقاصى الأرض (آية 4) أنهم قادة قرطاجنة: هانيبال وهسدروبال” آتين من أسبانيا.

حروب الرومان مع المقدونيين والسلوقيين

5وقد سحقوا فيلبس وفرساوس، ملك كتيم، في الحرب وكل من قاتلهم وأخضعوهم. 6وسحقوا أنطيوخس الكبير، ملك آسية، الذي زحف لقتالهم ومعه مائة وعشرون فيلًا وفرسان ومركبات وجيش كثير جدًا، 7وقبضوا عليه حيًا. وضربوا عليه وعلى الذين يملكون بعده جزية كبيرة ورهائن من وقت إلى آخر. 8ونزعوا منه بلاد الهند وميديا ولود وخيار بلادهم وأعطوها لأومينيس الملك. 9ولما همّ اليونانيون أن يسيروا لمقاتلتهم، بلغهم ذلك 10فارسلوا إليهم قائدًا واحدًا وحاربوهم، فسقط منهم قتلى كثيرون، وسبوا نساءهم وأولادهم ونهبوهم واستولوا على أرضهم وهدموا حصونهم واستعبدوهم إلى هذا اليوم. 11وأما سائر الممالك والجزر التي قاومتهم، فإنهم دمروها واستعبدوا سكانها.

 

نظر اليهود إلى انتصارات الرومان على الملوك اليونانيين واحتلالهم للإمبراطوريات الهيلينية باعتبارها أجزاء من إمبراطورية الإسكندر الأكبر، راجع (دانيال 2: 40، 41) كما رأى كاتب السفر تدبيرًا إلهيا في هزيمة روما لمقدونية التي تحكم اليهودية.

فيلبس: المذكور هنا هو فيلبس الخامس ملك مقدونية والمذكورة حرفيا في (1: 1): كتيم.  ُولد سنة 238 ق.م. وملك ما بين 221 – 179 ق.م. وهو ابن ديمتريوس الثاني وأبو “فرساوس”، تحالف فيلبس مع هانيبال ضد روما سنة 215 ق.م. حيث هزم هزيمة فاصلة في سنة 197 ق.م. في معركة “سينصقفالى Synoscaphale ” ورضخ لشروط صلح قاسية، ثم مات  في نفس العام. فقد فرض عليه الرومان جزية قدرها ألف طالن لمدة عشر سنوات ولكنهم اعفوه سنة 190 ق.م. من دفع الباقي.

فرساوس (برسيوس Perseus):

        وهو آخر ملوك مقدونية، ولد في سنة 212 ق.م. من فيلبس المقدونى وزوجته “بيلوكراتيا” التي من “أركوز” وكوريث شرعي لعرش أبيه فيلبس الثالث كان قلقًا من أخيه غير الشقيق “ديمتريوس” والمأسور في روما والذي استطاع توسيع دائرة علاقاته مع ذوى السلطة هناك، مما جعله يحمل أبيه علي قتله على مضض، وقد أعقب والده على العرش في سنة 179 وتزوج “لاودكية” ابنة سلوقس الرابع.

ولكن أومينيس ملك برغامس وشى بفرساوس لدى الحكام في روما بسبب طموحاته وسياساته التوسيعيه، مما حملهم على إعلان الحرب الثالثة على مقدونية سنة 171 ق.م. والتي استمرت ثلاث سنوات وانتهت في معركة “بيدنا Pydna ” على مسافة 16 كم جنوب بيدنا، وذلك في 22 يونيو سنة 168 ق.م. حيث هرب فرساوس نفسه، ومنذ ذلك الحين أصبحت برغامس ولاية رومانية، وبذلك كانت نهاية الأسرة الأنتيجونية ومملكتها في مقدونية.

وقد أظهرت المعركة براعة القائد الرومانى اميليوس بولس Aemilius Baulus، والذي قتل مئة وعشرين ألفًا من المقدونيين وأسر عشرة آلاف مقابل خسائر طفيفة في صفوفه، وفي طريق عودته مرّ على ” ألبانيا “، والتي كانت تسمى وقتذاك (ايبروس) منتقما منها لمساعدتها فرساوس، وأسر منها مئة وخمسين ألفًا باعهم عبيدًا، كما كانت الغنائم التي استولى عليها كفيلة باعفاء المستعمرات من الضرائب.!

وبعد ذلك قام بأسر فرساوس نفسه ليعرضه ضمن الغنائم والأسرى، في احتفالات النصر التي أقامها اميليوس في روما سنة 167 ق.م، وقد مات فرساوس في الأسر بعد ذلك بخمس سنوات، وعقب هذا الانتصار أمر الرومان أنطيوخس الرابع أبيفانيوس بالتخلي عن مصر،  والطريف أن المندوب الروماني عندما وجد أنطيوخس مترددًا قام برسم دائرة حوله طالبًا منه أن يقرر قبل اكتمال الدائرة أو قبل الخروج منها!! ورضخ أنطيوخس لمطالب روما.

أنطيوخس الثالث ” الكبير” ( 223 – 187 ق.م.):

        أما عن تسميته بالكبير (أو العظيم) فقد أطلقها هو على نفسه عند دخوله في موكب انتصار بعد استرداده سلوكية من بطليموس يورجيتيس (1مكا11: 8) في سنة 219 ق.م. ويقول البعض الآخر أن سبب هذه التسمية، كان سبب مسيرة الغزو التي قام بها نحو الهند (212 – 206 ق.م.) والمشابهة لمسيرة الإسكندر الأكبر، وقد وصف المؤرخ بوليبوس حصار أنطيوخس للمدينة وصفً بليغًا، حيث دخل سلوقية في سنة 205 في موكب ظافر وكأنه الإسكندر الأكبر الثاني، وذلك في طابور طويل من الفيلة وكميات ضخمة من الأسلاب،  وفي هذه المناسبة خلع على نفسه لقب (الملك العظيم) حيث عرف به منذ ذلك الحين.

عملة أنطيوخس الثالث ” الكبير”

 

وقد نشبت حروب ومنازعات كثيرة بين السلوقيين والبطالمة للاستحواز على فلسطين، وقد انتزعها أنطيوخس أخيرًا في ” معركة بانياس” سنة 198 ق.م. ولكن التجاء البطالمة إلى الرومان كان هو الذريعة لتدخل روما في شئون المنطقة منذ ذلك الحين، فلمّا حاول محاربة ” أتالس” ملك برغامس سنة 199 ق.م. أرغمه الرومان على التراجع، وعند عودته وجد المصريين قد استولوا على بعض بلاده فهزمهم ولما أرسلوا له ثلاثة من القادة هزمهم واضطروا لقبول شروط مهينة للصلح، ثم قام بحملة تأديبية لغزة، وأما اليهود فقد استقبلوه حسنًا مما جعله يلاطفهم(3).

وفي هذا تتم نبوءة دانيال النبي عن أنطيوخس الثالث الكبير ” فيرجع ملك الشمال (أنطيوخس الكبير) ويقيم جمهورًا أكثر من الأول ويأتي بعد حين بعد سنين بجيش عظيم وثروة جزيلة وفي تلك الأوقات يقوم كثيرون (فيليب ملك مقدونية وأهل سورية) على ملك الجنوب (بطليموس أبيفانيوس) وبنو العتاة من شعبك يقومون لاثبات الرؤيا ويعثرون (اليهود) ويأتي ملك الشمال (أنطيوخس الثالث) ويقيم مترسة ويأخذ المدينة الحصينة فلا تقوم أمامه ذراعا الجنوب (المصريين) ولا قومه المنتخب ولا تكون له قوة للمقاومة (في معركة بانياس) والآتي عليه يفعل كإرادته (في حصار صيدا) وليس من يقف أمامه ويقوم في الأرض البهية (اليهودية) وهي بالتمام بيده” (دانيال 11: 13- 16).

واتبع أنطيوخس استرداده سلوقية سنة 219 ق.م. بحملات كثيرة لاستعادة جميع المدن التي كانت خاضعة للسلوقيين، ولكن الرومان تنبهوا إلى سياساته  التوسعيّة، وبعد الحرب (البونية) وجدوا لزامًا عليهم تأمين ناحية الممالك الهيلينية في شرق البحر المتوسط، ولم ينتبه أنطيوخس إلى ذلك الخطر، فواصل فتوحاته غربًا ولكن الرومان ضيقوا عليه الخناق حتى كسروه مما اضطره إلى عقد الصلح معهم كما سيأتي، ومنذ ذلك الحين لم تعد المملكة السلوقية قوة عظمى في حوض البحر المتوسط.. وبعد مئة عام من انكسار أنطيوخس فوض مجلس الشيوخ الروماني القائد الفذ “بومباى” الاستيلاء على جميع البلاد الواقعة هناك، وقد اتم ذلك بنجاح خلال ثلاث سنوات.

وفي حملة أنطيوخس على آسيا الصغرى لتوسيع مملكته في سنة 196 ق.م. استغاث سكان البلاد هناك بالرومان، والذين أرسلوا إليه وفدا يحذّره ولكنه لم يأبه لذلك، ثم تحالف مع هانيبال القرطاجنى – وهو عدو الرومانيين – وطلب منه مئة سفينة وعشرة آلاف جندي وألف فارس، لمحاربة الرومان في إيطاليا في سنة 192 ق.م. ولكن الرومان هزموا هانيبال، ثم الحقوا ذلك بهزيمة منكرة لأنطيوخس نفسه في سنة 190 ق.م. حيث قتل من رجاله خمسون ألفًا بينما أسر ألف وأربعمائة، ولم يكن لديه من الأفيال سوى أربعة وخمسون فقط، ولكنه أضاف إليها مئة وخمسون أخرى استولى عليها من غزوته للهند (بينما كان معه 102 فيل عند حربه مع بطليموس الرابع) في معركة رافيا سنة 217 ق.م. وفي المعركة التي هزم فيها كان معه ستون ألفًا من المشاه وأكثر من اثني عشر ألف فارس. وأرغمه الرومان على قبول شروط مهينة للصلح، وذلك في معاهدة “أباميا” سنة 188 ق.م.، وهذه هي الشروط:

1 – التخلي عن كل ما وراء جبال طوروس من آسيا الصغرى (شمالها وغربها).

2 – التكفّل بنفقات الحرب والتي بلغت خمسة عشر ألف وزنة، يدفع منها مقدما: خمسمائة، ثم ألفان وخمسمائة بعد عقد الصلح، ثم تقسيط الباقي على اثنتى عشر سنة (ألف وزنة كل سنة).

3 – تقديم عشرين رجلًا كرهائن يختارهم الرومان (ما بين 18 سنة إلى 45 سنة) ومنهم كان أنطيوخس الرابع.

4 – تسليم هانيبال عدوهم و” قواس الأتولى” الذي تسبّب في نشوب الحرب (ولكنهما كانا قد هربا).

وفي سنة 189 ق.م. صدّق مجلس الشيوخ على شروط الصلح وكان رئيس الوفد الروماني هو “مكيد البيزنطى” وقد راوغ أنطيوخس ليدفع فقط نصف الغرامة وترك بعض المدن دون غيرها مما طلبوه، ولكنهم رفضوا، فحاول استمالة ” شيبون” القائد الروماني بارجاع ابنه المأسور لديه ولكنه رفض أيضا، وحاول محاربة الرومان ثانية فهزموه أيضا، ثم أعطوا البلاد التي انتزعوها منه إلى أومينيس الملك مكافأة له كما سيأتي. وإن كان قد أعطى بعضها ل (رودس) كما حصلت المدن الاغريقية التي كانت تحت سيطرته على حريتها.

وفي ذلك تمت نبوءة دانيال النبي عن أنطيوخس “ويحول وجهه (أي أنطيوخس) على الجزائر (جزائر البحر المتوسط واليونان) ويأخذ كثيرًا منها ويزيل رئيس (روماني هو شيبون الأسياوى) تعييره فضلًا عن ردّ تعبيره عليه” (دانيال 11: 18).

ولجأ أنطيوخس إلى خطة أخرى وهي فكرة المصاهرة، حيث زوج ابنته لملك مصر، كما زوج الأخرى لأرياط ملك الكبادوك، ولما حاول تزويج الثالثة لملك برغامس رفض الأخير مجاملة للرومانيين، لكي تتم بذلك نبوءة دانيال “ويجعل وجهه ليدخل بسلطان كل مملكته ويجعل معه صلحًا ويعطيه بنت النساء ليفسدها فلا تلبث ولا تكون له” (دانيال 11: 17).

مناوشاتهم مع خلفائه:

عندما حاول أنطيوخس أبيفانيوس غزو مصر، أرسلت كليوباترا وبطليموس أخاها إلى روما تستنجد بها، ومن ثم أرسلت روما وفدا إليه في مصر أرجعه عنها. وعندما رغب ديمتريوس الأول في الملك وكان مأسورا عندهم رفضوا ذلك، وأرسلوا يطمئنون على سلامة الأحوال في كل من مصر وسوريا، حيث وجدوا هناك أن عدد السفن والأفيال التي لدى السلوقيين تفوق العدد المتفق عليه في معاهدة الصلح (السسابق الاشارة اليها) فقاموا بقتل الأفيال الزائدة وحرق السفن مما أهاج أحد الجنود فقام بقتل واحدًا من المبعوثين الرومان الثلاثة.

ثم هرب ديمتريوس من روما واسترد الملك فأقرته روما. وعندما قتل “تريقون” أنطيوخس السادس أرسل إلى روما تمثالًا من الذهب زنته ألف وزنه فكتبوا عليه أنه هدية ولكنهم لم يقرّوه في الملك، في مقابل ذلك حزنوا لوفاة يوناتان المكابى وأرسلوا إلى سمعان أخوه يجددون معاهدة السلام بين روما واليهود.

ولما ملك يوحنا هركانوس وهو ابن سمعان أوفد رسلًا إلى روما لتجديد المعاهدة،  وبناءا على ذلك أمروا “أنطيوخس صيدات” بتسليم المدن اليهودية التي استولى عليها مع تعويضهم (أي اليهود) عن نفقات الحرب. وفي سنة 69 ق.م. خلع الرومان أنطيوخس ابن الملكة “سيدانه” أرملة أنطيوخس العاشر، وأكمل بومبى الظفر به وإرغامه على دفع غرامة الحرب وتبلغ ستة آلاف قنطار، وأن يوقع على اتفاق بالتخلي عن سوريا والكبادوك وأرمينيا الصغرى وذلك في سنة 64 ق.م. وهكذا سقطت سوريا تمامًا وأصبحت مقاطعة رومانية، بينما تأخر خضوع مصر للرومان حتى سنة 30 ق.م.

وقد مات أنطيوخس الثالث في هيكل النناية سنة 187 ق.م. (وهو هيكل الإلهة إنانا البابلية والتي عرفت باسم عشتار في بلاد كنعان) حين حاول نهب كنوزه لسدادا الجزية، حيث غدر به الكهنة وقتلوه (وقيل غدر به أحد رجاله) وهو ما يظن خطأ أنه مقتل أنطيوخس أبيفانيوس في هذا الهيكل (كما مر).

بلاد الهند:

        تأتى ” الهند” في العبرية: “هوندو” وتعنى الكلمة: الأرض التي ُتروى بالنهر الكبير، وهي شبه جزيرة كبيرة في آسيا، كانت تمثل حدود المملكة السلوقية، غير أن كثيرًا من العلماء لهم تحفّظ على ذلك، فمنهم من رأى أن كلمة الهند ترجمت خطأ، أصلها “أندويا” ولكن الواقع أن حرفي (OI) في اليونانية ينطقان كسرة، وبالتالي فهي (إنديا) India أي الهند(4)، كما ظن العالم ريسبرجRisberg  أنها Milyans وأن مادي بالتالي والمذكورة معها، هي: Pisidians، كما يرى العالم كرامبون Crampon أن صحة الكلمة الهند هي  Jonians Milians باليونان.

ميديا  Midia: وقد سكن الميديون في الهضبة الواقعة إلى الشمال الغربي من إيران، وقد أطلق الاسم خطأ على سكان المنطقة كلها، في حين أنهم شغلوا مساحة طولها 600 ميل وعرضها 250 ميل، وكانت عاصمة الميديين “اكبتانا”، تعرضت ميديا للغزو كثيرًا بسبب شهرة خيولها الحربية، فقد غزاها كل من “هدد نيرارى وتفلث فلاسر وسرجون الثاني” تحالف الميديون مع الاسكيثيين وهاجموا أشور فاسقطوا نينوى سنة 612 ق.م. ولعل أشهر ملوكها هو (كيا كزاريس) الذي توسع ببلاده وزوج حفيدته “أميتيس” إلى نبوخذ نصر والذي بنى لها بدوره حدائق بابل المعلقة، كما زوج شقيقتها لقمبيز حيث انجبت له ” كورش” الذي أعطى لنفسه بعد ذلك لقب (ملك ميديا) حيث كانت قد توحدت مع فارس وأصبحت الثنائي الشهير: (ميديا وفارس) أو (فارس ومادى) راجع (دانيال 8: 20).

لود Lud, Ludim: ُعرف سكان لود بالليديين (سكان ليديا) ويقول يوسيفوس أن لود المذكورة في (تكوين 10: 22) هي أصل ليديا، وأما هيرودوت Herodotus فيقول “ليدوسLydus  ” هو الجد الأكبر لليديين، وقد ذكرت لود أو ليديا في (إشعياء 66: 19) ضمن بعض بلاد في شمال البحر المتوسط أو شمال سوريا بآسيا الصغرى، وقد أسماهم المصريون ” لودانو” كتحريف للكلمة “روتانو” والتي كانت اسمًا لمنطقة سكناهم فيها، ويعرف عنهم أنهم رجال حرب أشداء (إرميا 46: 9 وحزقيال 27: 10) إذ يشيد هيرودوت كثيرًا ببسالتهم، ومن المحتمل أن يكون الأشوريين قد رحّلوهم من بلاد ما بين النهرين إلى آسيا الصغرى.

أومينيس Eumenes: اسم يوناني معناه “الميال إلى الخير” ويكتب أحيانا “يومينيس”، والمذكور هنا هو أومينيس الثاني ملك برغامس (197 – 159 ق.م) وقد خلف أباه أومينيس الأول، عرف عنه حكمته وبسالته ولطفه، ساعد الرومانيين بقيادة “فولفيوس نوبليور” في حربهم ضد أنطيوخس الكبير والتي استمرت من 91 – 188 ق.م. (كما مرّ) فلما هزم أنطيوخس، كافأ الرومان أومينيس بأن وهبوه آسيا الصغرى وجزء من ثراكية (بلاد الهند / ميديا / لود). وقد أصبحت برغامس أعظم ممالك الشرق، حيث أنشأ فيها أومينيس مكتبة عظيمة تعد الثانية بعد مكتبة الإسكندرية، ومن بعد وفاته ملك ابنه “الكس الثاني” الملقب بـ” فلادلفيوس”.

اليونانيين: تأتى التسمية العربية “اليونان” من الكلمة العبرية “يونه” ومعناها “حمامة” وربما كان الاسم أيضًا منسوبًا إلى “ياوان” وهو اسم لإحدى القبائل اليونانية الأولى في شبه جزيرة كبيرة جنوب شرق أوروبا، بين بحر أدريا والأرخبيل، ويرجع أصل سكانها إلى نسل يافث، وقد تحدروا من آسيا خلال الفترة (3000 – 1800 ق.م.) وسميت بلادهم ب “الهيلينية” وكذلك حضارتهم.

والمقصود هنا بالطبع  سكان اليونان، وهم غير سكان المملكة السلوقية، وإن كانوا يشتركون معًا في الثقافة والحضارة واللغة. أما ما يعرف بحرب التحالف اليوناني Achaeanleague مع روما، فقد حدث في سنة 146 ق.م. أن أرسلت روما جيشًا بقيادة “القنصل لوكيوس مميوس” لسحق اليونانيين والاستيلاء على كبرى مدنهم (كورنثوس) وقد صاحب ذلك مذابح وبيع النساء والأطفال كعبيد، وُدمرت المدينة، وأزيلت أسوار جميع المدن وخضعت أغلب مدن اليونان تحت قيادة حاكم لإقليم مقدونيا(5).

سائر الممالك: ربما كان المقصود بها “مملكة الأتاليد” Attalid في برغامس، والتي أوصى آخر ملوكها: “أتالوس الثالث” بأن تؤول إلى روما في سنة 133 وقام أريستونيكوس – يدعى الحق في الملكية – بقيادة المقاومة الشديدة ضد الحاكم الروماني حتى استسلم سنة 130 ق.م.، بينما استمر أتباعه في المقاومة حتى سنة 129 / 128 ق.م. وفي سنة 129 تحولت مملكة الأتاليد هذه إلى اقليم آسيا الروماني.

الجزر: كان الرومان قد استولوا على عدة جزر أثناء حربهم مع قرطاج في القرن الثالث ق.م. مثل صقلية وسردينيا وكورسيكا وجزر البليار، وأن كانت مثل تلك الجزر لم تعرف بمقاومتها للرومان، ولكن مصطلح جزر بشكل عام يشير في الكتابات العبرية إلى الجزر اليونانية.

ولعله من الملفت أن السفر لم يشر هنا إلى هزيمة قرطاج من الرومان، وهي مستعمرة فينيقية (كنعانية) ذات العبادات الوثنية الممقوتة لدى اليهود. وقد هاجمتها روما مرتين في عامى 241، 201 ق.م. ثم دمرتها نهائيًا سنة 146 ق.م. ولكن ذلك يؤكد أن السفر قد كتب قبل ذلك التاريخ.

ويعد هذا الأصحاح وثيقة هامة لوصف عظمة روما في ذلك الوقت، فإن المصادر التي تتحدث عن روما كانت الرومان أنفسهم ثم النقوش التي قام بها بعض من أصدقاء الرومان، وكذلك التاريخ الذي دونه بوليبيوس وهو وأن كان يوناني إلا أنه كان متعاطف مع الرومان، ومن هنا فإن وصف اليهود للرومان يعطى صورة صادقة محايدة لوضع روما كإمبراطورية قوية وفاضلة مع ملاحظة أن اليهود كانوا حتى ذلك الوقت مستقلين وغير خاضعين لروما، بل كانت روما – عمليًا – تتجاهل شئون سوريا واليهودية ومصر البطلمية، يضاف إلى كل ذلك أن السفر كتب بالعبرية ولم يقرأه أي روماني.

أما تعبير ” كل من ينضم إليهم” (آية 1) فهي ترجمة للكلمة اليونانية Prostithemenios والتي من الممكن ترجمتها إلى “يسعى للتحالف معهم” إلا أن اليهود قصدوا “الاهتداء والاقتران” فكما أن الرومان كانوا يمنحون المواطنة لكثير ممن يلتجأون إليهم، هكذا اليهود يمنحون المواطنة لكل من يطلب الاهتداء، راجع (إشعياء 14: 1). وكانت “الصداقة” وصفًا رسميًا في العلاقات الدولية الرومانية، وهي ترادف تقريبًا الآن: ” الاعتراف الدبلوماسى”.

هذه هي الأخبار التي وصلت إلى يهوذا المكابى، وهي بقدر ما تثير الرعب، تثير الاعجاب والتقدير، مما يجعل الرومان خليقون بالتحالف والصداقة، لا سيما بسبب الجوانب الأخرى من سياساتهم.

الجانب الآخر للرومان

12ولكنهم حفظوا المودة لأوليائهم والذين اعتمدوا عليهم. وتسلّطوا على الملوك، قريبهم وبعيدهم، وكل من سمع باسمهم خافهم. 13ومن أرادوا مؤازرته وتمليكه ملكوه، ومن أرادوا خلعه خلعوه، فعلا شأنهم كثيرًا. 14ومع ذلك كله، لم يلبس أحد منهم التاج ولا ارتدى الأرجوان مباهاة به. 15ووضعوا لهم مجلس شورى يتداول فيه كل يوم ثلاث مئة وعشرون رجلًا، يتداولون على الدوام في أمور الشعب للمحافظة على نظامه. 16وهم يفوضون سلطانهم وسيادة أرضهم بجملتها كل سنة إلى رجل واحد، ويطيعون جميعًا هذا الواحد، وليس فيهم حسد ولا منافسة.

اتسعت المعاهدات والتحالفات ما بين الرومان وأمم كثيرة، وقد اتسعت منطقة نفوذهم، وكانوا يمنحون بعض البلاد الخاضعة لهم حكمًا ذاتيًا مقابل جزية يؤدونها كل عام، مع ضمان خضوعها لهم وقيام علاقات دبلوماسية وتجارية وغيرها، مما جعل سمعتهم تتقدمهم أينما اتجهوا.

وفي (الآية 13) إشارة خفية تحمل التخوّف وتوجب التحوّط، فهي وإن تكن نذير شؤم لم ينتبه إليه يهوذا المكابى – المبهور بالرومان – إلا أنها كانت في الاتجاه الآخر خيرًا وتدبيرًا من الله، فمع أن الرومان أذلوا اليهود ودمروهم أكثر من أي شعب آخر إلا  أن استيلاءهم على تلك البلاد قد أسهم كثيرًا في نشر ملكوت الله، ليس في اليهودية فحسب بل في العالم أجمع.

ومن الأمثلة على فعالية الرومان في هذا الشأن: أنها مكّنت ” مسينيسا في ” نوميديا” سنة 302 ق.م. ثمّ بطليموس السادس وبطليموس الثامن كملكين مستقلين عن روما في سنة 168 ق.م. وربما بطليموس السادس ثانية بعد أن طرده بطليموس الثامن سنة 164 ق.م. وبطليموس الثامن نفسه كملك للقيروان (ضد المؤامرات التي كان يخشاها) سنة 162/161 ق.م.  وأنطيوخس الخامس خلال الفترة من سنة 163 – 162 ق.م. ضد مكائد ديمتريوس الأول، وتيماركوس كملك ل مادي سنة 161 ق.م. ضد معارضة ديمتريوس الأول الذي كان يطالب بمادى، كما كانت روما قد خلعت فرساوس من عرش مقدونيا (كما سبق) ومع ذلك فقد اخفقت روما في إبقاء كل من أنطيوخس الخامس وتيماركوس في السلطة، كما اعترفت روما ب ديمتريوس الأول كملك للإمبراطورية السلوقية في سنة 160 ق.م.

وتفرط الأخبار التي بلغت يهوذا في مدحهم، حيث يصله أنهم أناس عمليون لا يقيمون وزنًا كبيرًا للشكليات، ولا ينزعون إلى التباهى بالتيجان أو الألقاب أو الثياب الفاخرة، والحقيقة أن الرومان كانوا هكذا في بداية عهدهم بالحكم، وهم رجال حرب بالدرجة الأولى بعكس اليونانيين والذين هم رجال فن وثقافة محبين للشعر والجمال والنفائس، ولكن الرومان قد تحولوا إلى هذه الاتجاهات ذاتها بعد ذلك.

ولو عاش يهوذا المكابى طويلًا، لسمع ورأى الصراعات الدامية على السلطة بين القادة الرومان ولضاق ببذخهم وترفهم، وأنفَ من الوشايات والدسائس التي تحاك في زوايا القصور ولُروّع من منظر دماء مصارعى الوحوش، ومن مناظر الوحوش وهي تفتك بالأسرى والمسيحيين واليهود معًا، ولكان قد غيّر رأيه عندما رأى الشعب الجائع ينتظر سفن مصر فإذا بها محملة بالرمل الأبيض الآتي من على ضفاف النيل ليُفرش في أرضية حلبة المصارعات!! ولتَقزز من منظر الولائم الرومانية المبالغة في الترف والميوعة..

نظام الحكم في روما:

     تعلم الرومان من الشعوب الأجنبية النظام والطاعة، والتي شكلت نظام الحكم لديهم بعد ذلك، وبعد صراع طويل ما بين طبقتى الأشراف والعامة استمر لمدة مئة وخمسون عامًا، ُسمح للعامة (وهم أحفاد العبيد والأجانب) بالاشتراك في الحقوق والحكم مع طبقة الأشراف (أحفاد الشيوخ والسياسيين والقادة العسكريين) فقد أصبح لهم تمثيل في الحكم من خلال ” التربينيون Teribunes ” أي طبقة المدافعون عن حقوق الشعب، ثم ازداد نفوذهم بعد ذلك من خلال القانون الروماني الشهير المعروف ب “الاثني عشر لوحًا”.

وتشير (الآية 14) إلى النظام الجمهورى في الحكم الروماني، ويشير السفر هنا من طرف خفي إلى مساوئ حكم الملكية (التاج والأرجوان)، ففي روما لم يكن يرتديهما إلا القادة المنتصرين وذلك أثناء الاستعراض العسكري فقط، ومن المحتمل أن الإسكندر جنايوس – والذي يرى البعض أن السفر ُكتب في أيامه – قد تخلّى عن مظاهر الُملك وأن كان قد بدأ حكمه بلبس التاج مثل أسلافه، إلا أن هناك بعض العملات في عهده نقش عليها “جنايوس رئيس الكهنة ومستشار اليهود” مما يشير إلى أنه تخلّى لبعض الوقت عن لقب “ملك” ربما بسبب تمسكه برئاسة الكهنوت أكثر من الملك.

مجلس الشيوخ والحكام:

        كان مجلس الشيوخ الروماني Senete في أيام حكم الملوك مجرد هيئة استشارية، أما في النظام الجمهورى فقد أصبحت سلطة هذا المجلس أهم ميزات الحكومة الجمهورية، في حين تقلص سلطان الحكام في المقابل بسبب كثرتهم وانتشارهم على مساحات واسعة نتيجة الفتوحات المستمرة، وهكذا ونتيجة اتساع الإمبراطورية كان مجلس الشيوخ هو السلطة المركزية والفعلية في روما، أما فيما يختص بخارج العاصمة فقد نشأت خمسة وظائف هي: القنصل،  الوالي، المحتسب، القاضي، والقسطور (مراقب الحسابات).

ويصل عدد أعضاء مجلس الشيوخ ثلثمائة عضو، ُيختارون على أساس إنجازاتهم وخدماتهم للأمة، ولم يكن هناك فرق بين الادارتين الجمهورية (الحاكم) والسيناتورية (مجلس الشيوخ) بمعنى وجود تنسيق دائم بين الجهتين، وقد قامت ذات وقت ثورة نتيجة عدم قدرة مجلس الشيوخ على ضبط سلوك أعضاءه، من حيث نمو الرشوة واستقطاب الأعضاء، والذين كانوا قادرين بدورهم على استخدام الفيتو ضد أي قرار (وذلك من خلال القضاة العشرة). ويقول شيشرون Cicero أنه كانت من وظائف المجلسس الوصاية على الأخلاق العامة.

وأما ما يبدو من اختلاف طفيف ما بين واقع نظام الحكم في روما بالفعل، وما هو وارد هنا، فإن هذه هي الأخبار التي وردت إلى يهوذا، فالأعضاء الثلثمائة والعشرين قد يكون مضافا إليهم القضاة المذكورين أو بعض الرتب الأخرى المساعدة، هذا وفي سنة 81 ق.م. قام ” سولا Sulla” بزيادة هذا العدد إلى ستمائة عضو، ولم يكن المجلس يجتمع كل يوم بل حسبما يستدعيه القضاة المسئولون، ومع ذلك فلا شك في وجود دوائر حكومية وقضائية منبثقة عن مجلس الشيوخ تعمل يوميًا.  وكان بلاط الحشمونيين هو المقابل لمجلس الشيوخ الروماني، ولكن وبشكل عام كان هناك مجلس شيوخ في إسرائيل، المسمى “السنهدريم”.

وأما عن السلطة المخولة إلى واحد منهم كل عام، فإن المجلس كان له رئيسان (قنصلان) يعملان بالتناوب، كل منهما كممثل للدولة، فقد كان الرومان يحذرون أن يعهدوا بالسلطة لشخص واحد، وانما كانوا ينتخبون المسئولين في مجموعات من اثنين حتى يستطيع الواحد أن يبطل أوامر الآخر، ولم يكن يعين ديكتاتور واحد ليحكم الدولة إلا في أوقات الطوارئ.  ورغم أنه كان هناك العديد من الصراعات بين أعضاء المجلس والحكومة، بل كانت هناك في ذلك الوقت حرب أهلية بين ” سولا ” وخصومه، كما حدث بعد ذلك التاريخ بقليل أن انتشر العنف في عهد أسرة “جراتشى Gracchi” (سنة 133 و123 – 121 ق.م.) وكذلك إجراءات القمع من جانب “ساتورنينوس”  و”جلوكيا” (100 ق.م.) ثم تمرد ومقتل ” ليفيوس دروسوس” وحرب الحلفاء (91 – 87 ق.م) وغيرها: إلا أن نظام الحكم في روما بشكل عام كان مستقرًا وعظيمًا، إذا ما قيس بالتقلّبات السياسية في اليهوديةِ وكذلك مناطق أخرى عديدة من العالم في ذلك الحين.

سياسة روما في الشرق: بالرغم من أن هدف اليهود في الاتجاه نحو روما كان التحرر من نير السلوقيين، إلا أن روما لم تقف فعليا بجور اليهود في صراعهم، كما أن تحرك يهوذا هذا قد جاء متأخرًا جدًا، وكانت سياسة روما هي تشجيع القوى الصغيرة واظهار الشهامة نحوها، وذلك من أجل كبح جماح القوى الكبرى في المنطقة، ذلك بالطبع دون تحمل أية مسئوليات تتطلب عملًا عسكريًا من جانبها، وكان يكفيها اضعاف تلك القوى الكبرى بتشجيع القوى والجماعات الصغرى على التمرد.!

ورغم ما يدّعيه البعض من شكوك حول صدق هذه المعاهدة، حيث أن اعتراف روما بسيادة واستقلال دولة صغيرة كاليهود، كان يعنى في المقابل اعلان الحرب على الدولة السلوقية وملكها ديمتريوس، ولكن هذه كانت سياسة روما، فقد سلكت على هذا النحو مع الثائر “تيماركوس” وغيره من قائدى التمرد. هكذا أراد الرومان إرباك ديمتريوس من خلال الترحيب بأعدائه.!

تحالف اليهود مع الرومانيين

مكابيين ثان 4: 11

    17فاختار يهوذا أوبولمس بن يوحنا بن أكوس وياسون بن ألعازار، وأرسلهما إلى روما ليعقدا مع الرومانيين عهد الصداقة والتحالف، 18ويرفعا عنهم النير، لأنهم رأوا أن  مملكة اليونان قد استعبدت إسرائيل استعبادًا. 19فذهبا إلى روما في سفر طويل جدًا، ودخلا مجلس الشورى وتكلما وقالا: ” 20إننا مرسلان إليكم من قبل يهوذا المكابى وإخوته وجمهور اليهود لنعقد معكم عهد تحالف وسلام، ولتجعلونا في عداد حلفائكم وأصدقائكم”. 21فحسن الأمر لديهم. 22وهذه نسخة الكتاب الذي دونوه على ألواح من نحاس وأرسلوه إلى أورشليم، حتى يكون عندهم تذكار سلام وتحالف: 23“الفلاح للرومانيين ولأمة اليهود في البحر والبر للأبد، وليبعد عنهم السيف والعدو! 24إذا قامت حرب، في روما أولًا  أو عند أي كان من حلفائها في كل امتداد سيادتها، 25فأمة اليهود تحارب معها بكل عزمها، كما تقتضيه الحال، 26ولن يعطى المعتدون ولن يقدم لهم قمح ولا أسلحة ولا فضة ولا  سفن. هكذا حسن لدى الرومانيين، ويحافظون على هذه الالتزامات من دون أن يأخذوا شيئا. 27وكذلك فإن وقعت لليهود حرب أولًا، فالرومانيون يحاربون معهم بكل عزمهم، كما تقتضيه الحال. 28ولن يعطى المعتدون قمحا ولا أسلحة ولا فضة ولا سفنًا. هكذا حسن لدى الرومانيين. ويحافظون علي التزاماتهم من دون غش. 29على هذا الكلام عاهد الرومانيون شعب اليهود. 30وإذا شاء هؤلاء أو أولئك أن يزيدوا على هذا الكلام أو يسقطوا منه، فيفعلون برضاهم، وكل ما زادوا أو أسقطوا يكون ملزما. 31أما الشرور التي أنزلها بهم الملك ديمتريوس، فقد كتبنا إليه قائلين: لم ثقلت النير على أصدقئنا وحلفائنا اليهود؟ فإن عادوا يشكونك، فسننصفهم ونقاتلك بحرًا وبرًا”.

أوبولمس Eupolemus ويكتب أحيانا ” لوبيما” وهو الشخص المعين من قبل يهوذا المكابى كسفير لدى روما، وربما كان هو اليهودي الفلسطيني الذي كتب عن موضوعات في العهد القديم حسبما يورد ذلك الكاتب “شورر    Schurer ” (6) وأوبولمس هو المذكور أيضًا في (2 مكا 4: 11) وأما جدّه ” أكوس” فقد يكون اسمه مشتق من الاسم العبري “هقوص” وتعنى “شوك”. وقد  يكون هو هقوص فعلًا وبالتالي يكون أوبولمس واحدًا من عشيرة هقوص الكهنوتية (أخبار الأيام الأول 24: 10) وقد عمل أبوه يوحنا سفيرًا لليهود في روما.

ياسون: اسم يوناني معناه “يشفى” ويرى بعض الشراح أن أبيه ألعازار هو شقيق يهوذا، بطل المعركة التي ُقتل فيها تحت أحد الأفيال (6: 46) وبذلك يكون يهوذا المكابى هو عمه، وقد يكون هذا الرأي صحيحًا، لولا أن الاسم “ياسون” هو يوناني، مما يثير التساؤل إن كان المكابيين قد وهبوا أولادهم مثل تلك الأسماء، وهو رأى ليس مستبعد، بينما يرى العالم ماير Meyer أن ألعازار المذكور هنا هو نفسه الشهيد المذكور في (2مكا 6) هذا وقد ُارسل ياسون هذا في وقت لاحق من قبل يوناتان المكابى، كسفير لليهود لدى الاسبرطيين (1مكا12: 16 و14: 22). ويتمثل دور السفير ليس في توصيل الرسائل أو شرح وجهات نظر حكومته فقط، وانما العمل على تحبيب الآخرين في بلاده وشعبه وحكامه. هكذا خادم الله هو سفير عنه بين الآخرين يحبون المسيح والسماء بسببه (اذا نسعى كسفراء عن المسيح كان الله يعظ بنا نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله  (كورنثوس الثانية 5: 20).

هذا ويستحق هذان السفيران المديح لأنهم استطاعوا أن يبرموا معاهدة ذي صيغة غير تقليدية – كما سنرى – وفي روما كان ُيذكر أسماء القناصل الرومان والمسئولين المحليين والسفراء، بل أن كانت تلك الأسماء في الواقع كانت تشكل جزءا من نص المعاهدات، وأما يوسيفوس فقد كتب في تاريخه أسماء المبعوثان اليهوديان دون القنصل الروماني، لأنه لم يكن متأكدا منه، فيقول عن المعاهدة أنها: ( ُكتبت بواسطة أبوليمس به يوحنا وياسون بن ألعازار، في الوقت الذي كان يهوذا فيه رئيس كهنة الأمة وسمعان أخوه قائدًا) حيث كانت بعض المعاهدات في المنطقة تكتب بأسماء رؤساء الكهنة والقادة. وإن كان يوسيفوس هنا يعتبر يهوذا رئيس كهنة، مع أن رئاسة الكهنوت بدأت مع يوناتان شقيقه الذي خلفه سنة 160 ق.م.

أما عن تاريخ تلك البعثة الدبلوماسية، فقد بدأت عقب هزيمة نكانور، وعندما فكر ديمتريوس الأول في الانتقام من اليهود، إذ اراد هؤلاء طلب المعونة من روما. وكان البحارة القدماء لا يبحرون في البحر المتوسط إلا بعد 10 مارس حيث تكون عواصف الشتاء قد انتهت، وهكذا بدأت رحلتهم إلى روما بعد (10 مارس سنة 161 ق.م.) وانتهت بالتأكيد قبل (11 نوفمبر) حيث تبدأ عواصف الشتاء من جديد!.

وقد وجد السفيران اللذان عانا كثيرًا في سبيل الوصول إلى روما، نعمة في أعين الرومانيين، وقد كان امتيازا كبيرًا أن يقفا أمام مجلس الشيوخ (الشورى) لعرض قضية بلادهما، والتي لاقت تعاطفًا من أعضاء المجلس فأقروا التحالف.

ألواح النحاس:

        كانت الوثائق  فيما سبق علي ذلك التاريخ تدوّن على الواح من الطين عن طريق الحفر أو الخدش قبل أن تحرق بالنار لتصبح بالتالي ألواحًا من الفخار، وقد اتحفتنا البعثات الأثرية في شتى بلاد الشرق بآلاف القطع من هذا النوع. ثم تطورت الكتابة بعد ذلك لتكون على رقوق من جلد الغزال ثم ورق البردي، وأما الكتابة – أو بمعنى أدق الحفر – على النحاس فقد كان خاصًا بالوثائق والكتابات الهامة كالمواثيق والعهود والقوانين، لا سيّما تلك التي ستعلق على الحوائط والأعمدة. وكانت مناجم النحاس معروفة وموجودة في تلك الأيام، حيث كانت تلك الألواح تصنع من النحاس الأحمر أو البرونز. وكان الرومان يحتفظون بنسخ للمعاهدات والقرارات الأخرى الهامة لمجلس الشيوخ على ألواح برونزية لُتوضع في معبد الإله “جوبيتر”.

               ومع أن يوسيفوس قد شكّ في أن النسخة المرسلة لليهود كانت من البرونز، إلا أن العلماء يؤكدون أن الرومان كانوا يرسلون نسخة من البرونز للطرف الآخر. وأحيانا كان يصنع من البرونز أو الخشب، ومع ذلك فلا مانع من أن يكون اليهود قد نقشوا نسخة من المعاهدة على لوح من البرونز.

مضمون المعاهدة:

تُستهل المعاهدة بأمنية للأمتين الرومانية واليهودية، بحيث لا يصيبهما خطر من أية جهة، وطبقًا للقانون الروماني فقد كان الإجراء التقليدي لعقد المعاهدات، هو تحديد الشروط والموافقة عليها من مجلس الشيوخ، ثم التصويت عليها من الشعب، ثم اقرارها بقسم يؤديه مسئولون رومانيون معينون، غير أنه في هذه الحالة – شأن المدن الصغيرة وشعوب الشرق الناطقة باليونانية – كان ذلك يتم دون تصويت الشعب أو القسم.

وكان هناك شكلين للمعاهدات، الأول “الصداقة” وهو المصطلح الذي كان الرومان يفضلونه أكثر من “السلام” وكانت معاهدات الصداقة أكثر بكثير من مجرد اتفاقيات لعدم الاعتداء المتبادل، والشكل الآخر هو “التحالف” واليك نموذج لمعاهدة صداقة مع الرومان:

1 – تظل الصداقة والسلام إلى الأبد بين الشعب الروماني وشعب (……) في البر والبحر ولا يكون هناك حرب.

2 – لا يسمح شعب (……..) بقرار رسمي منهم لأعداء أو خصوم الشعب الروماني، بالمرور في أرضهم أو الأرض التي يسيطرون عليها لشن الحرب ضد الشعب الروماني ورعايا الرومان، ولا يسمحوا بقرار رسمي منهم أو بأي وسيلة مخادعة، بمساعدة هؤلاء الاعداء بالسلاح أو المال أو السفن. ولا يسمح الشعب الروماني بقرار رسمي منه لأعداء وخصوم شعب (…….) بالمرور في أرضه أو أرض تحت سيطرته لشن حرب علي شعب (…….) ورعاياهم. ولا يساعدوا هؤلاء الأعداء بقرار رسمي أو بوسيلة مخادعة بالسلاح أو المال أو السفن.

وهذا نموذج للتحالف:

 ..}إذا شن أي معتدى الحرب على شعب (……) سيدافع الشعب الروماني عنهم حسبما تقضى الظروف، وإذا شن أي معتدى الحرب على الشعب الروماني سيدافع شعب (…….) عنهم حسبما تقضى الظروف. وهذه الاتفاقيات قابلة للتعديل بإتفاق الطرفين (راجع آية 30)…{.

هذا وربما يشكل البند الثاني مشكلة لليهود بسبب تواجد السلوقيين بجوارهم، فقد كان المتدينون اليهود يرون أنه لا  مانع من تواجد أو مرور القوات السلوقية مادامت ” آتية في سلام ” راجع (7: 10- 15) وبالتالي ولأن السلوقيين كانو خصومًا للرومان فإن هذا البند من المعاهدة سيفرض على اليهود التوقف عن دفع الضرائب لديمتريوس الأول، ولكن هؤلاء المتدينون كانوا يرون أنهم قد يتعرضون لغضب الله إذا  تمردوا ضده، كما حدث من قبل عندما حذّرهم الأنبياء من مغبة مخالفة نبوخذ نصر.

هكذا حسن لدى الرومانيين (آية 26،28) يجب التوقف قليلًا عند هذا التعبير، لأنه يشير إلى أن هذه المعاهدة هي صورة معدلة للصيغة الرسمية المعتادة في ذلك الوقت، لتصبح أكثر مواءمة مع ظروف اليهود. ولقد عثر على نموذج معدل للمعاهدات الرومانية، في الاجزاء المتناثرة للمعاهدة الرومانية مع ” كالاتيس”. كما توجد بعض نماذج لمعاهدات ترجع إلى القرنين الأول والثاني الميلاديين ُكتبت في عهد الحكم الروماني والنباطى واليهودي. وهكذا تفيد العبارة التي نحن بصددها أن هذا التعديل قد تم بمعرفة الرومان أنفسهم وليس تزويرا في الوثيقة التاريخية. وهي تعني بعبارة أخرى ” هكذا صوّت مجلس الشيوخ “.

أصدقاءنا وُحلفاءنا اليهود (آية 31): رغم عدم مقدرة المبعوثين اليهوديين على عقد معاهدة صداقة، فإنهما في (آية 20) يطلبان أن يدرج اليهود في القائمة الرومانية الرسمية للحلفاء والأصدقاء، وكانا على صواب في هذا، فإن روما كانت كثيرًا ما تمنح وضع “صديق” لدول ليس لها معاهدة صداقة معها.

ومن المؤسف والمضحك معًا أن  يدعو الرومان لليهود بالنجاة من السيف والعدو، ثم يصبح الرومان بعد ذلك في القرن التالي هم الشوكة التي غرست في ظهور اليهود، يعانون منها قرونًا طويلة بعد ذلك، سواء أكان في اليهودية نفسها أو في مواضع الشتات حيث ينتشر اليهود في كافة بقاع الإمبراطورية الرومانية!!

وفي (الآية 25): لا ينتظر الرومان معونة عسكرية من اليهود وهم أصغر وأضعف من ذلك، وانّما الاستخبارات وحشد التأييد المعنوى، فيما يسمى ب (المساعدات اللوجستية) بينما في (الآية 26) يشير إلى العقوبات الاقتصادية التي تفرض على الأعداء سواء من جهة اليهود أو الرومانيين، أو ما نسميه الآن ب (حظر بيع السلاح) أو المساعدات المالية، وهو الأمر ذاته المشار إليه في (الآيه 28). بينما تشير كلمة قمح (آية 26) إلى الضرائب الباهظة التي فرضها ديمتريوس على المنتجات الزراعية.

وكأنّ التاريخ يعيد نفسه!! ولكن الاشارة هنا واضحة بأن اليد العليا أو الامتياز سيكون للرومان، فهم لن يأخذون شيئًا (يقصدون مقابلًا) أو ما يعنى عدم استغلالهم هذا التحالف!! ولكنهم يتركون الباب مفتوحًا لأي تعديل يقترحه أحد الجانبين. ويؤكد العالم ” نابينباور Knabenbauer ” أنه يُفهم من العبارتين ” يحفظون أوامرهم بلا مكر” و”يحفظون أوامرهم ولا يأخذون شيئًا” (آية 26، 28) أن اليد العليا في جميع الأحوال ستكون لروما(7).!

إلى هنا ينتهي نص المعاهدة.

وأما (الأية 31): فهي عبارة عن رد شفاهي على شكوى اليهود من الملك ديمتريوس السلوقى بسبب استمراره في مضايقتهم، حيث أخبر مجلس الشيوخ مندوبى اليهود بأنهم قد كتبوا له يحذرونه، وفي هذا الصدد ربما كان المقصود برفع النير (آية 81) هو فرض ديمتريوس: ألكيمس كرئيس كهنة لليهود، وكذلك استمرار فرض السلوقيين الضرائب على اليهود. هذا وقد أورد العالم ” بيفينوت Bevenot ” مقارنة شيّقة بين هذه المعاهدة وأخرى تمّت بين روما و” أستيباليا Astypaleon ” سنة 105ق.م.(8).

_____

(1) تاريخ يوسيفوس – الخواجا سليم نقولا / بيروت.

(2) الطالن (Talent) هو الوزنة، والوزنة ستين منا، وقد اختلف تقدير قيمة الوزنة ما بين بلدان وُاخرى ووقت وآخر، بسب تقلبات قوى البيع والشراء، وهناك فرق بين وزنة الذهب ووزنة الفضة، وفي العهد الجديد أصبحت الوزنات مصطلح يشير إلى المواهب التي يودعها الله في الإنسان.

(3) تاريخ سورية / ص 139. عدد / 418.

 

(4) وهو الخطأ الذي يتكرّر كثيرًا عند نطق الكلمات القبطية من أصل يوناني، مثل ميطانية metanoia والتي كتبت وقرئت كثيرًا (ميطانوة)! أو (ميطانويا) . فإن حرفي oi ينطقا كسرة.

(5) ورد في التاريخ أن أحد الساسة من التحالف الأقوى Aetolian league في سنة 192 ق.م. صرّح بأنه سوف يرد  على طلبات القائد الروماني عندما يقيم معسكره على ضفاف نهر التيبر (في روما!).

(6) وقد ألّف أوبولمس كتابا اسماه: “عن ملوك اليهودية” في أثناء حكم  ديمتريوس الأول، والقطع المتبقية من الكتاب تذكر أن سليمان الملك قد أرسل عمودًا ذهبيا لملك صور والذي وضعه في معبد وليس أنه قدم هبة لمعبد وثني.! راجع في ذلك: T. Corbishiley, p. 749, Jonathan A.Goldsten, p. 359

(7) T. Corbishiley, on Maccabees,  p. 749.

(8)  ibid.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى