تفسير سفر صموئيل الأول ١٣ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث عشر
شاول يغتصب العمل الكهنوتي

استخدم شاول الحكمة البشرية في حماقة [13] باغتصابه العمل الكهنوتي وإصعاد محرقة للرب، لأن الشعب قد تفرق عنه وصموئيل قد تأخر بينما اجتمع الفلسطينيون لمحاربته. صدر الأمر الإلهي على فم صموئيل النبي: “أما الآن فمملكتك لا تقوم” [14].

ارتعاد الشعب     [1-7].

يفتتح هذا الأصحاح في الأصل العبري بالعبارة: “كان شاول ابن سنة حين ملك، وملك سنتين على إسرائيل” [13]. واضح أنه لم يكن ابن سنة حين ملك ولا ملك سنتين فقط، لذا يظن البعض أن الناسخ فقد كلمة “أربعين” قبل كلمة “سنة”، أي “كان شاول ابن أربعين سنة حين ملك”، وأن كلمة “ثلاثين” فُقدت بعد كلمة سنتين، أي ملك “سنتين وثلاثين”، فإذا أُضيف إلى الـ 32 سنة وكسور سبعة سنين وكسور (الفترة ما بين موت شاول ومسح دود ملكًا على كل إسرائيل (2 صم 4: 5؛ 5: 5) يمكن القول بأن مملكة شاول بقيت لمدة أربعين سنة (أع 13: 21).

في (9: 2) نرى شاول شابًا حين ملك، وهنا نرى ابنه يوناثان جنديًا محاربًا [2-3]، فلابد ان تكون هناك فترة تزيد عن العشرين سنة ما بين ما ورد هنا وما ورد في الأصحاح السابق. خلال هذه المدة نظم شاول جيشًا صغيرًا، يضم 3 آلاف محارب، ألفين معه في مخماس [تعني “مختِف”[103]، قرية مخماس الحالية، تبعد خمسة أميال شمال أورشليم]. وألفًا مع يوناثان ابنه البكر في جبعة بنيامين [هي تل الفول حاليًا تبعد أربعة أميال شمال أورشليم، شرقي الطريق من أورشليم إلى نابلس، مسكن شاول الأصلي].

ضرب يوناثان نصب الفلسطينيين الذي في جبع [لا تزال تحمل ذات الأسم، يفصلها عن مخماس وادٍ عمقه 800 قدم، جانباه منحدران]. ضرب شاول بالبوق ليجمع إسرائيل للحرب، فاجتمعوا في الجلجال. أما الفلسطينيون فحسبوا هذا مهانة لهم أن يضرب يوناثان نصبهم فاجتمع 30.000 مركبة و 6000 فارس وشعب بلا عدد كرمل البحر صعدوا ثم نزلوا في مخماس شرقي بيت آون (بيت الصنم أو الشر، كانت بين بيت إيل ومخماس)، ربما جاءوا ليسدوا طريق الجلجال فلا يصعد شاول لنجدة يوناثان.

لم يفكر شاول أو يوناثان أو الشعب في الالتجاء إلى الله لخلاصهم، لذا حل بهم الخوف والرعدة، اختبأ الشعب في المغاير والغياض والصخور والصروح والآبار، وعبر البعض الأردن إلى أرض جاد وجلعاد، حتى لم يبق مع شاول سوى ستمائة شخص [15].

لقد فقد الشعب رجاءهم وامتلاؤا خوفًا لا بسبب قلة عددهم وإنما بسبب فقدان إيمانهم:

v     عندما يظلم الذهن يختفي الإيمان، ويُسيطر الخوف علينا، وينقطع رجاؤنا.

v     الإنسان الجسداني يخاف (الموت) كما يخاف الوحش من الذبح.

مار اسحق السرياني[104]

شاول يقدم محرقة [8-9].

رأى شاول الشعب قد تشتت، وهجر كثيرون الموقع، وقد أوشكت الهزيمة أن تحل بالشعب، وصموئيل لم يحضر بعد، فقال: “قدموا إليّ المحرقة وذبائح السلامة“، فأصعد المحرقة. لقد ظن أن المحرقة أشبه بأحجية أو حجاب يؤدي إلى النصرة، ولا يدري أنها رمز للذبيحة الحقيقية، وأنه لا يجوز تقديمها ألا بحسب الشريعة لتحقيق المصالحة مع الله. في غباوة تجاسر وكسر الوصية الإلهية، متعللاً بالظروف المحيطة غير متكلٍ على الرب.

يرى البعض أنه لا يمكن أن يكون مذبح عظيم كالجلجال بلا كاهن، وإنما استغل شاول تأخير صموئيل النبي لكي يغتصب الحقوق الكهنوتية الدينية بجانب سلطته الزمنية… عمله هذا يحمل اغتصابًا يشتاق إليه متحينًا الفرصة لتحقيقه.

صار شاول مثلاً سيئًا لتعدي حدود رتبة الإنسان، وقد جاء في الدسقولية: [من يمارس عملاً بدون الأسقف يعمل بلا هدف. قيل لشاول: لا يليق بك ذلك [13] عندما قدم (محرقة) بدون صموئيل، هكذا كل علماني يفعل شيئًا بدون الكاهن يتعب باطلاً. وأيضًا عُزيا الملك (2 أي 26) إذ أراد ممارسة الأعمال الكهنوتية وهو ليس كاهنًا ضُرب بالبرص بسبب عصيانه، هكذا يُعاقب كل علماني يحتقر الله، وبجنون يهين كهنته، ويغتصب بظلم هذه الكرامة لنفسه، غير متمثل بالمسيح “الذي لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة” بل انتظر ليسمع من أبيه: “أقسم الرب ولن يندم أنت هو الكاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق” (مز 4: 110)[105]].

[الآن نسألكم نحن جميعًا أن يلتزم كل أحد برتبته التي عُين لها، ولا يتخطى حدوده اللائقة، فإنها (الرتب) ليست لنا بل الله. يقول الرب: “الذي يسمع منكم يسمع مني، والذي يسمع مني يسمع من الذي أرسلني، والذي يرذلكم يرذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني” (لو 10: 16؛ مت 10: 40؛ يو 13: 20)[106]].

أيضًا صار مثلاً سيئًا في عدم فهمه للعبادة، فإن الله يطلب الطاعة لا الذبائح الحيوانية والمحرقات. إذ قيل: “بذبيحة وتقدمة لم تُسر… محرقة وذبيحة خطية لم تطلب” (مز 49: 6)، “ذبيحة وقربانًا لم ترد… بمحرقات وذبائح للخطية لم تُسر” (عب 10: 5، 6).

v     لنقدم ذواتنا كعطايا ذبيحية ومحرقات للرب، هذا الذي لا يُريد حيوانات عجماوات…

الأب دوروثيؤس من غزة[107]

لو أن شاول انتظر الدقائق الأخيرة لجاء صموئيل وقدم محرقة مقبولة لدي الله عوض محرقة شاول التي حملت رائحة عصيان وصايا الرب. حاجتنا أن نصبر إلى المنتهى فنخلص (مت 10: 22)، وننتظر الهزيع الأخير لنرى رب المجد قادمًا على المياه ليرد سلامنا (مت 14: 25).

v     يليق بنا أن نصبر مثابرين أيها الإخوة الأحباء، حتى إذ ننعم بالرجاء في الحق والحرية ننال الحق والحرية ذاتها.

الشهيد كبريانوس[108]

رفض شاول       [10-15].

إذ تعدى شاول حدوده عاصيًا الوصية الإلهية بتقديم ذبائح هي من عمل الكاهن لا الملك، جاءه صموئيل النبي يوبخه قائلاً له: “ماذا فعلت؟” [11]. عوض أن يُراجع نفسه ويعترف بخطئه ألقى باللوم على صموئيل قائلاً: “لأني رأيت أن الشعب قد تفرق عني وأنت لم تأتِ في أيام الميعاد والفلسطينيون مجتمعون في مخماس، فقلت الآن ينزل الفلسطينيون إليّ إلى الجلجال ولم أتضرع إلى وجه الرب فتجلّدت وأصعدت المحرقة” [11-12].

لو أن شاول دان نفسه معترفًا بخطئه ربما تغيَّر الموقف، لكنه أبرز نفسه كشخص غيور على شعب الله وأنه متضرع إلى وجه الرب وأن صموئيل النبي هو الذي تأخر عن الميعاد فصار الموقف حرجًا.

v     إن دققنا الفحص نجد أن علة كل الاضطرابات هي عدم إدانتنا لأنفسنا، لذا نجد هذا الارتباك ولن نجد راحة.

الأب دوروثيؤوس[109]

ثمرة عصيان شاول مع تبريره لخطئه وإلقاء اللوم على الغير أنه فقد هو ونسله المملكة، إذ قال له صموئيل النبي: “قد انحمقت؛ لم تحفظ وصية الرب إلهك التي أمرك بها، لأنه الآن كان الرب قد ثبت مملكتك على إسرائيل إلى الأبد. وأما الآن فمملكتك لا تقوم. قد انتخب الرب لنفسه رجلاً حسب قلبه وأمره الرب أن يترأس على شعبه” [13-14].

يعلق القديس أغسطينوس على العبارة: “قد ثبت مملكتك على إسرائيل إلى الأبد” قائلاً: [يفهم هذا بأن الله قد أقام شاول نفسه ليملك إلى الأبد؛ وأنه إذ أخطأ لم يُحفظ هذا الوعد، فإن الله لم يجهل أن شاول سيخطئ، وإنما أقام مملكته لتكون رمزًا للمملكة (الملكوت) الأبدية. لذلك أضاف: “الآن فمملكتك لا تقوم (لك)”. هذا يعني أن المملكة تقوم وستقوم، لكنها لا تقوم بهذا الإنسان، لأنه يملك إلى الأبد؛ ولا تقوم بنسله…”قد انتخب الرب لنفسه رجلاً”، يقصد بذلك إما داود أو (رمز) وسيط العهد الجديد (عب 9: 15) الذي رُمز إليه خلال المسحة التي دُهن بها داود ونسله[110]].

يكمل القديس أغسطينوس حديثه موضحًا أن كلمات النبي صموئيل جاءت في بداية ملك شاول ومع ذلك بقى شاول ملكًا لمدة 40 عامًا وهي ذات المدة التي ملكها داود على إسرائيل. لكن امتد المُلك في نسل داود دون شاول، وجاء السيد المسيح من نسل داود ليملك إلى الأبد. [هذا الرجل (شاول) مثّل شعب إسرائيل رمزيًا الذي كان سيفقد المُلْكَ، بينما يملك يسوع المسيح ربنا روحيًا وليس جسديًا[111]].

هنا أول إشارة إلى داود وملكه على إسرائيل، مع مقارنة بينه وبين شاول. داود له خطاياه لكنه يخطئ خلال الضعف البشري، هو رجل إيمان وطاعة ومملوء حبًا وحنينًا نحو الله، متى أخطأ أسرع بدموعه يعترف دون تبرير لنفسه، بل وحينما تعرض الشعب للعقاب بسبب خطاياه تذلل أمام الله طالبًا أن تكون العقوبة حالة به وببيت أبيه وليس بالشعب. حب عجيب وبذل من أجل الشعب! أما شاول فكان خطأه تمردًا وعصيانًا وعند المواجهة يبرر ذاته وتصرفاته.

 

ضعف حال إسرائيل [17-23].

أ. “وكان شاول ويوناثان ابنه والشعب الموجود معهما مقيمين في جبع بنيامين والفلسطينيون نزلوا في مخماس” [16].

لقد دخل الفلسطينيون إلى ممرات عجلون وبيت حورون واستولوا على جزء من الحافة في الوسط وامتدوا إلى الشرق حتى مخماس، بهذا صار يفصلهم عن شاول وادٍ ضيق وعميق، إذ عزلوا بنيامين عن الشمال والوسط، وكأن فرق الفلسطينيين امتدت إلى الشمال والشرق والغرب وتركوا شاول معزولاً في الجنوب كمن بلا سلطان على إسرائيل.

كان الله مترفقًا بشعبه بالرغم من سماحه للفلسطينيين بالتخريب، فإنهم لو نزلوا في البداية إلى الجلجال لضربوا شاول والستمائة رجل ثم يوناثان ورجاله القليلين، وبهذا يستولون على إسرائيل كلها.

لقد أذل الفلسطينيون إسرائيل إذ لم يسمحوا بوجود صانع بينهم حتى لا يعملوا سيفًا أو رمحًا، فكان من أراد أن يحدد سكينة أو منجلة أو فأسه أو معوله ينزل إلى الفلسطينيين… إنها صورة مؤلمة لعمل الخطية في حياة الإنسان، فإنها تُحطم طاقاته وإمكانيته وتحدره إلى الذل والمهانة. 

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى