تفسير سفر صموئيل الأول ٦ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السادس
عودة تابوت العهد
لقد طالت مدة إقامة تابوت العهد في وسط الوثنيين إلى سبعة أشهر، ليتأكد الكل أن ما حل بالوثن (الإله داجون) وما حل بالناس (مرض البواسير) وأيضًا بالأرض (جرذان أو فئران كبيرة تأكل محاصيل الأرض) لم يكن محض صدفة إنما علامة غضب الله على الوثنيين. وأيضًا لكي يقدم المؤمنون توبة صادقة مشتاقين بالحق للتمتع بالحضرة الإلهية المعلنة بوجود التابوت في وسطهم:
عمل قربان إثم [1-5].
“وكان تابوت الله في بلاد الفلسطينيين سبعة أشهر” [1]. لا نعرف ما هي مشاعر إسرائيل نحو الأحداث في ذلك الوقت. لقد دُهشوا أن التابوت أُخذ منهم كما في خزي وضعف والكاهنين قتُلا وكثيرين سقطوا وفقد الشعب كرامته… لقد مرت الأيام والأسابيع وأيضًا الشهور ولم يسمعوا شيئًا عن التابوت، لكن الله كان يعمل مؤكدًا قدرته على الخلاص، وشعر الوثنيون بالرهبة أمام الله، فاستعدوا الكهنة والعرافين قائلين: “ماذا نعمل بتابوت الرب؟ أخبرونا بماذا نرسله إلى مكانه؟” [2].
لقد استخدم الله حتى كهنة الوثنيين والعرافين للشهادة له، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [شهد أعداء الله أنفسهم له؛ نعم قدم معلموهم أصواتهم عنه[67]].
العرافون هم الذين يدعون بأنهم قادرون على معرفة الأمور المستقبلية بواسطة علامات طبيعية كطيران الطيور أو أمعاء حيوان مذبوح أو النظر إلى الكبد أو السهام أو ماء في كأس أو استدعاء أرواح الأموات أو قراءة الكف أو تتبع حركة النجوم الخ… هذه عادات شائعة في الشعوب القديمة خاصة الشرقية، ولا تزال قائمة في بلاد شرقية كثيرة. خلال العرافة يأخذ البعض قرارتهم مثل اختيار شريك الحياة أو القيام بحرب في وقت محدد، وقد نهى عنها الكتاب المقدس (لا 20: 27؛ 18: 9-14، إر 14: 14؛ حز 13: 8-9).
طلب الكهنة والعرافون ألاَّ يرسلوا التابوت فارغًا بل يردوا له قربان إثم اعترافًا منهم أنهم أخطئوا وأن ما حل بهم هو تأديب وثمرة لإثمهم في حق الله، وكنوع من التعويض الأدبي والمادي لما أصاب شعبه. طلبوا أن تشترك كل مدينة من المدن الخمس العظمى في هذا القربان ليكون الاعتراف جماعيًا والقربان عن الشعب كله.
كانت العادة لدى الوثنيين تقديم تمثال الجزء المصاب بمرض للآلهة عند البرء من المرض، ولذا طلب الكهنة والعرافون تقديم خمسة بواسير من ذهب وخمسة فئران من ذهب، غير أن الشعب زادوا هذا العدد وصنعوا فئران الذهب بعدد جميع المدن من المدينة المحصنة إلى قرية الصحراء لأن الضربة كانت عامة [18].
لقد أدرك الوثنيون حقيقتين:
أ. أن الله لا يُرشى بذهب أو فضة إنما ما يقدمونه من قربان إثم هو اعتراف وشهادة لمجده، إذ قالوا: “أعطوا إله إسرائيل مجدًا لعله يخفف عنكم وعن ألهتكم وعن أرضكم” [5].
ب. أن مقاومته لن تُجدي، فقد أغلظ فرعون قلبه فهلك [6]. كأن ما حدث منذ حوالي 350 عامًا في مصر انتشرت معرفته في كل البلدان في منطقة الشرق الأوسط.
رد التابوت على عجلة جديدة [6-16].
لقد عمل الفلسطينيون عجلة جديدة تجرها بقرتان مرضعتان لم يعلهما نير [7]، تحمل تابوت العهد وقربان الإثم. بالفعل استقامت البقرتان في الطريق، وكانتا تسيران في سكة واحدة وتجران، لم تميلا يمينًا ولا يسارًا، وأقطاب الفلسطينيين يسيرون وراء تابوت الرب.
ما أروعه منظرًا يشهد لحب الله لشعبه! فمهما طالت إقامة التابوت في أرض الأعداء، لكن الله يشتاق أن يسكن وسط شعبه ويحل فيهم، لقد ساق البقرتين رغم ميلهما الطبيعي لصغيريهما، واستقامتا في الطريق نحو شعب الله. ما أعظم رحمة الله بنا، فإنه يُريد أن يتناسى أخطاءنا ويسكن فينا ويستريح في أحشائنا.
العجلة الجديدة والبقرتان اللتان لم يعلهما نير تكشف عن إدراك الوثنين أيضًا أن الله لا يقبل التعرج بين الفريقين، يُريد أن يكون القلب الحامل له بالكامل له لا يمزج بين حب الله وحب الخطية أو بين ملكوت الله ومملكة إبليس. وكما يقول القديس بولس: “وأية شركة للنور مع الظلمة، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟!” (2 كو 6: 14). يقول العلامة أوريجانوس: [لا يقوم ملكوت الله مع مملكة الشر. لذلك إن كانت إرادتنا أن نكون تحت مُلك الله ليته لا تملك أية خطية في جسدنا المائت (رو 6: 12)، ولا نطيع وصاياها، عندما تحث نفوسنا أن تمارس أعمال الجسد (غلا 5: 19) والأمور الغريبة عن الله[68]].
لقد طلب الوثنيون عمل عجلة جديدة وإحضار بقرتين مرضعتين لم يعلهما نير… وقد رأينا في الشريعة البقرة الحمراء تقديم بقرة لم يعلها نير (عد 19: 2)، وعندما دخل السيد المسيح أورشليم ركب جحشًا لم يجلس عليه أحد من الناس (مر 11: 2).
طلب الكهنة والعرافون ترك العجلة بلا قيادة لينظروا إن كانت تسير نحو تخم التابوت، أي تخم أرض إسرائيل التي كان التابوت فيها، متجهة إلى بيتشمس. وهي مدينة للكهنة (يش 21: 16) على تخم يهوذا، على بعد حوالي 12 ميلاً جنوب شرقي عقرون، حاليًا تدعى عين الشمس.
حجر شهادة في حقل يهوشع [17-18].
إن كانت العجلة تمثل كنيسة العهد الجديد التي تضم شعبًا من فريقين: من أصل يهودي ومن الأمم، وقد صار الكل بروح الله “جديدًا” في الرب كمن لم يعلُهما نير، فإن العجلة انجذبت إلى حقل يهوشع البيتشمسي [18]، لماذا؟
يُجيب القديس يوستين مقدمًا مقارنة بين دخول الشعب أرض كنعان تحت قيادة يشوع الذي كان قبلاً يهوشع وبين دخول العجلة الجديدة بالتابوت إلى حقل يهوشع قائلاً: [البقرتان اللتان لم يقدهما إنسان لم تذهبا إلى الموضع الذي أُخذ منه التابوت بل إلى حقل رجل معين يدعى “يهوشع”… اسمه مأخوذ عن “يسوع (يشوع)”… لتظهرا لكم أنهما كانتا مقادتين بقوة الاسم، كما حدث قبلاً مع الشعب الذي تبقى من الخارجين من مصر. لقد قادهم إلى الأرض ذاك الذي حمل اسم يسوع (يشوع) والذي كان يُدعى قبلاً يهوشع[69]].
بقى حجر الشهادة الذي وُضع عليه تابوت العهد في حقل يهوشع شاهدًا لعمل الله مع شعبه [18]، تتطلع إليه الأجيال لتذكر رعاية الله واهتمامه بأولاده.
ضرب أهل بيتشمس [19-21].
أ. كنا نتوقع من الشعب أن يسقطوا على وجوههم عند معاينتهم للتابوت، ويقدموا توبة للرب، ويستدعى الكهنة واللاويين لحمله والاحتفال به، لكنهم في تجاهل للشريعة التفوا حول التابوت. ضُرِب من الشعب خمسون ألف رجل وسبعون رجلاً. لقد كرّمه الفلسطينيون بالرغم من جهلهم أكثر من الشعب المعطى له وصايا صريحة بشأنه. نحن أيضًا كم مرة ندوس مقادس الله ونتقدم إلى الأسرار الإلهية في تهاون ونستمع إلى كلمته بغير خشوع؟!
ب. يميز الكتاب بين الخمسين ألفًا والسبعين المضروبين بسبب رؤية التابوت، ربما لأن الخمسين ألفًا من كل بني إسرائيل سمعوا من كل موضع وجاءوا يحتفلون برجوعه بينما السبعون هم وحدهم من بيتشمس. يرى البعض أن النسخ العبرية القديمة لم تذكر سوى رقم 70.
لم يرجع التابوت إلى شيلوه، غالبًا لأنها كانت قد دُمرت بواسطة الفلسطينيين، هذا واضح من الحفريات ومن (إر 7: 12)[70].
أُصعد التابوت من بيتشمس إلى قرية يعاريم (مدينة الغابات أو مدينة المدن)[71]، على تخم يهوذا وبنيامين، كانت تابعة ليهوذا (قض 18: 2). يُرجح أنها قرية العنب التي تسمى أيضًا اباغوش تبعد حوالي 9 أميال غرب أورشليم. بقى بها تابوت العهد حتى نقله داود النبي إلى بيدركيدون وبيت عوبيد أدوم الجتي (1 أي 13: 5-13، 2 أي 1: 4).