تفسير سفر المكابيين الثاني 13 للأنبا مكاريوس أسقف المنيا
حملة أنطيوخس الخامس وليسياس
جاءت هذه الحملة نتيجة لاستغاثة الحامية السلوقية الموجودة في قلعة (عكرة) في أورشليم، فقد قام يهوذا المكابى بالتضييق عليها بقصد إخضاعها ولكنه لم ينجح في ذلك، وقد ظلت الحامية موجودة بها إلى أن قام سمعان المكابى بفتحها وطرد الجنود منها حيث كان ذلك إذانا بانتهاء الاحتلال السلوقى لأورشليم (1مكا13: 49-52) أما حملة أنطيوخس الخامس فقد فشلت في تحقيق أهدافها ومن ثم عقد معاهدة صلح مع اليهود، حيث أكدت هذه المعاهدة استمرار نجاح الثورة المكابية.
تزلف منلاوس وقتله
في السنة المئة والتاسعة والأربعين، بلغ أصحاب يهوذا أن أنطيوخس أوباطور زاحف على اليهودية في جيش جرار، ومعه ليسياس وصيه وقيم المصالح، ومعهما جيش يوناني مؤلف من مئة وعشرة آلاف راجل وخمسة آلاف وثلاث مئة فارس واثنين وعشرين فيلا وثلاث مئة مركبة ذات مناجل. فأنضم إليهم منلاوس، وجعل يحرض أنطيوخس بكل نوع من الحيل، غير مبال بخلاص وطنه، بل ساعيا لأن يعاد إلى منصبه، ولكن ملك الملوك أثار سخط أنطيوخس على ذلك المجرم، فإن ليسياس أظهر له أن الرجل كان هو السبب في تلك الشرور بأسرها. فامر الملك بأن يذهب به إلى بيريه ليقتل على عادة البلاد. وهناك برج علوه خمسون ذراعا مملوء رمادا، وفيه آلة مستديرة تهوى براكبها من جميع جهاتها على الرماد. ففي ذلك المكان يصعد المذنب بنهب المقدسات أو ببعض الجرائم الفظيعة الأخرى، ويفع به لهلاكه. وبهذا التعذيب هلك الأثيم منلاوس، ولم يحصل على تربة يوارى فيها، وحدث ذلك بكل عدل، فإنه قد أرتكب جرائم كثيرة على المذبح الذي ناره ورماده مقدسان، وفي الرماد ذاق موته.
جاءت هذه الحملة ناقضة للاتفاقيات السابقة الواردة في الإصحاح الحادي عشر، ومثلت تحولا كاملا في السياسة السلوقية تجاه اليهود، ولا شك أن العنف والقسوة منسوبان ليس إلى الملك الغلام بل ليسياس الوصي عليه، ثم ما تلبث سياستهم في أن تتحول إلى تعاطف مع اليهود وعقد صلح مع حماة بيت صور، وفي نهاية الحملة يكرم الملك الهيكل بسخاء، في حين يأمر بإعدام منلاوس رئيس الكهنة المرفوض.
في تلك الحملة كان يهوذا قد قام لمحاصرة قلعة عكرة، بينما استخدم بقية قواته في سد الطرق الوعرة المؤدية إلى أورشليم من السهل السأحلى، ولكن قواته لم تكن تسمح بالهجوم على الجيش المالكى الكبير، وعندما طوق جيش الملك الأوجار التي تسببت في إعاقة تقدمه نحو أورشليم من خلال أدوم، وضرب الحصار حول الحصن اليهودي في بيت صور، اتخذ يهوذا القرار الصعب برفع الحصار عن القلعة ومواجهة الجيش المالكى في بيت زكريا، وهزم يهوذا ومات أخوه كبطل تحت أحد الأفيال، وعاد يهوذا إلى الهيكل الحصين ولم ينقذهم سوى تدخل إلهي من هزيمة ساحقة (راجع1مكا6: 28……إلخ).
كانت القوة السلوقية كبيرة إلى الحد الذي يثير الفزع، يضاف إلى تلك أنها حملة انتقامية وليست توسعية أو استكشافية لمدى قوة اليهود وعتادهم. أما الأفيال الحربية فقد أشرنا فيما سبق إلى استخدامها في القتال من قبل السلوقيين، وأما المركبات ذات المناحل (أو الكلاليب) فلعلها ذلك النوع الذي يوجد على امتداد محوره من الجانبين جزء مدبب ومشرشر مثل السكاكين أو المناجل، وكان الغرض منه الإيقاع بأية مركبة تمر إلى جوارها أو الفتك عمومًا بكل ما يمر في محازاة المركبة، وقد ظهر هذا التطور في المركبات الحربية ومركبات المصارعات خلال القرن الثاني قبل الميلاد، وقد استخدامها الرومان على نطاق واسع.
نهاية منلاوس:
يأتي تزلف منلاوس هنا إلى السلوقيين، على غرار تزلف ألكيمس إليهم، فبينما صاحب الأخير بكيديس القائد السلوقى(1مكا7: 9، 12) أملا في تعزيز موقفه كرئيس للكهنة، هكذا سلك الأول، وكلاهما يدرك أنه غير منتخب ولا محبوب من الشعب، وقد أراد منلاوس العودة إلى منصبه الذي طرد منه ولو على أشلاء بنى أمته، وكان خليقا به أن يؤثر خير الشعب على محبته للرئاسة والزعامة والمال، وفي هذا تأكيد على عدم محبته للشعب من جهة وعدم صلاحيته للوظيفة من جهة أخرى، لذلك ففي الدول ذات الأنظمة المتطورة يؤثر المسئول خير بلاده على محبته للسلطة، ومن ثم فإنه يستعفى من وظيفته متى كان باستمراره فيها يحول دون ذلك.
بل أن منلاوس نفسه قد فقد حياته وأبديته بسبب السعي إلى الكرامة الزائلة، إذ أن أنطيوخس عندما على ليسياس بأنه هو السبب الحقيقي وراء اندلاع الواجهات مع اليهود وهو الذي اقنع أنطيوخس الرابع بفرض الأغرقة على اليهود، وبالرغم من الاتفاقيات التي أبرمت منذ عهد قريب: استاء الملك لذلك فسواء أكان الملك أو ليسياس فإن أثنيهما لم يرغب في استئناف القتال.
معاقبة منلاوس:
قرر أنطيوخس توقيع أشد العقوبة على منلاوس في ذلك الوقت، حيث كان يرسل إلى البرية أعتى المجرمين وأشرهم خطرا وجرما، مثل نهب المعابد أو الخيانة العظمى وما في مستوى ذلك. أما تلك الآلة الرهيبة وهي من اختراع الفرس، فهي ذاتها التي عذب بها ومات: ألعازر الشيخ اليهودي(6: 28).
وكان المحكوم عليه يثبت في آلة تشبه الساقية، ومن ثم تدار وتغطس به داخل خزان أو برج ضخم بارتفاع حوالي 17م، ملئ بالرماد الملتهب، وتسمى هذه الطريقة أيضًا ب”الدولبة” (2مكا6: 28) وهي ما يقصد به عند الفرس ب”التعذيب بالرماد”. وكان عدد كبير يشترك في هذه العملية كما هو الحال في عقوبة الرجم، إذ يتناوبون دفع العجلة. وكان منلاوس بحق سارق هياكل ومقترفا لجرائم بشعة (آية6) راجع أيضًا (4: 32-50).
وهكذا مات منلاوس على نحو مريع، ولم يهتم أحد بتسليم جثمانه لدفنه، حيث كان ترك الجثة دون دفن يعد عارا كبيرًا لدى اليهود، “وأتركك في البرية أنت وجميع سمك أنهارك على وجه الحقل تسقط فلا تجمع ولا تلم وبذلتك طعاما لوحوش البر ولطيور السماء”(حزقيال29: 5). هذا ويورد السفر هنا توازيا ما بين الجرائم التي أقترفها منلاوس، والطريقة التي قتل بها، فقد تعدى على الهيكل والذي يعد كل من ناره ورماده مقدسان، لأنها نار نازلة من عند الله، ولأنه رماد الذبائح التي قدمت لله، وهكذا عذب هو بالنار والرماد…..!!
ويقول يوسيفوس أن منلاوس قال في نهاية الحرب (1) ومن المحتمل أن تكون معاقبة منلاوس قد حدثت عند التفاوض مع اليهود في نهاية الحملة (آيات18-26) كحل بديل وأمثل للحروب بين الفريقين، فجاءت معاقبته في سياق ترضية اليهود. هذا وقد استمر لمدة عشر سنوات كرئيس كهنة.
بيرية Beroea وفي العبرية “برويا” وفي اليونانية ειζ Βεροιαν وفي الآرامية “حلب” (أرام صوبة). وهي مدينة في الجنوب الغربي لمكدونية في مقاطعة “أمباثيا” على مسافة 65كم غرب تسالونيكي، ومسافة 40كم من “خليج ثرماى” ونظرا لبعدها عن الطريق الرئيسي لروما فلم تكن لها شهرة كبيرة، وكانت أول مدينة تسقط في يد الرومانيين خلال الحرب في تلك المنطقة سنة 168 ق.م.، هذا وقد استعار سلوقس الأول اسمها ليُطلقه على مدينة “حلب” في سوريا، حيث كانت تلك الآلة البشعة للتعذيب، وأما بيرية مكدونية الآن فتُسمّى “فيريا”.
ويقول يوسيفوق أن أونيا الرابع عندما رأى ألكيمس (وهو لا يتبع العائلة الأونية) قد تولى رئاسة الكهنوت بعد موت منالاوس، رحل إلى مصر البطلمية وشيد هيكله المنشق، وذلك عقب عودة أنطيوخس الخامس وليسياس إلى موضعهما في أنطاكية (2).
المكابيون يصرخون إلى الله
9 وأما الملك، فما زال يتقدم وروحه مملوء مقاصد بربرية، وهو يتوعَّد اليهود بأمر مما حدث على عهد أبيه. 10 فلما علم يهوذا ذلك، أمر الشعب بالابتهال إلى الرب نهارًا وليلًا أن ينصرهم في ذلك اليوم أيضًا، كما كان يفعل من قبل، فإنهم قد أوشكوا أن يحرموا من الشريعة والوطن والهيكل المقدس، 11 وأن لا يدع هذا الشعب الذي لم يفرج عنه إلا من أمد قريب يقع في أيدي الوثنيين الحقيرين. 12 ففعلوا كلهم وتضرعوا إلى الرب الرحيم بالبكاء والصوم والسجود مدة ثلاثة أيام بلا انقطاع. ثم حرضوا يهوذا وأمرهم أن يكونوا متأهبين. 13 وخلا بالشيوخ وعزم ألا ينتظر دخول جيش الملك إلى اليهودية والاستيلاء على المدينة، بل أن يخرج ويقضي الأمر بتأييد الرب. ففوق الأمر إلى خالق العالم، وحضَّ أصحابه على أن يُقالتلوا ببسالة حتى الموت في سبيل الشريعة والهيكل والمدينة والوطن والمؤسسات، ونصب معسكره عند مودين. 15 وجعل لهم كلهم السر “نصر الله”. ثم أختار قوما من نخب الشبان وهجم بهم ليلا على خيمة الملك. وقتل نحو أربعة آلاف رجل في المعسكر، وطعن أول الأفيال مع الذي كان في برجه. 16 وأخيرا فقد ملأوا المعسكر رعبا وبلبلة وانصرفوا في فوز 17 تام عند طلوع الفجر وتم ذلك بحماية الرب التي كانت تكتنف يهوذا.
مضى أنطيوخس في سبيله متوعدا يهوذا، (3) ولم يعتبر بما جرى مع أبيه أنطيوخس الرابع عندما تحدى الله وشعبه ففشل وعوقب بشر ميتة. أما اليهود فلم يكن أمامهم تجاه ذلك سوى التوجه إلى الله بكل قلوبهم، مستعطفين إياه بالصلاة والصوم والميطانيات metanoia بشكل متصل ولمدة ثلاثة أيام. وهي العادة التي ما تزال متبعة في كنائسنا حتى اليوم عندما يحل بها ضيق ما أو تجربة، حيث يجتمع الشعب مع الكهنة مكرسين صوما وصلاه لمدة ثلاثة أيام استدرارا لمراحم الله، ذلك عندما تعيينا الوسيلة ويخرج الأمر عن الطاقة والحسابات البشرية والإمكانيات الروحية، ويحتاج الأمر إلى قوة إضافية وتدخل مباشر من الله. فقد كان الجيش كبيرًا والعتاد كثيرا، وكان في نية الملك الاستيلاء على أورشليم من جديد وإعادة البلاد إلى ما كانت عليه من الحضارة الهيلينية، وما رافقها من توقف العبادة وتدنيس الهيكل ومنع العمل بالشريعة.
أما تعبير خلا يهوذا بالشيوخ/ أية3″ فهو يعنى عقد مجلس للتباحث فيما يجب أن يفعلوه، وهكذا لم يسلك يهوذا كقائد عسكري وحسب، بل كسياسي محنك أيضا، إذ كان هؤلاء الشيوخ من بين حكماء الشعب وليس من قواد جيشه. وقد قرر المجلس نقل المعركة إلى خارج البلاد وعدم انتظار جيوش أنطيوخس حتى تصبح على مشارف أورشليم، وهكذا خرج جيش المكابى وعسكر عند “مودين” (1مكا2: 1) وأما كلمة السر:”نصرة الله” وكما أشرنا عند التعليق عليها في (8: 23) فهي العبارة التي كانوا يصرخون بها صرخة حماسية عند الهجوم لإكسابهم قوة قتالية إضافية وكذلك لإيقاع الرعب في قلوب الأعداء بها.
كان مجيء العدو عن طريق أرض أدوم (1مكا6: 31) وكانت أرض أدوم في الجانب الجنوبي الشرقي لبيت صور. كان من الصعب على يهوذا أن يعرف في أي طريق سيجيء العدو لأورشليم، فهل سيجيء عن طريق ساحل البحر أم عن طريق لود، أو بكلا الطريقين معا، ومن لود كان أمامه طريقان ليتجه ناحية جنوب أورشليم، الأول طريق بيت حورون، والثاني الطرف الجنوبي، وكان هناك طريق ثالث لأورشليم غربا بجانب قلعة جازر على طريق عماوس. لذا عسكر يهوذا في مودين التي تبعد 15 كم. من لود وجازر وعماوس، إذ رأى أنه أنسب مكان لنصب المعسكر.
هجمة مباغتة:
وبينما كان السلوقيين مطمئنون غاية الاطمئنان مستندين على عددهم وعتادهم، كانت بسالة اليهود أشد تأثيرا وضراوة من ذلك، وأما عن اختيارهم لخيمة الملك عند الهجوم فلا بُد وأنه كان القصد من ذلك إيقاع الرعب في قلوب بقية الخيام والجنود بقتل ذلك العدد الهائل من الجنود، لا سيما وأنهم من البديهى من خيرة وصفوة الفرسان والجنود، أولئك الذين كانوا حول تلك الخيمة، كما كان قتل فيل واحد يعد خسارة كبيرة، فقد كان العدد الكلى للأفيال الحربية في هذه الحملة” أثنين وعشرون فيلا فقط، ربما أضيف إليهم أحد عشر فيلا في وقت لاحق (راجع1مكا6: 30) إذ يذكر في أنباء هذه الحملة أنها كانت تضم أثنين وثلاثين فيلا، وكان البرج الخشبى المثبت فوق الفيل يسع اثنين وثلاثين رجلا مع أسلحتهم، ولكن الفيل الذي قتل لم يكن معه سوى قائده فقط، وربما كان ألعازر أخو يهوذا المكابى هو الذي قتل الفيل ومات هو تحته (1مكا6: 43-46). وهكذا أوقع اليهود الرعب والفزع في معسكر السلوقيين محدثين جلبة قبل أن ينصرفوا عند الفجر.
أنطيوخس يتفاوض مع اليهود
18 فلما خبر الملك ما عند اليهود من الجرأة، حاول أن يأخذ المعاقل بالحيلة. 19 فزحف على بيت صور، وهي قلعة ليهود منيعة، فهزم وأعاد الكرة فكسر. 20 وأمد يهوذا الذين في القلعة بما يحتاجون إليه. 21 وإن رجلا من جيش اليهود اسمه رودقس كان يكشف الأسرار للعدو، فبحثوا عنه وقبضوا عليه وأعدموه. 22 فعاد الملك وفاوض أهل بيت صور ومد يمناه إليهم وأخذ بيمناهم وأنصرف، وهاجم يهوذا وأصحابه وكسر. 23 وبلغه أن فيلبس الذي كان قد تركه في أنطاكية لتدبير الأمور قد تمرد عليه، فوقع في اضطراب ففاوض اليهود وخضع وأقسم لهم بأن يوافق على جميع شروطهم المشروعة. وبعد أن صالحهم، قدم ذبيحة وأكرم الهيكل وأحسن إلى المكان المقدس. 24 ورحب بالمكابى وترك هيجمونيدس قائدا من بطمايس إلى حدود الجرانيين. 25 ثم جاء إلى بطلمايس، وكان أهل المدينة قد شقت عليهم هذه المعاهدة، فإنهم كانوا ساخطين على تلك الاتفاقيات يريدون نقضها. 26 فصعد ليسياس إلى المنصة ودافع ما استطاع عن تلك الاتفاقيات، فأقنعهم وهدأهم واستمالهم إلى الرفق وذهب إلى إنطاكية. وهكذا كانت حملة الملك ورجوعه.
اجتاح صور:
ترد تفاصيل تلك المعارك والحصار الذي ضرب حول صور في 1 مكا6: 48-63) حيث استطاع الملك بالفعل إجبار سكان بيت صور على الاستسلام وذلك بعد مقاومة لأيام كثيرة(1مكا6: 31)، وذلك بسبب طول مدة الحصار ونفاذ المؤن برغم الإمدادات المستمرة أتى كان يهوذا يرسلها سرا للمدينة كما حاصر الملك أيضًا جبل الهيكل ونصب المجانق والكباش الحديدية، بل كاد أن يستولى على أورشليم من جديد، ولكن اليهود أبدوا مقاومة عنيفة وأظهروا رباطة جأش أذهلت الملك، مما جعله يتجه بفكره نحو المهادنة وعقد اتفاقية سلام.
الجاسوسية:
يبدو أن السبب الحقيقي لفتح “بيت صور” كان الخيانة، حيث مكنهم ذلك الجاسوس الرديء من ذلك، هذا وقد عرف التجسس منذ قديم الزمان سواء في السلم أو في الحرب، وكان عمل الجاسوس يتسم بالمخاطرة الشديدة، إذ كانت العقوبة المرشحة دائمًا لذلك هي الإعدام في حال اكتشافه. هذا وتسمى الجاسوسية في الحروب “الطابور الخامس” وإن كانت في الواقع تعد “الطابور الأول!!” الذي يعمل بفاعلية أكبر إبان الإعداد للحروب (4)، وقد أرسل يشوع بن نون قديمًا الجواسيس ليكتشفوا أرض الموعد، كما أرسل يوناثان المكابي بعض الجواسيس ليكتشفوا معسكر جيش ديمتريوس (1مكا12: 26).
وهنا انتبه اليهود إلى أن هناك من ينقل الأسرار العسكرية إلى الأعداء، فلن يكن التفوق العسكري للسلوقيين هو السبب الفعال لتقدمهم في الحرب، حتى اكتشفوا ذلك الجاسوس، فقد كان هناك بالطبع من أفشى سره!! وحينئذ أعدموه، أما اسم ذلك الجاسوس فهو رودقس.
رودقس Rodokos: الاسم ليس يونانيا ولا يهوديا ولا أراميا، ولكنه إيرانى على الأرجح، وقد تسمى الكثير من اليهود في تلك الآونة أسماء إيرانية (فارسية) ورما جاء من الاسم “رودقس” الأسماء روس Rose أو Rosy ويكون شكل الاسم الإيرانية Rodak، ويأتي من الكلمة Rose أي وردة.
التفاوض مع اليهود:
يأتي السعي إلى هذه المفاوضات عن إعدام الجاسوس، مما يؤكد أنه كان له ضلع في تلك الأحداث المؤسفة، وقد بدأ الملك التفاوض مع بيت صور وعقد الصلح معهم، ربما ظما منه أنهم يؤيدونه ضد المكابى، وإلا لما كان قد واصل هجومه على جيش يهوذا (آية22) غير أن القضية قد حلت بشكل حاسم عندما أصبح الأمر يتعلق بتاجه وعرشه، حيث وصلته الأنباء من إنطاكية بأن فيلبس نائبه هناك قد آثر الاستحواذ على العرش، ومن ثم بادر بعقد الصلح الكامل مع اليهود كافة، ولقد أظهر في ذلك حسن النية عندما قام بإكرام الهيكل، الأمر الذي يحسب بالنسبة لليهود دليلا دامغا على صدقه، إذ يعكس إكرامه للهيكل الذي يحسب بالنسبة لليهود دليلا دامغا على صدقه، إذ يعكس إكرامه للهيكل إكرامه للأمة بأسرها وشرائعها وعقائدها وإلهها.
ثم تصادف الملك مع يهوذا (رحب بالمكابى/آية24) باعتباره ممثلا لليهود كلهم. غير أن ذلك أتى بعد تدمير الملك لتحصينات جبل الهيكل (1مكا:62) ثم تعيينه ألكيمس Alcimus في نفس الفترة رئيسا للكهنة خلفا لمنلاوس.
هيجمونيدس Hegemonids: جاءت هذه الكلمة في العبرية: (سر سافا = رئيس جيش) ووردت في النص اليوناني بمعنى: (يكون حاكما) غير أن البعض بطريقة الخطأ قد ترجمها على أنها اسم قائد عينه أنطيوخس على ذلك الإقليم، ولكن الأرجح أن الملك في سياق مراضاته لليهود قد عين يهوذا قائدا من عكا (بتولمايس) حتى الجرانيين (جرار) وهو ما يرد لوضوح في الترجمة اللاتينية (فولجاتا)، ويبدو الأمر منطقيا عندما نقرأ كيف ثار أهل عكا على تلك الاتفاقية مع اليهود رافضين خضوعهم لقيادتهم، وهو السبب الذي جعل الملك يتجه إليهم بصحبة ليسياس ليهدئ من روعهم مدافعا عن تلك الاتفاقية، مؤكدا لهم عدم تخلى المملكة عنهم، وعليه يمكن قراءة النص كالآتي: “رحب بالمكابى وعيته قائدا لبطلمايس إلى حدود الجرانيين.”
وهذه الكلمة هيجمونيدس هي التي اشتق منها كلمة هيغومينوس، والمستخدمة في الكنيسة بمعنى “قمص” أو “مدبر” وهي رتبة إدارية في الكنيسة تعطى لأحد القسوس يصبح بموجبها مسئولا عن مجموعة من القسوس، كواحد متقدم في الجماعة يدبرهم ويخضعون له في أتضاع وطاعة. وفي كثير من الكنائس الآن يوجد أب قمص مع عدد من القسوس ويخضع له الجميع في أبوة روحية.
الجرانيين / الجرار Gerar, Gerrenians
(5) كلمة عبرية معناها “جرة” وهي مدينة هامة بالقرب من البحر المتوسط، جنوب وجنوب غرب حدود كنعان، وتقع كذلك على مسافة 14 كم جنوب شرق غزة وغرب بئر سبع، وهي المدينة التي انحدر إليها كل من إبراهيم واسحق عندما حدث جوع في الأرض (تك20: 1و 126) مما يدل على غناها ورفاءها لمدة طويلة وتقع الآن على مسافة 23كم حنوب غرب “بيت جبرين).
ويرى البعض الآخر أن الجرانيين شعب سكن شبه جزيرة سيناء بقرب سيربونيس Sirbonis شرق البلزيوم، وإن كانت في ذلك الوقت واقعة تحت السيطرة البلطمية بخارج الحدود السلوقية، ولكن علماء آخرين يرون أن جرار كانت بقعة محلية مهمة في أضيق موقع بوادى لبنان شرقا وإلى الجنوب من بيروت قليلا وهي التي اطلق عليها فيما بعد اسم “خلقيس” Chalkis، وقد سميت المدينة ليس باسم المنطقة ولكن باسم الجماعة العرقية التي تسكنها.
وضع اليهود بعد رحيل أنطيوخس الخامس عنها:
انسحب الملك الصغير دون أن يرغم يهوذا ورجاله على إلقاء أسلحتهم، وترك المجال مفتوحا أمام اليهود ليعود من ترك مسكنه منهم إلى دياره، وربما ترك الملك أيضًا الطريق ممهدا أمام المزيد من التوغل اليهودي شمالا رغم أن السامرة كانت تقع ما بين اليهودية والجليل، إلا أن يهوذا ورجاله كانوا يتنقلون بحرية تامة طوال الوقت كم خلال السامرة (1مكا5:21-23و-52-53و2مكا15: 1-5) ومن هنا ربما كان تعيين القائد (الهيغومينوس) بهدف وقف تطلعات اليهود شمالا، وطمأنة الوثنيين الذين سكنوا بمحاذاة الحدود البطلمية، ولكن ذلك على صعيد آخر يعنى تراجع في النفوذ السلوقى مقابل تزايد في القوة اليهودية الأمر الذي حرك المخاوف لدى السكان هناك، بسبب معاهدة السلام ومن اليهود المستردين قوتهم، انظر(6: 8).
هذا وقد سجل اليهود تاريخ رحيل أنطيوخس الخامس عن أورشليم في 5 يناير من عام 162ق.م. (أو5 مارس حسب التقويم الكبيس) (6) ولا شك أنه هزم فيلبس المتآمر عليه هناك في إنطاكية (1مكا6: 63) وهو ما يؤيده أيضًا يوسيفوس المؤرخ اليهودي. (7).
_____
(1) الآثار اليهودية كتاب 12، فصل9: 7.
(2) Jonathan A. Goldsten, II Macc.
(3) جاء في الترجمة اليونانية للآية 9 τοιζ δε φρονημασιν Βεβαρβαρω μενος= قسى قلبه) وهو التعبير الوراد عن فرعون (خروج7: 14).
(4) هناك العديد من الوقائع المثيرة والمتعلقة بالجاسوسية أثناء الحرب العالمية الثانية، وتجمع ما بين البطولة والخسة والخيانة، جمع بعضها الكاتب: أحمد الصاوى في كتابه “الطابور الخامس”.
(5) جاءت جرار في المخطوطة اليونانية التي تحمل رقم 55 هكذا: εως των Τεραρηρων
(6) وذلك حسبما ورد في قسم (تاعنيت Ta’anit في التلمود).
(7) عصور اليهود القديمة (12-9-7-386).