تعليقات لامعة على سفر التكوين للقديس كيرلس عمود الدين

المقالة الخامسة: 11- التفسير الروحي لقصة يعقوب

التفسير الروحي لقصة يعقوب

كان يعقوب التقى خائفاً جدا من أخيه عيسو الذي كانت تصرفاته تتسم بالوحشية ، إذ كان قتَّالاً مثل الوحش ، لذلك قرر يعقوب أن يقيم في حاران عند لابان بعدما نال موافقة أبيه إسحق. إذ ظنَّ أبوه أنه بهذه الطريقة يجنب يعقوب هجوم عیسو المغتاظ والحزين . وعندما وصل يعقوب عند لابان تزوج كما رأينا ابنتيه اللتين هما ليئة وراحيل ، وأنجب أولاداً، واكتسب قطعان من الماشية وثروة كبيرة . وعندما رأى أنه قد امتلك خيرات وفيرة جداً، فكر في أن يكون له بيته الخاص . وهكذا رحل من حاران ومن بيت لابان ومعه كل ما حصل عليه ، وطبعاً رحل معه امرأتاه وأولاده . لكن لابان اغتاظ وتعقبه حتى وصل إليه ، إلا إنه صنع اتفاق سلام ورباط محبة معه ، وأكد هذا الاتفاق بإقامة نصب من الحجارة ، هذا النصب يشير إلى المسيح.

ثم بعد ذلك ، بعدما مضى لابان راجعا إلى بيته ، شرع يعقوب في صنع اتفاق سلام مع أخيه عيسو ، ذاك الذي كان سابقاً يريد ان يقتله وساخطاً عليه . وقد تم ذلك بعد أن عانق أحدهما الآخر ، وهكذا دفنا بتصرفات المحبة هذه ، كل ما حدث بينهما في الماضي.

لكني أذكركم بأننا قلنا إن يعقوب يشير إلى شخص المسيح ، وأيضا يشير أحيانا إلى أولئك الذين يتبررون بالإيمان ، بينما عيسو يشير إلى شعب الختان والناموس ، حيث إن الرب إله الكل قال لرفقة وهي ما زالت تعاني آلام الولادة : “في بطنك أمتان. ومن أحشائك يفترق شعبان . شعب يقوى على شعب . وكبير يستعبد لصغير » ( تك 25: 23) ، الأمر الذي يتحقق في المسيح ؛ لأنه بينما كان بنو إسرائيل الأولون زمنياً ولأجل هذا السبب دعوا أبكاراً، إلا أنهم صاروا بعد أولئك الذين آمنوا بالمسيح ، هؤلاء الذين ورثوا أيضا مجد البكر ، بسبب وجود المسيح البكر بينهم ، وبالرغم من أنه هو الوحيد الجنس[1] ، إلا أنهم صاروا متمثلين به نائلين الولادة الثانية من جهة عدم الموت والقداسة بواسطة الروح القدس.

إذن ، فقد طارد ولاحق إسرائيل المشار إليه بعيسو ، المسيح المشار إليه بیعقوب . لكن كما قلنا ، فأن يعقوب يشير أحيانا إلى المسيح ، وأحيانا أخرى يشير إلى شعب الإيمان الجديد ، وذلك حسب السياق الملائم لذلك . فالمسيح الطريد أقام في بلاد الأمم ، صارخ : « قد تركت بيتي رفضت ميراثي دفعت حبيبة نفسي ليد أعدائها . صار لي ميراثي كأسد في الوعر . نطق علىَّ بصوته . من أجل ذلك أبغضته » ( إر ۷:۱۲ – ۸ ) . وأيضا ، بعد القيامة من الأموات ، بلطف وداعته أعلن ذاته للمريمات في البستان ، قائلا : « اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني » ( مت ۱۰:۲۸ ) . هكذا عندما وصل المسيح إلى الجليل (جليل الأمم ) ( أنظر مت 5:4 ) مثلما وصل يعقوب إلى حاران ، رعی خراف الابان ، أي خراف العالم ، هذا العالم الذي كان يعبد المخلوقات ، وكان في ضلال مثل لابان . عندما ذهب المسيح هناك ، كمثل عريس ، وضع داخل بيته الروحي عذراء نقية ، أي الكنيسة التي من الأمم ، التي تشير إليها راحيل في قصتنا . ووضع أيضا في بيته تلك المرأة التي كان قد سبق وتزوجها بالفعل ، أي مجمع اليهود ، أقصد ليئة – في قصتنا – وهي التي كانت تشير إلى المجمع اليهودي « لأن البقية ستخلص » وفق كلمات البي ، إذ ليس كل الجماعة اليهودية نالت النعمة بواسطة الإيمان بالمسيح . فعندما صار المسيح العريس[2] مقبولاً لدى الأمم ولد بالنعمة كثيرين جداً بالتبني الروحي ، وجمع حقا جمعاً كبيراً من الخراف العقلية ، في الوقت الذي طُرد من العالم ؛ لأن البعض من أناس هذا العالم حاربوا مجد المسيح لأنهم كانوا معتمدين على الغنى والسلطة . لكن النعمة الإلهية هدأت العالم وسكنته ، وعقد ( أناس من هذا العالم) اتفاق سلام مع المسيح مثلما فعل لابان مع يعقوب ( أنظر تك 44:31 -52). أيضاً بعد مرور عدد من السنين جعل ربنا يسوع المسيح إسرائيل مُطارده القديم من ضمن خاصته ، مثلما عانق يعقوب ، بعد رحيله من حاران ، عیسو طارده القديم.

و كون أن إسرائيل سوف يصير مقبولاً في محبة المسيح بالإيمان بعد مرور الوقت ، فهذا لا يقبل الشك أبداً، إذ أننا نؤمن بكل ما قيل في الكتاب المقدس الموحی به من الله . لأن رب الكل قال بفم أحد الأنبياء القديسين : « لأن بني إسرائيل سيقعدون أياماً كثيرة بلا ملك وبلا رئیس وبلا ذبيحة وبلا تمثال و بلا أفود وترافیم . بعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى جُوده في آخر الأيام » ( هوشع 4:3 – 5 ).

لأنه بينما لا يزال مخلصنا المسيح يجمع أولئك الذين يؤمنون به من كان إسرائيل يهدأ قليلاً غير متمسك بالأمور التي يجب أن يفعلها حسب الناموس ، وبدون أن يقدم تقدمات ناموسية على المذبح ، كأنه منتظر أن يرجع المسيح من مهمة دعوة الأمم ليدخل إسرائيل بين المؤمنين به ، وهكذا بناموس المحبة ، يندبحون مع الشعوب الأخرى . لاحظ كيف أنه بعدما رجع يعقوب من حاران ، وفي محبته قبل أخيه عيسو ، أن عيسو فرح من أجل أن يعقوب أنجب أولادا ، واكتسب قطعان كثيرة من الماشية . هكذا سوف يرجع إسرائيل بعد دعوة الأمم ، وسوف يُعجب بغنى المسيح . ويمكن لكل من يريد أن يتحقق هذه الأمور ، إذا فحص هذه الحوادث التاريخية روحياً.

لقد أرسل يعقوب هدايا إلى عيسو جاعلاً إياه يحبه بتقدمات الهدايا ، لكن قبل ذلك أرسل رُسل عنده يقولون له كلاماً سلامياً. هذا الأمر قاله الرب بكل وضوح لليهود بفم أحد الأنبياء : « ها أنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم والمخوف . فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن » ( ملا 5:4 – 6 ).

عندما يأتي المسيح حينذاك يتحول إسرائيل إلى الطريق الصحيح ويبتعد عن عناده وغضبه ويصير صديقاً ومسالماً بالمسيح ، مُظهراً له عطايا وهدايا المحبة الحاضرة ، أي رجاء هؤلاء الذين آمنوا . لن تتأخر المواعيد في أن تتحقق للذين آمنوا ، بل إن العطايا قريبة جداً والنعمة تتبعها مباشرة . هكذا عندما يبطل ابن الخطية ، ففي الحال سوف يأتي المسيح مخلص الجميع من السماء مع الملائكة القديسين ، الذي له المجد مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين .

 

أيضا المزيد عن يعقوب

بسبب الخطية سقطت الطبيعة البشرية في الموت ، وابتعدت تماماً عن ذاك الذي يستطيع أن يخلصها. هكذا صار الإنسان الذي خُلق بحسب صورة الله أسيراً، وتثقل بحمل الخطية. وقد أحني رقبته للشيطان الذي مارس عليه القهر ، الشيطان الذي من كبريائه جاء بوقاحة أمام جميع سكان الأرض قائلا : « فأصابت يدي ثروة الشعوب کعش وكما يجمع بيض مهجور جمعت أنا كل الأرض ولم يكن مرفرف جناح ولا فاتح فم ولا مصفف » ( أش 14:10 ) . لقد ملك من جراء جشعة على هذا العالم ، لذا دُعي إله هذا العالم. لأن العالم سجد له وعبد المخلوق دون الخالق. وبالرغم من أن البشر وصلوا إلى هذا المستوى من الانحدار ، إلا أن الله قد حزن عليهم ووعد أن يرسل لنا ابنه من السماء لكي يُحضر الطبيعة البشرية ثانية إلى الحالة التي كانت عليها في البداية « إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة » ( 2 کو 17:5 ) كما هو مكتوب.

أحاديث كثيرة عن الصالحات الممنوحة لنا قد قيلت بواسطة الأنبياء : « الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم ، باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم . إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها . الذين أعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمونه بهذه الأمور » ( 1 بط 10:1 -13) . هذا ما كتبه تلميذ المخلص ، وأقوال كثيرة قيلت بواسطة الأنبياء عن تأنس مخلصنا ، وعن مجيء الفادي . ولمعرفة هذه الأحاديث سوف أذكر القليل منها الذي لا يسبب لنا أي حزن ، ولكنها تدين جمع اليهود ! وبقدر استطاعتنا سنرى هذا الأمر من الأحاديث ذاتها.

بالرغم من أنه كان ممكناً أن يتحقق اليهود التعساء ، من أقوال الأنبياء عن مجيء المخلص ويستوعبونه حتى من ظل الناموس ذاته ، إلا أنهم قاوموا بشراسة إعلانات الله والمسيح نفسه، وهذا ما قاله لنا بولس الحكيم : « إن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل » ( رو 25:11) . والمخلص نفسه قال : « لأنهم مبصرین لا يبصرون وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون » ( مت ۱۳:۱۳ ) . وأشعياء العظيم قدم لنا عمانوئيل في كتاباته قائلا : « روح السيد الرب عليَّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب مُنكسري القلب لأنادي المسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق . لأنادي بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا لأعزي كل النائحين » (أش 61: 1-2) . هذه الأشياء هي إنجازات باهرة للمسيح الآتي . أيضا قال هوشع النبي : « ويجمع بنو يهوذا وبنو إسرائيل معاً ويجعلون لأنفسهم رأساً واحدا ويصعدون من الأرض لأن يوم يزرعیل عظیم » ( هوشع ۲ : ۲ ).

إن معلمين كثيرين من اليهود علموا الشعوب الذين كانوا أوصياء عليهم بأن يكرموا إله الكل فقط بشفاههم معلمين إياهم وصايا البشر . أمَّا المسيح ، فهو الذي يرأس الكل وهو فوق الكل ، الذي به صعدنا من الأرض وتعلمنا أن نتدبر في الأمور السامية . لأنه يقول : « يوم يزرعیل عظيم » ، أي يوم مجيء الابن . وداود العظيم كان يقصد هذا اليوم حين قال : « هذا هو اليوم الذي صنعه الرب . نبتهج ونفرح فيه » ( مز 118: 24) ، أيضا بولس الحكيم يقول لنا : « هوذا الآن وقت مقبول . هوذا الآن يوم خلاص » ( 2کو 2:6) ، اليوم الذي بمقتضاه سوف نخلص ؛ لأن المسيح يدعونا إليه . لأنه ، كما قال التلميذ الحكيم : « ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص » ( أع 4 :12). كذلك ستعلم أيضا من أرميا مما قاله بوضوح : « ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن بر فيملك ملك وينجح ويُجري حقاً وعدلاً في الأرض . في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمناً وهذا هو اسمه الذي يدعونه به الرب برنا » ( إر 5:23- 6 ) . لقد ملك علينا حقاً الملك البار يسوع ، وحكم بالعدل وخلص من الخطايا هؤلاء الذين ضلوا ، وكذلك أدان عدوه ، الشيطان وسلب غناه . ودعي « الرب برنا » ؛ لأننا تبررنا بواسطته « وليس بأعمال بر عملناها ولكن بمقتضی رحمته العظيمة خلصنا » ( في5:3) ، لذلك قال الله أيضا : « قريب مجيء خلاص و استعلان بري » ( أش 1:56 ) . وحقا صار لنا المسيح رحمة وبراً من الله الآب ، وقد دعاه خورس القديسين باسم المسيح ، هكذا صموئيل الطوباوي والشهير بين الأنبياء تحدث لبني إسرائيل قائلا : « وأنا قد سرت أمامكم منذ صباي إلى هذا اليوم . هاأنذا فاشهدوا على قدام الرب وقدام مسيحه » ( 1صمو 2:12 -3) وأيضا قال : شاهد الرب عليكم وشاهد مسيحه اليوم هذا أنكم لم تجدوا بيدي شيئا » (صمو 5:12 ) . وداود الطوباوي يدين عصيان اليهود ووقاحتهم الشديدة ضد المسيح ، وكذلك أفكارهم الباطلة والصبيانية ، قائلا : « لماذا ارتجت الأمم وتفكر الشعوب في الباطل . قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه » ( مز 1:2-2).

حقاً إن تصرفات اليهود الجهلة ضد المسيح هي غبية . لأنه لم يكن من الممكن أن تموت الحياة ، ولا أن يمسك من أبواب الجحيم وهو الذي قال للأرواح السفلية « خرجوا للذين في الظلام اظهروا على الطرق يرعون وفي كل الهضاب مرعاهم » ( أش 9:49 ) . وأيضا نا النبي ارميا على أورشليم كقاتلة للرب و کدنسة وناكرة للجميل ، إذ قال : « نفس أُنوفنا مسیح الرب أُخذ في حُفرهم الذي قلنا عنه في ظله نعيش بين الأمم » ( مراثي أرميا 20:4). وبينما كان ينبغي عليهم أن يفضَّلوا النعمة بواسطة الإيمان كطريق للخلاص ، إلا أنهم حاربوا الله . هكذا إذن خالق الكل ، كلمة الله وحید الجنس ، أخلى ذاته ومُسح من الآب وصار مثلنا ( انظر فيلبي 7:2) . وهدف الإخلاء هو أن يخلص البشر الذين على الأرض . لذلك كرز البني الحكيم بالرسالة الفرحة ، قائلا : « ترنمي يا ابنة صهيون أهتف يا إسرائيل افرحي وابتهجي بكل قلبك يا ابنة أورشليم . قد نزع الرب الأقضية عليك أزال عدوك . ملك إسرائيل الرب في وسطك . لا تنظرين بعد شراً» ( صفنیا 14:3 -15).

لكن اليهود القساة والعصاة مضوا في الشر بدناءة کالسکاری وصنعوا بالمسيح كل ما هو سيئ بعدم تبصر وبوقاحة . لذلك نالوا جزاء خطاياهم ، لأنهم حقا أشرار هلكوا بطريقة شريرة . لكن ليس الكل ، لأن البقية رُحمت وخلصت وفق كلام النبي ( انظر قض 13:4 . أش 22:10) . 

أيضا المزيد عن يعقوب

علَّمنا يعقوب العظيم كيف تصير الأمور هكذا (كما رأينا) ، ودبر الله هذه الأحداث بطريقة حكيمة، وسوف أحدثكم عن هذه الأمور مستندا على الكتب المقدسة التي أخبرتنا بما يلي : « ثم قام ( يعقوب ) في تلك الليلة وأخذ امرأتيه وجاريتيه وأولاده الأحد عشر وعبر مخاضة يبوق . أخذهم وأجازهم الوادي وأجاز ما كان له . فبقى يعقوب وحده . وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر . ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حُق فخذه . فانخلع حُق فخذ يعقوب في مصارعته وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر . فقال لا أطلقك إن لم تباركني. فقال له ما اسمك فقال يعقوب . فقال لا يُدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل . لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال أخبرني باسمك . فقال لماذا تسأل عن اسمي. وبارکه هناك . فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل . قائلاً لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي وأشرقت له الشمس إذ عبر فنوئيل وهو يخمع على فخذه » ( تك 22:32-31).

لقد أجاز يعقوب كل ما له وبقي وحده ، كيف إذن يكون هذا الحدث غير جدير بأن نفحصه؟ حسناً، دعنا نرى علة هذا الأمر ، وليمض حديثنا مباشرة إلى الروحيات. كان عيسو يسكن في أدوم وسعير ، وكان يملك هذه المنطقة ويستحوذ عليها بسلطانه الذي لا يتخطى منطقة يعقوب. لكن لأن يعقوب ارتحل من بلاد ما بين النهرين ومن السكن عند لابان ، فإنه أسرع ليصل إلى أرض آبائه، وكان من الحتمي أن يجتاز في آدوم ، فحرص بشدة على أن يصنع سلام مع أخيه ، وهكذا أرسل رُسلاً محملين بهدايا كثيرة قبل أن يراه ، وأوصى أن يقولوا له أنه سيأتي هو بنفسه لكي يراه وأن يكلموه بأقوال لينة ويغدقوا عليه الهدايا . وبهذه الأمور جعله هادئاً، ذاك الذي كان قديماً غاضباً ومتوحشاً ويريد أن يقتله. وعندما وصل رسله وأخبروه قائلين : « أتينا إلى أخيك إلى عيسو . وهو أيضا قادم للقائك وأربع مئة رجل معه » ( تك 6:32 ) . وحين سمع يعقوب هذا الكلام استولى عليه الخوف ، لأنه لم يستطع أن يعرف بوضوح أيا من الخيارين : هل سوف يجد سلامة وصداقة مع أخيه ، أم أن وقاحة عيسو المعتادة ما زالت تستحوذ عليه وإنه سيفعل ما تمليه عليه الغيرة الرديئة.

« أخذهم وأجازهم الوادي وأجاز ما كان له . فبقى يعقوب وحده » ( تك 32: 23- 24). لقد كان يفكر في أنه لو كان عيسو سيتصرف معه حسنا و بوداعة ، عندئذ لن تكون هناك صعوبة في اجتياز النساء والأولاد ، لكن لو كان تصرفه بقسوة وحنق شديد لدرجة القتل ، فسوف يحزن الأولاد عليه ، وسوف تُذرف عليه دموع النساء ، وموته سوف يرضي غضب عیسو . لكن بقوة الله تطورت الأمور أكثر مما كان يأمل ، كما سبق وقلنا . لأنه مكتوب : « فركض عیسو للقائه . وعانقه ووقع على عنقه وقبله » ( تك 4:33) . هذا الحدث علمنا المفهوم العميق للسر . كيف وبأية طريقة ؟ هذا ما سوف أذكره لكم أيضاً.

حسنا ، عندما أجاز كل ما له في الوادي ، وعندما بقى وحده ، صارعه إنسان حتى طلوع الفجر . نقول إن الملاك الذي صارعه هو مثال للمسيح الذي كان مثلنا لأنه صار إنساناً. وكونه لم يعبر الوادي مع الآخرين ، أي وادي « يبوق » الذي تفسيره « صراع » ، فهذا له دلالته . حسنا . ما هو أهمية هذا الأمر ؟ ما هو المفهوم العميق لهذا الصراع ؟ إن المسيح لا يصارع هؤلاء الذين عبروا الأردن ، الذي أشير إليه بوادي يبوق ، ولا الذين عبروا يُوضعون في موضع الأعداء أو الخصوم . إذ أنهم يكرمون أسراره ويحفظوها ، وسبق لهم أن انتصروا على العالم ، كأناس قد اجتازوا معركة ذهنية ، لقد توَّجهم وأنارهم بامتيازات سامية . واسم الوادي يعني « صراع » ، لأنه يقول : « ملكوت السموات يُغصب والغاصبون يختطفونه » ( مت 11 : 12) ، و « ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة . وقليلون هم الذين يجدونه » ( مت 14 : 7) .

هكذا يشير هذا الحدث ( صراع يعقوب ) إلى أن بني يعقوب سوف لا يعبرون الأردن ، أي لن ينالوا النعمة بواسطة المعمودية المقدسة ، وسوف يستهينون بها بطريقة رديئة ، وسوف يكون عمانوئيل خصما لهم . لأن هؤلاء الذين استهانوا بالإيمان سوف يحسبون مع هؤلاء الذين يقاومون المسيح ، وهذا ما يخبرنا إياه الرب نفسه حين قال : « من ليس معي فهو على . ومن لا يجمع فهو يفرق » ( لو ۲۳:۱۱ ) . أما أولئك الذين يؤمنون فسوف يكونون معه . هل يمكن أن يشكك أحد في هذا ؟ إذ نقرأ أيضا « فبقى يعقوب وحده . وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر . ولما رأى أنه لا يقدر عليه » ( تك 23:32- 25) .

اسمع ، ألم يحدث الصراع في الليل ؟ لقد سقط وهُزم لأنه أراد أن ينال ما هو غير ممكن ، إذ تجرأ على أن يصارع الله ، وأن يحاول هزيمة هذا الذي هو قادر على كل شيء . هذا ما قاله داود المرنم عن بني إسرائيل الذين تفكروا بأمور صعبة ضد رئيسهم ، وأصيغها هكذا حتى لا أقول ضد المسيح ، لقد قال داود : « تفكروا بمكيدة . لم تستطيعوها » ( مز ۱۱:۲۱ ) . إذن ، صارع إسرائيل المسيح ، في الظلمة ، أي بدون أن يكون لديه استنارة إلهية في ذهنه ، ولا حتى عندما بدأ النهار يبزغ ، ولا أيضا عندما أشرق کوکب الفجر في قلوب هؤلاء الذين آمنوا . لأنه بقی عاصياً وكما يقول النبي : « من أجل ذلك ابتعد الحق عنا ولم يدركنا العدل . ننتظر نورا فإذا ظلام ضیاء ، فنسير في ظلام دامس » ( أش 9:59) . أيضا أرسل بولس العظيم رسالة لهؤلاء الذين تبرروا بالإيمان وقبلوا استنارة الروح ، وقال : « جميعكم أبناء نور وأبناء نهار . لسنا من ليل ولا ظلمة » ( 1 تس 5 : 5 ) . وأيضا كون أنهم صاروا أسمي من جهل اليهود ، وتخطوا الظلمة التي عند أولئك ، فهذا يعلنه قائلا : « قد تناهي الليل وتقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور ، لنسلك بلياقة كما في النهار » ( رو 13 :12-13).

وهكذا ، فإن هؤلاء الذين آمنوا ، عاشوا كما في النهار ، بينما غير المؤمنين صارعوا مع المسيح أثناء فترة الليل . هذا ما فعله أيضا بنو يعقوب لكنهم كانوا ضعفاء ، وهُزموا ولم يستطيعوا أن يسيروا منتصبي القامة . لأنه يقول : « ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حُق فخذه . فانخلع حُق فخذ يعقوب في مصارعته معه » ( تك 25:32) .

حسنا ، فلنواصل حديثنا عن أي مفهوم عميق يمكن نستخرجه من هذا الأمر . إن حُق الفخذ في الكتاب المقدس يشير إلى الأجزاء الهامة للجسد . والتي هي ضرورية لولادة الأولاد ، وتشير أيضا إلى الولادة ذاتها ، إذ أن حول حُق الفخذ توجد كل الأعضاء التي تساهم في عملية ولادة الأطفال . هكذا أيضا إبرآم الطوباوي عندما أرسل عبده الأمين إلى بلاد ما بين النهرين ليأخذ امرأة لإسحق ، قال له : « ضع يديك تحت فخذي » ( تك ۲:۲4 ) . بمعني اقسم أمام الله ، وأمام هؤلاء الذين سوف يولدوا من هذا الحق ، أي نسل الرب . إذن حُق الفخذ يعني هؤلاء الذين أتوا من الفخذ . وهكذا انخلع فخذ يعقوب ، تعني انخلع هؤلاء الذين ولدوا منه ، أي بني إسرائيل . والمخلص نفسه هو شاهد على هذا الأمر ، إذ قال بفم داود « بنو الغرباء يبلون ويزحفون من حصونهم » ( مز 18: 45) . وكون أن إسرائيل أصيب بعرج روحي ، فهذا يعرفه بولس الحكيم . حسنا لقد كتب الآتي : « قوموا الأيادي المسترخية والرُكب المخلعة . واصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحري يُشفی » ( عب ۱۲:۱۲ – ۱۳ ) .

لكن شفاء هذا النوع من العرج لن يصير بطريقة أخرى ، إلا بالإيمان بالمسيح . لذا ، أولئك الذين لم يؤمنوا ظلوا في العرج ، وفي شهواتهم المنحرفة وفق کلام بولس الطوباوي . إذن ، الألم الذي أصاب حُق يعقوب يمثل رمزاً لعرج إسرائيل الروحي . وإننا لا نتكلم كذباً، إذ قلنا بيقين إن المسيح يصد ويصارع هؤلاء الموجودين في ظلمة الليل ، إذ لهم ذهن مظلم يصيبهم بعرج روحي ، وسوف يمكن أن نعرف هذا الأمر بسهولة . فالإنسان الذي صارع يعقوب قال له : « أطلقني لأنه قد طلع الفجر » ( تك 26:32) . فهمت إذن ، أنه لم يطق أن يصارع عندما طلع النهار . لأنه لن يصارع هؤلاء الذين هم في النور . فهؤلاء الذين قد وصلوا إلى مثل هذا المستوى من البهاء ، يقول لسان حالهم : « يا الله إلهي أنت . إليك أبكر » ( مز 1:63) ، وكذلك : « یا رب بالغداة تسمع صوتي . بالغداة أوجه صلاتي نحوك وأنتظر » ( مز 5: 3 ) . عندما يشرق نور البر ، أي المسيح ، على عقولنا ويأتيها بالفجر الروحي ، عندئذ نحضر أمامه مستنيرين ومطهرين ذواتنا ومستحقين رحمته الجزيلة وعنايته السماوية . لأنه يقول : « عينا الرب نحو الصديقين » ( مز 16:33) . أي عندما طلع الفجر توقف الصراع . لاحظ إذن مدى عناية الرب واهتمامه بأن يعلم يعقوب ، الذي يريد أن يرحل ، أن يغير رأيه ويستلم تلك الأمور الهامة لخلاصه . لأن الإنسان الذي صارع يعقوب انتصر في النهاية عليه ورحل عنه ، إلا إنه سمح للمهزوم ( يعقوب ) أن يمسكه بقوله : « أطلقني » ( تك 26:32) . هذا الأمر شبية بما حدث مع موسى عندما عبد الشعب الأصنام في الصحراء ( لأنهم صنعوا عجلاً مسبوكاً) قال الله لموسى بحكمة ، وبحسب التدبير : « رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة . فالآن أتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم . فأصيرك شعبأ عظيم » ( خر 9:32- 10).

أراد الله أن يعاقب إسرائيل المهووس بعبادة الأصنام ، لكن الله أعطى لموسى انطباعاً يعيق غضبه بمقتضاه بقوله : « اتركني ليحمي غضبي عليهم » . لذا عندما أدرك موسی رغبة الإرادة الإلهية مضي في تنفيذ هذه الإعاقة ، وقال : « والآن إن غفرت خطيئتهم . وإلا فأمحني من كتابك الذي كتبت » ( خر ۳۲:۳۲ ) .

هكذا بنفس الطريقة ، قيل ليعقوب « اطلقني » ، لقد قال للإنسان الذي صارعه هذه العبارة : « اطلقني » . ويعقوب فهم بسرعة من هو الذي كان يصارعه ، وشعر بالحدث كله بكل جوارحه ، وغير مباشرة توجهه ، وقال : « لا أطلقك إن لم تبارکي » ( تك 26:32) . وقد نال البركة . وطريقة مباركته صارت بتغيير اسمه الأول ، إلى اسم آخر . لأنه يقول له : « لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل » ( تك ۲۸:۳۲ ) . اسم يعقوب يعني « المتفوق» أي القوي واليقظ في قدرته أن يفعل كل ما هو واجب ، بينما إسرائيل يعني « العقل الذي يعاين الله » إذن ، من كان السبب ؟ دعنا نشرح هذا الأمر ونحن نقلب صفحات هذه القصة .

فاصل

  1. يركز القديس كيرلس هنا على مصطلح “ الابن الوحيد ” أو “ وحيد الجنس ” للدلالة على أن الابن ليس له مثيل وبالتالي هو ابن الله الوحيد ، إذن تقاس عظمة محبة الله على أنه بذل ابنة الوحيد . وعلى ذلك فهو ابن الله الواحد مع الآب في الجوهر وليس مجرد مخلوق . بالإضافة إلى هذا يقارن في شرحه ليوحنا في نفس السياق من يخالف الناموس بالذي داس ابن الله مستشهداً بما ورد في ( عب ۱۰ : ۲۸ – ۲۹ ) : “ من خالف ناموس موسی علی شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة . فكم عقابا أشر تظنون أنه يحسب مستحقا من داس ابن الله إذ يقول : “ لأن من يحتقر الحقيقة يعتبر كأنه قد داس تحت الأقدام ، لا الابن الحقيقي ، بل خادماً زميلاً لموسى ، إذ المخلوق من جنس المخلوق ، على الأقل بسبب أن كليهما قد خُلق ، حتى أن فاق أحدهما الآخر في المجد ، فيما يخص امتیازات كونه أكبر أو أفضل . لكن كلمة بولس صادقة . لأنه لابد أن يحل عقاب شديد بمن داس الأبن ، إذا عظیم وفائق للطبيعة هو حب الآب ، الذي بذل ابنه الذاتي والذي هو من ذاته لأجل حياة العالم ” . شرح إنجيل يوحنا ، المجلد الأول
  2. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم : “ لأنه هو كمالنا ، إذ هو ملء الذي يملأ الكل في الكل ” ( أف ۲۳:۱) . وهو الطريق ، والزوج ، والعريس ، لأنه يقول : “ خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح ( ۲ کو ۲ : ۱۱ ) تفسير الرسالة إلى رومية ، الإصحاح الثالث عشر 

 

فاصل

10- يعقوب العظيم مثال لنا

المقالة الخامسة 

12- إسرائيل يعترف بعمانوئيل

البابا كيرلس عمود الدين
تعليقات لامعة على سفر التكوين

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى