تفسير سفر أيوب ١٧ للقمص تادرس يعقوب

اَلأَصْحَاحُ السَّابِعُ عَشَرَ
الرجاء في الوسيط الإلهي!

 

يستمر أيوب في حديثه مظهرًا أنه ليس من أحدٍ يقف بجانبه. يرى في أصدقائه أنهم يتطلعون إليه كتنينٍ لعينٍ!

يدهش الإنسان البار حين يرى الأشرار في رخاءٍ، لكنه يخشى لئلا ينحرف عن البرّ بقصد مشاركة الأشرار في رخائهم [٨-٩].

يرى أيضًا أصدقاءه أنهم أخطأوا حين ترجوا سرعة إصلاح الموقف بالنسبة له، قائلين له إن الصباح يظهر سريعًا [١٠-١٢]. كل ما ينظره الآن هو الموت وفقدان الرجاء في هذا العالم تمامًا [١٣-١٦].

إذ تطلع أيوب إلى قرب رحيله من هذا العالم لجأ إلى الله، وتوسل إليه أن يقف بجانبه سريعًا وينصفه، لأن أصدقاءه أساءوا إليه، لكن الله حتمًا سيقف معه ليظهر براءته.

  1. القبور لي                         1.
  2. صرخة للنجدة من عند الرب      2-7.
  3. البرّ ينتصر                        8-9.
  4. لا رجاء في هذا العالم            10-16.

 

  1. القبور لي

رُوحِي تَلِفَتْ.

أَيَّامِي انْطَفَأَتْ.

إِنَّمَا الْقُبُورُ لِي [1].

بلغ أيوب إلى حالة مُرة، فحسب نفسه كميتٍ. في العبارة السابقة كان يتطلع إلى حياته الباقية كرحلةٍ قصيرةٍ، سنوات قليلة ثم يعبر من هذا العالم بلا عودة. أما هنا ففي وسط مراراته حسب أن روحه قد فسدت، وأن نور حياته قد انطفأ، وصار وهو في المزبلة كمن يسكن القبور.

لم يقل: “إنما القبر لي“، بل “القبور“. وكأن قبور آبائه التي ضمتهم تستعد لتضمه هو أيضًا. تفتح القبور أبوابها لتتلقف البشرية، ويليق بالمؤمن من جانبه أن يتهيأ للدخول كغالبٍ ومنتصرٍ.

v     لا يستطيع أحد أن يذهب من هنا إلى هناك مادام الله لم يدعُه. فإن كان الله هو الذي ربط النفس والجسد معًا، فلا يحلهما الإنسان ليلتصقا بطريقة جديدة. فالنفس لا تفصل ذاتها من الجسد. قال أيوب هذا، ليس لأن العدو المشترك يهدده بالموت، وإنما لأنه كان قد ضُرب بإسقامه. هذا هو سبب سؤاله في صلاته أن يترك العالم.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     تنسحق الروح من الخوف من الدينونة. كلما شعر المختارون باقتراب الدينونة النهائية يرتعبون بالأكثر في أذهانهم بمخافة، إذ يكتشفون أنفسهم. متى وجدوا في داخلهم أي فكر جسداني تنسحق أنفسهم بحماس ندامتهم… يحكمون على أنفسهم، ويؤدبون أنفسهم بأكثر صرامة، إذ ينتظرون الديان الحازم قادمًا على الأبواب. لذلك يتطلعون دائمًا إلى رحيلهم أنه قريب.

أما من جهة أذهان الضائعين، فإنهم يفترضون أنهم يعيشون هنا إلى زمانٍ طويلٍ، لذلك يمارسون أمورًا كثيرة شريرة.

لذلك روح الصديق تنسحق وروح الشرير تسمن…

أيامي تقصر، والقبر وحده متروك لي[790]”. فإن من يتأمل فيما سيكون عليه بالموت يكون دائمًا في خوفٍ، لأنه من الآن فصاعدًا يكون كمن يحيا حسبما يرى بل بصدقٍ يحيا كما في عيني خالقه…

تتحقق الحياة الكاملة بالتفكير في الموت حيث يبذل الصديق جهده أن يهرب من شباك الخطية. لذلك كتب: مهما تنال في يدك تذكر نهايتك، فلا يمكنك أن تخطئ قط” (ابن سيراخ 7: 36).

البابا غريغوريوس (الكبير)

من التداريب الرئيسية في حياة آباء البرية كما في حياة الجادين في خلاصهم هو تذكرهم لساعة الموت، أو ليوم مجيء الرب الأخير، ليس خوفًا من الدينونة، وإنما استعدادًا للتمتع بالأمجاد الأبدية، وخلاصًا من مصير الأشرار.

v     عندما تقترب من فراشك قل له: “هذه الليلة عينها ربما تكون أنت قبرى يا أيها الفراش، فإنني لست أعلم إن كان في هذه الليلة عوض نومي المؤقت يكون لي النوم الدائم”.

هكذا مادام لك رجلان أسرع إلى العمل، قبلما تُربط بذلك القيد الذي ما إن يُوضع لا ينحل بعد.

مادام لك يدان أبسطهما نحو السماء في الصلاة، قبلما يسقط الذراعان من مفصليهما، حيث تشتهي أن تسحبهما فلن تقدر.

مادام لك أصابع ارشم ذاتك بالصليب، قبلما يحل الموت الذي يحل قوة أعصابها اللائقة.

مادام لك عينان، املأهما بالدموع، قبلما تأتي الساعة حين يغطي التراب ثيابك السوداء، وتتجه عيناك نحو اتجاه واحد بنظرة لا تدركها ولا تعرفها. لا، بل املأ عينيك بالدموع مادام قلبك تحكمه قوة التمييز، قبلما تهتز نفسك برحيلها منه، وتترك القلب بيتًا مهجورًا من ساكنه.

يا أيها الحكيم لا تنخدع بتوقعك حياة طويلة المدى![791]

v     عندما يُنهي التاجر عمله يسرع إلى بيته. ومادام الراهب (الإنسان) لم يتمم بعد دوره في الجهاد البار، يشعر بمرارة، إذ يفكر في رحيله من جسده. ولكن عندما يدرك في نفسه أنه قد افتدى وقته (أف 16:5)، ونال عربونه، يشتهي أن يرى الحياة العتيدة. التاجر الذي في البحر يخشى في داخله لئلا تثور الأمواج ضده، وتبدد رجاء عمله. هكذا الراهب (الإنسان) مادام في هذا العالم يحكمه الخوف، لئلا تحدث زوبعة مفاجئة مضادة له، وتحطم العمل الذي جاهد فيه منذ صباه إلى الشيخوخة. يركز التاجر عينه على البر، ويركز الراهب (الإنسان) عينه على ساعة موته[792].

القديس مار اسحق السرياني

v     كان أخ حارًا في الصلاة، وإذ كان أخوه يمارس الخدمة، غلبته الدموع وكان أحيانًا ينسى فقرات من المزمور. توسل إليه الأخ يومًا ما أن يخبره فيما هو يفكر أثناء الخدمة حتى يبكي هكذا بمرارة. قال له: “سامحني يا أخي، فأنا أتأمل دائمًا أثناء الخدمة في الديان، ووقوفي أمامه، فإني مجرم مذنب تحت الاستجواب. وإذ لا أجد تبريرًا لنفسي أقف مرتعبًا، ويُغلق فمي، فتعبر مني آية من المزمور. سامحني على مضايقتي لك، فلنمارس الخدمة كلٌ لوحده. أجاب الأخ: “لا يا أبي، فإنني أعيش بلا ندامة، فعلى الأقل إذ أراك أخجل”. وإذ رأى الله تواضعه وهبه الندامة التي لأخيه. دعنا نحن أيضًا نحفظ أعيننا على هذه العطية، فيكون لنا ذات المنفعة مثل هذا الأخ[793].

من أقوال آباء البرية

  1. صرخة للنجدة من عند الرب

لَوْلاَ الْمُخَاتِلُونَ عِنْدِي،

وَعَيْنِي تَبِيتُ عَلَى مُشَاجَرَاتِهِمْ [2].

بينما يرى أيوب القبور تستعد لاستقباله يرى حوله أصدقاءه كأنهم مخاتلون، يسخرن به ويهينونه في وجهه. حوَّلوا الجلسات إلى مشاجرات عوض التعزيات. أما قوله: “تبيت على مشاجراتهم” فتكشف أنهم كانوا يقضون اليوم كله معه في المشاجرات، حتى إن تركوه في نهاية اليوم لا يعلق بذهنه طوال الليل سوى هذه المشاجرات التي ترافقه.

جاء النص هنا مترجمًا عن العبرية، مختلفًا عنه في السبعينية، وأيضًا في الفولجاتا. جاء في الترجمة السبعينية: “في قلق استعطف: ماذا أفعل؟ يسرق الغرباء خيراتي“.

حاصر القلق نفس أيوب، إذ رأى المعركة حامية، يقف لا أمام أصدقائه الذين صاروا غرباء عنه يحملون روح العداوة ضده بلا سبب، وإنما يرى وراءهم عدو الخير إبليس بكل قواته يقاومونه. هؤلاء هم الغرباء عن جنس البشر، لا عمل لهم إلا سلب الإنسان ما يتمتع به من بركات إلهية، وما يُعد له من أمجاد سماوية، إنهم خصوم للبشرية، يشتهون إذلالها كي تشاركهم مصيرهم الأبدي في جهنم!

v     لماذا (كان في قلق)؟ لأن أيوب يطلب في صلواته حلول الموت. إنه كمن يدافع عن نفسه، إذ هو مضطرب من التجارب، لأنه لا يعرف تمامًا ما هو سرّ تجاربه التي يصبها العدو عليه. لهذا يقول: “ماذا أفعل؟

يتبع ذلك: “يسرق الغرباء خيراتي” (راجع أي 17: 2 LXX). يدعو أيوب الشياطين غرباء لأنهم مخادعون، وأعداء لأنهم بالطبيعة غرباء حقيقيون لجنسنا. أما بخصوص سرقة خيراته، فقد قال هذا ليس لأنهم سلبوا خيرات أيوب، وإنما لأنهم كذبوا على الله كمن يسرق الكلمات عندما قال المفتري رئيسهم لله: “لا، بل ضع يدك والمس كل ما لديه، فبالتأكيد سيلعنك” (راجع أي 1: 11)… أما بالنسبة لله، إذ يعرف السرقة (التي ارتكبها الواشي) بكلماته، فقد سمح له بالتجربة لكي يجعل أيوب يتهيأ لعلامة النصرة المتلألئة. فإنه بالحق كمنتصرٍ يتجاسر فيقول: “من هو هذا؟ يضـم يده معي” [3 LXX].

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     “لم أخطئ، وعيني تقطن في مرارة“. إنه كمن يعبر عن نفسه بكلمات واضحة: “لم ارتكب خطية، ومع ذلك أتحمل جلدات”. لكن بخصوص هذه النقطة، نضع في الاعتبار أنه في عبارات كثيرة يعترف أيوب أنه مخطئ وأن عقله يتحرك بالتفكير، فلماذا ينكر هنا ارتكابه الخطية؟ يقدم لنا السبب ذاته بسرعة. إنه لم يخطئ إلى الدرجة التي تجعله مستحقًا لضربات العصا، وليس هو بقادرٍ أن يكون بلا خطية.

فإنه قد ضُرب لا للإصلاح من الخطية، وإنما للتمتع بمزيد من النعمة. الديان نفسه يحمل شهادة، هذا الذي يمدح وهو يضرب.

لكنني أظن أننا ندرك هذه الكلمات بصورةٍ أفضل، إن فهمناها بخصوص فادينا، فإنه لم يخطئ وفي نفس الوقت “تعهد مرارة“، فبكونه بلا خطية تعهد عقاب خطيتنا.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يرى أوريجينوس أن للقديسين أيضًا خطاياهم الشخصية. ويقول Ernest Latko: [في تعليقه على مصطلح “قديسين” – كما يُطلق على شعب الله – يُذكّرنا أوريجينوس في إحدى عظاته عن سفر العدد Homilies on the book of Numbers، أن كونهم قديسين، لا يعني أنهم مستثنون من اقتراف الخطية. فقداستهم ليست مطلقة، بل هي نسبية، تتمثل في تكريس حياتهم للرب، الذي – بصلاحه – يعصمهم من الأخطاء الأكثر جسامة[794].]

v     يموت من هم ليسوا بقديسين في خطاياهم، أما القديسون فيتوبون عنها. يتحملون جراحاتهم، ويدركون أخطاءهم. ثم يسعون إلى الكاهن بحثًا عن العلاج، أو ينشدون التطهير بواسطة الأسقف[795].

v     “كونوا قديسين، لأني أنا قدوس يقول الرب” (لا 7:20). ماذا يعني بقوله: “لأني أنا قدوس”؟ أي، كما أعتزل وأتباعد عن كل ما يُعبد، سواء على الأرض أم في السماء، وكما أسمو على كل مخلوق، وأعتزل ما صنعته يداي، هكذا، فلترفضوا أنتم أيضًا كل من ليس مقدس أو مكرّس لله…

وأخيرًا، فهذه الكلمة، التي يُطلق عليها hagios باليونانية، تفيد بأنه شيء بعيد عن الأرض[796].

v     أما إذا رغبت في أن تتذكر قديسين آخرين، فستجيب عليك كلمات الكتاب المقدس: “لا إنسان صديق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ” (جا 20:7). فالمسيح وحده “له يدان كاملتان”، “لم يفعل خطية” (1 بط 22:2)، أي أن ليديه أعمال كاملة وتامة[797].

العلامة أوريجينوس

يمكننا القول بأن أيوب لم يخطئ خطية للموت، لكن كما يعترف هو نفسه بأنه ليس إنسان بلا خطية ولو كانت حياته يومًا واحدًا.

كُنْ ضَامِنِي عِنْدَ نَفْسِك.

مَنْ هُوَ الَّذِي يُصَفِّقُ يَدِي؟ [3]

بالرغم من قول أيوب إنه لم يخطئ خطية تستوجب كل هذه الضربات، إلا أنه يعترف بأنه مدين لله، يحتاج إلى ضامن أو كفيل قادر على أن يحل محله ليوقف الحجز ويودع الكفالة.

كثيرًا ما أشار الكتاب المقدس إلى دور الضامن أو الكفيل “الرجل الصالح يكفل قريبه، والذي فقد كل حياءٍ يخذله، لا تنسى نِعَم الكافل، فإنه بذل نفسه لأجلك” (سي 29: 14-15)

لم يجد أيوب إنسانًا ما على الأرض، حتى من أعز أصدقائه يشهد لبراءته، وليس من يقف في صفه كفيلاً أو ضامنًا، بل تحول الكل إلى أضداد له. من هنا لم يجد من يلجأ إليه سوى الله نفسه العارف بأسرار قلبه ونياته وتصرفاته الخفية والظاهرة.

باسم البشرية كلها يصرخ إلى الله، طالبًا أن يكون كفيلاً له. فليس من يقدر أن يدفع عنا ديننا ويمثلنا أمام الحضرة الإلهية سوى الكلمة الإلهي المتجسد، وكما يردد القديس أغسطينوس في مناجاته لله، قائلاً إنه ليس من ملجأ يهرب إليه من الله سوى الالتجاء إلى الله نفسه.

v     إنه (السيد المسيح)، الذي لم يخطئ بالفكر ولا بالعمل، صار في مرارة خلال آلامه. لقد تحرر بالقيامة، وصار بجوار الآب بصعوده، حيث صعد إلى السماء وجلس عن يمين الله (يضمننا).

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     قبل مجيء ربنا ومخلصنا، ملكت كل الشياطين على عقول الناس وأبدانهم، واستقرت في أرواحهم. ثم ظهرت نعمة الرب المخلص، ورحمته على الأرض، تعَلِّمنا كيف يجدر بنفس كل إنسان أن تستعيد الحرية، وتسترد صورة الله التي خُلِقَت عليها…

من هو هذا، إذا لم يكن يسوع المسيح، الذي بجلداته قد شفانا نحن المؤمنين به، عندما “جَرَّدَ الرئاسات والسلاطين” الذين في وسطنا و”أَشْهَرَهُم جهارا” فوق الصليب؟ (كو 15:2)[798].

v     لقد سقطنا تحت سلطان أعدائنا، أي “مَلِكُ هذا الدهر” وأعوانه من قوى الشر. لهذا نشأت حاجتنا إلى الفداء بواسطة ذاك الذي يشترينا حتى نرجع من حالة التغرب عنه، لذلك بذل مخلصنا دمه فدية عنا…

ولما كانت “مغفرة الخطايا”، وهي تتبع الفداء مستحيلة قبل أن يتحرر الإنسان، لابد لنا أولاً أن نتحرر من سلطان ذاك الذي أخذنا أسرى، واحتفظ بنا تحت سيطرته، نتحرر بعيدًا عن متناول يده، حتى نتمكن من أن نحظى بغفران خطايانا والبُرْء من جراحات الخطية، حتى ننجز أعمال التقوى وغيرها من الفضائل[799].

v     “لنا سلام مع الله” (رو 1:5)، من خلال ربنا يسوع المسيح الذي صالحنا مع الله خلال ذبيحة دمه… جاء المسيح لكي يُهْلِك الأعداء، ويصنع السلام، ويصالحنا مع الله الذي فَصَلْنَا عنه حاجز الشر الذي أقمناه بخطايانا[800].

العلامة أوريجينوس

لأَنَّكَ مَنَعْتَ قَلْبَهُمْ عَنِ الْفِطْنَةِ.

لأَجْلِ ذَلِكَ لاَ تَرْفَعُهُمُ (تمجدهم) [4].

أما عن أصدقائه فبسبب سوء نيتهم نزع الرب عنهم الحكمة والتمييز. فارقتهم الحكمة التي وُهبت لهم من الله، إذ استردها، لأنهم لا يستحقونها. فحيث لا يوجد الحنو نحو المتألمين ينزع الله الفطنة من قلوبهم، تزول عنهم الكرامة ويلتصق بهم العار، ويصيرون في حالة انهيار، وليس في نمو وارتفاع. وبالتالي لا تكون لديهم القدرة على إدراك رحمة الله ولا التمييز لفهم معاملاته، خاصة عندما يسمح بالضيق لمؤمنيه.

v     إنه لمن النافع لنا أن يكون أعداؤنا محدودين في الحكمة ومجردين منها. لهذا يقول بولس: “لكننا نتكلم بحكمة الله في سرِّ، الحكمة المخفية التي وضعها قبل كل الدهور لمجدنا، التي ليس أحد من رؤساء هذا العالم يعرفها، فإنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1 كو 2: 7-8).

لذلك لا تمجدهم“… لماذا؟ من أجل ما هو لنفعنا، هكذا معرفة الحق مخفية عنهم (الشياطين)؛ وإذ يرغبون الشر، يشتهون أن يجعلونا جهلاء ونجدف على الخالق.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

جاء النص في كتابات البابا غريغوريوس (الكبير)نزعت قلوبهم عن التأديب” وجاء في الترجمة السبعينية: “نزعت قلوبهم عن الحكمة“، فإذ نزع الله عن أصدقاء أيوب الفطنة أو الحكمة، إنما نزع عنهم معرفة حكمة الله من جهة التأديب، فهو يؤدب بالضيقات ليبني ويزكي، وليس لكي يهدم ويحطم!

الذين يقبلون التأديب الإلهي بفطنة وتمييز تنسحق قلوبهم بالتوبة، ويتمتعون بالمجد. “لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله، إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين، فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟” (عب 6:12-7).

v     لتفرح وأنت تحت الجلدات، فإن الميراث محفوظ لك، لأنه لا يطرد شعبه. هو يؤدب إلى حين، ولا يدين إلى الأبد[801].

 القديس أغسطينوس

v     “نزعت قلوبهم بعيدًا عن التأديب” [4]. فإنهم لو تعرفوا على غاية التأديب، ولم يحتقروا قط وصايا فادينا، لأثارهم ذات حال جسدهم المائت (الذي تحت التأديب) نحو حب الحياة الخالدة…

الآن يحتمل البعض جلدات لكنهم لا يشكلون حياتهم لتتجدد بخوف الرب الذي يجلدهم. لذلك بحق قيل الآن: “نزعت قلوبهم بعيدًا عن التأديب“. بمعني أنه وإن كان الجسم تحت التأديب، فإن القلب ليس تحت التأديب مادام الشخص المضروب بالعصا لم يرجع إلى تواضع الذهن. لم يقل هذا كما لو كان القدير، الإله الرحوم، قد نزع قلب الإنسان بعيدًا عن التأديب. إنما بعد سقوطه بإرادته، يسمح الله له أن يبقى على حاله في السقوط…

لذلك فإنهم لا يتمجدون“، فإنه إن كان القلب تحت التأديب، يطلب الأمور العلوية، ولا يفتح فمه طالبًا الزمنيات… بينما الذين يطلقون أنفسهم نحو الملذات المنحطة يشتاقون دومًا إلى خيرات الأرض. إنهم لن يرفعوا قلوبهم نحو مباهج السماء، فلو أنهم رفعوا عقولهم نحو الرجاء في المدينة السماوية لتمجدوا…

البابا غريغوريوس (الكبير)

الَّذِي يُسَلِّمُ الأَصْحَابَ لِلسَّلْبِ،

تَتْلَفُ عُيُونُ بَنِيهِ [5].

لا يقف الأمر عند حرمان هؤلاء المخاتلين من الفطنة أو من البصيرة الداخلية لمعرفة حكمة الله، وإنما يسيئون حتى إلى نسلهم، إذ يرون في آبائهم أنهم قد أساءوا التصرف مع أصدقائهم.

جاء النص في كتابات البابا غريغوريوس (الكبير): “يَعد إبليس أصدقائه بالغنيمة، وأعين أبنائه تفشل“. وكأن أيوب يقارن بين أولاد الله وأولاد إبليس. الأولون يسقطون تحت التأديب لأجل رفعتهم ومجدهم وميراثهم الأبدي، أما الآخرون فيقدم لهم إبليس وعودًا كاذبة بنوال غنائم، وهي عطايا زمنية مؤقتة، بينما يهلكون أبديًا.

 يرى البابا غريغوريوس أنه قبلاً كان يتحدث عن الأشرار بصيغة الجمع، والآن يتكلم عن رأسهم إبليس بصيغة المفرد. وبكونه الرأس يُمكنه أحيانًا أن يوجه الحديث باسم الأشرار، وأحيانًا باسم أبيهم إبليس. لأن ما للرأس هو للجسد كله، وأيضًا ما للجسد يُنسب للرأس. كما يقول أيضًا إن إبليس رئيس كل الأشرار يقدم وعودًا لأصحابه الشياطين والأرواح الشريرة، أن يقدم لهم غنيمة ليست إلا أبناء البشر الذين صاروا أسرى له!

v     يَعِدْ (إبليس) أصدقاءه بالغنيمة، وأعين أبنائه تفشل” بعدما نطق الطوباوي أيوب بعبارة تخص جماعة الأشرار، أي تخص جسم العدو القديم، للحال ينتقل إلى عبارة تخص قائدهم نفسه (إبليس)، رأس كل أبناء الهلاك. ينتقل من صيغة الجمع إلى صيغة المفرد، لأن الشيطان وكل الشعب الشرير هم جسم واحد. غالبًا ما يحدث أن الجسم يأخذ اسم الرأس، والرأس يُلقب بلقب الجسم…

الرأس يأخذ لقب الجسم، كما قيل عن الملاك المرتد نفسه: “إنسان عدو فعل هذا” (مت 13: 28).

رئيس كل الأشرار له البعض كزملاء، والبعض كأبناء. من هم زملاؤه إلا الملائكة المرتدون الذين سقطوا معه من كرسي المدينة السماوية؟ ومن هم الآخرون الذين هم أبناء له سوى الناس الأشرار، الذين يولدون خلال حثه الشرير على ممارسة الشر؟ هكذا أيضًا قيل بصوت الحق لغير المؤمنين: “أنتم من أب هو إبليس” ( يو 8: 44)

هذا الشرير هو مصدر الخطأ يعد بالغنيمة لزملائه، حيث يعد الأرواح الشريرة بأنفس الناس الأشرار يمسكون بها حتى النهاية.

وأعين أبنائه تفشل“، حيث يضع الأمور الأرضية هدفًا للناس يتطلعون إليها، فيجعلهم يحبون ما لا يقدرون أن يحتفظوا به طويلاً. إذ لا تستطيع نزعة الحب المُوجه خطأ أن تبقى عندما يُظهر أن كلا من المحبين والأشياء المحبوبة يصيرون كلا شيء بسرعة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

أَوْقَفَنِي مَثَلاً لِلشُّعُوبِ،

وَصِرْتُ لِلْبَصْقِ فِي الْوَجْهِ [6].

أصدقاؤه الذين كانوا يشتهون الجلوس معه، ويتلمسون رضاه ويمتدحونه، صاروا يسخرون به في ضيقته، ويحسبونه مثلاً ودرسًا لكل مراءٍ وشرير كي لا يقتدي أحد به.

صار أيوب صورة حية للذين يعيشون في الرب، فيسخر بهم العالم، وإن أمكن يبصقون على وجهه. كما كان رمزًا للسيد المسيح الذي سخر به الأشرار، فصار مثلاً هزًأ، وبصقوا على وجهه.

“كثيرا ما شبعت أنفسـنا من هزء المستريحين، وإهانة المستكبرين” (مز 123: 4).

“صرت ضحكة لكل شعبي، وأغنية لهم اليوم كله” (مرا 3: 14).

“بذلت ظهري للضاربين، وخدي للناتفين، وجهي لم استر عن العار والبصق” (إش 50: 6).

“حينئذ بصقوا في وجهه ولكموه، وآخرون لطموه” (مت 26: 67).

“وبصقوا عليه، وأخذوا القصبة وضربوه على رأسه” (مت 27: 30).

“فابتدأ قوم يبصقون عليه، ويغطون وجهه ويلكمونه، ويقولون له تنبأ، وكان الخدام يلطمونه” (مر 14: 65).

“وكانوا يضربونه على رأسه بقصبة، ويبصقون عليه، ثم يسجدون له جاثين على ركبهم” (مر 15: 19) .

“وآخرون تجربوا في هزءٍ وجلدٍ، ثم في قيودٍ أيضًا وحبسٍ” (عب 11: 36).

v     “كثيرًا ما امتلأنا هوانًا” (مز 3:123). كل الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى حسب المسيح، يلزمهم أن يحتملوا الإهانة (2 تي 12:3). يليق بهم أن يُحتقروا من الذين لا يختارون الحياة بتقوى. يحتقرون أولئك الذين يطلبون السعادة التي لا يمكن رؤيتها بعيونهم، ويُقولون لهم : “بماذا تؤمن يا أيها المجنون؟ هل عاد أحد من العالم السفلي وقدم تقريرًا لك بما يحدث هناك؟ أنظر فإني أرى وأتمتع بما أحب، إنك مُحتقر، لأنك تترجى ما لا تراه”.

“كثيرًا مما شبعت أنفسنا من هزء الأغنياء (المستريحين)، وإهانة المستكبرين” (مز 4:123). إننا نسأل: من هم الأغنياء؟ لقد شرح ذلك بقوله “المستكبرين”. الهزء والإهانة هما واحد، كما أن الأغنياء والمستكبرين هما واحد، لماذا الأغنياء مستكبرون؟ لأنهم يريدون أن يكونوا سعداء هنا… ربما يسخرون عندما يكونون سعداء، إذ يفتخرون بخيلاء غناهم. عندما ينتفخون بحالهم المملوء غرورًا من أجل كرامتهم الباطلة، يسخرون بنا. يبدو كمن يقول: انظروا، فإنه خير لي أن أتمتع بالخيرات التي أمامي. ليبتعد عني أولئك الذين يعدون بما لا يقدرون أن يظهروه. ما أراه أمسك به؛ ما أراه أتمتع به، لأسلك ناجحًا في هذه الحياة، لتكن أنت في أكثر أمانٍ، لأن المسيح قام وقد تعلمت أنه سيهبك حياة أخرى، لتتأكد أنه سيهبها لك[802].

 القديس أغسطينوس

v     رب العظمة تواضع ورفضه الجميع… سمع السخرية من كل جانب، من الفريسيين ومن كل بشرٍ. إنه لأمر مؤلم للقلب أن يتطلع كيف بصقوا في وجهه، وكللوه بإكليل شوك، ولطموا خديه، كما هو مكتوب: “بذلت ظهري للضاربين، وخدي للناتفين، وجهي لم أستر عن العار والبصق” (إش 6:50). الآن إن كان الله قبل أن يتواضع، ويحتمل مثل هذه الآلام والإهانات والخزي، لا تهتم إلى أي مدى تتواضع، يا من طبيعتك هي من الوحل، خاضعة للموت، وليس من وجه للمقارنة بينك وبين ربك في هذا الأمر. أنت تتكبر وتنتفخ. وجاء الله وأخذ ثقلك ليهبك راحته، وأنت لا تريد أن تحتمل أتعابًا وآلامًا، بأتعابك تُشفي جراحاتك[803].

 القديس مقاريوس السكندري

كَلَّتْ عَيْنِي مِنَ الْحُزْنِ،

وَأَعْضَائِي كُلُّهَا كَالظِّلِّ [7].

صار أيوب رجل أحزان ودموع، حتى كلت عيناه. واشتد به الحزن حتى أبلي لحمه، وصار أشبه بهيكلٍ عظمي،ٍ أو أشبه بالظل، ليس فيه سوى الجلد والعظام.

يصًٌور لنا أيوب حاله المُر، فمن شدة الحزن كلت عيناه أو صارتا معتمتين عاجزتين عن رؤية نور الحق الإلهي. فقد كاد الحق أن يختفي. لقد تحٌَول الأصدقاء إلى أعداء مقاومين بكل قوة، تسندهم في ذلك إمكانياتهم. ويبرر تصرفاتهم ما حلّ بأيوب نفسه، الذي كاد أن يصير كالظل الذي لا كيان له. سُلب منه كل شيء، وبلا سبب!

هذا ومن جانب آخر يصِّور لنا حال المؤمن أو الكنيسة ليس فقط أثناء المعاناة من مضايقات الأشرار المرة، ولكن الحزن الشديد الذي يحل بالمؤمن أو الكنيسة ككلٍ من أجل كل نفسٍ تحيد عن طريق الحق، وتضل عن المعرفة الصادقة. لهذا يصرخ الرسول بولس، قائلاً: “من يضعف وأنا لا أضعف؟ ومن يعثر وأنا لا التهب؟” (2 كو 11: 29).

هذه المشاعر يعيشها رجال الله سواء في العهد القديم أو الجديد، الذين إذ يختبرون عذوبة العشرة مع الله، لا يطيقون حرمان أحدٍ منها.

يقول المرتل: “الكآبة ملكتني من أجل الخطاة الذين حادوا عن ناموسك” (مز 119: 53). ويقول إرميا النبي: “يا ليت رأسي ماءً، وعينيَّ ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلاً قتلى بنت شعبي” (إر 1:9).

v     “عيني معتمة بالسخط، وكل أعضائي كما لو كانت قد صارت كلا شيء” [7]. تصير العين معتمة بالسخط عندما يُمنح ذات الأشخاص نور الحق… ويرون أنفسهم مُحتقرين إلى زمنٍ طويلٍ، ويستخف بهم الأشرار. إنهم يرتبكون في دهشة لدى الحكم المخزي، ويفشلون في سبر غور سرّ الله: لماذا يُسمح للأشرار أن ينتصروا على براءة الصالحين؟ من لا يستغرب عندما يرى هيروديا برقصة ابنتها تنال من يد الملك السكران رأس “صديق العريس”، النبي، والأعظم من نبي، تُقدم أمام وجوه ضيوفه على طبق (مت 14: 6-11؛ لو 7: 26)؟

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     إذا رأى الصديقون إنسانًا من أبناء الشريعة يخالفها، يغتمون ويكتئبون، لأن ألم عضوٍ واحدٍ يجعل جميع الأعضاء تتألم.

أنثيموس أسقف أورشليم

v     يوجد بين الخطاة من يخطئ بدون الناموس (رو 12:2)، لأنهم لم يعرفوا الناموس. وآخرون يخطئون في الناموس، لأنهم إذ يخالفونه يستهينون به. فالكآبة ملكتني من أجل الخطاة الذين تركوا عنهم ناموسك (مز 119: 53). حقًا إن كان عضو يتألم، تتألم معه جميع الأعضاء؛ وإن كُرم عضو واحد، تفرح معه جميع الأعضاء (1 كو 26:12). إذن يليق بنا أن نتألم من أجل اخوتنا الخطاة لأنهم يخطئون، وأن نتخذ نفس موقف هذا القديس (المرتل).

القديس ديديموس الضرير

v     من يسكب دموعًا ساخنة على أخطاء قريبه يبرأ بحزنه على أخيه[804].

القديس باسيليوس الكبير

v     لنبكِ عليهم لا يومًا ولا يومين، بل كل أيام حياتنا[805].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     آه أيها الأعزاء المحبوبون! وإن كنا سنقتني تعزية من الأحزان، وراحة من الأتعاب، وصحة من الأمراض، وخلودًا بعد الموت، لا يجوز لنا أن نغتم من الأمراض التي تلحق بالبشرية، ولا نقلق بسبب التجارب التي تحل بنا.

يلزمنا ألا نخاف إن تآمر الذين يحاربون المسيح (الأريوسيون) ضد الصالحين، إنما بالحري نحن نرضي الله بالأكثر بسبب هذه الأمور، إذ نتهيأ أكثر ونتدرب على حياة الفضيلة. لأنه كيف ننال الصبر ما لم توجد متاعب وأحزان؟

وكيف تظهر الشهامة إلا باحتمالنا الهزء والظلم؟

وكيف يختبر الاحتمال ما لم يوجد هجوم من الأعداء (الأريوسيين وغيرهم)؟

وكيف تتزكى طول أناتنا إن لم توجد وشايات ممن هم ضد المسيح (الأريوسيين)؟!

وأخيرًا كيف يمكن للإنسان أن يدرك الفضيلة ما لم تظهر أولاً شرور الأشرار؟!

هكذا فإن ربنا سبقنا في هذا عندما أراد أن يظهر للناس كيف يحتملون… عندما ضُرب احتمل بصبر، وعندما شُتم لم يشتم، وإذ تألم لم يهدد، بل قدم ظهره للضاربين، وخديه للذين يلطمونه، ولم يحول وجهه عن البصاق (1 بط 23:2؛ إش 6:50).

وأخيرًا كانت إرادته أن يُقاد إلى الموت حتى نرى فيه صورة كل الفضائل والخلود، فنسلك مقتفين آثار خطواته، فندوس بالحق على الحيات والعقارب وكل قوة العدو (الخطية)[806].

القديس أثناسيوس الرسولي

v     لنفكر في سبي اخوتنا بكونه سبينا نحن. حزن الذين في خطر هو حزننا نحن. يلزمكم أن تتأكدوا أنه يوجد جسد واحد. ليس فقط الحب بل وأيضًا التقوى تدفعنا وتشجعنا أن نخلص أعضاء أسرتنا[807].

 الشهيد كبريانوس

v     لا يعني بولس أنه يتظاهر بضعفهم، إنما يتعاطف مع ضعفهم[808].

 القديس أغسطينوس

v     يا للحنو العجيب في الراعي (بولس)! يسقط آخرون، فيقول مؤكدًا حزنه على عثرات الآخرين. إنها تلهب نار آلامه. ليت كل الذين تُعهد إليهم رعاية القطيع العاقل أن يقتدوا به، ويبرهنوا أنهم ليسوا بأقل من الراعي الذي يتعهد لسنوات طويلة قطيعًا غير عاقلٍ. هذا لا يحدث حتى إن حدث إهمال ما، أما في حالتنا فإذا ضاع خروف واحد أو سقط فريسة، تكون الخسارة ضخمة للغاية، والضرر والرعب والعقوبة لا يُنطق بها. فوق هذا كله إن كان ربنا قَبِلَ سفك دمه من أجله، فأي عذر يبرر ذاك الذي يسمح لنفسه بأن يهمل في حق من له اعتباره لدى الرب، ولا يبذل كل الجهد من جانبه للاهتمام به؟[809]

 القديس أغسطينوس

  1. البرّ ينتصر

يَتَعَجَّبُ الْمُسْتَقِيمُونَ مِنْ هَذَا،

وَالْبَرِيءُ يَقُومُ عَلَى الْفَاجِرِ [8].

إذ يسمع الصديقون ما حلّ بأيوب من ضيقات متوالية، ومن موقف أصدقائه منه، يقفون في دهشةٍ متعجبين. يظنون كأن الله قد ترك الأرض وتخلى عن مؤمنيه، فينهض البريء على الفاجر، أي لا يطيق أن يحتمل هذا، ويبحث عن عناية الله هذه التي تبدو غامضة. ينهض البريء ليقف ضد الفاجر مدافعًا عن الحق أو رافضًا كل تفسير خاطئ.

v     “يدهش الأبرار لذلك، ويثور البريء على المرائي” [8]. يُفهم”البريء”  في هذا الموضع على أنه البار لكنه غير كامل، هذا الذي يبدأ في الطرق الصالحة. فإنه وإن كان لا يفكر في الإضرار بالغير، لكنه ليس بقادرٍ أن يمارس الأمور الكاملة. إذ ترى قلوب الصغار الأشرار يزدهرون في الحياة الحاضرة، يلتهبون نارًا بجمر الحسد… الآن يلتهب البريء ضد المرائي، إذ لم يعتد أن يضر أحدًا لكنه يحسد مجد المرائي.

ولكن إن كان البريء في هذه العبارة يعني من هو كامل في صلاحه، “البريء يتحرك ضد المرائي” عندما يراه منتعشًا يزدري به وبانتعاشه. عندئذ يكرز بالأمور الحقيقية، ويقول بأنه يجب أن يُحتقر بواسطة الآخرين كلما رأوا فيه شوق نحو الأمور التي لا يستطيع أن يحتفظ بها طويلاً.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     “لا تغر من الأشرار ولا تحسد عمال الإثم، فإنهم مثل الحشيش سريعًا يُقطعون، ومثل العشب الأخضر يذبلون” (مز 1:37-2). ما يبدو لك أنه مدة طويلة فهو في نظر الله “سريعًا”. إذ تخضِعْ ذاتك لله تصير المدة الطويلة بالنسبة لك أيضًا “سريعًا”… تصَّيرون الأشياء تافهة لا قيمة لها، تظهر على سطح الأرض فقط، ليس لهم جذور في الأعماق. في الشتاء يكونون في اخضرار، ولكن إذ تلسعهم شمس الصيف يجفون. الآن وقت الشتاء، مجدك ليس كما هو في الظاهر، لكن إن كان لحبك جذر عميق مثل كثير من الأشجار في وقت الشتاء، يذهب الصقيع ويأتي الصيف (يوم الدينونة)، عندئذ يجف اخضرار العشب ويظهر مجد الأشجار[810].

v     لاحظت الأشرار، فرأيتهم في سلامٍ، أي سلام؟ سلام مؤقت، متغير، عابر وأرضي، ومع هذا فإني أنا أيضًا أطلب هذا من الله. رأيت الذين لم يخدموا الله ينالون ما اشتهيته أنا الذي أخدم الله، لكن قدمي زلتا وخطواتي زلقت (مز 2:73). الآن أدركت لماذا لهم سلام وانتعاش على الأرض… لأن عقابهم ليس مؤقتًا، بل ثابتًا إلى الأبد[811].

 القديس أغسطينوس

أَمَّا الصِّدِّيقُ فَيَسْتَمْسِكُ بِطَرِيقِهِ،

وَالطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ يَزْدَادُ قُوَّةً [9].

إذ يرى الصديق الأشرار يزدهرون بينما تحل التجارب والضيقات بالأبرار والصديقين، لا ينسحب الصديق عن طريق الشركة مع الله، بل يزداد ثباتًا في عزيمته ويتقدم متمسكًا بالأكثر بطريقه. يرى ما يحل بالصديقين من متاعب تؤول إلى نموهم وتمتعهم بقوة أعظم.

يختبر الإنسان الروحي عربون الحياة السماوية، فلا يهتز أمام نجاح الأشرار المؤقت، ولا يضطرب أمام التجارب والضيقات. يجد سعادته في المثابرة بروح الرب الذي يعطي عذوبة فائقة للشركة مع السيد المسيح في صليبه، ويلهب دومًا أعماق المؤمن نحو طلب السماويات، مستهينًا بكل عطية زمنية.

لا يكف المؤمن الحقيقي عن أن يثابر ضد الخطية والتمتع بالحياة المقدسة، من أجل تمتعه بالشركة مع الرب.

v     ينال المرائي بإرادة شريرة أمور هذا العالم. أما الصديق فمربوط ومقيد بأكثر قوة بمحبة السماويات.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     إن راعينا قانون المثابرة ومارسنا التمييز بمعرفة، حيث تُحصد ثمرة الحياة، عندئذ يكون الصراع مع هجمات أهواء غير قادرة بأية وسيلة أن تقترب من ذهننا[812].

 القديس مار اسحق السرياني

v     نحن الذين وُهب لنا الحياة الأبدية ، نصنع الأعمال الصالحة، لا لأجل الجزاء، بل لحفظ النقاوة التي وُهبت لنا[813].

القديس مرقس الناسك

v     من المفيد جدًا قراءة الكتاب المقدس، فإنها تجعل النفس حكيمة، وتوجّه الروح نحو السماء، وتحرّك الإنسان نحو الشكر، وتهلك الرغبة في الأمور الأرضية، وتدع أذهاننا تتمعن باستمرار في العالم الآخر.[814]

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     “(أحكام الرب) أحلى من العسل والشهد” (مز 10:19). إذ تلتزم النفس بأن تصير عسلاً نقيًا، متحررة من رباطات الحياة المائتة، تنتظر في بساطة بركات الوليمة الإلهية؛ أو أنها تكون في قرص الشهد، ملتحفة بهذه الحياة كما في خلايا شمع العسل التي تملأها دون أن تصير مثلها (أي دون أن تصير شمعًا). وهي في هذا تحتاج إلى معونة يد الله التي تضغط لا لتحطم، بل لكي تقطر عسلاً. تصير أحكام الرب بالنسبة لمثل هذه النفس أحلى من كيانها ذاته، أحلى من العسل والشهد.

القديس أغسطينوس

v     تأمل الأسلوب الأرثوذكسي في المعركة وقدر إنجازات المعارك الروحية، كيف أن المناضل المسيحي وقد انتصر على جسده الثائر ووضعه تحت وطأة قدميه يُحمل إلى الأمام كمنتصرٍ في الأعالي. ولذلك فإنه لا يركض كأنه عن غير يقين، لأنه يثق بدخوله توًا إلى المدينة المقدسة، أورشليم السمائية[815].

القديس يوحنا كاسيان

  1. لا رجاء في هذا العالم

وَلَكِنِ ارْجِعُوا كُلُّكُمْ وَتَعَالُوْا،

فَلاَ أَجِدُ فِيكُمْ حَكِيمًا [10].

يطالبهم أيوب أن يرجعوا عما يفكرون فيه، وليدركوا أنه ليس بينهم حكيم واحد، لأنهم يسألونه التوبة من أجل عودة الرخاء إليه والرفاهية في العالم، ظانين أن هذا فيه تعزيات المتألمين. إنهم غير حكماء، لأنهم حوّلوا أعينهم عن تعزيات السماء إلى رفاهية العالم. سعادة الصديقين في رجائهم في الأبدية، لا في نوالهم خير زمني.

كأنه يقول لهم إنه من الحماقة أن يسمع لهم ويجيب طلبتهم فيهبهم ما هو زمني.

v     “حسنًا، تعالوا الآن، انهضوا جميعكم، إذ لا أجد الحق فيكم” (أي 17: 10 LXX). كأنه يقول: تعالوا وأنتم متعاونون معًا، ولتدخلوا في حوار حار ضدي.

يعرف أيوب أن واحدًا مفردًا يقتفي أثر ألف، واثنين يمكنهما أن يهزما عشرات الألوف (تث 32: 32). فلا حاجة إلى عدد عظيم من المصارعين، خاصة متى تسلحوا بالكذب.

إنني أرى على نحوٍ جازمٍ أنه لا يوجد الحق فيكم، لهذا بالتأكيد أحرضكم جميعًا على المعركة.

يليق بالإنسان أن يدهش للروح الجريء في كلمات أيوب. فبعدما وطأ أصدقاؤه عليه تحت الأقدام حتى أننا لا نقدر أن نتصور كيف تألم، غير أنه لم يهدأ عن مناظرتهم ولا تخلى عن صبره الذي جعله مرعبًا لأعدائه.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

جاء النص في كتابات البابا غريغوريوس (الكبير): “لكن بالنسبة لكم جميعًا فلتغيروا طريقكم وتأتوا الآن” [10]. وكأن أيوب يجيبهم بالقول: إن كنتم تسألونني التوبة عن خطايا لم ارتكبها، فإنكم تسقطون في خطية السب والاتهام الظالم. إني أنصحكم أن ترجعوا عن طريقكم هذا، وسلوككم الشرير، حينئذ تأتون إليّ، ويمكن التفاهم معًا.

يرى البابا هنا أن أيوب يدعوهم لعملين: الأول السلبي وهو الكف عن الخطية، والثاني إيجابي وهو عمل الصالح، هذا ما عناه بأن يغيروا طريقهم الشرير، ويأتوا إليه حاملين الأعمال الصالحة.

v     يسألنا بولس أن نكون أمواتًا للعالم، فإن هذا الموت نافع لنا، بكونه بدء حياة جديدة. هكذا أيضًا يأمرنا أن نكون جهلاء للعالم، لكي بهذا ندخل إلى الحكمة الحقيقية. تصيرون جهلاء لهذا العالم عندما تحتقرون الحكمة الأرضية، وتثقون أنها لا تساهم في إدراكنا للإيمان[816].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

v     حكمة هذا العالم هي تلك التي تنقصها نعمة الله، إنها بشرية في سماتها تمامًا[817].

 الأب ثيؤدورت

v     يلزمهم أن يغيروا طريقهم، وأن يأتوا. يتم التغيير بالإيمان، والمجيء بالممارسة، أو يلزمهم أن يتغيروا بترك الأعمال الشريرة، ويأتوا بممارسة الأعمال الصالحة. كما هو مكتوب: “كفْ عن الشر، واصنع الخير” (مز 37: 27).

“لعلي لا أجد إنسانًا واحدًا حكيمًا بينكم” [10]. ماذا يعني هذا أنه يوصيهم بالحكمة، وفى نفس الوقت يشتاق ألا يجدهم حكماء، سوى أنهم لا يقدرون أن يأتوا إلى الحكمة الحقيقية حين ينخدعون بثقتهم في حكمتهم الذاتية الباطلة؟

كُتب عن هذا : “لا تكن حكيمًا في عيني نفسك. (راجع إش 5: 21). قيل أيضًا: “لا تكونوا حكماء عند أنفسكم” (رو 12: 16).

في هذا يقدم الكارز العظيم (بولس) مشورة لأولئك الذين وجدهم حكماء جسديًا، وهي لكي ينالوا حكمة حقيقية يلزمهم أولاً أن يصيروا أغبياء، قائلاً: “إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلاً لكي يصير حكيمًا” (1 كو 3: 18). ويقول الحق نفسه: “أحمدك أيها الآب، رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء، وأعلنتها للأطفال” (مت 11: 25). هكذا لأن الذين هم حكماء في عيون أنفسهم لا يقدرون أن يأتوا إلى الحكمة الحقيقية، فإن الطوباوي أيوب، إذ كان تواقَا لتغيير سامعيه، بالحق اشتهي ألا “يوجد أي إنسانٍ حكيم بينهم“. وكأنه يقول بصراحة: “تعلموا أن تكونوا جهلاء في أنفسكم، لكي تكونوا حكماء حقيقيين في الله”.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     لا تدع كثرة الحكمة تصير حجر عثرة لنفسك، وفخًا في طريقك، بل أن الثقة بالله بثبات تصنع لك بداية الطريق المملوء دمًا (طريق الجهاد الروحي ضد الخطية)، لئلا تُوجد في عوزٍ على الدوام وعاريًا من معرفة الله، لأن الخائف الذي يراقب الريح لا يزرع أبدًا[818].

مار اسحق السرياني

أَيَّامِي قَدْ عَبَرَتْ.

مَقَاصِدِي إِرْثُ قَلْبِي قَدِ انْتَزَعَتْ [11].

يسألون أيوب توبته عن شره وريائه لكي يعود إليه ما فقده. أما بالنسبة له، فليس لهذه الأمور موضع في قلبه. فأيامه قد عبرت أو مسرعة إلى النهاية، ومقاصد قلبه القديمة من أعمال للإصلاح واهتمام بالفقراء قد نُزعت عنه. لقد صار أيوب يرى الموت ليس ببعيدٍ عنه، فلا يفكر فيما لا يستطيع عمله.

يرى البابا غريغوريوس أن أيوب يرمز للكنيسة المُضطهدة. إذ تشتد الضيقة عليها جدًا يرتفع بالأكثر فكرها نحو السماء، فلا تنشغل بالأمور الأرضية ولا حتى بالخدمة الاجتماعية البحتة، لكن تُحصر في المجد الأبدي. وما نقوله عن الكنيسة كجماعةٍ مقدسةٍ، يتحقق في حياة كل عضوٍ فيها، متى واجه الضيق بالتفكير في السماويات.

v     “أيامي تعبر، أفكاري تتبدد، توجع قلبي” [11]. ترى الكنيسة المقدسة أن فترات حياتها تعبر في فترات نهارٍ وليلٍ، فعندما تكون في شدة يكون لها ليل، وعندما تكون في رخاء يكون لها نهار. فإن النور يشرق في هدوء السلام. أحيانًا تصغي إلى خدمة الأمور الزمنية… هكذا الطوباوي أيوب، سواء كان بصوته أو بصوت الكنيسة الجامعة بعد اختبار أن أيامه قد عبرت، أكمل: “أفكاري تبددت، توجع قلبي”. عندما يذهب المجد المؤقت من أذهان الصالحين، فإنه حتى الالتزامات بالأمور الأرضية أيضًا تُنزع عنهم… أحيانًا في التزاماتهم الأرضية يلتزمون بالنزول إلى التفكير في الأمور الدنيا، ويشعرون في داخلهم أنهم في عذابٍ. وأيضًا يحدث أن نفس العمل العدائي للاضطهاد يتحول بالنسبة لهم إلى تهليلٍ عظيمٍ بسبب راحة القلب التي ينالونها.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     “نفسي في يدي“… تكون نفس أي إنسان بين اليدين حين يكون في وسط مخاطر… إذن يقول البار: بالنسبة لي فإني أموت كل يوم، أنا في خطر دائم من أجل (ارتباطي) بكلامك، ومن أجل الحق… لكنني لم أنسَ ناموسك، لأن خطر الموت لا يقدر أن ينسيني ناموسك.

يمكننا أن نفهم هذه العبارة بطريقة أخرى، وهي أن نفسي دائمًا في كفي، أي أنها دائمًا تمارس الأعمال الصالحة، لأن “اليد” أو “الكف” تُطلق دائمًا على العمل[819].

العلامة أوريجينوس

v     تحصل علي عالم النور عوض ألمٍ مريرٍ تتحمله لأجله ليومٍ واحدٍ.

إن صبرت علي الجوع قليلاً من أجل حبه، تلتهب عندئذٍ رغبتك لرؤية وجهه.

إن ظهرت الظلمة علي وجهك من الأعمال لأجله، يجمّلك بمجده إلي الأبد بلا نهاية.

إن تعريت مما هو لك، يلبسك نوره، ويخفي عنك ما هو لك.

إن تركت ما تملكه، تقتنيه في نفسك أبديًا[820].

الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي)

v     عناء كل السنين الطويلة لهذه الحياة الحاضرة يختفي عندما ننظر إلى أبدية المجد العتيد، وكل أحزاننا ستتلاشى بالتفكير في البركة العظيمة، وتصير كالبخار الذي يضمحل وكأنها لم تكن؛ تشبه البرق الذي حالما يختفي[821].

القديس يوحنا كاسيان

v     لقد زهد (الشهداء) كل الأشياء التي على الأرض، ونظروا بعيني الإيمان ملك السماء وطغمات الملائكة تقف أمامه. لقد رسموا في أذهانهم السماء وبركاتها التي لا يُنطق بها. لقد نقلوا أفكارهم إلى السماء، ولم يعطوا اهتمامًا بعد ذلك لأي أمرٍ يمكن أن يروه بأعينهم الجسدية…

لم يتأثروا بالأمور المنظورة قط (أدوات العذاب)، بل عبروا بجوارها، إذ حسبوها أحلامًا وظلالاً، ونالت عقولهم أجنحة بسبب رغبتهم في الأمور العتيدة[822].

v     لا نخاف من الفقر أو المرض أو أية ضيقة كهذه، فإننا نعرف أننا في طريقنا إلى حياة أفضل، والتي هي منيعة ضد الموت والدمار، ومتحررة من كل ظلمٍ[823].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يَجْعَلُونَ اللَّيْلَ نَهَارًا،

نُورًا قَرِيبًا لِلظُّلْمَةِ [12].

يحدثونه عن الليل حيث أيامه كادت أن تعبر كأنه نهار، لكنه ليس نهارًا مبهجًا بنوره، وإنما نوره قريب من الظلمة. بينما لم يكن يتوقع شيئًا ما على الأرض، ركزوا حديثهم على الرخاء في العالم كمكافأة الرب للأبرار، بهذا يهيئون له العالم في أذهانهم بيتًا للراحة، أما هو فيرى الموت نصب عينيه، ولا رجاء له في أمور العالم الزمنية. إنه يرحب بالموت كبيتٍ يستقر فيه. هناك في القبر يُعد فراشه.

إِذَا رَجَوْتُ الْهَاوِيَةَ بَيْتًا لِي،

وَفِي الظَّلاَمِ مَهَّدْتُ فِرَاشِي [13].

َقُلْتُ لِلْقَبْرِ: أَنْتَ أَبِي،

وَلِلدُّودِ: أَنْتَ أُمِّي وَأُخْتِي [14].

في مرارة يتطلع أيوب إلى استبدال أصدقائه في العالم بالقبر، فيصير له أبًا، إذ هو أكثر رحمة منهم، وعوض وعودهم بالبركات الزمنية يجد في الدود أمه وأخته. شكا أيوب من أن أقاربه قد خذلوه، وصاروا غرباء عنه (أي 19: 13، 14)، لذلك يذكر هنا أقرباء لا يفارقونه ولا يتنكرون له وهم الموت والدود.

يرى الأب هيسيخيوس الأورشليمي أن أيوب دعا الفساد أمًا وأختًا، لأنه بسبب الخطية صدر الحكم ضد الإنسان أن ينحل ويفسد ويعود إلى ترابه.

v     إن فهمنا هذا بالمعنى الروحي، فإن الطبيعة ليست بالأمر غير اللائق أن تُدعى أمنا، والعادة تُدعى أختًا لنا، فإننا وُلدنا من الواحدة، ونمونا مع الأخرى. ذات الأم والأخت هما الدود، فإنه بسبب الطبيعة الفاسدة والعادة الشريرة نُلزم بنوعٍ من الدود أو الأفكار المثيرة، تأكل الذهن. فإن طبيعة الجسد الفاسدة والعادة الشريرة تولدان اهتمامات عديدة في قلب ضعفنا، لذا بحق دُعيت دودًا.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     ليتنا نتخلص من قذارة الخطية، فيظهر الجمال الأول الذي للفضيلة. يقول داود النبي في المزمور: “يا رب بجمالك أعطيت جمالي قوة” (مز 8:29). لنتطّهر حتى تظهر صورة الله فينا، وهذا هو ما يريده الله منّا، أن نكون بلا دنس ولا نقص ولا عيب[824].

الأب دوروثيؤس

v     يحزن جميع القديسين بتنهدات يومية من أجل ضعف طبيعتهم هذا. وبينما هم يستقصون أفكارهم المتنقلة ومكنونات ضمائرهم وخلواتهم العميقة يصرخون متضرعين: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حيّ” (مز 143: 2)….

ها أنت ترى إذن كيف يعترف جميع القديسين بصدق أن جميع الناس كما هم أيضًا خطاة، ومع ذلك لا ييأسون أبدًا من خلاصهم، بل يبحثون عن تطهيرٍ كاملٍ بنعمة الله ورحمته…

لا يوجد أحد، مهما كان مقدسًا، في هذه الحياة بلا خطية. وقد أخبرنا أيضًا تعليم المخلص الذي منح تلاميذه نموذج الصلاة الكاملة…، إذ يقول: “وأغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا (مت 6:12).

إذن إذ قدم هذه كصلاةٍ حقيقيةٍ يمارسها قديسون، كما يجب أن نعتقد دون أدنى شك، فمن يمكنه أن يبقى عنيدًا ووقحًا ومنتفخًا بكبرياء الشيطان، فيظن أنه بلا خطية[825].

الأب ثيوناس

v     كما أن القديس هو هيكل الله، هكذا الخاطئ يقيم من نفسه قبرًا[826].

القديس جيروم

فَأَيْنَ إِذًا آمَالِي؟

آمَالِي مَنْ يُعَايِنُهَا! [15]

يرى أيوب أن كل آماله السابقة تنحدر معه إلى القبر فيرثيها. حقًا إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء، فنحن أشقى جميع الناس (1 كو 15: 19). ليس من يستطيع أن يرى آمالنا التي تعزينا، إذ نترجى، لا الأشياء الوقتية التي تُرى، بل الأبدية التي لا تُرى (2 كو 4: 18).

الآمال التي قدمها له أصدقاؤه تنزل معه إلى القبر، لتُدفن معه ولا تعود. هم مائتون يقدمون ما هو فانٍ.

v     “ماذا إذن هو رجائي؟” [15]. أو أين هو رجاء الإنسان الذي فيه يتحقق هذا الطريق من الضعف؟ “أين سأرى خيراتي؟” عندما نرحل منه.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     “الآن أين هو توقعي؟” [15]. ماذا يمكن أن يكون توقع البار سوى الله الذي يبرر البار، والذي نزل بإرادته إلى عقوبة بشرية، وببرَّه حرر أسرى الموت؟ فإنهم لن يتوقفوا عن توقعهم بقية التوقعات المملوءة رجاءً. إنهم يعرفون أن هذا آت، لكنهم يطلبون سرعة المجيء. لذلك لم يقل: “أين هو توقعي؟” بل أضاف كلمة “الآن”، مظهرًا أنه يود أن يتحقق ما سيأتي يومًا دون تأخير.

“ومن يتأمل في صبري؟” [15]… يشهد الحق: “إن أنبياء وملوكًا كثيرين اشتهوا أن يروا هذه الأمور التي ترونها ولم يروا” (لو 10: 24). وهكذا “من يتأمل في صبري؟” نفخات الرغبة الحارة صارت مكشوفة… ليقل: “من يتأمل في صبري؟” فإن ما يحسبه مدبر الأمر (الله) أنه مدة قصيرة يراه من يحب أنه مدة طويلة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     ينبغي علينا أن نضع في السماء ما نخسره الآن على الأرض. فالعدو يستطيع أن ينقب منازلنا، لكنه هل يقدر أن يكسر باب السماء؟! إنه يقتل الحارس هنا، لكن هل يستطيع أن يقتل الله حافظها؟!

v     لو أخبركم مهندس معماري أن منزلكم يسقط حالاً، أفلا تتحركون سريعًا قبل أن تنشغلوا بالنحيب عليه؟! هوذا مؤسس العالم يخبركم باقتراب دمار العالم، أفلا تصدقونه؟!… اسمعوا إلى صوت نبوته: “السماء والأرض تزولان” (مت35:24)… استمعوا إلى مشورته![827]

القديس أغسطينوس

تَهْبِطُ إِلَى مَغَالِيقِ الْهَاوِيَةِ،

إِذْ تَرْتَاحُ مَعًا فِي التُّرَابِ [16].

v     “أو هل سينزلون معي إلى الجحيم، أو سننزل معًا إلى التراب؟” [16]. إذن لماذا نقيم المباني؟

لماذا نرتبك بأغطية ثمينة للسرائر والملابس المختلفة؟ لماذا نضيف حقلاً إلى حقلٍ (إش 5: 8)؟ لماذا نطلب الغنى الذي لا يذهب معنا؟

ولماذا لا نصدق تدبير الديان، ولا نذعن له، القائل: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض، حيث يُفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يُفسد سوس ولا صدأ، حيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون” (مت 6: 19-20). فإن ملائكتنا تحرس كنوزنا، ولاسيما رب الملائكة.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     “ألا تظنون أنه على الأقل ستوجد راحة لي هناك؟”… هنا ما يفيدنا التأمل بخوفٍ شديدٍ كضمانٍ لنا للراحة الأبدية، فإنه حتى أيوب كان مرتعبًا من ذلك… “إن كان البار بالجهد يخلص، فالفاجر والخاطي أين يظهران؟” (1 بط 4: 18) فإن الطوباوي أيوب عرف أنه سينال راحة بعد ضربات الضيق، لكنه إذ يهز قلوبنا بالخوف، بدا كمن هو في شكٍ من جهة مكافأة الراحة الأبدية بقوله: “ألا تظنون؟”

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     يرى البعض أن منازلهم التي يقيمون فيها هي مملكتهم، وبالرغم من علمهم أن الموت محتم، وأنه يومًا ما سيجبرهم على تركها، ففي قلوبهم يشعرون أنهم يمكثون إلى الأبد. إنهم يفتخرون بحجم منازلهم، والمواد الممتازة التي صُنعت منها. يجدون متعة في زخرفة منازلهم بألوان زاهية، وفي انتقاء الأثاث الأكثر صلابة والأفضل لملأ الغرف. يتخيلون أنهم باقتناء منزل معمر… سيجدون فيه سلامهم، أي كلما تأكدوا أن حوائطه وأسطحه تظل متينة إلي أجيال كثيرة.

أما نحن فعلى النقيض، نعلم أننا مجرد ضيوف نعيش مؤقتًا على الأرض. ندرك أن المنازل التي نقطنها هي بمثابة فنادق على الطريق إلى الأبدية. إننا لا ننشد سلامًا أو أمنًا من الحوائط المادية من حولنا أو الأَسقف فوق رؤوسنا. بل بالحري نريد أن نحيط أنفسنا بحوائط النعمة الإلهية. ونتطلع إلى السماء عاليًا كسقفٍ لنا. أما الأثاث في حياتنا فيجب أن يكون أعمالاً صالحة، نعملها بروح الحب.

القديس يوحنا الذهبي الفم


 

من وحي أيوب 17

إني أترقب اللقاء معك

v     كلما ذكرت يوم رحيلي، أو يوم لقائي معك،

تنسحق نفسي في داخلي،

تئن من أجل كل ضعفٍ يحل بي.

هوذا الأشرار يسمنون،

إذ يظنون أنهم يعيشون هنا إلى الأبد.

أما أنا فيوم مجيئك الأخير منقوش في قلبي،

لا يفارق ذاكرتي.

بماذا أتبرر قدامك؟

v     في وسط حزني على ضعفي،

قلبي يتهلل في داخلي.

نعم، إني مشتاق إلى العودة إلى بيتي الأبدي!

عيناي تتطلعان إليك،

متى ألتقي بك وجهًا لوجهٍ؟

v     إلهي، هوذا حولي من يطلبون الحوار الجاف.

يفسدون توبتي، وتعلقي باللقاء معك.

لا، بل عدو الخير، الغريب عني، وعن كل جنس البشر،

لا عمل له إلا أن يسلبني التمتع بالتفكير فيك،

والاستعداد لشركة الأمجاد الأبدية.

إنه خصم عنيد،

لا يهدأ حتى ينزل بي معه إلى مسكنه الأبدي.

لست بهذا أبرر نفسي،

فأنت تعلم إني خاطي.

إني مجروح بالخطية،

لكني وجدتك طبيبًا شافيًا!

إني خاطي، وجدتك القدوس، تقدس كل كياني!

إني مدين، وأنت كفيلي وضامني.

دمك يمزق الصك المكتوب عليّ.

صليبك يحررني من أسري.

أنت وحدك تجَّرد الرئاسات والسلاطين،

بصليبك تشًّهر بهم جهارًا،

فأفلت من أيديهم، ولا أنحني لسلطانهم بعد.

أنطلق من رئيس هذا الدهر،

لأحتمي تحت جناحيك يا ملك الملوك ورب الأرباب.

ظن عدو الخير أنه بحكمة أسرني وأذلني.

لكن حكمته صارت خبثًا ودهاءً!

لقد نزع ربي عنه الحكمة الحقيقية،

إذ عزل نفسه عن حكمة الله.

صار الخبيث جاهلاً، وفقد إمكانياته.

أما أنا ففي جهلي أصرخ مستغيثًا.

اشتهي الاتحاد بك يا حكمة الله.

أقتنيك، فأصير بك بالحق حكيمًا،

وأتأهل للسكنى في السماء مسكن الحكماء!

v     ما يحزن نفسي أن عدو الخير يأسر الكثيرين.

كل نفسٍ تفقد نورك، أحسب إني في ظلمةٍ معها!

وكل نفسٍ تستهين بخلاصها، أحسب نفسي كمن يهلك معها!

كل نفسٍ يسبيها العدو، أحسب نفسي مسبيًا معها!

v     لماذا تئن نفسي عندما أرى الأشرار، المقاومين للحق، يزدهرون؟

مهما طال زمان حياتهم،

فسيعبرون سريعًا،

وكالعشب يجفون!

أولادك كالشجرة في فصل الشتاء،

يظهرون كأشجارٍ ميتةٍ بلا أوراقٍ ولا ثمارٍ،

لكن يأتي ربيع يومك،

ويذهب صقيع العالم،

وتتمجد أشجارك بثمارها العجيبة!

حقًا. سيزول العالم سريعًا،

ويظهر ما لأولادك من مجدٍ أبديٍ!

مهما اشتد صقيع العالم، ومهما تراكمت التجارب،

عربون السماء يملأني ببهجتك!

والشركة معك حتى في آلامك تملأني سلامًا!

v     هوذا أيامي تعبر سريعًا.

هب لي أن أقتني الحكمة والحق الإلهي.

لأجحد الحكمة البشرية المتعجرفة.

أتمتع بك يا كلي التواضع!

v     نفسي في يديّ وأنا سالك وسط المخاطر.

أترقب خروجي من العالم في أية لحظة بفرحٍ!

لا أكف عن أتمم بيدي عملك، لأني سفيرك.

حتى متى خرجت أُوجد معك، وأتمتع ببهائك!

v     أخيرًا ليكن كل رجائي فيك.

ليكن كنزي في سماواتك!

ليس من مكان آمن مثلها!

فاصل

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى