تفسير سفر أيوب ١٩ للقمص أنطونيوس فكري
تفسير سفر أيوب – الأصحاح التاسع عشر
نجد هنا خطاب أيوب ضد بلدد وفيه كالعادة يشكو من سوء معاملتهم، ثم يصف حالته المرة ولكننا نجد في هذا الإصحاح تحول أيوب من أفظع شعور بالهجر والرفض إلي أعظم كلمات معبرة عن إيمان، فيه رأي محامي إلهي يتولي الدفاع عن قضيته ويسمعه حكم البراءة ومما يعزي ويفرح إنتصار الإيمان في النهآية.
الأيات 1-7:
“فاجاب ايوب وقال، حتى متى تعذبون نفسي وتسحقونني بالكلام، هذه عشر مرات اخزيتموني لم تخجلوا من ان تحكروني، وهبني ضللت حقا علي تستقر ضلالتي، ان كنتم بالحق تستكبرون علي فثبتوا علي عاري، فاعلموا اذا ان الله قد عوجني ولف علي احبولته، ها اني اصرخ ظلما فلا استجاب ادعو وليس حكم”.
حتي متي تعذبون نفسي= بإتهاماتهم أنه شرير افقدوه ما كان له من قليل تعزية بدلاً من أن يعزوه هم. أخزيتموني= عيرتموني وأطلقتم علي صفات شريرة.
وقوله عشر مرات= أي مراراً وتكراراً، مرات كثيرة. تحكروني= اي استحوا منه إذ كان في نكبته وجعلوا أنفسهم غرباء عنه (حسب الترجمة الإنجليزية). وهبني ضللت حقاً عليَ تستقر ضلالتي= لنفترض أنني أخطأت عن طريق جهل أو أخطأت فعلاً( هو يشعر أنه لم يخطئ) ومن الجهل أن يظن إنسان أنه معصوم من الخطأ، فعاقبة خطاياي واقعة عليَ ولا دخل لكم بهذا، ولا تزيدوا ألامي بتعييراتكم. إن كنتم بالحق تستكبرون عليَ فثبِتوا عليَ عاري= هل لكي تتعظموا علي وتتفوقوا وتثبتون صدق كلامكم وأنكم المنتصرون في المناقشة تريدون وتصرون أن ما حدث لي هو بسبب خطيتي فتثبتون عاري، هل هذا طريق مقبول مع متألم مثلي. ويجب أن تعلموا لماذا أصرخ فأنا متألم من الوجع الذي أصابني به الله، فالله هو الذي فعل هذا بي فالله قد عوَجني= عوجني= هدمني(إنجليزية ويسوعية). ومهما صرخ فالله لا يستجيب. ووصل لحالة عدم الرجاء في عفو الله.
الأيات 8-22:
“قد حوط طريقي فلا اعبر وعلى سبلي جعل ظلاما، ازال عني كرامتي ونزع تاج راسي، هدمني من كل جهة فذهبت وقلع مثل شجرة رجائي، واضرم علي غضبه وحسبني كاعدائه، معا جاءت غزاته واعدوا علي طريقهم وحلوا حول خيمتي، قد ابعد عني اخوتي ومعارفي زاغوا عني، اقاربي قد خذلوني والذين عرفوني نسوني، نزلاء بيتي وامائي يحسبونني اجنبيا صرت في اعينهم غريبا، عبدي دعوت فلم يجب بفمي تضرعت اليه، نكهتي مكروهة عند امراتي وخممت عند ابناء احشائي، الاولاد ايضا قد رذلوني اذا قمت يتكلمون علي، كرهني كل رجالي والذين احببتهم انقلبوا علي، عظمي قد لصق بجلدي ولحمي ونجوت بجلد اسناني، تراءفوا تراءفوا انتم علي يا اصحابي لان يد الله قد مستني، لماذا تطاردونني كما الله ولا تشبعون من لحمي”.
يكرر أيوب شكواه لعلهم يشفقوا عليه. وشكا من علامات غضب الله فقال أضرم عليَ غضبه= وماذا تكون نار جهنم إلا غضب الله. وحسبني كأعدائه= مع أن الله إعتبره كاملاً وكان يتفاخر به كأحد أحبائه وكثيراً ما نشك في محبة الله بينما قلب الله يكون مملوء محبة نحونا، وكل تدبيره لصالحنا ونحن لا نعلم. وهو شعر بعداء الله نحوه في أن الله حوط طريقي فلا أعبر= اي ليس لي طريق للنجاة، فالله يمنع عنه أي منفذ.
أزال عني كرامتي= ثروتي وسلطتي. . . حتي أبنائي أماتهم وهم تاج رأسي. وشكا من أنه تحطم نهائياً بلا أمل في رجوع= قلع مثل شجرة رجائي= كأن الشجرة قلعت من جذورها لكي لا تنبت ثانية. معاً جاءت غزاته= هو إعتبر أن السبئيين. . . الخ مرسلين من الله وشكا من قسوة أقاربه وكل معارفه السابقين= قد أبعد عني إخوتي= فهم إبتعدوا لأنهم إزدروا بي بسبب قروحي. أقاربي قد خذلوني= بينما توقع أيوب منهم أن يقفوا بجانبه في شدته وجدهم قد تخلوا عنه. كرهني كل رجالي= بسبب حالي وقروحي. وحتي خدمه ما عادوا يحترموه أو يطيعوه= نزلاء بيتي وإمائي يحسبونني أجنبياً= عاملوه كأنه غريب ورفضوا الإستجابة له. بل عاملوه بغلظة= بفمي تضرعت إليه، عبدي دعوت فلم يجب. بل حتي إمرأته إشمئزت من رائحة فمه= نكهتي مكروهة عند إمرأتي. وخممت عند أبناء أحشائي= صرت شيئاً مقززاً عند أبناء أحشائي. وأبناء أحشاؤه ربما أحفاده أو أولاد عبيده الذين ولدوا في بيته، لأن أولاده ماتوا كلهم. وشكا من إنحلال جسده= عظمي قد لصق بجلدي. ونجوت بجلد أسناني= هو مثل شائع، فالأسنان ليس لها جلد. فيكون المعني أنه نجا لكنه نجا بحياته فقط بعد ما خسر كل شئ. ويدعوهم أن يتراءفوا عليه ولا يدينوه فيكفيه دينونة الله= لماذا تطاردونني كما الله= أي لماذا تجعلون أنفسكم كالديان الله. لماذا لا تشبعون من لحمي= أكل لحم الإنسان تعبير يعني النميمة، لأن النمام يتلف صيت خصمه كوحش يفترس لحمه.
الأيات 23-29:
“ليت كلماتي الان تكتب يا ليتها رسمت في سفر، ونقرت الى الابد في الصخر بقلم حديد وبرصاص، اما انا فقد علمت ان وليي حي والاخر على الارض يقوم، وبعد ان يفنى جلدي هذا وبدون جسدي ارى الله، الذي اراه انا لنفسي وعيناي تنظران وليس اخر الى ذلك تتوق كليتاي في جوفي، فانكم تقولون لماذا نطارده والكلام الاصلي يوجد عندي، خافوا على انفسكم من السيف لان الغيظ من اثام السيف لكي تعلموا ما هو القضاء”.
نجد أيوب هنا كقيثارة ينفخ فيها الروح القدس فتعزف، وربما لم يفهم أيوب كل ما قاله، لكنه تعزي وتنبأ، ولعل كل ما فهمه أن الله سيبرأه أمام أصدقائه. هنا أيوب كان له شركة الصليب، ومن يشترك مع المسيح في إحتمال الألم والصليب تنفتح عيناه علي أسرار وأمجاد السماء. ففي هذه الكلمات نجد كلام عن المسيح وعن السماء. هنا نجد أيوب مسوقاً بالروح القدس الذي أنار بصيرته ووضع في فمه كلاماً بكيفية أذهلته، وبعد هذه الكلمات هدأت نبرة إنفعال أيوب كثيراً. حقاً هو إشتكي من آلامه بعد ذلك لكن النبرة هدأت وعاصفة الغضب سكنت. والروح القدس وحده هو الذي يعطي هذا العزاء للمتألم. ولقد راي أيوب رؤيا يقينية أراد تسجيلها للأجيال القادمة= ليت كلماتي الآن تكتب. ياليتها رسمت في سفر= أي كتاب. والله حقق له ذلك وكتب كلماته في الكتاب المقدس لتحفظ عبر الأجيال. ومعني كلام أيوب هنا: لقد قلت كلاماً كثيراً بلا معني وأما ما سأقوله الآن كلام خطير ليته يجد طريقه لكل إنسان بأن يسجل. نقرت إلي الأبد في الصخر. . . كانت طريقة الكتابة علي الصخر بأن تنقر الكتابة علي الصخر بقلم جديد ثم يسكب الرصاص المنصهر في مكان النقر فيثبت الكلام لفترات طويلة. أما أنا فقد علمت أن وليي حي= وليي= فاديَ وهذه إشراقة سماوية علي أيوب وسط أحزانه، لقد سبق أيوب وصور الله علي إنه خصم، أما الأن فهو يري المسيح وليه الحي، الذي حتي وإن مات أيوب سيشهد له هذا الولي ويبرره ويشهد ببره، والولي كان له أن يقتص من الجاني، والجاني هنا هو إبليس الذي هزمه ولينا المسيح لينقذنا من يده. والولي بحسب ناموس موسي هو الذي له الحق بأن يفك(يفدي) ما باعه أخوه أو رهنه (لا 25:25). ولقد بيع ميراثنا السماوي بسبب الخطية ونحن عاجزون عجزاً كاملاً عن فكه (فدائه). والمسيح هو ولينا القادر أن يفك، ولقد وفي الدين عنا ووفي عدل الله عن الخطية. وفك الرهن وسوي الميراث. وأيوب يري أن وليه حي لا يموت حتي وإن مات هو فهو قادر أن يسوي المسألة، ولو تركه أصحابه وتخلوا عنه وإتهموه باطلاً فالله يأخذ بيده وينصره. هل يوجد ما يعزي أيوب بقدر هذه الرؤيا العجيبة، أن هنالك فادياً معداً للإنسان الساقط، وهو يسوع المسيح، الذي وإن ترك أيوب كل أحبائه
والآخر علي الأرض يقوم= الآخر تعني إما اليوم الأخير، أو في زمن متأخر بمعني فيما بعد. وبعد ذلك فهمنا من بولس الرسول أن المسيح جاء متجسداً علي الأرض في ملء الزمان. غل 4: 4، 5. وفي العهد القديم كان يسمي وقت ظهور المسيح “اليوم الأخير” والمسيح جاء وتجسد ومات وقام علي الأرض ليفك الدين الذي علينا. وبعد أن يفني جلدي هذا وبدون جسدي أري الله= هذا ما فعله المسيح بفدائه وقيامته أن أعطي لنا إمكانية أن نري الله بعد أن نموت، فالمسيح صالحنا مع الآب السماوي. نلاحظ أن أيوب هنا كان خاضعاً لعمل الروح القدس. ففكرة القيامة بهذه الصورة لم تكن واضحة بل هو تساءل قبل ذلك “إذا مات إنسان أفيحيا”. والجسد الممجد الذي سنحصل عليه بعد القيامة يمكنه أن يري الله. فنحن في هذا الجسد لا يمكننا أن نراه “لا يراني الإنسان ويعيش”. ولعل أيوب في رؤيته رأي شئ عبر عنه بقوله“الذي أراه أنا لنفسى، وعيناي تنظران وليس أخر”= لقد رأي وليه ورأي ما سيفعله وفهم أن ما يراه أكيد، رآه بنفسه ولم يحكيه له أحد. ففرح وتهلل فقال= إلي ذلك تتوق كليتاي في جوفي= أي بعد أن رأيت ما رأيت فكل مشاعري داخلي، (فالكلي مركز العواطف هي والقلب والأحشاء) أصبحت متجهة لهذا اليوم الذي يأتي فيه هذا الولي.
وبعد الذي رآه وجه تحذيراً لأصحابه حتي يهدئوا هجومهم عليه وعلمهم ماذا يقولون الآن لماذا نطارده= ونهاجمه ونحزنه ونغيظه بإنتقاداتنا. وذلك لأن أيوب تأكد أن الله سوف يبرره أمام أصدقائه وسيكتشفون بعد ذلك صدق أيوب= والكلام الأصلي يوجد عندي= ربما يشير لرؤيته التي رآها أنها حقيقية وأصبح عنده الآن رؤية واضحة
خافوا علي أنفسكم من السيف= اي سيف عدل الله. لأن الغيظ من أثام السيف= أي غيظهم وكلامهم الشرير ضد أيوب من الأثام التي تستحق عقوبة السيف أي غضب الله. فعليهم أن يخافوا ويكفوا عن ظلمهم لأيوب، فإذا لم تكفوا عن إتهاماتكم فسوف يأتي سيف غضب الله وستعلمون أنه قاضي عادل وقد حكم عليكم= لكي تعلموا ما هو القضاء.
تفسير أيوب 18 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم |
تفسير أيوب 20 |
القمص أنطونيوس فكري | |||
تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |