تفسير سفر أيوب ٢١ للقمص أنطونيوس فكري

تفسير سفر أيوب – الإصحاح الحادي والعشرون

 

نجد هنا رد أيوب علي صوفر. وفيه يصر أيوب علي كلامه أن الله قد يسمح بالألم للأبرار.

الأيات 1-5:

“فاجاب ايوب وقال، اسمعوا قولي سمعا وليكن هذا تعزيتكم، احتملوني وانا اتكلم وبعد كلامي استهزئوا، اما انا فهل شكواي من انسان وان كانت فلماذا لا تضيق روحي، تفرسوا في وتعجبوا وضعوا اليد على الفم”.

إسمعوا لي سمعاً وليكن هذا تعزيتكم= أنا فقدت الأمل أن أسمع منكم كلمة تعزيتي، وما يعزيني الأن أن تسمعوا فقط لي ما أود أن أشرحه لأدافع عن نفسي.

هل أشكو من إنسان= أنا لا أشكو من أن السبئيين أو الكلدانيين إعتدوا عليَ. بل أنا أشعر أنني في يد الله، وكل ما حدث بسماح منه، وشكواي هي لماذا سمح الله بهذا؟ لماذا غضب عليَ. وإن كانت فلماذا لا تضيق روحي= تضيق روحي، أي ينفذ صبري. والمعني أنه لو كانت شكواي من إنسان ما كنت قد فقدت صبري وهدوئي لأنه كان سيكون لي حينئذ رجاء أن ينصفني الله، لكن سبب ألامي حقيقة هو أنني أشعر بتخلي الله عني وعدم رضائه عليَ، وإذا رفضني الله فلمن ألجأ؟ هذا سبب ضيقي. تفرسوا فيَ وتعجبوا= أنظروا للحال الذي وصلت إليه وتعجبوا كيف حدث هذا، بل سترون سبب ضيقي. عندما أتذكر أرتاع= عندما أذكر ذلك اليوم المرعب الذي خسرت فيه كل شئ. وأخذت بشري رعدة= بشري أي جسدي.

الأيات 7-16:

“لماذا تحيا الاشرار ويشيخون نعم ويتجبرون قوة، نسلهم قائم امامهم معهم وذريتهم في اعينهم، بيوتهم امنة من الخوف وليس عليهم عصا الله، ثورهم يلقح ولا يخطئ بقرتهم تنتج ولا تسقط، يسرحون مثل الغنم رضعهم واطفالهم ترقص، يحملون الدف والعود ويطربون بصوت المزمار، يقضون ايامهم بالخير في لحظة يهبطون الى الهاوية، فيقولون لله ابعد عنا وبمعرفة طرقك لا نسر، من هو القدير حتى نعبده وماذا ننتفع ان التمسناه، هوذا ليس في يدهم خيرهم لتبعد عني مشورة الاشرار”.

 أيوب يوافق علي أن الله يبغض الشرير ويعاقبه ولكنه يتساءل لماذا تنجح طريق الأشرار في بعض الأحيان، وهذا التساؤل ظل يسأله قديسو الله عبر العصور(مز 3:73-12 + أر 1:12، 2) ولكن حكمة الله لن ندركها بعقولنا المحدودة الآن. لماذا تحيا الأشرار ويشيخون= كانت أمام عينيه صورة أولاده الذين ماتوا شباباً، بينما أن هناك أشرار يعيشون حتي سن كبير فينالون كرامة لطول عمرهم. بل يصلون لمناصب عالية فتكون لهم قوة= ويتجبرون قوة.

“والله يسمح في بعض الأحيان بنجاح الأشرار ليس لأنه أغمض عينيه عنهم، بل لأن مكيال أثامهم لم يمتلئ بعد، والله يعطي لكل خاطئ زماناُ ليتوب فإن لم يتب تأتيه الضربات رؤ 21:2-23. وهو يطيل أناته علي الخاطئ لعله يتوب رو 4:2-6 وقد يحفظ الله الضربات للأشرار حتي اليوم الأخير رو 4:2-11. ولكن هلاك الشرير الذي يستمر علي شره ولا يتوب مؤكد مز 17:73-20. ولكن لكل شئ وقت”

وأيوب يري أن الأشرار في سلام. ونسلهم قائم أمامهم. بينما أولاده هو ماتوا. وهم أغنياء وأملاكهم متزايدة وكمثال ثورهم يلقح ولا يخطئ. وهم في فرح يسرحون رضعهم مثل الغنم= أي يلعبون ويفرحون بأعداد وفيرة. وأولادهم يقفزون في فرح حولهم كما تقفز الغنم حول راعيها في المرعي. يقضون أيامهم بالخير= نجاحهم دائم ومستمر. وفي لحظة يهبطون إلي الهاوية= أي يموتون فجأة بلا أمراض ولا ألام، والموت في لحظة يعتبره أيوب ميزة ونعمة، فهم لا يعانون كما يعاني هو ألاماً مبرحة. فالأشرار في نظر أيوب حتي موتهم يكون وسط فرحهم. وبالرغم من كل غناهم فهم يزدادون وقاحة وبعداً عن الله= يقولون لله إبعد عنا= رغبة الشرير أن يختفي الله من حياته فهو لا يريد من يذكره بشره ويؤنبه، أو الشرير يتصور أن الله غير موجود كما فعل الملحدين فى أيامنا هذه وأنكروا وجود الله. وهم فى غناهم يتصورون أنهم لا يحتاجون لله. وبمعرفة طرقك لا نسر= الشرير الذي يفرح بخطيته لا يستجيب أبداً لأي نداء بالتوبة والرجوع لله. ويتكلمون بإستخفاف عن الله= من هو القدير حتي نعبده= كأنه شخص لا شأن لهم به، ولا شأن له بهم، فلماذا يعبدونه، وهذا منطق كثيرين حتي اليوم. . . لماذا التدين، نريد أن نحيا مثل سائر البشر؟! فهم لا يرون أي نفع مادي يعود عليهم من التدين= وماذا ننتفع إن التمسناه= فهم لا يفكرون سوي في النفع المادي. ثم يعلن أيوب عدم موافقته علي أرائهم حتي لا يتصور أصحابه أنه يوافق علي شرورهم فقال هوذا ليس في يدهم خيرهم= هم حمقي إذ تصوروا أن خيراتهم وقوتهم مصدرها أياديهم، هم مصدر غناهم وليس الله تث 17:8. وحتي يؤكد رفضه لمبادئ الأشرار قال= لتبعد عني مشورة الأشرار فمهما كان نجاحهم فأنا لا أريده، فلا أريد أن أكون مثلهم، إن كان النجاح لا يأتي سوي بالشر. . . . هذه الآية تشبه قولنا الأن. . . “الله الغني”

الأيات 17-26:

“كم ينطفئ سراج الاشرار وياتي عليهم بوارهم او يقسم لهم اوجاعا في غضبه، او يكونون كالتبن قدام الريح وكالعصافة التي تسرقها الزوبعة، الله يخزن اثمه لبنيه ليجازه نفسه فيعلم، لتنظر عيناه هلاكه ومن حمة القدير يشرب، فما هي مسرته في بيته بعده وقد تعين عدد شهوره، االله يعلم معرفة وهو يقضي على العالين، هذا يموت في عين كماله كله مطمئن وساكن، احواضه ملانه لبنا ومخ عظامه طريء، وذلك يموت بنفس مرة ولم يذق خيرا، كلاهما يضطجعان معا في التراب والدود يغشاهما”.

 كم مرة ينطفئ سراج الأشرار= أيوب هنا يستنكر ويشكك في مبادئ أصحابه الذين أكدوا وجوب إنطفاء سراج الأشرار، وهو هنا يسألهم كم مرة رأيتم هذا. . . هو يتكلم وأمام عينيه السبئيين والكلدانيين يفرحون بما إغتصبوه. كم مرة رأيتم أن الأشرار يأتي عليهم بوارهم= أي يخربون، كم مرة رأيتم الله يقسم لهم أوجاعاً في غضبه. كم مرة رأيتم هؤلاء الأشرار يكونون كالتبن قدام الريح. وكالعاصفة التي تسرقها الزوبعة= (العاصفة ليست هي الريح العاصفة بل معني الكلمة العصافة أي التبن الجاف حين تقوم الزوبعة فتعصف به). هنا أيوب كأنه يريد أن يقول لهم. . . هناك فرق يا أصحابي بين المعلومات النظرية والخبرة العملية فنظرياً يهلك الأشرار لأنهم في خطاياهم يغيظون الله البار القدوس الذي لا يحتمل شرورهم، ولكن عملياً لا نري هذا، فكم مرة رأيتم هلاك شرير كما قلتم “لقد قلتم يا أصحاب” الله يخزن إثمه لبنيه= أي الله يفتقد إثم الأباء في الأبناء بل هو يري عقوبة الله ضده بنفسه= ليجازه نفسه فيعلم= أي يعلم ان الله يعاقبه علي شروره. لتنظر عيناه هلاكه، ومن حمة القدير يشرب= في رأيكم يا أصحاب أن الشرير لابد وينظر هلاك الله النازل علي رأسه، ولابد أن يشرب من كأس غضب الله (حمة القدير). وفي رأيكم أن الشرير تكون أيامه قصيرة= قد تعين عدد شهوره. وبعد ذلك يموت فجأة ولا يعود يري مسرات بيته= فما هي مسرته في بيته بعده. يا أصحاب كل هذه معلومات نظرية، فهل تحققتم من هذا؟!

أألله يُعَلَم معرفة وهو يقضي علي العالين= أنتم يا أصحاب بوضعكم نظريات كأنكم تعلمون الله كيف يتصرف، هل تفرضون علي الله أن يسلك بحسب الكمال الذي ترونه أنتم، يا أصحاب عليكم أن تقبلوا الواقع وتعلمون أن حكمة الله تفوق حكمتكم، وسلموا بأن كل تصرف لله هو الحق والتصرف السليم حتي ولو إختلف مع معلوماتكم النظرية. فليس من التقوي أن نعلم الله كيف يدين البشر، فحين نري إنسان شرير فيجب أن الله يقتص منه فوراً، لا يجب أن نفرض علي الله مبادئنا، أو الطريق الذي به يقضي علي المتكبرين الأشرار= يقضي علي العالين ولتعلموا يا أصحاب أن الله حر في أن يجعل الشرير يموت في عين كماله= أي وهو في صحته وإزدهار ثروته= وأحواضه ملأنة لبناً اي خيراته وفيرة. ومخ عظامه طري= أي وهو في أتم صحة. والله حر أيضاً أن يجعل البار يموت بنفس مرة وفي قول أيوب هذا إشارة إلي نفسه. ولكن يا أصحاب فالإثنين سواء البار الذي تألم أو الشرير الذي تنعم فكلاهما في التراب واحد، هذا لا يعود يذكر مرارته وذاك لا يعود يذكر تنعمه، وكلاهما يستعد لدينونة الله النهائية.

الأيات 27-34:

 “هوذا قد علمت افكاركم والنيات التي بها تظلمونني، لانكم تقولون اين بيت العاتي واين خيمة مساكن الاشرار، افلم تسالوا عابري السبيل ولم تفطنوا لدلائلهم، انه ليوم البوار يمسك الشرير ليوم السخط يقادون، من يعلن طريقه لوجهه ومن يجازيه على ما عمل، هو الى القبور يقاد وعلى المدفن يسهر، حلو له مدر الوادي يزحف كل انسان وراءه وقدامه ما لا عدد له، فكيف تعزونني باطلا واجوبتكم بقيت خيانة”.

 هوذا قد علمت أفكاركم= إذ رأي أنهم لا يزالون متمسكين بفكرة وجوب هلاك الأشرار كما حدث لأيوب، وعلم أنهم لم يوافقوا علي ما يقوله، وأنهم مصرين أن يحكموا بأنه شرير= النبات التي بها تظلمونني. لأنكم تقولون أين بيت العاتي= أي أين بيت أيوب الظالم الشرير أو أين بيوت أولاده، أين خيمة مساكن الأشرار أفلم تسألوا عابري السبيل= أي أن أرائي يعرفها ويؤيدها كل إنسان حتي عابري السبيل، كل شخص محايد يؤيدني، كان أيوب في ثقته من عدالة قضيته علي إستعداد أن يقبل حكم اي عابر سبيل كشخص محايد. ولم تفطنوا لدلائلهم= لكنكم في عنادكم وحتي تثبتوا شري لن تفطنوا أن ملاحظات كل البشر متفقة مع ما أقوله. ثم يؤكد أيوب فكرة هلاك الأشرار لكن ذلك محفوظ لليوم الأخير، يوم الدينونة أو اليوم الذي يحدده الله حسب ما يري الله وليس كما يحدد الإنسان، فهم يتصورون أن هلاك الشرير يجب أن يأتي فجأة= أنه ليوم البوار يمسك الشرير. أي يستمر الشرير في نجاحه لفترة طويلة حتي يأتي ذلك اليوم الذي حدده الله لبواره. ولكن خلال إزدهاره يخافه الناس، ويخشون أن يعلنوا له شره= من يعلن طريقه لوجهه أي أنه في حياته يكون مطمئن فهو جبار عاتي. وحتي في موته يسير الجميع في جنازته، بل تكون جنازته فخمة، وقبره في أبهة= هو إلي القبور يقاد، وعلي المدفن يُسهر= يسهرون لحراسة قبره حتي لا يسرق اللصوص الكنوز المدفونة معه. بل حتي الطين المدفون فيه يعتنون بزهوره ورياحينه، فيكون رائحته حلوة= حلوٌ له مدر الوادي. ولاحظ جنازته يزحف كل إنسان وراءه. أو أن المعني قد سبق موته ملايين البشر وسيموت بعده الملايين فالموت طريق الجميع. فكيف تعزونني باطلاً= كل ما قلتموه عن وجوب هلاك الأشرار كلام فارغ. وأجوبتكم بقيت خيانة= أي في إثبات شري، هذا فيه خيانة للصداقة، وفيه تعد علي الله فأنتم تريدون إملاء نظرياتكم الباطلة علي الله.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى