تفسير سفر أيوب ٢٣ للقمص أنطونيوس فكري

تفسير سفر أيوب – الإصحاح الثالث والعشرون

 

الأيات 1-7:

“فاجاب ايوب وقال، اليوم ايضا شكواي تمرد ضربتي اثقل من تنهدي، من يعطيني ان اجده فاتي الى كرسيه، احسن الدعوى امامه واملا فمي حججا، فاعرف الاقوال التي بها يجيبني وافهم ما يقوله لي، ابكثرة قوة يخاصمني كلا ولكنه كان ينتبه الي، هنالك كان يحاجه المستقيم وكنت انجو الى الابد من قاضي“. نجد هنا رد أيوب علي أليفاز. ونلاحظ أن أيوب بعد أن كان قد هدأ عاد للشكوي مرة أخري والسبب إثارة أليفاز له بإصراره علي الإتهام السابق فرفض أيوب الإستسلام لإتهامات أصحابه وبدأ يدافع عن نفسه. وهذا ما يسمي صراع الروح مع الجسد. فالروح كان نشطاً بسبب عمل الروح القدس فيه الذي أعطاه رؤية الولي الحي الذي يشهد له في السماء. ولكن الجسد إستجاب مرة أخري للغضب بسبب إتهامات الأصحاب. ونلاحظ أن أيوب لو كان قد دان نفسه فعلاً وإعترف أمام الله بخطيته لما أعطي الفرصة للجسد أن يهزمه فيثور مرة أخري، بل لأعطي الفرصة للروح القدس أن يبقيه في حالة السلام والفرح.

اليوم أيضاً شكواي تمرد= لقد إعتبر الأصحاب شكوي أيوب أنها تمرد ضد الله بلا سبب. أما أيوب فيقول أأنا أشكو بلا سبب إن ضربتي أثقل من تنهدي= أي ألامي أكثر بكثير مما قلته. من يعطيني أن أجده= أيوب يتمني أن يري الله ويقف أمام كرسي قضائه فهو كان واثقاً من عدالة قضيته. وكان واثقاً أنه سوف يسمع الحكم وأنه في مصلحته فإشتاق أن يسمعه= فأعرف الأقوال التي بها يجيبني، أبكثرة قوة يخاصمني= كان أيوب هنا واثقاً أن الله لن يرهبه بمجده في تلك المحاكمة، ولن يكون قاسياً معه كما كان أصحابه في منتهي القسوة في مناقشاتهم وبالعكس فالله كان ينتبه إليَ= يشددني ويشجعني ويعطف عليَ لكي أستمر في كمالي.

ومن ثقته في نتيجة المحاكمة قال. هنالك كان يحاجه المستقيم وكنت أنجو= أي أمام محكمة الله في السماء سوف أتناقش وأثبت إستقامتي وبري. وأخذ حكم البراءة للأبد.

الأيات 8-12:

“هانذا اذهب شرقا فليس هو هناك وغربا فلا اشعر به، شمالا حيث عمله فلا انظره يتعطف الجنوب فلا اراه، لانه يعرف طريقي اذا جربني اخرج كالذهب، بخطواته استمسكت رجلي حفظت طريقه ولم احد، من وصية شفتيه لم ابرح اكثر من فريضتي ذخرت كلام فيه”.

 اللسان بالنسبة للجسد كالدفة بالنسبة للسفينة، يقود الجسد حيث يشاء. (يع3). ولقد بدأ أيوب بلسان الشكوي ثانية وها نحن نجده يعود للكلام القاسي عن الله. وهنا يشكو أيوب من أنه لا يجد الله، هو يتمني أن يظهر أمام محكمة الله ليظهر براءته، ولكن المشكلة أنه لا يجد الله ليبرر نفسه أمامه، وهو بحث شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً فلم يجده، وكان خطأه أنه لم يبحث عن الله في الأعالي، هو لم ينظر إلي فوق، خطأ أيوب أنه بحث عن الله في مستواه. وخطأه الثاني أنه لم ينظر إلي داخله ليري شروره. والطريق للتبرير ليس بأن أدافع عن نفسي أمام الله لأثبت له بري، بل أن أقترب لله القدوس العالي الذي فوق وأشعر أنني تراب ورماد وخاطئ نجس ومحتاج للتبرير من الله، والله هو الذي يبررني، لذلك خرجت المرأة الخاطئة التي بكت وبللت قدمي المسيح بدموعها ومسحت قدميه بشعر رأسها، خرجت مبررة، أما الفريسي الذي هو في نظر نفسه بار لم يتبرر أمام الله بالرغم من أنه أولم وليمة للمسيح. وخرج العشار مبرراً حين قال اللهم إرحمني أنا الخاطئ ولم يتبرر الفريسي الذي تباهي ببره. مشكلة الإنسان أنه يريد أن يبرر ذاته أمام الله كأن البر يأتي من داخلي وبأعمالي، والحقيقة أن الله هو الذي يبرر، إذا شعر الإنسان بإحتياجه لهذا التبرير. وما صنعه أيوب هنا صنعه يوحنا أيضاً في سفر الرؤيا، فهو أخذ يبحث عمن هو مستحق أن يفتح السفر ويفك ختومه ولما لم يجد بكي كثيراً فنبهه الملاك أنه بحث كثيراً في مستواه ولم يجد، ولكن عليه أن ينظر للمسيح، الأسد الخارج من سبط يهوذا، ثم نظر يوحنا للأسد الذي قال عنه الملاك فوجد خروف قائم كأنه مذبوح، هذا هو الأسد الذي له الحق أن يفتح ولا أحد يغلق، وهو الذي يبرر بأن ذبح وإشترانا (رؤ 1:5-14). وطريق التبرير الأن أن نعترف بخطايانا، وأننا لسنا أبراراً من أنفسنا، ونشعر في داخلنا بعدم الإستحقاق، والإحتياج لدم هذا الفادي، ودمه يطهرنا (1يو 7:1-9)

هأنذا أذهب شرقاً. . . . شمالاً حيث عمله فلا أنظره، يتعطف الجنوب فلا أراه= وكلمة يتعطف الجنوب أي يستتر بالجنوب أو يتغطي به. ففي نظر القدماء أن الجنوب مجهول ومكان ظلام، أما الشمال فهو مكان العمل. فكأن المعني أنني لا أجد الله في أي مكان لا في الشرق ولا في الغرب، لا في الشمال حيث تظهر أعمال الله (ونحن يجب أن نري الله من خلال أعماله وعنايته) ولا في الجنوب حيث إرتدي ثوب الإختفاء، أو إرتدي الجنوب كثوب يختبئ فيه. ومع أنه لا يجد الله ليقدم قضيته أمامه، إلا أنه متأكد من بره وكماله. إذا جربني أخرج كالذهب. [ولنلاحظ فعلاً أن الله يختبر أولاده ويؤدبهم بالتجارب، وتكون التجارب كنار ممحصة تنقيهم كما تنقي النار الذهب من شوائبه، لكن أيوب لا يقولها بهذا المفهوم، ولكن معني كلامه أنني بار وإن إختبرني الله سيجدني باراً]

أكثر من فريضتي ذخرت كلام فيك= الفريضة هي الطعام الضروري. فأيوب يقول أنه حفظ وكنز كلام الله أكثر من قوته، اي إهتم بحفظ وصايا الله أكثر من طعامه. وهذا ما يعلمنا إياه الكتاب فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بكل كلمة تخرج من فم الله. وكلمة ذخرت تعني”كما يذخر القوم المؤونة وقت الحصار”

الأيات 13-17:

“اما هو فوحده فمن يرده ونفسه تشتهي فيفعل، لانه يتمم المفروض علي وكثير مثل هذه عنده، من اجل ذلك ارتاع قدامه اتامل فارتعب منه، لان الله قد اضعف قلبي والقدير روعني، لاني لم اقطع قبل الظلام ومن وجهي لم يغط الدجى”.

لأن أيوب بدأ بالتبرم والشكوي، إنزلق لتبرير نفسه، ومن ثم هوي أكثر إلي الصدام مع الله. ولذلك علي الإنسان المتألم أن يصلي طالباً المعونة وأن يسلم لله فيجد سلاماً، هذا أفضل من الشكوي التي تزيد النفس مرارة، فالصبر يقود لحال أفضل. وهنا نجد أيوب يفسر آلامه بالرغم من بره بأن الله سيد له سلطان مطلق وفي سلطانه إن أراد أن يعذب بار ولا يستطيع أحد أن يقول له لا تفعل، وفي هذا منتهي القسوة علي الله. أما هو فوحده فمن يرده= هو له خطته التي لا تتغير ولا أحد يستطيع أن يقنعه ببري فيتوقف عن تعذيبي. لأنه يتمم المفروض علي= فهو سيتمم ويكمل كأس عذابي المفروض علي بلا رجوع. وكثير مثل هذه عنده= وما زال لديه الكثير من الآلام التي سيعذبني بها. من أجل ذلك أرتاع= مسكين أيوب فبعد أن بدأ الله يسكب تعزياته في قلبه، عاد وإنهزم وبدأ الشكوي ففقد سلامه ودخله الرعب. وهناك قانون يجب أن نعرفه. تعزيات الله وسلامه ينسكبان في النفس خلال قناة واحدة هي الثقة في الله والتسليم له= أي الإيمان بأنه إله صالح خير. أما الصدام مع الله فلا نتيجة منه سوي الإحساس بالمرارة.

لأن الله قد أضعف قلبي= بالكوارث التي أتت واحدة تلو الأخري، والخوف من كوارث أشد ينتظرها في المستقبل. وأشد كارثة في نظره أنه لم يمت حتي الأن= لأني لم أقطع قبل الظلام= أي لم يمت قبل أن تحل به متاعبه. ومن وجهي لم يغط الدجي ولا من الدجي التي تغشى وجهي (اليسوعيين). أي كنت أتمني أن أموت قبل أن تأتي علي هذه الضربات التي مثل الظلام وقبل أن تغطي وجهي مثل الدجي (الظلام).

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى