تفسير سفر أيوب ٢٨ للقمص أنطونيوس فكري

تفسير سفر أيوب – الإصحاح الثامن والعشرون

 

كان أيوب وأصحابه يتناقشون حول طرق وأسباب تصرفات العنآية الإلهية في إدارة العالم. فقال أيوب وكيف بحكمتنا المحدودة نتكلم عن حكمة الله اللانهائية وكيف نفهم مشورات الحكمة الإلهية. هذا الإصحاح فيه نغمة مختلفة عن كل ما سبق. أيوب هنا لا يتكلم عن آلامه بل عن حكمة الله غير المحدودة. أيوب هنا يعترف أن حكمة الله لا تناقش ويعطي أدلة عديدة علي حكمة الله. ويقول أن الحكمة ثمنها لا يقدر. ولقد سبق صوفر وتمني ان أيوب تعلن له خفيات الحكمة 6:11 وهنا يرد عليه أيوب بأن هناك أنواع من الحكمة:-

  1.       حكمة علمها الله للإنسان ليستعمل الأرض وما فيها من كنوز  (1-11)
  2.       حكمة إلهية ثمنها عظيم وهي خفية علي البشر         (12-27)
  3.       حكمة معلنة لبني البشر وهي مخافة الرب    (28)

وبالنسبة للأولي فقد أودع الله هذه الحكمة للإنسان لكي يعيش، فصار في قدرة الإنسان أن يزرع ليأكل ويستخدم المناجم. . . . إلخ. وأما الحكمة الإلهية غير المعلنة فهذه لم يعلنها الله لأننا لم نفهمها ولن نفهمها الأن، ولكن علينا بالتسليم بأن كل الأمور الحادثة هي بحكمة خاصة إلهية. وبالنسبة للإنسان فهناك حكمة من نوع ثالث إكتشفها القديسون ولا يعبأ بها الأشرار، وهي مخافة الرب ومن يتبع هذه الحكمة تكون له السماء نصيباً، ويحيا في بركة الله علي الأرض.

الأيات 1-11:- “لانه يوجد للفضة معدن وموضع للذهب حيث يمحصونه، الحديد يستخرج من التراب والحجر يسكب نحاسا، قد جعل للظلمة نهاية والى كل طرف هو يفحص حجر الظلمة وظل الموت، حفر منجما بعيدا عن السكان بلا موطئ للقدم متدلين بعيدين من الناس يتدلدلون، ارض يخرج منها الخبز اسفلها ينقلب كما بالنار، حجارتها هي موضع الياقوت الازرق وفيها تراب الذهب، سبيل لم يعرفه كاسر ولم تبصره عين باشق، ولم تدسه اجراء السبع ولم يعده الزائر، الى الصوان يمد يده يقلب الجبال من اصولها، ينقر في الصخور سربا وعينه ترى كل ثمين، يمنع رشح الانهار وابرز الخفيات الى النور”.

 الحكمة التي أودعها الله لكل البشر :- بواسطة هذه الحكمة الإنسانية إكتشف الإنسان الثروات المختبأة في باطن الأرض

يوجد للفضة معدن= معدن جاءت “عرق” في الإنجليزية. بمعني أن الإنسان توصل لإستخراج هذه المعادن النفيسة من باطن الأرض (فضة/ ذهب/ حديد/ نحاس)

الحجر يسكب نحاساً= أي يحصل الإنسان علي النحاس بأن يصهر الخام (الحجر) فالحجر إذاً هو خام النحاس. قد جعل للظلمة نهآية= ظلمة المناجم لم تمنع الإنسان من الوصول لأعماق المناجم، بل هو وضع بحكمته نهآية لظلمتها ووصل لأعماقها وفحصها.

وإلي كل طرف يفحص= “بحثوا في كل قصي” (في ترجمة اليسوعيين). أي أن الإنسان في بحثه عن المعادن ذهب لكل مكان. حجر الظلمة= أي خام المعادن الموجود في ظلمات المناجم. وظل الموت= كم من أخطار تواجه عمال المناجم حتي أيامنا هذه، لكن الإنسان لم يمتنع عن إستخدام المناجم. متدلين. . . . يتدلدلون= كانوا يحفرون حفراً في الجبال ثم يتدلون فيها مربوطين بحبال، إلي أعماق كبيرة. وهذه المناجم في أماكن مسكونة= بعيداً عن السكان. أرض يخرج منها الخبز أسفلها ينقلب كما بالنار= تناقض بين ما هو أعلي المناجم وهي أرض زراعية وما يحدث أسفلها من تنقيب وتكسير. وهم قلبوا باطنها كما لو كان قد تم تدميره بالنار. التصوير هنا، أن الإنسان لو إكتشف منجماً في أرض زراعية سيقلب هذه الأرض ويحفر المنجم وتتحول الأرض الزراعية إلي خراب، وأفران للصهر. ويتركون بقايا أفران الصهر علي الأرض الزراعية فتخرب تماماً. حجارتها هي موضع الياقوت الأزرق. . . والذهب= ما يدفع الإنسان لقلب الأرض الزراعية أنه عرف كيف يستخرج من باطنها الجواهر والذهب.

سبيل لم يعرفه كاسر، ولم تبصره عين باشق= النسور (كاسر/باشق) مشهورة بحدة البصر، فهي تري الفريسة من أبعاد كبيرة. وبالرغم من هذا فعيون النسر لم تكتشف هذه المناجم. ولم تدسه أجراء السبع ولم يعده الزائر= الزائر هو الأسد لأنه يزأر. أي الأسد بالرغم من قوته لم يستطع حفر منجم من هذه المناجم ومعني الأيتين أن الإنسان بالرغم من أنه ليس له حدة بصر النسر ولا قوة الأسد إلا أنه بحكمته إستطاع الحصول علي المعادن الثمينة والجواهر من باطن الأرض. فالنسور والأسود بالرغم من قواها الطبيعية الخارقة عاجزة عن إقتناء الحكمة التي أعطاها الله للإنسان ليستغل بها الأرض التي يحيا عليها. إلي الصوان يمد يده= إشارة للصعوبات التي يجدها عمال المناجم في حفرها. ينقر في الصخور سرباً= أي ينشئ سراديب وأنفاق في داخل المناجم وذلك لأن عينه تري كل ثمين يمنع رشح الأنهار= إخترع الإنسان طرقاً لمنع رشح الأنهار حتي لا تفسد المناجم وذلك ليستخرج من باطنها كل ما هو ثمين وأبرز الخفيات إلي النور.

ولكن بالرغم من كل حكمة الإنسان هذه فهو عاجز عن أن يفهم حكمة الله، ولماذا يسمح بالشر للأبرار والعكس. فهناك نوع أخر من الحكمة وهو الحكمة الإلهية ومن له هذه الحكمة يفهم

  1.       أنه إن كان الذهب والفضة يجتهد الإنسان ليحصل عليهم ويحتمل في سبيل هذا كل هذه المشقات، فكم ينبغي أن نجتهد ليكون لنا النصيب السماوي ميراثاً.
  2. كيف نفهم حكمه الله، لندرك لماذا يعاقب الأبرار والعكس؟ هذه لايمكن أن ندركها بعقولنا المحدودة، فأسرار الله لا يعلنها سوى لأحبائه.
  3. 3.       كيف نكون محبوبين من الله حتي يعلن لنا أسراره

أ)        أن نجتهد ونغصب أنفسنا في جهادنا الروحي فملكوت السموات يغصب مت 12:11.

ب)      أن نخاف الله ولا نغضبه أي 28:28

حـ)     بقدر ما نجتهد يكون ما نحصل عليه أثمن. فبمجهود قليل يحصل الفلاح علي القمح بزراعة الأرض. ولكن لكي يحصل علي الجواهر والذهب فالمجهود أكبر.

الأيات 12-19:- “اما الحكمة فمن اين توجد واين هو مكان الفهم، لا يعرف الانسان قيمتها ولا توجد في ارض الاحياء، الغمر يقول ليست هي في والبحر يقول ليست هي عندي، لا يعطى ذهب خالص بدلها ولا توزن فضة ثمنا لها، لا توزن بذهب اوفير او بالجزع الكريم او الياقوت الازرق، لا يعادلها الذهب ولا الزجاج ولا تبدل باناء ذهب ابريز، لا يذكر المرجان او البلور وتحصيل الحكمة خير من اللالئ، لا يعادلها ياقوت كوش الاصفر ولا توزن بالذهب الخالص”.

 بعد أن تحدث أيوب عن النوع الأول من الحكمة، يتحدث هناعن النوع الثاني، وهو الحكمة الإلهية التي يعطيها الله لمحبيه. فالله أعطي حكمة لكل البشر بها يعيشون ويأكلون ويستخرجون من الأرض كل ثمين. ولكن هناك حكمة إلهية لا يأخذها سوي الخاصة الذين أحبوا الله فأحبهم الله وأعطاهم.

أما الحكمة فمن أين توجد= لا يستطيع الإنسان العادي أن يحصل عليها. لا يعرف الإنسان قيمتها= جاءت في السبعينية طريقها. والمعنيين متكاملان، فلو عرف قيمتها لكد وتعب وإجتهد حتي يعرف طريقها ليحصل عليها. ولكن قليلين هم الذين عرفوا قيمتها الحقيقية. لا توجد في أرض الأحياء= لا يستطيع إنسان علي الأرض أن يدلك عليها، فمصدرها هو الله وحده، نحصل عليها من الكتاب المقدس ودراستنا فيه، بصلواتنا، بأصوامنا، نحصل عليها إن كنا نحب الله ونصنع كل هذا بمحبة.

الغمر يقول ليست هي فيَ= الغمر هو البحر المحيط بالأرض حسب رأي القدماء. البحر يقول ليست هي عندي= فهي أعمق من أعماق المحيطات، فإذا كان الإنسان عاجزاً عن الوصول لأعماق البحر فهل يصل لأعماق حكمة الله. وهي أثمن من أثمن ما علي الأرض، فأثمن ما علي الأرض(ذهب/ فضة/ جزع/ ياقوت أزرق/ مرجان. . . الخ) كل هذا لا ينفع الإنسان سوي في حياته علي الأرض وهي أيام قليلة، أما الحكمة الإلهية فهي تنفع الإنسان علي الأرض وفي السماء، فهي تعطيه ميراث السماء وأيوب هنا ذكر أثمن أنواع اللاليء والجواهر، وكانت هذه موجودة بكثرة في الأثار المصرية. ولندرة الزجاج إعتبرت الأواني الزجاجية والبلور شيئاً ثمنياً كاللآليء.

ولقد أعطي الله لكنيسته وشعبه أن يحل عليهم الروح القدس، روح الحكمة ليكشف لهم أسرار عجيبة 1كو 6:2-16. والروح القدس هو روح الحكمة أش 2:11

الأيات 20-28:- “فمن اين تاتي الحكمة واين هو مكان الفهم، اذ اخفيت عن عيون كل حي وسترت عن طير السماء، الهلاك والموت يقولان باذاننا قد سمعنا خبرها، الله يفهم طريقها وهو عالم بمكانها، لانه هو ينظر الى اقاصي الارض تحت كل السماوات يرى، ليجعل للريح وزنا ويعاير المياه بمقياس، لما جعل للمطر فريضة ومذهبا للصواعق، حينئذ راها واخبر بها هياها وايضا بحث عنها، وقال للانسان هوذا مخافة الرب هي الحكمة والحيدان عن الشر هو الفهم”.

 فمن أين تأتي الحكمة= أيوب يكرر السؤال، فهو سبق وتساءل نفس هذا السؤال في آية(12). وذلك لأهمية السؤال. ويشرح ثانية إستحالة أن يصل إليها الإنسان بمفرده. إذ أخفيت عن عيون كل حي= مهما بلغت فلسفتهم ومعلوماتهم. وسترت عن طير السماء. لأن الحكمة عالية جداً، والطير يطير عالياً، فهذا تشبيه يريد به القول، حتي وإن إرتفعت مثل طيور السماء لن تجدها فهي أعلي بكثير. الهلاك والموت يقولان= الهلاك هو مكان هاوية الأشرار والموت هو مكان هاوية الأبرار. والمقصود أن حتي من ماتوا لا يدركونها بأذاننا قد سمعنا خبرها. هم سمعوا بخبرها ولكنهم لم يدركوها. والله وحده هو الذي يعرفها= الله يفهم طريقها، ومعرفة الله كاملة وهو يدير العالم وحده فهو الذي يري وينظر إلي أقاصي الأرض. ليجعل للريح وزناً. ويعاير المياه بمقياس= فالله وحده الذي يعرف كل شئ يحدد حركات الريح والمياه ليجعلها رياحاً مدمرة أو ريح لطيفة منعشة، فيضان كله خير للزراعة، أو فيضان مدمر، أو جفاف. حكمة الله لن ندركها ولكنه وهو الذي يري كل شئ، قادر أن يضبط الكل.

حينئذ رآها وأخبربها= الله وحده الذي رأي الحكمة وعرفها، ورسم خطة دقيقة لكل أعماله من البدآية للنهآية، والله وضع خطة يسير بمقتضاها الكون منذ الأزل فالأن لا شئ يسير عشوائياً بل بمقتضي خطة دقيقة. هيأها وأيضاً بحث عنها الله هيأ كل الأمور بحيث يسير كل شي بحسب خطته الإلهية المحكمة. وبحث عنها أي أعلنها بحيث تكون ظاهرة للناس. “فالسموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه” (وراجع أيضاً رو 20:1). والله علم الناس أن طرق الوصول لهذه الحكمة هو:-

مخافة الرب. هذا هو الطريق الوحيد لنعرف، أو نصل لمعرفة الحكمة. ولكن الكلام هنا عن الحكمة يشير للمسيح أقنوم الحكمة، اللوغوس يو 1:1، 2 + أم 22:8، 23. ويكون أن الله وحده هو الذي كان يعرف طريق تجسد الكلمة وهو الذي هيأ له جسداً وهو الذي بحث عن طريق الخلاص.

هذا الإصحاح يكلمنا عن المسيح الكلمة، أقنوم الحكمة قبل أن يتخذ له جسداً.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى