تفسير سفر يهوديت المقدمة للقمص تادرس يعقوب ملطي
يرى البعض أن هذا السفر يروي الأحداث التي دارت بعد هزيمة سنحاريب ملك أشور في أيام حزقيا ملك يهوذا (2 مل 19: 35-37؛ 2 أي 32) حيث عاد منهزمًا إلى نينوى فقتله ابناه، وخلفه في الحكم ابنه أسرحدون الذي غار على بلاد كثيرة منها بلاد مادي انتقامًا من أرفكشاد ملكهم الذي كان اليهود يحبونه. السبي الذي أشير إليه في هذا السفر هو ما حدث في أيام منسى (2 أي 11:33).
بعث ملك أشور بجيش قوي ضد أرفكشاد ملك مادي ليخضعه ويذل جميع حلفائه الذين من بينهم اليهود. قام بهذا العمل قائد جيوشه أليفانا أو هولوفرنيس Holofernes، وضرب الحصار أمام الحصن اليهودي بيت فلوي (بيتولي أو بتولية). وقد أوشك أن يقتحمها، لكن المحاصرين نجوا بفضل البطلة تقية يهوديت.
يقدم لنا هذا السفر صورة إيمانية حيّة لأرملة غنية وجميلة تقتحم بالإيمان معسكر الأعداء وتلتقي بالقائد أليفانا ، واثقة في عمل الله الحيّ في وسط شعبه. استطاعت يهوديت كإستير أن تنقذ شعبها خلال شجاعتها التي ارتبطت بحياتها التقوية وطاعتها للوصية (6:8؛ 2:12).
مقدمة في سفر يهوديت
من هي يهوديت؟
“يهوديت” اسم عبري مؤنث معناه “يهودية”.
سيدة ذات صفات يندر أن تجتمع معًا في شخصية واحدة. فقد تحلت بالفضائل الروحية والمقومات الهامة للشخصية الروحية الوطنية، جمعت بين الحكمة واللياقة، وبين الغنى والنسك، وبين الشجاعة والتواضع، وبين الجمال الجسدي والجمال الروحي (العفة)(1).
كاتب السفر
واضح أن كاتب السفر يجمع بين اهتمامه بحفظ الناموس بكل دقة مع روح الوطنية القومية.
يرى القديس جيروم أن الكاتب هو يهوديت نفسها التي سجلت الأحداث وقدمتها هدية مع ما أوقفته على الهيكل كهدايا تذكارية من متاع القائد أليفانا.
- يرى البعض أنه بحسب التقليد ألياقيم أو يواقيم رئيس الكهنة هو الذي سجل الأحداث(2)، لذا جاء السفر يركز على الصلاة والتسبيح، مخلص للغاية للناموس الموسوي، كما قدم السفر تفاصيل يصعب أن يسجلها آخر إلا رجل دين معاصر للأحداث. هذا وأن ما رواه عما حدث بين أحيور وأليفانا لا يمكن تسجيله إلا بواسطة رئيس الكهنة الذي التقى به وتحدث معه. وأيضًا ما رواه عما حدث بين يهوديت وأليفانا.
- يرى آخرون أن يهوديت سجلت الأحداث ثم قام آخر بإعادة كتابة السفر. على أي الأوضاع فإن الكاتب يتسم بالآتي:
أ. معاصر للأحداث أو في عصرٍ قريبٍ جدًا منها، نظرًا لما ورد في السفر من تفاصيل لن يقدر أن يسجلها أحد سوى شاهد عيان أو من سمعها منه مباشرة.
ب. يدرك الكاتب دقائق الناموس، له معرفة قوية بالعهد القديم خاصة المزامير، وله دراية حيَّة بالعمل التعبدي الروحي وأيضًا السياسي.
ج. أسلوبه العبري رائع، يكاد يبلغ إلى مستوى الشعر. أسلوبه الروائي يحمل حيوية فائقة، يتسم بالواقعية دون تضخيم.
د. للكاتب موهبة التعليم.
تاريخ الكتابة
إن كان السفر قد كُتب في وقت معاصر للأحداث أو بعدها بقليل، فمتى جرت الأحداث؟
- يرى البعض أنها في فترة ملك سنحاريب الأشوري حيث قام بحملة تأديبية بعد هزيمته الشهيرة في فجر القرن السابع ق.م. منتقمًا من أرفكشاد صديق اليهود ثم متجهًا نحو اليهودية جنوبًا.
- يرى آخرون أنها تمت في أيام منسى الملك وهو أسير في بلاد ما بين النهرين (المصيصة) حيث لم يكن يوجد ملك في البلاد.
ويرى البعض أن هذه الأحداث تمت في أيام حزقيا الملك، أما عن سرّ غيابه في السفر وظهور رئيس الكهنة كمخطط للأمور فهو كبرياء حزقيا، إذ كان عدوه سنحاريب يتطلع إليه “حزقيا القوي المتكبر(3)“. يقول Boutflower أن حزقيا لم يلتقِ برسل أشور شخصيًا (2 أي 32:31)، لأن سنحاريب لم يأتٍ إليه، وكما أرسل إليه ثلاثة رسل مندوبين عنه هكذا أرسل إليهم حزقيا رئيس الكهنة والكاتب والمسجل. وربما كان حزقيا مريضًا كما جاء في 2أي 32: 24، فلم يستطع الخروج إليه شخصيًا.
ولعله بسبب مرض حزقيا كان منسَّى ابنه شريكًا معه في الحكم، لكن كان رئيس الكهنة هو الذي يقدم بمهام الملك.
- يرى آخرون أنها تمت في القرن الرابع ق.م.، في عصر أرتحتششتا الثالث وحملته الجنوبية والتي توقفت في اليهودية عند بيت فلوي. ويرفض كثيرون هذا الرأي، لأن السفر لم يشر إلىالسبي البابلي، ولا ذُكر المكابيون.
مفتاح السفر
“والَّذينَ يَتَّقونَكَ تَكونُ عنهُم راضِيًا” (16: 15).
غايته
- الأمانة في حياتنا مع الله تهبنا سلامًا وأمانًا مهما كانت الظروف المحيطة بنا.
- يكشف السفر عن أهمية التدقيق في حفظ الوصية الإلهية. فقد حافظت يهوديت على الشريعة بتدقيق شديد (8: 6؛ 12: 2).
سماته
- يتسم السفر بالسلاسة في الأسلوب.
- عالج السفرموضوع الألم، وهو الموضوع الذي يشغل بعض الأسفار الأخرى. لم يُظهر الألم هنا كتأديب أو عقاب لقمع خطايا معينة، إذ لم يرتكب الشعبعبادة الأوثان كما فعل في الماضي (8: 18-21). إنه ليس علامة غضب إلهي، بل نراه هنا دعوة إلى فضيلة أسمى وإلى بذل النفس من أجل خلاص الشعب وإنقاذ المدينة المقدسة (8: 21-24). لقد قبلته يهوديت بروح الشكر بكونه علامة على عناية الله بشعبه (8: 25)(4).
- أبرز السفرخطورة الكبرياء، فنرى نبوخذنصر يُقيم نفسه إلهًا، ويستخدم القوة لاعتراف كل الشعوب به أنه الإله الأوحد (3: 8).
- يرى بعض الدارسين أن هذا السفر مثل دانيال يعتبرسفر رؤيوي أخروي، يقدم لنا رؤية عن أحداث مجيءضد المسيح. لكن وإن حمل السفر المفهوم الرمزي والرؤيوي الأخروي إلا أنه سفر تاريخي يُسجل أحداثًا تاريخية حقيقية. يرى Scholz أن هجمات هولوفرنيس تمثل هجمات ضد المسيح على كنيسة الله في كل الأمم، ومدينة بيت فلوي ويهوديت تمثلان إسرائيل والكنيسة(5).
لقد حملت تسبحة يهوديت لمسات رؤيوية أخروية (16: 15، 17).
- يرى كثير من الدارسين أن السفر لا يهدف إلى عرض تاريخي لحدث ما قدرما يبرز الفكر اللاهوتي مع التركيز على الاهتمام بالطقوس الناموسية(6).
لقد كتب لتأكد أهمية المثابرة على الصلاة وحفظ الناموس، فيها غلبت امرأة أقوى الجيوش(7).
غاية الكاتب لا أن يستعرض قصة ما، بل أن يكرز(8).
يهدف السفر إلى تأكيد أن الله لن يتخلى عن شعبه ماداموا أمناء له، وأنه يليق بالمؤمنين أن يتحفظوا بل ويقاوموا العادات الشريرة والرجاسات التي تدنس المقدس؛ كما يقدم يهوديت كمثلٍ لبطلة تحب الله وتثق فيه(9).
- لعل من أروع ما اتسم به السفر هو عدم الفصل بين الحياة الشخصية والحياة الجماعية، فمن جانب يصور لنا السفر حياة يهوديت التقوية الشخصية سواء خلال صلواتها الخاصة أو نسكها الشخصي أو تواضعها في مواقف كثيرة، وحياة الجماعة حيث نسمع صرخات الشعب معًا، وصلواتهم وتذللهم بروح جماعي. حتى في الطلبة لله امتزج الدافع الشخصي مع الجماعي، فكانت كل أسرة تخشى أن تُغتصب نساؤها وأن يؤسر أطفالها وفي نفس الوقت يخشى الهلاك من دمار المدن خاصةأورشليم مدينة الله، وأن يُدنس هيكل الرب بالعبادة الوثنية والرجاسات.
- إن كان الشعب قد تذمر بسبب تجربة الشرب والطعام، حيث عسكر جيش أشور حول المياه في الوادي لمنع الشعب منه مصدر الشرب وأيضًا الطعام، فقد سمح الله ليهوديت أن تحمل رأس أليفانا في حقيبة وصيفتها التي كانت تضع فيها الطعام. وكأن الله يُقدم للشعب طعامًا خلال رأس أليفانا المقطوعة.
- يُحسب البعض سفريهوديتسفر الصلاة؛ ففي كل موقف عاشته يهوديت كانت ترتفع قلبها لله بالصلاة، وقد سجل لنا السفر بعض صلواتها وتسابيحها. وهو في هذا يكشف عن سرّ النصرة؛ هنا يهوديت تشبه إستير (وردت صلواتها في تتمة دانيال)، وسارة زوجة طوبيت، ووالدة الشهداء في مكابيين 2، وسوسنة العفيفة إلخ.
لغة السفر
كُتب باللغة العبرية، لكن الأصل العبري فُقد، وكل النسخ الباقية ترجع في أصولها عن طريق اللغة اليونانية إلى النسخة العبرية الأصلية. حاليًا يوجد نصان بالعبرية، واحد مطول يتفق مع النص اليوناني والآخر مختصر.
يوجد هذا السفر باليونانية واللاتينية، الأولى تحوي على الأقل 84 آية أكثر من الأخيرة(10).
يقول القديس جيروم(11) أنه قام بترجمة السفر عن الكلدانية في ليلةٍ واحدة، ليقدم المعنى ولم يلتزم بالكلمات. كما قال إنه عبّر باللاتينية فقط بما استطاع أن يفهمه من الكلدانية.
كثيرًا ما ذكر القديس جيروم أنه قدم ترجمة مختصرة للسفر حاسبًا أن النص السبعيني اليوناني والنص العبري المطوّل يمثلان الأصل.
جاءنا النص اليوناني في المخطوطات السبعينية الثلاثة: الفاتيكانية، والإسكندرانية، الباسيليونو فاتيكانية Basiliano-Vaticanus. أما السينائية فقد امتدت إليها مؤخرًا اليد وحذفت بعض الكلمات والعبارات وأحيانًا فقرات.
يقول دميان ماكي إنه يقبل الرأي التقليدي بأن النص الأصلي قد وضع حوالي عام 700 ق.م. وللأسف ليس لدينا النص الأصلي حاليًا، الذي يصرّ النقاد المعاصرون أنه كُتب باللغة العبرية، وأن شارلس يدعوه “سفر أو درج يهوديت(12)“. وجاء في دائرة المعارف اليهودية أيضًا أن لا بُد أن يكون الأصل عبريًا(13).
لقد جاء السفر يحمل تعبيرات عبرية أصيلة مثل: “مدة ثلاثين يومًا” (يهو 15: 11)، “كل جسد” (تك 6: 13)؛ “وجه الأرض” (عا 5: 8)، “يضرب بحد السيف” (مز 89: 43) إلخ.
يصرّ شارلس على ذلك فيقول: [الترجمة (اليونانية) حرفية جدًا حتى أنه يمكن إرجاع الأصل العبري بسهولة وفي حالات كثيرة تصير أكثر قبولًا عندما يُعاد ترجمتها(14).]
جاء في دائرة المعارف الكاثوليكية أن الاختلافات في النص الحالي تشير إلى وجود أصل قديم للغاية: [بالنسبة إلى حالة النص يلزم ملاحظة أن الاختلافات غير العادية بين النصوص المختلفة هي في حد ذاتها دليل على أن النصوص مأخوذة عن نسخة قديمة سابقة لمدة طويلة عن المترجمين(15).]
كان لشخصية يهوديت اعتبارها الخاص لدى اليهود، فوُجد سفر خاص بها، وإن كانوا لم يحسبوه سفرًا قانونيًا، لكنهم ضموه كتكملة للأسفار التاريخية ولسفر إشعياء النبي.
لماذا رفض اليهود سفر يهوديت؟(16)
بالرغم من أن سفر يهوديت في شكله السامي Semitic يضم كل ما يخص اليهودية الفلسطينية، مثل الحديث عن الله، والصلاة، والأطعمة المحللة، والذبيحة، والهيكل، وأورشليم، الأمر التي لم ترد هكذا في سفر إستير، لكنه لم يرد من بين قائمة الأسفار القانونية في فلسطين إذ في قمران، ولعل استبعادهم للسفر علته الأسباب التالية:
- الأسينيون Essenes الذين عاشوا في تجمعات نسكية مثل جماعة قمران Qumran، رفضوا السفر من أجل العناصر الفريسية الواردة فيه.
- رفض الربيون Rabbis وهم الذين كانوا مسئولين عن تقنين الأسفار في المراحل الأخيرة، رفضوا السفر من أجل اتجاهه الجامعي مثل قبوله الحديث عن مدن السامرة، وأيضًا ضم العمونيين (مثل أحيور) إلى الإيمان اليهودي.
- يرىCravenأن الربيون Rabbis الذين قاموا بتقنين الأسفار تطلعوا إلى يهوديت كشخصية متطرفة راديكالية radical. فقد رأى بعض الحكماء اليهود القدامى في شخصيتها خطورة على المجتمع اليهودي. فمع أمانتها للناموس بحرفية لكنها لم تكن مدققة في طرق سلوكها حسب التقليد اليهودي. فإنها لم تخشى سوى يهوه وحده؛ إذ قامت بتوبيخ قادة المدينة، كما قامت بالتخطيط والتنفيذ دون أن تبوح بما في قلبها وفكرها حتى لقادة بلدها إلخ… يتساءل البعض: ماذا يكون حال المجتمع اليهودي لو اقتدت النساء جميعهن بيهوديت؟
ماذا يكون الحال إن صار من حق النساء توبيخ قادة المجتمعات؟
وإن كانت لهن الجرأة للتخطيط والتنفيذ في أمور تتعلق بالبلد كلها في سرية دون إباحة ما في أفكارهن للقادة؟
ماذا لو رفضت النساء الزواج مثل يهوديت؟
وماذا لو صارت للنساء ملكيتهن من أموال وعبيد وجواري؟
ماذا لو استأجرت النساء وصيفات يدبرن أموالهن مثلما فعلت يهوديت؟
هكذا تخيل الحكماء القدامي أن كل نساء المجتمع سيتمثلن بيهوديت ويحملن ذات مواهبها وقدراتها.
- يرىH. M. Orlinskyان الربيين رفضوا السفر لأنه يتعارض مع الحلقة (17) Halakh التي لهم حيث تطالب الأممي الذي يتهود أولًا أن يختتن ثم ينال العماد(18) لكي يصير يهوديًا.
- يرى البعض أن السفر كان مرتبطًا بعيد الحانوكة Hanuhkah، وإذ لم يعد العيد مقبولًا بعد أسرة الحشمونيين Hasmonean أو المكابيين، صار السفر لدى البعض ليس بذي قيمة.
لم يقبل اليهود هذا السفر لأنه لم يوجد في عصر عزرا الكاتب الذي جمع أسفار العهد القديم، كما لم يورده يوسيفوس المؤرخ في قائمة الأسفار التي ذكرها. غير أننا لا ننسى أن بعض الأسفار القديمة لم يعثر عليها عزرا عندما جمع الأسفار المقدسة. هذا مع ملاحظة أن اليهود كانوا ينظرون إلى الكتبة في فترة ما بعد عزرا.
اعتاد اليهود قراءة بعض الأسفار في أعيادهم، مثل:
- عيد الحانوكا (التجديد): سفر يهوديت.
- عيد الفصح: سفر نشيد الأناشيد.
- عيد الحصاد أو الأسابيع: سفر راعوث.
- عيد المظال: سفر الجامعة.
- عيد الفوريم: سفر إستير.
- ذكرى خراب الهيكل: مراثي إرميا.
قانونية السفر
ترجمت النسخة السامية لسفر يهوديت إلى اليونانية لأجل نفع اليهود الذين لم يعرفوا العبرية. لذلك وُجد هذا العمل في أقدم النسخ للترجمة السبعينية، وقد اقتبس منه القديس إكليمنضس الروماني صديق القديس بولس(19). لكنه لم يُعرف في العبرية، ولا أشار إليه المؤرخ يوسيفوس. جاء في مقدمة هذا العمل للقديس چيروم إن هذا السفر يُقرأ بين Hagiographa لدى اليهود باللغة الكلدانية. كما عرف هذا العمل أوريجينوس في الكتاب المقدس باليونانية(20).
لم يدرج الربّانيون اليهود سفر يهوديت في المجموعة الرسمية للأسفار المقدسة. هذا أدى إلى شيء من التردد في الكنيسة الأولى، غير أن استخدام هذا السفر كان شائعًا عند آباء الكنيسة والكتَّاب المسيحيين حتى بين الذين لم يحسبوه ضمن الأسفار القانونية.
في الشرق رأى الآباء قانونية السفر، منهم القديس إكليمنضس السكندري، وكاتب العمل Timothei et Aquilae Diaclectica ، وجونيلوس Junilius (حولي 542 م.)، وعبد يسوع (عبد جيسي) Ebdjesu.
وفي الغرب قبله الآباء هيلاري أسقف بواتيه وأغسطينوس وأيوسنت الأول (401-417) والمدعو جلسيوس Pseudo-Gelasius وكاسيودورس Cassiodorus (حوالي 485- حوالي 585) واسيذورس من ميليتس Isidorus of Miletus (560-636)، وورد في قوائم Codex Claromonyanus and Libre saeramentasun في القرن السادس / السابع م.).
جاء في مقدمة سفر يهوديت التي كتبها القديس جيروم إن السفر لم يوجد في الكتاب المقدس العبري، وأن مجمع نيقية الأول أقر قانونية هذا السفر، واعتبره واحدًا من الأسفار المُوحى بها.
لا يظهر في مستندات مجمع نيقية وقوانينه إعلان عن قبول سفر يهوديت بين الأسفار القانونية. ربما يشير القديس چيروم إلى استخدام المجمع بعض عبارات من السفر أثناء المناقشات بكونها عبارات كتابية. ولعله توجد قوانين فرعية أو قوانين منسوبة للمجمع تشير إلى قانونية السفر.
كما أن مجمع قرطاجنة في قانونه السابع والعشرون اعترف بأن هذا السفر من الأسفار القانونية للتوراة(21). هذا وقد جاء ضمن قائمة الأسفار القانونية التي وضعها اينوقنتيوس أسقف روما سنة 405 م.، وأيضًا في مجمع فلورنسا عام 1142 م.، وترينت عام 1546 م.
من المؤكد أن الآباء في العصور الأولى كانوا يحسبونه سفرًا قانونيًا. فالقديس بولس اقتبس من النص اليوناني للسفر ما ورد في 1كو2: 10 (يهو 8: 14)؛ وأيضًا 1 كو10: 10 (يهو 8: 25). اقتبست الكنيسة الأولى عبارات من السفر بكونه سفرًا قانونيًا كما جاء في رسالة القديس إكليمنضس الروماني الأولى (ف 55) والقديس إكليمنضس السكندري والعلامة أوريجينوس والعلامة ترتليان.
قصة يهوديت حقيقة تاريخية:
وكما يقول Leahy(22):
- حسب التقليد اليهودي والمسيحي ومفسري الكتاب المقدس إلى القرن السادس عشر يتطلعون إلى السفر كسفرٍ تاريخي.
- التفاصيل التاريخية والجغرافية والخاصة بالأحداث والأنساب تشير إلى أن القصة تمثل واقعًا تاريخيًا.
- يتحدث الكاتب عن نسل أحور بكونهم أحياء في عهده (14: 6)، وأن الاحتفال السنوي لازال في أيامه قائمًا حيث يمجدون نصرة يهوديت (16: 31)(23).
- يقول Carey A. Moore: [مكيدة يهوديت بسيطة وصريحة بما فيه الكفاية مما يجعل القصة حقيقية واقعية أكثر منها خيال(24).]
- هذا وقد قبل بعض الدارسين هذه القصة بكونها واقعية لأنها لا تحمل معجزات خارقة. وكتب Carey Moore: [دمار هولوفرنيس تحقق خلال مجهودات بشرية أكثر منها تدخل إلهي معجزي… ولتأكد ذلك فإن يهوديت وشعبها دعوا الله بالصلاة والصوم (4: 1، 11: 13)، ومع هذا فقد تحققت النصرة بشجاعةٍ قاتلةٍ ومكرٍ. وبينما كل إسرائيل – ومن بينهم يهوديت، حسبوا الفضل الأول هو لله، وباتفاق جماعي حسبوا يهوديت كوسيلة لتحقيق ذلك (13: 15، 18، 20؛ 16: 5)(25).]
المجامع التي أقرت قانونية السفر
- مجمع نيقية سنة 325 م.
- مجمع هيبو 393 م.
- مجمع قرطاجنة الأول سنة 397 م.
- مجمع قرطاجنة الثاني سنة 419 م.
مجامع الكنائس الخلقيدونية
- مجمع فلورنسا سنة 3124 م.
- مجمع ترنت سنة 1546 م.
- مجمع القسطنطينية سنة 1642 م.
- مجمع الفاتيكان الأول سنة 1870 م..
- مجمع أورشليم (الكنيسة اليونانية) سنة 1672 م.
سفر يهوديت والعهد الجديد
واضح أن كتَّاب العهد الجديد قد عرفوا هذا السفر، وإن كانوا غالبًا لم يقتبسوا منه عبارات حرفية:
أ. “فأما الذين لم يقبلوا البلاد بخشية الرب، بل أبدوا جزعهم، وعاد تذمرهم على الرب، فاستأصلهم وهلكوا بالحيات (8: 24-25). وقد ورد في (1 كو 10: 9): “ولا نجرب المسيح كما جرب أيضًا أناس منهم فأهلكتهم الحيات”.
ب. “مباركة أنتِ في النساء” (13: 23؛ لو 1: 42).
راجع يهو 1: 11 مع لو 20: 11؛ يهو 8: 6 مع لو 2: 27؛ يهو 8: 14 مع 1 كو 2: 11؛ يهو 8: 25 مع يع 1: 2؛ يهو 13: 18 مع لو 1: 42؛ يهو 13: 19 مع مت 26: 13.
الصلاة في سفر يهوديت
يركز السفر على الصلاة كسبيل ووسيلة للخلاص من ضيقاتنا، حيث نلقي بمتاعبنا عند قدمي الله، وتنسكب نفوسنا أمامه.
* صراخ رجال إسرائيل الحار |
(4: 9، 15). |
||
* سجود الشعب لله والصراخ إليه |
(6: 18-19). |
||
* عندما خارت عزيمة بني إسرائيل صرخوا إلى الله |
(7: 29). |
||
* صلوات يهوديت |
(9: 1؛ 12: 8؛ 13: 10). |
التسبيح في سفر يهوديت
دعوة يهوديت الشعب للتسبيح |
(8: 25-27). |
||
تسبيحها في الصلاة |
(9: 1 إلخ). |
||
عزيا يبارك يهوديت |
(13: 18-20). |
||
الشعب يشكر الله ويباركون يهوديت |
(15: 9، 10). |
||
نشيد الخلاص |
(16: 1-17). |
العفة في سفر يهوديت
يُعتبر سفر يهوديت مقالًا رائعًا عمليًا عن حياة العفة، وإمكانياتها في حياة المؤمنين، فسرّ قوة يهوديت التصاقها بالله القدوس وشركتها خلال حياة العفة والطهارة.
اعتراضات على السفر
- يظهر نبوخذنصر هنا كأنه ملك نينوى، وهي مدينة فتحها ودمَّرها عام 612 ق.م. جيش نبوبلصر والد نبوخذنصر الذي تحالف مع جيش مادي. أما نبوخذنصر فعاصمة مملكته بابل، وهو المنتصر على أورشليم ومدمرها، بينما نراه في هذا السفر يرسل جيشه في حملة تنتهي بالهزيمة. هذا ومن جانب آخر فإن أليفانا قائد الجيش وبوغا خصيُّه، فيحملان اسمين فارسيين، وردا في نصوص غير كتابية تروي حملة لأرتحششتا الثالث (359-338 ق.م.).
يذكر دميان ماكي Damien Mackey(26) محاولة البعض للتعرف على ما يقصده السفر من شخصية نبوخذنصر هنا، فيورد الافتراضات التالية:
- أشوربانيبال Ashurbanibal (حوالي عام 620 ق.م.) حفيد سنحاريب Sennacherib. يعتمد القائلين بهذا الرأي على وجود نوع من التشابه خاصة بخصوص حرب أشوربانيبال مع فرارتس Phraotes, Phrarts الميدياني، وإذ قبض الآشوريون على منسى ملك يهوذا أخذوه إلى بابل وتركوا أورشليم بلا ملك. هذا يطابق ما ورد في السفر حيث لا يشار إلى ملك في يهوذا في كل قصة يهوديت. غير أن هذا الرأي يجد اعتراضا فإن أشوربانيبال لم يعان قط من أي تقهقر أمام اليهود. هذا وقد ورد في القصة أن يهوديت عاشت حتى بلغت 105 سنة ولم يعان اليهود من متاعب أيام يهوديت وبعدها أيضًا لمدة طويلة (يهو16: 23-25). هذا لا يناسب أشوربانيبال لأن يوشيا ملك يهوذا هُزم في معركة مجدو عام 609 ق.م.
يرى M. Leahy أن هذا العمل المجيد ليهوديت لا يمكن أن يكون قد حدث في أيام أشوربانيبال Ashurbanibal لأن يوشيا Josias ملك يهوذا انهزم وقُتل في معركة مجدو Megiddo عام 609 ق.م.(27)
- أرتحششتا أو أحشويرش الثالث Araxerxes III، حوالي عام 305 ق.م. حيث غزا أحشويرش الثالث Araxerxes Ochus فلسطين في طريقه إلى مصر، وهولوفيرنيس Holofernes الرئيس الكبادوكي محاربًا مصر(28). هولوفيرنيس وباغوس Bagoos إسمان فارسيان(29).
- مجلس شيوخ للشعب ثانٍ Second Commonwealth: يرى البعض أن عدم الإشارة إلى وجود ملك، وإنما يوجد مجلس شيوخ للشعب Gerousia في أورشليم (يهو4: 8) يؤكد نظرتهم بأن هذه الأحداث الخاصة بيهوديت ترجع إلى فتره Second Commonwealth عندما كانت أورشليم يحكمها مجلس وليس كاهن. غير أن الكلمة اليونانية المترجمة مجلسًا استخدمت في لا9: 1 ب”القدامى” Zapen. فتمكن أن تعني شيوخ إسرائيل، كما يوجد مجلس لمدينة بيت فولي Bethulia أثناء الهجوم الأشوري (يهو 6: 16).
- المكابيون Maccabees: يرى الفريق القائل أن هذه القصة تحققت في أيام المكابيين أن ظروف القصة تتناسب اجتماعيًا وسياسيًا مع عصر المكابيين. فنبوخذنصر هنا يشير إلى ملك يوناني أو آخر مثل انطيموس ابيفانس Antiochus Epiphanes الذي كان يكره اليهود والذي أمر جيوشه أن beleaguered أورشليم.
- فترة سنحاريب Sennacherib’s era
كل هذه الافتراضات مع ما لها من وجهة تقارب مش شخصية نبوخذنصر الواردة في سفر يهوديت غير أن لها ما يضادها أيضًا. ويرى دميان ماكي أنها تنطبق بالأكثر على فترة سنحاريب والملك حزقيا Hezekiah. في عصر أسرحدون/سنحاريب الذي حكم الآشوريين في نينوى، كان مردوخ بالادان Merdach-Baladan حاكمًا على الكلدانيين في بابل.
يرد على ذلك أن حادثة سفر يهوديت سابقة لزمن نبوخذنصر الذي سبى اليهود إلى بابل. وأن المذكور في هذا السفر هو أسرحدون بن سنحاريب أو سوصدقيم أسرحدون. وقد كان اسم نبوخذنصر اسم علم لكثير من ملوك الأشوريين (عاصمتهم نينوى قبل دمارها على يد نبوبلصر)، وذلك كما أن اسم “فرعون” يلقب به ملوك مصر. فإن سنحاريب بعد أن خذلت حملته في اليهودية، إذ هلك منها في ليلة واحدة 185 ألفًا وعاد منكس الرأس إلى نينوى انقض عليه ابناه وهو ساجد في معبده الوثني وقتلاه، فخلفه أسرحدون، وأراد أن يأخذ بثأر أبيه فطارد القاتلين إلى بلاد أرمينيا، فأدركهما واستولى على هذه البلاد. وقد ساقه الطمع فاستهوته الفتوحات إلى الإغارة على بلاد الماديين. والذي بعثه على ذلك بالأكثر حب الانتقام من ملكها المدعو فرارتس Phrarts أو أرفكشاد Arphaxad الذي ظهر كمحبٍ لليهود أعداء أبيه؛ لأنه أحسن إلى كل الذين كانوا مسبيين في ولايته، وردهم إلى بلادهم بإكرام وعطايا تليق بملكٍ حليمٍ وعادلٍ. لهذا دعُوه الملك العظيم الحليم. انتصر أسرحدون أو ابنه على فرارتس وضم مملكة الماديين إلى مملكة أشور. وإذ قصد الانتقام من أعداء أبيه وهم اليهود أرسل قائده أليفانا ليخرب بلادهم ويخضعهم، فهلك بتلك الحيلة التي دبرتها يهوديت وتبدد جيشه(30).
يقدم لنا Carey More أمثلة لبعض الدارسين الذين يرون أن الأسماء الواردة هنا يُقصد بها شخصيات أخرى.
الأسماء |
Volkmar |
Gaster |
Ball |
تارجان |
بومباي |
أنطيخوس أبيفانس |
|
الآشوريين |
السريان |
روما |
السريان |
نينوى |
روما أو أنطاكية |
Mithridates |
انطاكية |
أرفكشاد |
Arsaces ملك الفريتيين |
|
Arsaces |
مادي |
الفريتيون |
|
الفريتيون |
أكباتانا |
نصيبين |
|
نيكانور |
هولوفيونس |
Lusius Quietus |
القائد الروماني Scaurus |
يهوذا المكابي |
يهوديت |
Judeans |
الفريسي Onias |
الهيليني Alcimus |
الزمن |
117م |
63 م |
فترة الحشمونيين |
- ليس في التاريخ من يُدعى من ملوك الماديين ملك أرفكشاد بنى مدينة تُدعى أحمتا، إنما الذي بناها ديوسيسDeioces كما روى هيرودوت Herodotus.
يرد على ذلك بأن بناء مدينة قد يُنسب لأكثر من ملكٍ، وبحسب رواية هيرودوت فإن ديوسيس Deioces هذا قد خلفه على كرسي الحكم ابنه أرفكشاد الذي يدعوه بعض المؤرخين “فرا”، ويسميه هيرودوت “فرارتس Phraortes”، ومعناه “الملك العظيم” أو “فرا العظيم”، لأن كلمة “وارتس” الفارسية معناها “العظيم”، وأُضيف على اسمه “كشاد” ومعناها “الحليم”. جعل ديوسيس منها عاصمة لمادي عام 700 ق.م. في المنطقة الواقعة شرق أشور، ولعل أرفكشاد قد أكمل عمل والده، فأضاف على المدينة الكثير، وجعلها من أعظم المدن فنسبها اليهود إليه، وإن كان أبوه هو الذي بدأ العمل(31).
- يعترض البعض بأنهميشمئزوا من فظاعة العمل: امرأة جميلة تقتل بحيلة قائدًا عظيمًا لتخلص شعبها؛ تقطع رأسه وتضعها في جعبتها(32).
يرد على ذلك بالآتي:
أ. يذكر الكتاب عن ثامار أنها استخدمت الحيلة حيث خلعت ثياب ترملها، وتغطت ببرقع، فظنها حماها زانية، فدخل عليها… وهي في هذا أرادت أن تنجب ابنًا لرجلها الميت من الولي (حسب الشريعة فيما بعد). وقد شهد يهوذا قائلًا: “هي أبرّ مني، لأني لم أعطها أشيلة ابني” (تك 38: 26).
ب. استخدم القاضي إهود بن حيرا البنياميني حيلة وقتل عجلون ملك موآب لينقذ شعبه (قض 3: 12-30).
ج. قتلت ياعيل امرأة حابر القيني سيسرا بخدعه، حيث قدمت له في عطشه لبنًا ونام بسبب التعب، وضربت رأسه بوتد الخيمة. وقد تغنت النبية دبورة قائلة: “بين رجليها انطرح، سقط، اضطجع… من الكوة أشرقت وولولت أم سيسرا من الشباك. لماذا أبطأت مركباته عن المجيء” (قض 5: 27-28).
هذا وتبقى شخصية يهوديت وتصرفها موضع اعجاب ومديح الكثيرين من آباء الكنيسة والكتَّاب المسيحيين:
أ. اتسمت هذه الأرملة الجميلة بالتقوى، مع الشجاعة، ترفع معنويات القادة والشعب وتشددهم بالإيمان الحيّ بالله واهب النصرة.
ب. كان سلاحها الأول هو الصلاة والإيمان، ولكن في غير تراخٍ أو إهمال من جهة العمل. اتسمت يهوديت بالسلام الداخلي العجيب، وسرّ سلامها إيمانها بحضور الله في حياتها، تعيش مع الله في العلية، تكرس حياتها له وللصلاة من أجل شعبه. فأدركت أن ما حلّ بالشعب إنما لامتحانه وتزكيته.
ج. إن كان الله قد وهبها جمال الجسد، فقد تمتعت بجمال الروح كعطية إلهية. استخدمت عطية جمالها الجسدي كسلاحٍ في حكمة وبطهارة. لقد غامرت ودخلت معسكر نبوخذنصر كما إلى مستنقع موبوء، لكنها لم تتحرك إلا بعد استشارة الله القدوس. لقد صلت وصامت ولبست المسوح قبل أن تتحرك لأخذ القرار وتنفيذه.
دخلت المستنقع دون أن تتلوث. لقد رأت أليفانا في سكره فلم تفقد صوابها، ولا سكرت معه أو وعدته بشيءٍ. لم تأتِ بأية قباحة لتحقق النصرة على الشر. لقد آمنت أنه لا يُغلب الشر بالشر، بل بالطهارة والقداسة والحق. لم تستعمل جسدها لتحقيق هدفها، ولا كذبت على أليفانا ولا داهنته فأوهمته أنه سيد الأرض كلها. لم تختلس النصرة بطرق بشرية خاطئة، إنما كان القدوس أمام نصب عينيها.
د. كأرملة غنية وجميلة وذات مهابة لم يرتفع قلبها بالكبرياء، بل أحبت العاطي لا العطايا، وارتفعت بقلبها إلى القدوس لتتمتع بمن يحبها. كانت العلية المكان المحبوب لها لتتمتع بالحب الإلهي، فوهبها أكثر مما سألت!
اتسمت يهوديت بروح التواضع، فإن كانت قد بكتت القادة على قلة إيمانهم ()، لكنها طلبت منهم أن يسندوها بالصلوات (8: 13، 31). فهي في حاجة إلى معونتهم لها. وعند لقاءها بقائد قوات العدو سجدت أمامه إلى الأرض (10: 20). وفي انتصارها نسبت النصرة لله ومجَّدته أمام الشعب.
ه. لم تكن يهوديت قائدة أو مسئولة في أعين الشعب، ومع هذا فإن قلبها الناري رفعها إلى عمل قيادي جبار وشعور بالالتزام والمسئولية. فبينما تراخي رؤساء الشعب أمام ضيق الحصار وحددوا للشعب خمسة أيام كحدٍ أقصى لانتظار عمل الرب وإلا الاستسلام، صرخت يهوديت بقوة: “من نحن حتى نمتحن الله، ومن نحن لنصنع الموعد لعمل القدوس؟ هو الرب، وله الحق بامتحاننا وافتقادنا!”
في شجاعة وبخت القادة والشعب، وذكَّرتهم بعمل الله في الماضي، ووبختهم على قلة إيمانهم.
د. اتسمت يهوديت بحياة الشكر والتسبيح، فإننا كثيرًا ما نصرخ لله اثناء الضيق، لكننا ننسى تقديم الشكر والتسبيح له بعد أن ينقذنا. أما هذا السفر فقدم لنا ثلاثة صلوات ليهوديت: صلاة وسط الضيق، صلاة قبل العمل، وصلاة شكر وتسبيح بعد النصرة.
الصلاة الأولى: أثناء الضيق (9: 2-19) وهي في مخدعها.
الصلاة الثانية: قبل بدء تنفيذ الخطة (13: 7) وهي في خيمة العدو.
الصلاة الثالثة: وهي تسبحة وشكر لله داخل المدينة وسط الشعب بعد الانتصار (16: 2-21).
قدمت صلوات شخصية إينما وجدت، وقدمت صلوات وتسابيح جماعية مع الشعب! وعندما وُجدت في مكان غريب طلبت تصريحًا لها بالصلاة (12: 6).
شخصية يهوديت(33)
يرى البعض في يهوديت صورة حيَّة لأبيها يعقوب الذي ترك بيته وهزم (عيسو) المقاوم له، وترك خاله (الذي أراد هلاكه) هاربًا بسلام من أرضه دون أن يدري.
تتشبه أيضًا بالقائد موسى النبي حيث واجهت نقص المياه وعطش الشعب الشديد الذي دفعهم إلى التذمر على الله (حز 17؛ عد 20؛ تث 33)، واستطاعت بالعون الإلهي أن تسند الشعب على حفظه العهد مع الله واليقين في عمله الخلاصي.
يهوديت تشبه أبيجايل التي نزلت من الجبل وأخذت معها طعامًا، وتواضعت أمام قائد عسكري (داود النبي)، واهتمت بأمر رجل سكير غبي (نابال) انتهت حياته بالموت الريع (1 صم 25).
تشبهت يهوديت بالملكة إستير التي استغلت جمالها بروح الصلاة والتقوى والإيمان بالله العامل حتى بجمالها لإنقاذ شعبها، والذي وهبها روح الحكمة كما أعطاها نعمة أمام الذي أراد أهلاك شعبها.
تشبهت أيضًا بالمكابيين حيث أنقذت شعبها من السقوط في العبادة الوثنية كما من الدمار عسكريًا.
النسخ الأصلية للسفر
وُجدت النسخة الأصلية في لغة سامية، غالبًا ما كانت عبرية وليست أرامية. يُشير القديس جيروم إلى نسخة سامية مفقودة(34).
جاءت الترجمة اليونانية ترجمة حرفية للأصل العبري، حتى أنه إذا أُعيد ترجمته إلى العبرية كلمة كلمة يمكننا الوصول إلى الأصل العبري(35).
أحيور في العبرية معناها “أخ النور”؛ جاءت في المخطوطات اليونانية أخيود، حيث أن الدال والراء في العبرية في تشابه كبير. “أخيود” تعني “أخ اليهود” أو صديق اليهود”.
شخصيات السفر
- يهوديت:تحدثنا عن شخصية يهوديت قبلًا كأرملة جميلة تقية، متواضعة، وشجاعة، احتلت مركز قيادة خلال غيرتها المتقدة، وإيمانها الحي وثقتها في عمل الله. هي بطلة السفر ومحوره.
كانت أرملة لزوج يُدعى منسي، مات من ضربة شمس أثناء حصاد الشعير (8: 2-3)، وظلت ثلاث سنوات وستة أشهر أرملة إلى حين استخدمها الله في خلاص شعبه (8: 1-4؛ 9: 3)، وقد عاشت حتى بلغت المائة وخمس سنوات (16: 28) في بيت رجلها الأوحد.
لم تكن شجاعتها عن تهورٍ، بل تتحرك بحكمة محفوظة بصلواتها وصلوات الآخرين عنها، تحت ظل جناحي الله.
كانت تُقيم في غرفة سرية مغلقة عليها مع جواريها في أعلى منزلها (8: 5)، في قرية زوجها الذي كان من الأشراف “بيت فلوي” أو بيت خلوي”، إلا أنها كانت ذات شهرة عظيمة بين جميع الناس لتقواها وعفتها (8: 8؛ 16: 25). كانت تظهر في الأعياد بمجدٍ عظيمٍ (16: 27)، وكانت غنية جدًا، ذات ثروة واسعة وحشمًا كثيرين وأملاك (8: 7).
كانت من سبط رأوبين، بنت مراري (8: 1)، وكان كبار شعبها يدعوها “قديسة” (8: 29).
“كانت تضع على حقويها مسحًا، وتصوم كل أيام حياتها” (8: 6؛ 9: 1؛ 10: 2) ماعدا في الأعياد. كانت أثناء الضيقة تصوم إلى المساء (12: 9).
حافظت على الشريعة فلم تتدنس بطعام قائد أشور الأممي (10: 1).
* لديك أرامل مثلكِ يستحققن أن يكُنّ نماذج لكِ؛ يهوديت المشهورة في قصة عِبرية، وحِنة بنت فنوئيل المشهورة في الإنجيل. كلتاهما عاشتا ليلًا ونهارًا في الهيكل وحفظتا كنز طهارتهما بالصلاة والصوم. واحدة رمز للكنيسة التي قطعت رأس الشيطان، والأخرى تقبَّلت على ذراعيها مخلص العالم، وأُعلنت لها الأسرار المقدسة العتيدة. في اختصار أتوسل إليكِ أن تنسبي قصر خطابي ليس لعجز في اللغة، ولا لنقصٍ في المادة دائمًا، وإنما للشعور العميق بالحياء الذي يجعلني أخشى أن أطيل الحديث على أذني إنسانٍ غريب، ويجعلني أفزع من الحكم الخفي على كلماتي من الذين يقرأونها(36).
القديس جيروم
* إذ عرفت هذا يهوديت (أرملة ذات غنى عظيم، تتَّسم بالجمال، لكنها بالأكثر تتميز بفضيلتها أكثر من جمالها)، هذه التي كانت في المحلة، فقد حسبت أنه في ظروف الضيق التي لشعبها يلزم أن تمارس الجرأة، ولو أدت إلى هلاكها. لقد زيَّنت رأسها وجمَّلت ملامحها، وأخذت جارية واحدة، ودخلت معسكر العدو. للحال اقتادوها إلى أليفانا، وأخبرته بأن شئون وطنها في انهيار، لذلك احتاطت لحياتها بالهروب.
توسلت إلى القائد أن يعطيها الحق في الخروج من المعسكر أثناء الليل، لتردد صلواتها. صدر هذا الأمر للحراس وحافظي الأبواب. ثبتت عادة خروجها وعودتها من وإلى المعسكر بممارسة ذلك ثلاثة أيام، وبهذه الطريقة أيضًا أوحت للبرابرة رغبة أليفانا في معاشرة هذه المسبية بسبب جمالها الفائق، بهذا كان لها أثرها على الفارسيين.
بهذا ذهبت إلى خيمة القائد بقيادة الخصي باغص، وبدأت وليمة حيث سكر البربري وصار في خبلٍ بشربه الخمر بكثرة. وإذ انسحب الخدام قبل أن يعتدي بعنفٍ على المرأة نام. انتهزت يهوديت الفرصة وقطعت رأس العدو وحملته معها. وإذ حسبوا أنها خارجة كالعادة من المعسكر رجعت إلى شعبها بسلامٍ. وفي اليوم التالي عرضوا رأس أليفانا في أعلى (السور) وهجموا على معسكر العدو. فتجمع الأعداء معًا عند خيمة قائدهم ينتظرون علامة بدء المعركة. وإذ اكتشف جسمه المشوَّه هربوا في ذعرٍ معيبٍ أمام العدو.
أما اليهود، فمن جانبهم اقتفوا أثر الهاربين، وقتلوا الآلاف منهم، واستولوا على المعسكر وما فيه من غنائم(37).
سالبيتوس سويرس
اتسمت يهوديت بروح التحدي، تحدت طبيعتها وانتصرت، فتحدت القائد المقوم لله فقتلته:
أ. تحدت يهوديت أمومتها الطبيعية لتحمل أمومة للشعب كله. لم تنجب أطفالًا من رجلها فلم يُصبها اكتئاب ولا طلبت الزواج من وليّ لتنجب ابنًا لرجلها الميت. في هذا تحمل جفافًا في المشاعر، لكنها سمت بدافع الأمومة لتقدم حياتها من أجل كل الشعب كأبناء لها. أمومتها الروحية سمت بها إلى ما فوق الأمومة الطبيعة.
ب. تحدت يهوديت ترملها، فكرست حياتها للعبادة بفرح وتهليل ومارست العمل السياسي بقوة، فاقت فيه على رئيس البلد والشيوخ، ورئيس الكهنة، وقادة الجيش!
ج. تحدت يهوديت الغنى الزمني، فما ورثته من زوجها من ذهب وفضة وممتلكات وخدم وجواري لم يأسر قلبها، بل سلمت تدبير ممتلكاتها في يد وصيفتها الأمينة، وتفرغت تمامًا للعبادة بحب شديد لله ولشعبه. عاشت في بساطة بثوب ترملها، وخلعت كل الحليّ والجواهر الثمينة.
د. تحدت طبيعة مجتمعها الذي كان يفصل تمامًا بين الرجال والنساء، لكل منهم دوره الذي يعتز به ولا يتعداه. قامت يهوديت بدور الرئيس والقائد والمشير، خططت ونفذت، وقدمت للبلد وشعبه وجيشه ما كان يجب أن يقوم به الرجال!
ه. تحدت طبيعتها الأنثوية فمع جمالها البارع ورقتها التي أسرت رجال شعبها كما قادة المعسكر، بل والقائد العام لجيش أشور، إلا أنها بروح القوة صرخت إلى الله، ومن أجل غيرتها على الهيكل المقدس وقداسة الشعب لم يخش أن تمد يدها لتستل سيف العدو وتضرب به عنقه.
و. تحدت يهوديت قائد الجيش الذي أراد أن يفسد عفتها ويغتصبها بمكرٍ، فأفسدت جسمه وفي مذله له ولكل جيشه سلمت رأسه المقطوع ليوضع في مخلاة وصيفتها!
- نبوخذنصر:سبق الحديث عنه تحت عنوان “اعتراضات على السفر”، ورأينا أنه غالبًا ما يكون أسرحدون أو ابنه.
في سفر دانيال نسب نبوخذنصر لنفسه الألوهة. يرى بعض الدارسين أن أليفانا أو هولوفرنيس هو الذي نسب الألوهة للملك، أما الملك فدعى نفسه “سيد الأرض كلها” (2: 5)، وكان مملوء كبرياءً وتشامخًا، لكنه لم يقل أنه إله الأرض، وأنه ليس إله غيره على كل الأرض.
العبارتان الواردتان في السفر اللتان تنسبان للملك الألوهة يؤكدان ذلك(38):
“فدمرَّ (هولوفرنيس) جميع معابدهم… فقد عُهد إليه بأن يُبيد جميع آلهة الأرض، لكي تعبد الأمم جميعًا نبوخذ نصر وحده، وتدعوه إلهًا جميع ألسنتهم وأجناسهم” (3: 8).
“(في حديث هولوفرنيس لأحيور) من هو إله إلاّ نبوخذنصر؟ فهو الذي يرسل قوته ويبيدهم من وجه الأرض، ولا ينجيهم إلههم” (6: 2-3).
- أرفكشاد:سبق الحديث عنه.
- أليفانا قائد جيش أشور:قام بكثير من الفتوحات، وقد تحدى إله إسرائيل فمات بيد يهوديت.
يرى دميان ماكي أن قائد الجيش الأشوري هولوفرنيس Holofernes هو في الواقع ابن سنحاريب، أسرحدون Esarhaddon. هذا خدم إلى سنوات كنائب سنحاريب في بابل، وتولى قيادة جيوشه حتى ضد مصر. وقد دُعي بالرجل الثاني بعد الملك (يهو 1: 4).
ما ورد في سفر يهوديت يتطابق مع ما ورد في التاريخ من حيث ولائه لوالده سنحاريب، مظهرًا كراهيته الشديدة وسخريته نحو الذين قاوموا الملك السابق له.
يرى البعض أن كلمة هولوفيرنس ليست فارسية كما يظن البعض، وهو الاسم الذي دعا به اليهود هذا القائد الشرير، فهو مشتق من(39):
هول Hol جاءت عن العبرية Helél أو Heyhe والني تعني “كوكب النهار” أو “زهرة بنت الصبح” (إش 14: 12).
فيرfer : جزء من الكلمة اللاتينية لوسيفر Lucifer أي “حامل النور”، جاءت عن الفعل ferre أي “يُحضر” أو “يحمل”، كما جاءت عن اليونانية اسم الكوكب Hespherus من الفعل fero (فيرو)، أي “يحمل”.
نس nes: جزء من الكلمة كما يستخدم في اليونانية أو اللاتينية كنهاية الاسم.
إن كان كثير من الدارسين يرون في تفسير إشعياء 14 أن كوكب الصبح هو لوسيفر أو إبليس الذي كثيرًا ما يخدع البشر كملاك نور وهو رئيس سلطان الظلمة، فإنه يشير أيضًا إلى أسرحدون الشرير كممثل لإبليس الشرير الذي يبدو كحاملٍ للنور ليخدع البشرية.
كان اليهود يدعون ملوك أشور “كوكب إشتار Ishtar” إلهة الحرب، أو ملكة الحرب والمعارك. إذ كانوا يكرسون حياتهم للحروب لحساب آلهة الحرب Assur.
لعله كان في ذهن إشعياء النبي افتخار أسرحدون وتشامخه حين قدم أنشودته، كأنشودة كوكب الصبح، الذي يدعي أنه مُشرق بالبهاء والعظمة:
“أنت قلت في قلبك: أصعد إلى السماوات؛ أرفع كرسي فوق كواكب الله، وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العليّ (إش 14: 13-14).
يا للسخرية! ويا للعار! القائد الذي اهتزت له الأمم، وجاء ملوكها ورؤساؤها في مذلة يسلمون أنفسهم عبيدًا له، ويسلمون له بلادهم، قائلين له: “ها إن حظائرنا وكل أرضنا وجميع حقول قمحنا وقطعان خرافنا وبقرنا ومرابض مخيماتنا أمامك، فأعمل بها كما يطيب لك” (3: 3)، “وها إن مدننا أيضًا والساكنين فيها عبيد لك. فتعال، وأدخلها كما يروق في عينيك” (3: 4)، يُهزم أمام مدينة صغيرة، تقتله أرملة شابة بسيفه أو خنجره!
استقبلته الأمم بالرقص والطرب في خنوع للاستعباد له، وها هي رأسه في سلة طعام تحملها وصيفة، وتستقبلها مدينة بيت فلوي بالتسبيح لله واهب النصرة!
- ألياقيم كاهن الرب العظيم:اسم عبري معناه “من يثبته الله”. كان يحث الشعب على الصلاة والصوم. وضع في خطة أن يضع حراسة على جميع المداخل التي يمكن للآشوريين أن يتسللوا منها إلى داخل البلد.
- أحيور قائد جميع بني عمون:كان شجاعًا، نطق بالحق أمام أليفانا، فاسلمه إلى أيدي بني إسرائيل. بعد أن رأى عمل الله مع شعبه تهَّود (14: 6)، مع أن الشريعة منعت قبول العمونيين في الإيمان اليهودي (تث 23: 3).
ترى دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة أنه ليس علاقة بين أخيور في يهوديت وAhikar في القصة الآرامية في طوبيت، وإن كانت تؤكد أن اسم Achior يمكن أن يكون هو بعينه اسم Ahikar.
ورد شخص اسمه Achior أربع مرات ف سفر طوبيت، كرئيس إدارة ومشير ملكي (حافظ الختم) تحت أسرحدون، وأنه ابن أخ (أو ابنة أخت) طوبيت وصديقه. غير أن Ahikar قريب طوبيت حكم عيلام ليس في السنة 12 من سنحاريب عندما كان قائد الجيش الآشور، وإنما بعد حوالي 10 سنوات بعد ذلك، ف أثناء حكم آشوربانيبال (16)، عندما أُرسل إلى عيلام.
شخصية محيرة، فكقائد لبني عمون في ضعف استسلم لأليفانا وخضع لأوامره، لكنه في قوة شهد لعمل الله الفائق مع شعبه أمام أليفانا نفسه.
إن كان قادة إسرائيل قد غُلبوا من تهديدات الشعب وتذمرهم بسبب العطش، فقد أرسل لهم من يوبخهم، أحيور الذي روى لهم حواره مع أليفانا مؤكدًا لهم النصرة إن سلكوا كما يليق بشعب الله، وأن نصرتهم أو هزيمتهم لا تقوم على إمكانيات العدد العسكرية وخطته لتدميرهم بالموت عطشًا، وإنما على علاقتهم بالله. فالخطية هي السلاح الوحيد القادر أن يحطمهم!
نسي الشعب كعادته معاملات الله معهم عبر التاريخ، فأرسل لهم أحيور يذكرهم بذلك، حيث قدم ملخصًا رائعًا لعمل الله مع آبائهم، خاصة ما ورد في تكوين 15؛ وخروج 3؛ تثنية 7؛ يشوع 9 إلخ.
- عزيا بن ميخا رئيس شعب إسرائيل:اسم عبري معناه “يهوه قوة”. كان أميرًا، في ضعفٍ سألت دموعه في وقت كان يليق بالقائد أن يسند الشعب ويشجعه بروح الرجاء. حاول كسب الشعب مطالبًا إياهم أن يكونوا طيبي القلب (7: 23)، ولكن على حساب الثقة في الله، إذ حدد خمسة أيام انتظار لرحمة الله. في عدم إيمان قال: “إذا انقضت خمسة أيام ولم تأتينا معونة” (7: 25).
هنا نقف في إجلال أمام أحيور الذي شهد لله واهب النصرة لشعبه أمام أليفاز الجبار، بينما انهار عزيا رئيس شعب إسرائيل أمام ضغط شعبه، فأقسم أن يستسلم أمام أليفاز ويُسلم المدينة وكل الشعب عبيدًا إن لم يتدخل الله في خلال خمسة أيام.
يقول أيضًا Cary Moore إن عزيا الذي يعني اسمه “الله مدافعي” كان ضعيفًا في ثقته بالله وسلك بطريقة نسائية (كفتاة خائفة) يجلس وراء أسوار المدينة في خوفٍ، بينما حملت يهوديت نوعًا من الرجولة والشهامة، لتقبض الأمور في يدها، وتحت رعاية الله تركت المدينة وخرجت من الأسوار وواجهت العدو في معسكره(40).
يرى البعض في عزيا ليس فقط أنه من ذات سبط الذي تنتمي إليه يهوديت (شمعون)، ولا أن يَّمت لهم بقرابة قوية، وإنما كان هو الوليّ، من حقها أن تتزوجه لتنجب لرجلها الميت منسي نسلًا. لكن يهوديت رفضت هذا الحق بروح القوة والتكريس لله. بينما ضعف القائد عزيا أمام تذمر الشعب وأقسم أن يستسلم هو ورجال الدولة ويسلمون الشعب والمدن للعدو حتى لا يهلكوا من العطش والجوع إذا بالأرملة في قوة توبخه وتطالبه بالإيمان والتسليم الكامل بين يديّ الله دون شروط بشرية.
- كرمي (عتنيئيل):اسم عبري معناه “عامل في الكروم”. كان أميرًا لبني إسرائيل في ذلك الحين.
- وصيفة يهوديت:لا نعرف اسمها، لكن نقف في إجلال لوصيفة فاقت كل رجال بيت فلوي. الكل كان يحتمي وراء الأسوار في خوف، بل وأرعبوا قلوب الشيوخ، أما هذه الوصيفة فرافقت يهوديت وخرجت معها إلى معسكر الأعداء، وعادت تحمل في سلتها رأس هولوفرنيس الجبار (13: 9-10، 15). إنها تمثل الجندي المجهول، لا نعرف اسمها، لكن التاريخ لن ينساها، والسمائيون يكرمونها!
التفسير الرمزي لسفر يهوديت
مع روعة ما حمله سفر يهوديت من رعاية الله الفائقة لشعبه، وخاصة في وقت الضيق، والكشف عن عمل الصلاة، يحمل أيضًا معانٍ رمزية تمس حياتنا.
1. الوحشان: ضد المسيح والنبي الكذاب
يهتم سفر الرؤيا بالكشف عما سيحل بالعالم عند مجيء النبي الكذاب الذي يهيئ الجو لضد المسيح (رؤ 13)، وهما الوحشان البري والبحري. وفي سفر يهوديت يرى الملك نبوخذنصر (أسرحدون) وقد ملك لمدة ثلاث سنوات ونصف، مطالبًا في تشامخٍ أن يقيم نفسه إلهًا على الأرض كلها. وقد اختار رئيس جيشه الرجل الثاني بعده ليقتل ويحطم حتى يخضع كل الأمم للملك المتأله! هذا هو عمل النبي الكذاب الذي يدعو كل الملوك والشعوب للتعبد لضد المسيح (يو 13: 8).
من جانب آخر نرى كل الأمم والشعوب تخضع لضد المسيح والنبي الكذاب، بل ويعملان لحسابهما ضد شعب الله (الكنيسة) بكونه الشعب الوحيد الذي لم يقبل إنكار الإيمان الحيّ والتعبد للشرير!
إن كان غاية أليفانا في كل حروبه الدعوة للتعبد لنبوخذنصر (يهو 6: 3، 4، 15؛ 9: 17)، ففي المقابل يؤكد السفر أن الله الحيّ هو رب السماء والأرض.
2. القديسة يهوديت كرمزٍ للقديسة مريم
يرى البعض في عزيا رمزًا للملاك جبرائيل الذي جاء يُحيّ القديسة مريم (لو 1: 28)، هذا طوب عزيا يهوديت بين كل نساء العالم (13: 23).
وكما طوّب الشعب يهوديت (15: 10-11)، هكذا تقول العذراء مريم أن جميع الأجيال تطوَّبها (لو 1: 48).
كما سحقت يهوديت رأس أليفانا العامل بروح الشيطان وقدمت الخلاص للشعب كله بعمل الله معه. هكذا جاء السيد المسيح من نسل المرأة (العذراء مريم) وسحق الشيطان بصليبه (تك 3: 15) لحساب البشرية.
جاءت تسبحة الشعب الرائعة لتكريم يهوديت تطابق التطويب المُقدم عبر الأجيال من الكنيسة للقديسة مريم، والدة المخلص.
يهوديت والخروج
غاية الخروج: “ورأى إسرائيل الفعل العظيم الذي صنعه الرب بالمصريين، فخاف الشعب الرب، وآمنوا بالرب وبعبده موسى” (خر 14: 31). إنها قصة عمل الله العجيب على يديّ موسى كرمز لعمل السيد المسيح الخلاصي لحساب العالم كله. الله الذي عمل برجل الله موسى، هو بنفسه الذي عمل بالشابة الأرملة، وكلاهما يهيئان الطريق لقبول عمل السيد المسيح مخلصنا، الذي يهبنا النصرة على إبليس ويدخل بنا إلى كنعان السماوية والتمتع بالفرح الأبدي.
يهوديت وسفر القضاة(41)
ارتباط سفر يهوديت بسفر القضاة يصحح أفكار الذين يرون في تصرفات يهوديت أنها لا تحمل أخلاقيات لائقة، وأنها لا تتناسب مع سيدة تقية. نرى من خلال دراستنا للسفرين معًا أن يهوديت تتسم بالشجاعة مثل ياعيل التي قتلت سيسرا رئيس الجيش (قض 5)، وتحمل أمومة عامة نحو كل الشعب مثل دبورة التي رافقت القائد في معركته للدفاع عن شعبه، و sly مثل أهود (قض)، ومثل سائر القضاة بسببها حلّ السلام على الشعب حتى يوم نياحتها.
بيت فلوي Bethulia وكنيسة الأبكار
اسم المدينة بيت فلوي (بيثوليا) ربما مشتق من كلمة “بتولية”، ويظن البعض أن يهوديت قد عاشت مع رجلها فترة قصيرة جدًا، ربما عاشت كعذراء بتول، أو حُسبت بتولًا لأنها مع زواجها لم تكن العلاقات الجسدية حتى مع رجلها يشغل فكرها، إنما حملت له حبًا وأمانة وتقديرًا. حسبها بعض آباء الكنيسة بتولًا من أجل رفضها الزواج بالولي ليقيم نسلًا لرجلها الميت، ففضلت أن تكرس حياتها للعبادة في عليتها وهي ترتدي ثياب ترملها، وعاكفة عن كل زينة جسدية وعن الحياة المترفة.
اسم المدينة نفسه يجعل من المدينة رمزًا لكنيسة العهد الجديد، كنيسة البتوليين الأبكار.
للمدينة مضيق لا يقدر أن يعبر أكثر من شخصين معًا، وهي بهذا تُشير للكنيسة التي لن يقدر أن يعبر إليها غير المؤمن الذي في اتحاد مع السيد المسيح وفي صحبته، بكون كل شيء بالنسبة له.
وكما عجز القائد الذي أرعب سكان الأرض عن الدخول إليها أو وعبور جيشه إليها، هكذا يعجز عدو الخير المحارب المضلل بكل جنوده وملائكته إلى النفس البتول، كنيسة المسيح المقدسة.
القديسة يهوديت والصليب
في القديم ضرب الصبي داود رأس جليات الجبار بسيفه، وهنا نرى يهوديت الشابة الأرملة تضرب رأس أليفانا بسيفه، وكلاهما يشيران إلى عمل السيد المسيح في معركة الصليب. فقد ظن عدو الخير أنه قادر أن يتخلص من السيد المسيح ويحطم مملكته بالصليب، فإذا بالصليب يحطم عدو الخير نفسه وينزع عنه سلطانه ويشهر به (كو 5: ). هكذا بالسيف الذي كان أليفانا – رمز الشيطان – يود أن يحطم اسم الله وشعبه مملكته قطعت رأسه وفقد سلطانه وصار في عارٍ وخزي.
القديسة يهوديت وخبرة الحياة السماوية
إن كانت يهوديت قد ترملت في وقت مبكر، وأصرت أن تعيش في حياة نسكية وتلبس ثياب ترملها، لكنها إذ دخلت في المعركة مع أليفانا التحفت بثوب العرس وتزينت… هكذا في معركتنا مع إبليس يليق بنا أن نلتحف بثوب الرجاء المفرح، واليقين في عمل الله واهب الغلبة والنصرة، والذي أعطانا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب.
إيمانها رفع قلبها وكل كيانها فوق كل الأحداث المؤلمة والضيقات التي حلت بها وبشعبها، فتحركت ترتدي زي الفرح الداخلي السماوي.
إذ اختبرت يهوديت بالإيمان حياة النصرة قبل أن تلتقي بأليفانا وتقطع رأسه، حولت شعبها إلى جماعة شبه سماوية يتهللون لمدة 30 يومًا في عيد لا ينقطع، وكأنهم قد عاشوا السماء عينها!
الفكر اللاهوتي والروحي
في سفر يهوديت
ألقاب الله في يهوديت
الرب: (4: 11؛ 8: 11؛ 9: 1). الله (8: 11؛ 11: 6).
إله إسرائيل: (6: 21؛ 9: 12، 10: 1؛ 12: 8؛ 14: 10).
الرب إلهنا (أو إلههم): (4: 2؛ 7: 19؛ 8: 14؛ 13: 18).
إله السماء: (5: 8).
الرب إله السماء: (6: 19).
الرب (الإله) المحطم الحروب (9: 7؛ 16: 2).
رب آبائنا (7: 28).
إله شمعون أبي (9: 2).
إله المتواضعين (9: 11).
إله أبي (9: 12).
رب السماوات والأرض (9: 12).
خالق المياه (9: 12).
ملك خليقتك كلها (9: 12).
الإله العلي (13: 18).
رعاية الله
يعتبر السفر في جوهره قطعة رائعة عن رعاية الله لشعبه كما للمؤمن كعضو في شعب الله. فإن كان هو الله الواحد الحقيقي إنما الإله الذي لا يستخف بالإنسان (8: 20).
هو الرب الكلي القدرة، الذي يسمع لصلوات شعبه وصراخهم والقادر أن يخلصهم بيدٍ قوية وذراعٍ رفيعة (4: 13؛ 8: 13؛ 15: 10؛ 16: 5، 17).
الرب الذي لا يُغلب (16: 13).
الرب الذي لا يمكن للإنسان إدراك أسراره وفهمه (8: 14).
رحوم بالنسبة لخائفيه (16: 15)، حازم مع المعاندين والمقاومين للحق الإلهي (9: 12ك 13: 18).
إله المُضطهدين والمتضايقين (9: 11).
إله المسكونة وضابط التاريخ (9: 12؛ 13: 18).
الحالّ وسط شعبه، قائد لهم مثل عصر الآباء (5: 6-9؛ 8: 26؛ 9: 2-4)،
وأثناء تغربهم في مصر وخروجهم منها (5: 10-13)، وتجوالهم في البرية ونصرتهم لكنعان (5: 14-16).. إلخ.
ذكرت كلمة “العهد” مرة واحدة (9: 13)، لكن السفر كله يقوم على اهتمام الله أن يقيم عهدًا مع شعبه ويرعاهم بكونهم خاصته. لذا نجد الإشارة إلى أورشليم (4: 2؛ 10: 8؛ 11: 19؛ 15: 9؛ 16: 18، 20). والاهتمام الإلهي بحمايتها كمدينة الله التي تضم هيكله المقدس (4: 2-3، 12؛ 8: 21، 24؛ 9: 8، 13؛ 16: 20).
اهتم السفر بالطقوس الدينية الواردة في الشريعة، مثل تقديم الذبائح والتقدمات وبخور المساء (4: 14؛ 9: 1؛ 16: 18)، والبكور والعشور (11: 13).
اهتم السفر بإبراز قوة الصلاة والصوم ولبس المسوح (4: 11-15) كعلامة التوبة والرجوع إلى الله واستدرار مراحمه الإلهية.
كما أشار إلى ختان الذين ينضمون إلى شعب الله (14: 10).
أقسامه
أولًا: الشعب المتضايق |
[1 – 7]. |
||
1. نبوخذنصر المنتصر |
[1]. |
||
2. حملات أليفانا رئيس جيش أشور |
[2]. |
||
3. خضوع سوريا لنبوخذنصر |
[3]. |
||
4. رعب اليهود من جيش أشور |
[4]. |
||
5. حوار بين أليفانا وأحيور قائد بني عمون |
[5]. |
||
6. أحيور في وسط إسرائيل |
[6]. |
||
7. محاصرة أورشليم |
[7]. |
||
ثانيًا: الله واهب النصرة |
[8 – 14]. |
||
1. غيرة يهوديت على شعب الله |
[8]. |
||
2. صلاة يهوديت الأولى |
[9]. |
||
3. تحرك يهوديت للعمل |
[10]. |
||
4. لقاء يهوديت مع أليفانا |
[11]. |
||
5. يهوديت في خيمة أليفانا |
[12]. |
||
6. قتل أليفانا المتكبر |
[13]. |
||
7. تعليق رأس أليفانا |
[14]. |
||
ثالثًا: عربون الأبدية |
[15 – 16]. |
||
1. هزيمة جيش أشور |
[15]. |
||
2. شكر وتسبيح لواهب النصرة |
[16]. |
ملاحظة
اعتمدت في النص على:
- الترجمة اليسوعية.
- Samuel Bagster and Sons Ltd: The Septuagint Version.. London.
3.Bruce Metzger: The Oxford Annotated Apocrypha, Oxford University, 1965.
- The Catholic Bible, Good Counsel Publishers, Chicago. Illinois, 1970.
- The Holy Bible, Douay Version, Catholic Truth Society, London.
- http://ebible.org/bible/web/Judith.htm
- ttp://www.theworkofgod.org/Bible/OldTestm/judith.htm ouay Rheims Old Testament
- القمص قزمان البراموسي: ترجمة حديثة لأسفار عزرا الأول…، 1978.
من وحي يهوديت
بك أتحدى طبيعتي الساقطة!
* إلهي الصالح، أقمتني على صورتك ومثالك.
لأحيا سيدًا لا عبدًا، أشهد لك كسفيرٍ عنك!
في غباوة سقطت تحت قدميّ العالم،
فصار العالم يملكني ويستعبدني في مذلةٍ!
الآن بك أقوم لاسترد بروحك الناري ما وهبتني من سلطانٍ!
* يهوديت تحدت ترملها وأنوثتها وصغر سنها.
اخترقت بصلواتها أبواب السماء، لتصير بالحق في حضرتك،
فلم تخشَ أن تخترق معسكر الأعداء بيقين في مساندتك!
بالإيمان فاقت رئيس الكهنة وشيوخ الشعب.
بالإيمان لم تبالِ بثورة الشعب عليك!
* لم يستطع هولوفرنيس قاهر الأمم أن يدخل مدينتها.
أما هي فنزلت إلى معسكره بلا سلاح مادي.
اهتز ربوات العسكر مع قادتهم أمام أرملة شابة!
* لم تخشَ أن تدخل خيمة الجبار،
أسرته بجمالها وحكمتها وتقواها،
صار صاحب السلطان أسيرًا لشهوته!
آمنت ونالت، أنه لن يمس طهارتها وعفتها!
* طلبت من الله عونًا لتضربه بخنجره!
إذ رأت فيه معيّر رب الجنود!
بقوة وفي شهامة لم تخشَ شيئًا،
فقد أدركت أن الله يهب سلطانًا على إبليس المخادع!
* الرأس المدبر لتحطيم مدينة الله وهيكله،
واغتصاب النساء الشريفات وسبي الأطفال،
وقتل المؤمنين،
صار في سلة وصيفتها، تضعه مع بقايا الطعام!
اللسان الذي جدف على الله صمت تمامًا!
الذي استقبلته الشعوب مع قادتها بالرقص،
يسلمون أنفسهم ونسلهم عبيدًا وجواري،
صار جثة بلا رأس، مطروحة أرضًا!
عوض المواكب التي استقبلته،
لم يجد في موته إنسانًا يكفنه، ويستره في مقبرة!
* تحدت يهوديت الطبيعة فنالت بالعون الإلهي ما يفوق الطبيعة.
صارت أداة مقدسة في يد القدوس.
بها تحولت الأحزان إلى أعياد ممتدة!
وتحولت المراثي إلى تسابيح لا تنقطع!
عوض الجوع والعطش والفقر امتلأت المدينة بالغنائم!
لك المجد يا أيها العجيب في عمله معنا!