تفسير سفر الأمثال ١١ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الحادي عشر
طرق البرّ مملوءة أمانًا
في الأصحاح السابق قدم لنا سليمان الحكيم بروح الله القدوس مقارنة بين حياة الإنسان البار الحكيم،وما تحمله من بركات إلهية مفرح، وحياة الإنسان الشرير الجاهل، وما تدفع به من دمارٍ وهلاكٍ. يقدم لنا الآن أمثلة عن الحياة المستقيمة الحكيمة في كل الجوانب، وما تحمله من مكافآت أكيدة مفرحة.
طرق البرّ واضحة ومملوءة أمانًا، موضع سرور الله، أما طرق الأشرار فمملوءة مخاطر، تدفع بالإنسان إلى الهلاك. منافع وبركات الحياة الحكيمة البارة تقابلها في الاتجاه المضاد مآسي وخسائر الحياة الغبية الأثيمة. هذا ويؤكد هذا الأصحاح أن ما يحل بالإنسان الشرير هو ثمرة طبيعية لفساده وشره.
يشير سفر الأمثال إلى حقيقة أن البرّ يعمل في كل المجالات، وهو مفتاح الحياة الناجحة. يوضح الحكيم في هذا الأصحاح عمل البرّ في ثلاثة مجالات وهي: العمل، والمشاكل الشخصية، والحكم، كما يكشف عن مكافآت البرّ الأكيدة.
عمل البر في كل مجال 1-15.
يعمل الإنسان البرّ في مجال العمل [1-4]، فتنعكس أمانة قلبه وإخلاص نيته على عمله. لا يعرف الغش ولا الخداع، مهما كان الإغراء المادي أو المعنوي. يسلك كخالقه ومخلصه بروح الوداعة والتواضع بدون طمع.
ويمتد أثر الأمانة الداخلية إلى مجال المشاكل الشخصية [5-8]: كيف يخرج البار منتصرًا وسط المشاكل والمتاعب والضيقات.
وأيضًا في مجال الحكم [9-15]: يقيم المواطنون الأبرار مجتمعًا متهللاً [10]، ساميًا [11]، يعمه السلام [12-13]، ويحمل روح النصرة [14].
أولاً: في مجال العمل1-4.
“موازين غش مكرهة الرب،
والوزن الصحيح رضاه” [ع 1]
الترجمة الحرفية للتعبير العبري ba eben shelemak يعني “موازين حجارة“، حيث كانت الحجارة تستخدم في الموازين.
يستهين كثيرون بالغش في الموازين والمقاييس، وهم لا يدرون أنها مكرهة في عينيّ الرب الذي لا يطيق الغش والخداع.
V كل عمل فيه ظلم معيب، حتى في الأمور العامة. فالموازين الغاشة والمقاييس الظالمة تسقط تحت اللعنة. إن كان الغش في السوق أو في العمل يسقط الإنسان تحت العقوبة، فهل يمكن التغاضي عنه إن وجد في وسط تنفيذ واجبات الفضيلة؟![312]
V ليزن كل أحدٍ كلماته بدون غشٍ أو خداع. “موازين غش مكرهة أمام الرب“. لست أقصد ذاك الميزان الذي يزن أمور أخرى. أمام الرب هذا الميزان للكلمات بغيض، الذي يزيف الوقار الحكيم، بينما يمارس الخداع بمكرٍ. يدين الله الإنسان الذي يغش قريبه بظلمٍ غادرٍ. إنه لا يقتني نفعًا من ذكائه الماهر. لأنه ماذا ينفع الإنسان إن اقتنى غنى كل العالم ويخدع نفسه فلا يقتني الحياة الأبدية؟[313]
القديس أمبروسيوس
اختلال موازين الإنسان ومعاييره ومفاهيمه
إن كانت الخطية قد أفسدت موازين الإنسان ومعاييره ومفاهيمه، فإن تجسد حكمة الله قد أعاد للإنسان صدق موازينه ومقاييسه وأوزانه لكي يعطي الإنسان لكل شيءٍ ولكل كائنٍ حقه، فيعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله (مت 22: 21). صار لنا بعمل الحكمة الإلهية إمكانية إعادة الأمور في موازينها الصادقة مثل:
ا. التوازن بين النفس والجسد. خلق الله للإنسان موازين صادقة ليهتم بكيانه كله، فيعمل بجسده بكل طاقاته وقدراته، كما بنفسه بكل إمكانياتها. تتسلم النفس قيادة الجسد ليسير الإنسان ككل في الطريق الملوكي. لكن الخطية أفقدت الإنسان موازينه، فجعلت من الجسد قائدًا يمتطي النفس ويديرها حسب شهواته الشريرة. اختلَّت الموازين فصار الراكب مركوبًا، والمركوب راكبًا. لذلك جاء حكمة الله متجسدًا، وحمل جسدنا وله نفس كإنسان كامل، لكي فيه يتناغم الجسد مع النفس، ويسلك الاثنان الطريق السماوي.
بتجسده وصلبه وقيامته وصعوده فتح أبواب السماء ليحل الروح القدس في الإنسان بكليته، يفتح كل أبوابه، ليقود النفس والجسد معًا في المراعي السماوية بلا صراع.
ب. اختلَّت موازين الإنسان بالخطية في نظرته للأرض والسماء، فحسبَ الأرض مسكنه كمن يخلد فيها، وتطلع إلى السماء كوهمٍ أو خيالٍ. لم يعد قادرًا أن يدرك “إنما كخيالٍ يتمشى الإنسان” (مز 39: 6)، فإنه يحسب الأرض واقعًا يستحق كل الاهتمام أما السماء والأبديات فأمور ثانوية. على كلٍ مجيء السماوي أصبغ على نظرة المؤمن مسحة سماوية، فيرى وكأن الأرض قد صارت سماءً، يشكر الله على واقعه كإنسان يحيا على الأرض، وقلبه في السماء.
ج. أفقدت الخطية الإنسان موازينه الصادقة ليزن احتياجاته الروحية والنفسية والعقلية والعلمية والاجتماعية… فلا يقدر أن يدرك وحدة الحياة ليوازن بين كل جوانب حياته، ليكون أمينًا في كل شيء، سويًا في شخصيته. أما وقد تجسد خالق النفس والجسد وطبيب الإنسان الفريد، أعاد للحياة وحدتها، ليصير الإنسان ناجحًا في كل شيءٍ، بعمل روح الله القدوس، روح القوة والنصرة، وليس روح الفشل.
د. اختلَّت موازين فكر الإنسان في نظرته لكيانه، فلم يعد قادرًا أن يجلس مع نفسه ليتطلع إلى أعماقه الداخلية، فيكتشف ملكوت الله داخله، ويدرك أن الله خلقه ليقيم منه مسكنًا لروح الله. فقد الإنسان إدراكه لإنسانه الداخلي، فصار يرى في حياته فناء للإنسان الخارجي دون النمو والتجديد لإنسانه الداخلي. لكن بالمسيح يسوع الذي يجتذب نظراتنا نحو الداخل، قائلاً لنا: “ملكوت الله داخلكم” صرنا نترنم مع الرسول بولس: “إن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا” (2 كو 4: 16).
هـ. اختلَّت موازيننا حتى في نظرتنا لله والعالم والجسد وكل خليقة سماوية وأرضية، وجاء مسيحنا الحكمة المتجسد يقدم لنا روحه القدوس ليهبنا موازين جديدة خلالها ندرك الآتي:
V يقترب الله إلينا بالحب، هو أب حتى في تأديباته، يفتح أحضانه لنا.
V الجسد وزنة مقدسة، هبة إلهية، لها قدسيَّتها، سواء جسدنا أو أجساد الآخرين. فلا نتطلع إليها لإشباع شهوات جسدية بل كمقْدس إلهي يُسر به الرب.
V العالم جسر نعبر خلاله إلى أورشليم العليا، نسير عليه بكونه عطية إلهية. نقبل الآلام كمدرسة للفلسفة وطريق للدخول إلى شركة المجد مع مسيحنا المتألم، كما نفرح بكل عطية وبركة تبعث فينا روح الشكر والتسبيح لله.
V الخليقة السماوية بالنسبة لنا هي مجتمع السماء الذي نجد فيه صداقات تدوم أبديًا.
V الخليقة الأرضية هي وزنات نتعامل معها، فننمو في حياة الأمانة، نشارك مسيحنا سمة الأمانة.
و. حوَّلت الخطية الخداع والمكر إلى حكمة بشرية، والأمانة والصدق إلى انغلاق للفكر. هكذا انقلبت الموازين، فصار الحق باطلاً في عينيّ الإنسان، والباطل حقًا! وجاء حكمة الله ليقدم ذاته “الحق” المبذول بالحب خلال الصليب، فيراه اليهود عثرة واليونانيون جهالة (1 كو 1: 23). بالمسيح يسوع ندرك الحكمة الحقيقية.
ز. اختلَّت موازين الإنسان بروح الأنانية حيث يقيم من الأنا ego مركزًا للعالم، يطلب ما هو لنفسه. وقد جاء “الحب” ذاته ليحطم الأنا الذي فيه أنانية قاتلة، ويحيا هو فينا، فينفتح فكرنا ويتسع قلبنا، فنحمل مع مسيحنا إن أمكن جميع الناس.
“تأتي الكبرياء فيأتي الهوان،
ومع المتواضعين الحكمة” [ع 2]
جُبلت الخليقة من العدم، فليس لها في الواقع ما تفتخر به أمام خالقها. الكبرياء هو جحد لعمل الخالق الذي يريد تكريم خليقته العاقلة، ويود أن تنمو وتتمجد على الدوام. أما التواضع فيحمل ذبيحة شكر لله الخالق وعرفان بالجميل. الكبرياء مؤشر خطير للغباوة والجهالة المهلكة، بينما التواضع مؤشر روحي للثبات في الحكمة السماوية المقدمة لنا عطية مجانية من قبل الخالق.
حينما تمشَّى نبوخذنصر على القصر، وفي تشامخ قال: “أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك، بقوة اقتداري ولجلال مجدي” (دا 4: 30)، طُرد من بين الناس ليعيش كالثيران. وعندما رجع إليه عقله وبارك الله وسبَّحه وحمده، يقول: “رجع إلى عقلي، وعاد إلى جلال مملكتي ومجدي وبهائي” (دا 4: 36).
يتحوْصل المتكبر حول نفسه، ويظن في نفسه أنه مركز العالم والمجتمع، فيطلب أن يخدمه الكل ويحترمونه، ظانًا أنه شيء، فيجد الآخرين يعاملونه بغير ما يتوقع، فيشعر بالمهانة والخزي حتى في عينيّ نفسه. أما المتواضع فلا ينتظر كلمة مديح ولا يتوقع خدمة الغير له، ولا يشتهي ذلك، فإذا به يُحسب حكيمًا وينال كرامة ويكون موضع حب الكثيرين.
V إنها الكبرياء هي التي تحوِّل الإنسان بعيدًا عن الحكمة، والغباوة هي ثمرة التحول عن الحكمة[314].
V “طوبى للمساكين بالروح. لأن لهم ملكوت السماوات”. نقرأ في الكتاب المقدس عن التعب من أجل الأمور الزمنية “الجميع باطل وكآبة الروح”[315] أما كلمة كآبة الروح Presumption of spirit، فتعني الوقاحة والكبرياء والغطرسة، ومن المعتاد أيضًا أن يقال عن المتكبر أن به أرواحًا متعالية وهذا صحيح لأن الريح تدعى روحًا. وبهذا كتب “النار والبرَد والثلج والضباب الريح العاصفة Spirit of tempest (مز 148: 8) حقًا إن المتكبر يدعى منتفخًا كما لو كان متعاليًا مع الريح. وهنا يقول الرسول “العلم ينفخ ولكن المحبَّة تبني” (1 كو 8: 1)…
لنفهم بالحقيقة أن المساكين بالروح هم المتواضعون وخائفوا الله أي الذين ليس لديهم الروح التي تنتفخ.
بالحق ليس للتطويبات أن تبدأ بغير هذه البداية، مادامت موضوعة لأجل بلوغ الحكمة العالية “رأس الحكمة مخافة الرب” (مز 111: 10) ومن الناحية الأخرى “الكبرياء أول الخطايا” (حكمة يشوع 10: 15).
إذن فليبحث المتكبر عن الممالك الأرضية ويحبها، ولكن “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات”[316].
القديس أغسطينوس
V من يحب التواضع يقتني بالتواضع مواهب كثيرة.
إذ تبحث عن الرحمة، تجدها في المتواضعين، لأن التواضع مسكن البرّ.
التعليم موجود عند المتواضعين، والمعرفة هي ينابيع شفاههم.
التواضع يلد الحكمة والفهم، والمتواضعون يقتنون الفطنة…
عذبة هي كلمة المتواضع، ووجهه مشرق وهو يضحك ويفرح.
الحب جميل لدى المتواضعين، وهم يعرفون أن يتدبَّروا به.
يصوم المتواضعون عن كل الشرور، فتشع وجوههم بصلاح قلوبهم.
يتكلم المتواضع فيليق به الكلام، وتضحك شفتاه، فلا يُسمع صوت ضحكه…
يتواضع المتواضع، أما قلبه فيرتفع إلى الأعالي العلوية. حيث يكون كنزه هناك تكون أفكاره. عينا وجهه تنظران إلى الأرض، وعينا عقله إلى الأعالي العلوية[317].
القديس أفراهاط
V ليس شيء مقبولاً لدى الله مثل أن يحسب الإنسان نفسه آخر الكل، هذا هو المبدأ الأول للحكمة العمليّة، فإن المتواضع والمجروح في قلبه لا يحب المجد الباطل، ولا هو بغضوب، ولا يحسد قريبه، ولا يلجأ إلى أية شهوة[318].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
“استقامة المستقيمين تهديهم،
واعوجاج الغادرين خزيهم” [ع 3]
إذ يطلب الإنسان الحق بضمير مستقيم يعمل روح الله القدوس فيه، يقوده ويرشده ويرافقه في طريق الحق، كما حدث مع كرنيليوس قائد المِئة الوثني. إذ كان تقيًا خائف الرب أرسل له الله ملاكًا لكي يطلب سمعان بطرس يكشف له عن طريق خلاصه. وعندما جاء بطرس وبينما كان يتكلم معه ومع الحاضرين “حلٌ الروح القدس على جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة” (أع 10: 44).
الإنسان المستقيم أمين مع نفسه كما مع الغير، لهذا يجد طريقه واضحًا ومستقيمًا، أما الغادر أو الغاش فيصير طريقه معوجًا، ويفقد الطريق إذ لا يحقق رسالته.
يترنم داود النبي قائلاً: “ترسي عند الله مخلص مستقيمي القلوب” (مز 7: 10). “يفرح الصديق بالرب، ويحتمي به ويبتهج كل المستقيمي القلوب” (مز 64: 10). كما قيل: “نور قد زُرع للصديق، وفرح للمستقيمي القلب” (مز 97: 11). “المستقيمون يجلسون في حضرتك” (مز 140: 13).
V يلقب الله المخلصين الصادقين مستقيمين، هؤلاء الذين لا يخفون شيئًا ولا يحجبون فسادًا تحت السطح.
الاستقامة كما ترون هي هكذا، الله يتطلع إليها فوق كل شيء… الذين ينطقون بالحق لا يحتاجون إلى مجهودٍ ولا معاناةٍ ولا رياءٍ ولا مكرٍ، ولا إلى شيءٍ من هذا القبيل، لأن الحق يشرق خلال انسجامه.
بمعنى آخر، كما أن الأجسام المشوهة تحتاج إلى خداعٍ خارجي يغطي التشويه الطبيعي، بينما الجمال الطبيعي يحمل روعة في ذاته، هكذا أيضًا يمكن تمييز البطلان من الحق، والرذيلة من الفضيلة[319].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لا ينفع الغنى في يوم السخط،
أما البرّ فيُنجي من الموت” [ع 4]
كثيرًا ما يعتمد الغني على ثروته، حاسبًا أنها تحقق له المستحيلات.
لكن إذ يحل يوم الموت يكون بالنسبة للأشرار يوم سخط وغضب، فلا يشفع غناهم فيهم، بل يكون علة دينونتهم لأنهم أساءوا استخدامه. إنهم لا يقدرون في تلك اللحظة أن يشتروا غفران الخطايا، ولا أن يتمتعوا بالمراحم الإلهية. يصف سفر الرؤيا يوم الغضب هكذا: “السماء انفلقت كدرجٍ ملتفٍ، وكل جبل وجزيرة تزحزحا من موضعهما. وملوك الأرض والعظماء والأغنياء والأمراء والأقوياء وكل عبدٍ وكل حرٍ أخفوا أنفسهم في المغاير وفي صخور الجبال، وهم يقولون للجبال وللصخور اسقطي علينا، وأخفينا عن وجه الجالس على العرش، وعن غضب الخروف، لأنه قد جاء يوم غضبه، ومن يستطيع الوقوف” (رؤ 6: 14-17).
V أنا أعرف لماذا كُتب: “لا تنفع الثروة في يوم السخط“. قيل هذا عن الشخص الذي لا يستخدم ثروته للرحمة. أليس في قدرة الثروة أن تُستخدم في وقت الحاجة؟ في الساعة التي فيها ترجع روحك إلى يديّ الله، ستفهم أن فائدة غناك الكامل هو استخدامه في الرحمة. فقد أعطى لك من يسوع المسيح، الله وابن الله[320].
القديس الأنبا شنوده
V يقودنا (سليمان) نحو الفهم، خاصة عندما يقول: “لا ينفع الغنى في يوم السخط“. إذ يسكب في قلبك معرفة أن فيض المال لن يعينك في ذلك اليوم، ولا ينزع عنك العقوبة الأبدية. وعندما يقول: “يرث البار الأرض” (راجع أم 2: 21)، يعني بوضوح الأرض التي يرثها أيضًا الودعاء. فقد قال أولاً المرتل: “يرث الودعاء الأرض” (مز 37: 11 LXX). وبعد ذلك قال الرب: “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض” (مت 5: 4)[321].
القديس باسيليوس الكبير
ثانيًا: المشاكل الشخصية 5-8.
أما البار فيخلص من الموت الأبدي، إذ يتمتع بشركة المجد الأبدي.
V كثيرة هي بلايا الصديق (البار)، ومن جميعها ينجيه الرب” (مز 34: 19). هل قال: “ليكن المسيحيون أبرارًا، وعندئذ يسمعون كلمتي لا يعانون من بلايا؟ لم يَعد الله بهذا، بل يقول: “كثيرة هي بلايا البار”. بالحري متى كانوا أشرارًا تكون لهم بلايا أقل، ومتى كانوا أبرارًا تكون لهم بلايا كثيرة. ولكن بعد البلايا القليلة، أو مع عدم وجود بلايا يذهب أولئك (الأشرار) إلى محنةٍ أبدية، حيث لا يمكنهم أن ينجوا منها. أما الأبرار فبعد البلايا الكثيرة يأتون إلى سلامٍ أبدي، حيث لا يعانون بعد من أي شرٍ[322].
القديس أغسطينوس
“برّ الكامل يقوِّم طريقه،
أما الشرير فيسقط بشرّه” [ع5]
كثيرًا ما يؤكد السفر هذه الحقيقة أن البرّ هو سند المؤمن، منقذ له، ومرشد له وسط ضيقات الحياة، وإن استخدم ألفاظًا وتعبيرات متباينة.
تُعرف فلسطين بصخورها وتلالها، فيجد المسافرون متاعب في رحلاتهم، فإنه القائد هو البرّ، إذ يقود المؤمن إلى المجد الأبدي وسط صخور هذه الحياة.
“برّ المستقيم يُنجيهم،
أما الفاسدون فيُؤخذون بفسادهم” [ع 6]
ينصب الفاسد لنفسه شباكًا يسقط فيها. أما البار فيرفع البرّ قدميه، ولا تقدر الشباك أن تقتنصه.
V السيرة المستقيمة والإيمان بالله هما سلاحٌ عظيمٌ مقاومٌ للشياطين، الذين يخافون من الصيام والنسك وسهر الليل والصلاة، والهدوء والوداعة وبغضة الفضة، والافتخار والتواضع ومحبة المسكنة والرحمة، وعدم الغضب وفعل البرّ في المسيح، لأنّ الشياطين يجاهدون جدًا أن لا يُقهَروا. فلنذكر نحن في قلوبنا أن الرب كائنٌ معنا في كل حين فلا تقدر الشياطين أن تصنع بنا شيئًا، وإن رأوا أننا خفنا وضعفنا يجعلون الخوف يزداد بالأكثر في قلوبنا بأفكارهم. فإذا وجدونا فرحين بالرب في كل حين وأننا نفكِّر في قلوبنا في الخيرات العتيدة ونتكلم فيما للرب ونفكِّر قائلين: إنّ كل شيء هو بيد الرب؛ فإن الشياطين لا تقدر أن تصنع شيئًا ولا لهم سلطان في شيء من الأشياء البتّة. فإذا وجدوا النفس محصّنةً بهذه الأفكار هكذا يخزون للوقت ويرجعون إلى ورائهم، لأنه هكذا وجد العدو أيوب محصّنًا ثابتًا فتباعد عنه، عندما لم يقدر أن يُميل فكره عن الله، ولأجل هذا افتُضِح.
القديس أنبا أنطونيوس
V إني أعجب من احتيال الشيطان، لأنه وإن كان هو الفساد والأذى بعينه، فهو يقترح أفكارًا تبدو طاهرة، ولكن النتيجة تكون فخًّا أكثر منه تجربة[323].
القديس أنبا أثناسيوس
V إذا حدث لك أنك تعرّضتَ لهذه الشرور فاسأل نفسك: ماذا نفعل في هذا العالم؟ إنّ زماننا لقصيرٌ، إنّ مصيرك لَهو إلى الفساد وأنت في الطريق إلى القبر. ثم قُل لنفسك: ماذا تفعلين هناك؟ انطرحي أمام الرب لئلاّ يُحكَم عليكِ بالنار الأبدية. قاوم بدون مهادنة العدو الذي يلكمك ويُبيد فهمك. طوبى للذين يعبرون هذه المناطق المظلمة والمرعبة، هذا الليل الرهيب، والأماكن المقفرة، وهذا الجو الفاسد الذي للخطية، ويصل إلى الراحة والابتهاج في فرح الروح القدس[324].
القديس مقاريوس الكبير
“عند موت إنسانٍ شرير يهلك رجاؤه،
ومنتظر الأثمة يبيد” [ع 7]
عندما يموت بار يتحول رجاؤه إلى حقيقة مجيدة، ولا يجتازه خوف، ولا يسقط في ضعف، أما الشرير المُصر على عدم التوبة في تهاون مترجيًا مراحم الله، فبموته يفقد هذا الرجاء الباطل.
الرجاء بركة عظيمة للإنسان الروحي المجاهد، الذي يحتمل الآلام متطلعًا إلى المجد الأبدي المُعد له من قِبل الله مجانًا، أما بالنسبة للشرير فالرجاء يمثل تهاونًا وتراخيًا. فإنهم يسلكون في طريق الهلاك مدّعين أنهم يخلصون ويتمتعون بملكوت السماوات، رافضين أن يُغيِّروا اتجاههم نحو الأبدية، مثل هؤلاء يكون رجاؤهم ليس إلا مقبرة.
V عندما يموت إنسان بار لا يهلك الرجاء. إنه يترجى أن أولاده يسلكون حسنًا، ويترجى أن ينال أمورًا عظيمة. هذه العبارة أيضًا تنقلنا إلى الأفكار الخاصة بالقيامة، أو إلى الأجيال القادمة بعدنا. أو تعني أن من كان بارًا ينعم في كل هذه الأمور فعلاً، وسينعم بتحقيقها المستقبلي الكامل، أخيرًا سيتمتع بالمجد الذي بعد الموت[325].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V يا بُنيَّ، قبل كل شيء لا تحسب نفسك شيئًا، فهذا هو والد التواضع. والتواضع يلد التعليم، والتعليم يلد الإيمان، والإيمان يلد الرجاء، والرجاء يلد المحبة، والمحبة تلد الطاعة، والطاعة تلد الثبات بلا تزعزع.
V يا ابني، أسرع وانتبه، لئلا تضلُّ وتتكاسل وتتوانى فتكون حقيرًا في الدهر الآتي. لأنه مكتوب: الويل للمتوانين، فإن آخرتهم قد اقتربت، وليس معين لهم ولا رجاء خلاص.
القديس أنبا أنطونيوس
“الصديق ينجو من الضيق،
ويأتي الشرير مكانه” [ع 8]
كثيرًا ما ينصُب الشرير فخاخه للصديق، وإذا به يسقط هو فيها، فيشعر الصديق بعناية الله الفائقة له.
إذ يرذل الشرير الحب والرحمة يُلقي بنفسه في يد العدالة، فيشرب من الكأس التي أعدها لنفسه ظانًا أنه يُقدمها لأخيه.
الصليب الذي أعده هامان لمردخاي، صًلب عليه هامان (إس 7: 9-10)، وجُب الأسود الذي خطَّط له متهمو دانيال للخلاص منه، ألقوا هم وعائلاتهم فيه والتهمتهم الأسود الجائعة (دا 6).
سفك المصريون دماء أطفال الإسرائيليون، وإذ عطش المصريون ووجدوا الدماء ممتزجة بماء النيل. بالكيل الذي به يكيل الإنسان لأخيه يُكال يه.
ثالثًا: في الحكم 9-15.
“بالفم يُخرِّب المُنافق صاحبه،
وبالمعرفة ينجو الصديقون” [ع 9]
المنافق ينطق بغير ما يبطن في داخله. فلا يُحطم نفسه وحدها، وإنما يجتذب صاحبه معه. وكأن سليمان الحكيم يدعونا إلى التمتع بروح التمييز والهروب من صحبة المنافقين حتى لا نهلك معهم.
V لا تحمل لإنسان سوء نية حتى لا تصير أتعابك باطلة.
V الإنسان الذي له خبث الانتقام في قلبه عبادته باطلة.
V هذا هو نضالنا: ألاّ يكون لنا انفعالٌ في الفم أو إثم أو خبث في القلب.
الأب إشعياء
إن كان المنافقون المخادعون يهلكون بكلماتهم المملوءة خداعًا، فإن أولاد الله يستطيعون بروح التمييز أن يفلتوا من خداع المنافقين كمن من خداع عدو الخير.
V للنفس إفراز من إحساسها العقلي تعرف به الفرق بين الصدق والكذب، كما يميِّز الفم بين الخمر والخلّ، وإن كانا متشابهين في اللون، هكذا النفس من الإحساس العقلي تعرف الفرق بين المنح الروحية والتخيلات الشيطانية.
القديس مقاريوس الكبير
V يا بُنيَّ، لا تتكلم بغضبٍ، بل ليكن كلامك بحكمة ومعرفة، وكذلك سكوتك أيضًا، لأن آباءنا الحكماء كان كلامهم مملوءً من الحكمة والتمييز، وكذلك سكوتهم.
القديس أنبا أنطونيوس
“بخير الصديقين تفرح المدينة،
وعند هلاك الأشرار هُتاف” [ع 10]
إن كان المنافق يُهلك صاحبه، فإن الصديق يصير بركة المدينة بأكملها، ليس فقط بإرشاداته ونصائحه، وإنما أيضًا بصلواته وطلباته عن الغير، وبركة الرب العاملة فيه. يقول الرب: “طوفوا في شوارع أورشليم وانظروا واعرفوا وفتشوا في ساحاتها، هل تجدون إنسانًا أو يوجد عامل بالعدل، طالب الحق، فاصفح عنها؟!” (إر 5: 1).
أما بالنسبة للأشرار فعند موتهم يحزن الأبرار على هلاكهم، لكنهم يهتفون فرحًا من أجل إنقاذ البسطاء الذين كان يقاومهم الأشرار ليحطموهم.
“ببركة المستقيمين تعلو المدينة،
وبفم الأشرار تُهدم” [ع 11]
الصديقون بركة ليس فقط لأنفسهم وعائلاتهم، بل وللمدينة كلها.
يقدم لنا القديس أنطونيوس الكبير صورة رائعة للقديس باخوميوس الذي ببركته “تعلو المدينة“، وذلك في حديثه مع أولاد القديس باخوميوس أثناء زيارتهم له، إذ قال لهم: [لا تتوجع قلوبكم، يا أولادي، من أجل رجل الله الصدِّيق المزيَّن بكل الفضائل أبينا باخوميوس لأنه رقد، لأنكم قد صرتم معه جسدًا واحدًا وشركاء في الأعضاء (أي العضوية)، وقد امتلأتم من نعمة روح الله القدوس التي كانت تُنير داخله. وفي الحقيقة إنني كنتُ اَشتهي أن أنظره في الجسد، وبحقٍ إنني لم أستحقه، ولاسيما أن النفوس التي جمعها حوله هي مقدسةٌ لرب الصباؤوت، وأولئك سوف يُظهِرون الأمر أنهم مرتفعون أكثر منا ويسيرون في طريق الرسل التي للمسيح التي هي الشركة المقدسة.]
V صلُّوا، إذن لأجل العالم، لأنّ “عينا الربِ نحو الصدِّيقين، وأذناه إلى صراخهم” (مز 34: 15). فأنتم تعلمون جيدًا أنّ الله يسمع صلاة الأبرار وأنّ توسُّل الإنسان الصالح له فاعلية عظيمة، فاذكرونا بلا انقطاع[326].
القديس أنبا سيرابيون أسقف تميّ
كما تتبارك المدينة بوجود القديسين وصلواتهم، تتحطم أيضًا بفم الأشرار المملوء تجديفًا وكذبًا.
“المحتقِر صاحبه هو ناقص الفهم،
أما ذو الفهم فيسكت” [ع 12]
أحيانًا يكون الصمت هو أفضل ما نفعله، خاصة إن كانت كلماتنا تفقدنا سلامنا، أو تُسيء إلى أعماقنا، أو إلى الغير.
الإنسان الجاهل يترصد أخطاء الغير، ويُركز على ضعفاتهم، فيحتقرهم، أما الحكيم فيستر على ضعفات إخوته ويسندهم في كل جانب إيجابي لنموّهم وبنيانهم المستمر.
V لا يوجد عمل محبة أفضل من أن لا يحتقر الإنسان أخاه كما هو مكتوب: “لا تُبغض أخاك في قلبك، إنذارًا تُنذر صاحبك، ولا تحمل لأجله خطية” (لا 19: 17). وعلى ذلك فإذا رأيتَ أخاك مستمرًا في الخطية وأنت أهملتَ في إنذاره حتى يعرف حينئذٍ خطأه فسيُطلَب دمه منك. ولكنه إذا كرّر الخطية واستمر فيها فهو يموت بخطيته، وجيدٌ لك أن تشفيه بالمحبة دون أن تجرحه ولا تزدري به كعدو.
أنبا يؤنس القصير
V إذا صلّيتَ ولم يأتِ على فكرك شيء من الشر، فقد صرتَ حرًّا. الذي يلوم أخاه أو يحتقره أو يقع فيه أمام آخرين أو يُظهِر له غضبًا، فهو بعيدٌ من الرحمة. وإن قال إنسان إنه يريد أن يتوب من خطاياه وهو يفعل شيئًا من ذلك فهو كذّاب[327].
القديس أنبا إشعياء
“الساعي بالوشاية يُفشي السرّ،
والأمين الروح يكتم الأمر” [ع 13]
الإنسان الأمين لا يفشي الأسرار التي أؤتمن عليها، اللهم إذ كان في ذلك بنيان لنفوسهم وفي الحدود اللائقة لخلاص الغير لا التشهير بهم.
V عبِّس وجهك لدى مَنْ يبتدئ أن يقع في أخيه قدامك، فإنك إن فعلتَ ذلك تكون متحفظًا عند الله وعنده.
مار إسحق السرياني
“حيث لا تدبير يسقط الشعب،
أما الخلاص فبكثرة المشيرين” [ع 14]
الاعتماد الكلي على حكم الإنسان نفسه هو غاية الغباوة، فإنه حتى أكثر الناس حكمة وتقوى لهم أخطاؤهم الجسيمة، وأحيانًا عدم القدرة على التمييز. لا يوجد إنسان معصوم من الخطأ. فالإنسان في حاجة إلى طلب مشورة الله والالتجاء إلى أبٍ روحيٍ أو مرشدٍ روحيٍ. فقدْ فقدَ رحبعام أغلب المملكة لأنه تجاهل هذه الحقيقة الهامة، وكثيرون أصابهم أضرار جسيمة لذات السبب[328].
يليق بالمؤمن ألا يتكل على فكرة الذاتي ومشاعره، بل يستشير ويناقش بروح التواضع والرغبة الصادقة في الاستفادة بقدرات الآخرين وخبراتهم.
يذكر لنا سفر دانيال احتياج نبوخذنصر إلى مشيرٍ حكيمٍ من قِبل الله، وإذ كشف له السر مجٌَد الملك إله دانيال (دا 2: 46). كما احتاج بيلشاصر الملك إلى مشير (دا 5: 13).
V إذ نريد كلنا أن نخرج من مصر، ونهرب من فرعون، نحتاج بوجه التأكيد إلى موسى آخر، وسيطًا من الله ولدى الله، لكي بوقوفه من أجلنا فيما بين العمل والعلم (التأمل) يمد ذراعي الصلاة إلى الله، إلى أن يعبر الذين يقتادهم بحر خطاياهم، ويقهروا عماليق (خر 17)، وينصب راية النصرة. فقد انخدع من يسلم ذاته لهذا الطريق (الرهباني)، ويتوهم أنه لا يحتاج إلى من يقوده ويرشده[329].
القديس يوحنا الدرجي
V قال شيخ: [فرَّق إنسان غني جميع ممتلكاته، وعتق عبيده وزهد في الدنيا، ثم صار متكلاً على ذاته مرشدًا لنفسه، ورأى ألاّ يكون تابعًا لغيره ولا أن يتعلم ممن هو أقدم منه، فسقط في نجاساتٍ بشعة وكاد أن يهلك لولا أنّ الله بفضله أنقذه بالتوبة، فتعلّم بالخبرة أنّ التواضع هو أعظم من الأعمال.]
بستان الرهبان
V إن لم يمشِ (المؤمن) مع مرشده من البداية حتى النهاية، فلن يصل أبدًا إلى المدينة. فاطرح مشيئتك خلفك وتواضع وأنت تخلص.
القديس برصنوفيوس
“ضررًا يُضر من يضمن غريبًا،
ومن يُبغض صفق الأيدي مطمئن” [ع 15]
سبق فتحدث عن عدم التسرع في ضمان إنسان غريب. دون فحصٍ وتدبيرٍ حسنٍ، سواء من جهة صدق احتياجه، ودراسة استخدامه للقرض، وإمكانية المقترِض والضامن للسداد (راجع أم 6: 1-5).
يخشى الحكيم من التسرع في ضمان إنسانٍ غريبٍ جاء ليقضي ليلة أو يومًا للاقتراض دون وجود ضمانات للسداد، أو عدم جديته في السداد.
أما مسيحنا فقد وقَّع بدمه على خشبة الصليب ضامنًا إيَّانا. لقد دفع ثمن خطايانا، الموت، فهو قادر على السداد. يقول الرسول بولس: “فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم اِفتقر وهو غني، لكي تستغنوا أنتم بفقره” (2 كو 8: 9). صار ضامنًا لنا نحن الغرباء، لكي ينزع عنا تغربنا. “فلستم بعد غرباء ونزلاء، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله” (أف 2: 19). بحبه الفائق يقول: “حينئذ رددت الذي لم أخطفه” (مز 69: 4)، إذ سدد ديوننا التي لم يقترضها، فصرنا به أحرارًا[330].
مكافآت البرّ الأكيدة 16-31.
أولاً: فضائل مسيحية 16-23
ا. نعمة المرأة مكرّمة
“المرأة ذات النعمة تحصل كرامة،
والأشدّاء يحصلون غنى” [ع 16]
في الترجمة السبعينيّة: “المرأة ذات النعمة ترفع الكرامة للإنسان، أما التي تكره الأمور البارة فهي عرش للهوان”. بمعنى أنه بسبب الزوجة التقية والحكيمة يكرَّم رجلها، أما التي لا تهتم بأبديتها وخلاصها، فتصير كرسيًا للعار، كل من يلتصق بها يخسر كرامته. وكأن الحكيم هنا يحث الإنسان أن يختار شريك الحياة ذا نعمة وتقي.
الأشداء أو الأقوياء جسمانيًا غالبًا ما يكونوا قادرين على العمل من أجل التمتع بالثروة، كما على حمايتها ممن يحاولون سلبها أو اغتصابها. هكذا بالنعمة والوداعة تستطيع المرأة أن تنال كرامة وتقديرًا في أعين الكثيرين. ليس في المرأة ما هو أجمل من لمسة النعمة ومسحة التواضع والوداعة واللطف مع الحكمة. هذا ما لمسه داود النبي في شخصية أبيجايل، إذ قال لها: “مبارك الرب إله إسرائيل الذي أرسلكِ هذا اليوم لاستقبالي. ومباركة أنتٍ لأنك منعتيني اليوم من إتيان الدماء، وانتقام يديَّ لنفسي” (1 صم 25: 32-34).
كما استطاعت راعوث الأممية أن تنال نعمة في عينيّ الله الذي اختار أن يأتي كلمة الله متجسدًا من نسلها، وفي أعين الشعب. وكما قال لها بوعز: “لأن جميع أبواب شعبي تعلم أنكِ امرأة فاضلة” (را 3: 11).
V إذ يتحدث عن مجد الرجل، يقيم بولس الآن توازنًا هكذا، فلا يفتخر الرجل فوق الحد اللائق، ولا يُضغط على المرأة. ففي الرب المرأة ليست مستقلة عن الرجل، ولا الرجل مستقل عن المرأة. إن كنت تسأل من الذي جاء بعد الآخر، فإن كل منهما هو علة الآخر، أو بالأحرى ليس كل من الآخر بل الله هو علة الكل[331].
V وقفت النسوة عند الصليب، الجنس الضعيف الذي ظهر أكثر قوة، وهكذا تغيرت كل الأمور تمامًا[332].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ب. رحمة الرجل تفيد نفسه
“الرجل الرحيم يُحسن إلى نفسه،
والقاسي يكسر لحمه” [ع 17]
ما يفعله الإنسان بالغير إنما يقدمه لنفسه، فما يمارسه من رحمة مع الآخرين إنما يدفع به للتمتع بالمراحم الإلهية، كما يكسب لنفسه السلام الداخلي. والذي يظن أنه يُحطم الغير بعنفه إنما يُحطم نفسه وهو لا يدري. الكأس التي نملؤها للآخرين نلتزم نحن بشربها.
V ما هي النقاوة؟ هي قلب رحيم على جميع طبائع الخليقة.
V صلاة الحقود كبذار على صَفَا (صخرة). ناسك غير رحيم كشجرة بلا ثمر.
مار إسحق السرياني
V كُنْ راغبًا في الصالحات وحافظًا لها، خادمًا مرضيًا عند سيدك، تلميذًا متواضعًا لذاك الذي لأجلك وضع نفسه، تلميذًا مطيعًا للمطيع ومتحمِّلاً للمتحمِّل، طويل الأناة للطويل الأناة، رحيمًا لأجل الرحيم، حاملاً لأثقال قريبك كما حمل هو نفسه أثقالك، محبًا للجميع بإخلاصٍ كما أنه هو ذاته أحبَّنا، تابعًا له في كل الأمور حتى يستقبلك في راحته العظمى حيث “ما لم ترَ عين ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعدّه الله للذين يحبونه” (1 كو 2: 9).
القديس برصنوفيوس
ج. زرع البرّ يهب مكافأة حقيقية
“الشرير يكسب أجرة غش،
والزارع البرّ أجرة أمانة” [ع 18]
يربط الحكيم بين الشر والغش، وبين البرّ والأمانة. فالشر يحمل في داخله خداع للنفس وللبصيرة الداخلية، فيظن الشرير في الخطية الحياة المبهجة والسعادة أو الغنى أو الكرامة. والصديق أو البار يرى في الأمانة مع الله ومع نفسه كما مع الناس سر سعادته الداخلية. فالشر يحمل في داخله ثمره الفاسد، والبرّ يحمل في داخله مكافأته.
المثل الواضح لهذا التقابل الخطير هو سنحاريب ملك أشور وحزقيا. الأول في شره كان يعيِّر الله، ويتكلم ضده في عجرفة وتشامخ. فيقول: “كما أن آلهة أمم الأراضي لم تنقذ شعوبها من يديَّ، كذلك لا ينقذ إله حزقيا شعبه من يديَّ” (2 أي 32: 17). أما حزقيا التقي، رجل الصلاة، فتمتع بخلاص من يد أشور من قبل السماء عينها.
يحصد الشرير الغش الذي ظن أنه يخدع به الغير، ليجد نفسه أنه يغش ذاته. وأما الجاد في زرع بذور البرّ فيجد مكافأة أكيدة.
د. البرّ يهبنا حياة
“كما أن البرّ يؤول إلى الحياة،
كذلك من يتبع الشر فإلى موته” [ع 19]
القداسة الحقيقية هي حياة وسعادة حقيقية، أما من يجري وراء الشر إنما يجري لينهي حياته.
هـ. السلوك بلا التواء يقدم لنا بهجة في الرب
“كراهة الرب ملتوو القلب،
ورضاه مستقيمو الطرق” [ع 20]
ليس شيء لا يطيقه الرب مثل الرياء والالتواء، وليس شيء يحبه الرب مثل الاستقامة والقداسة.
و. العمل الجماعي لا يبرر الشر
“يد ليد لا يتبرر الشرير،
أما نسل الصديقين فينجو” [ع21 ]
ترابط الأشرار معًا لا يحميهم من ثمر شرهم، أما الصديقون فيتمتعون هم ونسلهم السالكون على مثالهم بالحماية الإلهية.
ز. جمال المرأة في عقلها
“خزامة ذهب في فنطيسة خنزيرة،
المرأة الجميلة العديمة العقل” [ع 22]
كثيرًا ما تحطم المرأة جمالها بعدم حكمتها فيكون حالها كمن يأتي بخزامة ذهب ويضعها في أنف خنزيرة.
يقول J. Vernon McGee : [هل رأيتم خنزيرة تسير حولكم وقد وُضعت خزامة ذهبية في فنطسيتها؟ حسنًا يُوجد الكثير منها هنا في… إنهم نساء جميلات بلا تعقل[333].]
إن كان الله قد وهب كثيرات الجمال الجسدي، فإن ما يعطي هذا الجمال وقاره وتقديره هو التعقل والحكمة والتمييز.
يشير الذهب إلى الحياة السماوية التي لن تفسد. فالمؤمن الحقيقي يلتزم أن يسلك بفكر سماوي عملي، فإن انحرف يكون كالخنزيرة التي تتمرغ في الوحل، فتشوِّه الخزامة الذهبية التي في فنطيستها (أنفها).
V إن كان يُعتقد أن البتولية أمرٌ ثمينٌ للغاية ولها منظر إلهي، لكن إن كانت الحياة ككل لا تتناغم مع النفس، تصير البتولية “خزامة ذهب في فنطيسة خنزيرة”، أو “لؤلؤة مُداسة بأقدام خنزيرة”[334].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
V فأولئك الذين تشير إليهم لا يملكون المعرفة التي لا يملكها غير الأنقياء، إنما يقتنون معرفة باطلة يتحدث عنها الرسول قائلاً: “مُعرضًا عن الكلام الباطل الدنس، ومخالفات العلم الكاذب الاسم” (1تي20:6). هؤلاء الذين يظهرون أنهم ينالون نوعًا ما من المعرفة، أو أولئك الذين يكرسون نفوسهم لقراءة المجلدات المقدسة، واستذكار الكتب المقدسة غير متخلِّين عن الخطايا الجسدية، هؤلاء قيل عنهم في سفر الأمثال: “خزامة ذهب في فِنطِيسة خنزيرةٍ، المرأَة الجميلة العديمة العقل” (أم 11: 22). لأنه ماذا ينتفع الإنسان إن اقتنى الزينة السماوية التي للبلاغة، والجمال الكثير الثمن الذي للكتاب المقدس، إن كان يفسد هذا الالتصاق بالأفعال القذرة والأفكار الشريرة، دافعًا إياها في أرض دنسة، أو ينجسها بالتمرغ في قذارة شهواته؟! النتيجة هي أن ما هو حلي بالنسبة للذين يستعملونه استعمالاً حسنًا، يصير بالنسبة لهم ليس عاجزا عن تزينهم فحسب بل قذارة ووحل متزايد، لأنه “لا يجمُل الحَمْد في فم الخاطئ” (سي 15: 9). إذ يقال له بالنبي. “ما لَكَ تحدث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك؟!” (مز 50: 16). مثل تلك النفوس لا تملك مخافة الرب بأي شكل من الأشكال إذ قيل: “مخافة الرب أدبُ حكمةٍ” (أم 15: 33). ومع هذا فإنها تحاول أن تستخلص معاني الكتاب المقدس بالتأمل المستمر فيه، وبلياقة يسألون في سفر الأمثال: “لماذا في يد الجاهل ثمن؟ ألاقتناءِ الحكمة وليس لهُ فهم؟ ” (أم 17: 16)[335].
الأب نسطور
V في اختصار إن كان أحد يظن أنه يصير جميلاً بالذهب فهو أقل من الذهب، والذي هو أقل من الذهب ليس سيدًا عليه. لكن أن يعترف الشخص أنه أقل جمالاً من المنجم الذي في (منطقة) ليديا، يا له من قبيح! إن كان الذهب تُفسده قذارة خنزيرة تُثير الوحل بفنطيستها (أنفها)، هكذا هؤلاء النسوة المتنعمات في لهوهن بمبالغة، متهللات بالغنى، يفسدن ما هو جميل حقًا، بواسطة دنس الخنوع للشهوات الجسدية[336].
القديس إكليمنضس السكندري
ح. غاية الأبرار الخير للجميع
“شهوة الأبرار خير فقط.
رجاء الأشرار سُخط” [ع 23]
ما يترجاه الأشرار هو أذيَّة الآخرين، بينما يشتهي الأبرار الخير للجميع؛ كل إنسان ينال في نفسه ما يشتهيه للغير، ما يطلبه لأخيه يرتد إليه.
إذ يُغرس قلب الإنسان في الرب الكلي الصلاح، يفيض القلب بالشوق نحو عمل الصلاح مع كل إنسانٍ ما استطاع. لهذا يوصينا المرتل: “تلذذ بالرب فيعطيك سؤل قلبك” (مز 37: 4).
ثانيًا: العطاء بسخاء [ع24-26]
العطاء في حقيقته هو أخذ، والسخاء في العطاء هو غنى وازدهار، وإراحة الغير تجلب لنا راحة. يقول السيد المسيح: “أعطوا تعطوا…” (لو 6: 38).
ويقول الرسول: “من يزرع بالشح، فبالشح أيضًا يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد. كل واحد كما ينوي بقلبه، ليس عن حزنٍ أو اضطرار، لأن المعطي المسرور يحبه الله” (2 كو 9: 6-7).
“يوجد من يُفرق فيزداد أيضًا،
ومن يمسك أكثر من اللائق وإنما إلى الفقر” [ع 24]
من يهتم بالعطاء للفقراء يُبارِك الله كل ما تمتد إليه يديه، فيزداد غنى وبركة، أما من يمتنع عن العطاء بسبب شُحُّه وبُخله، يفقد بركة الرب فيُحسب فقيرًا.
V تجتمع الشياطين سرًا ضدك مثل المصريين، وإبليس رئيسهم مثل فرعون، ويحاصرونك بالهموم والأفكار التي تظلم نفسك وتحرمك من رؤية نور معرفة المسيح.
وها هي الأفكار التي يبدأون إثارتها في عقلك:
لماذا تركت العالم حيث كان يمكنك أن تصير بارًا بسهولة؟
لماذا قمت بتبديد ثروتك التي كنت تتصدق منها حينما كانت بجانبك؟
الآن وقد وزعتها بسرعة وقبل الأوان، فربما تكون أعطيت لمن لا يستحقونها. فإذا كنت حفظتها واستثمرتها بحكمة، لأمكنك الآن أن تستضيف الغرباء وتخفف آلام التعابى وتكسو العريانين، وتساعد الرهبان والمتوحدين بعطاياك، وتقف بجانب الأرامل واليتامى؛ كان سيصبح منزلك مكانًا للأعمال الصالحة كلها؛ فكلما كانت أموالك بجانبك تساعدك على الراحة وعلى تخفيف آلام الآخرين[337].
القديس مار فيلوكسينوس
“النفس السخية تُسمَّن،
والمروي هو أيضًا يُروَى” [ع 25]
السخي، خاصة على المعتازين والمتألمين، في حب خالص ينال من الله مِئة ضعف من مراحم الله في هذا العالم.
عجيب هو الله فإنه وهبنا كل شيء، ويهبنا أيضًا سخاء النفس واتساع القلب لنستخدم ما وهبنا بطريقة لائقة، ويعود فيرد لنا مِئة ضعف من أجل تجاوبنا مع عطيته لنا.
الحب يروي نفوس الآخرين، فيروي الله بحبه نفوسنا الظمآنة.
V “كل نفس مباركة هي بسيطة [25 LXX ]، لا تلتصق بالأمور الزمنية، ولا تنحط إلى أسفل بأجنحة غير مبسوطة، إنما تشرق ببهاء الفضائل، تسبح في الهواء الطلق بجناحيّ الحب المزدوج (لله وللقريب)، وترى كيف تقدم للآخرين ما تجاهد فيه ولا تكون في راحة خاملة، بل تقول في أمان: “الرب أعطى، الرب أخذ، مبارك اسم الرب، ليفعل حسب مسرته!”
القديس أغسطينوس
V يقول: النفس التي تُبارِك تُسمن، والمُروي هو أيضًا يُروَى” [25]. فإن الذي يُبارك من الخارج بالكرازة يتقبل في الداخل سمنة اتساع (القلب)، وبينما لا يكف عن أن يُروي أذهان سامعيه بخمر البلاغة، يرتوي بالأكثر بالعطية المتكاثرة…
البابا غريغوريوس (الكبير)
V ليت هؤلاء الذين يخفون كلمة التعليم في داخلهم أن ينصتوا في فزع لصوت الدينونة الإلهية حتى ينزع هذا الفزع فزعًا آخر من قلوبهم (أي أن ينزع الفزع من الدينونة الفزع من الإقدام على التعليم). وليعلموا أن الذين لا يتقدمون بمواهبهم تضيع منهم ويخسرونها؛ لا يخسرونها فقط بل مع الخسارة تصيبهم اللعنة. وليسمعوا كيف أن بولس كان يصدق أنه بريء من دم إخوته قدرما لم يؤخر جهدًا في تعنيف الخطايا. في هذا يقول: “لذلك أُشهدكم اليوم هذا أني بريء من دم الجميع. لأني لم أُؤخر أن أخبركم بكل مشورة الله” (أع 20: 26-27). وليسمعوا أيضًا كيف أن الصوت الملائكي يحذر يوحنا قائلاً: “ومن يسمع فليقل تعال” (رؤ 22: 17)، بمعنى أن الذين يسمعون صوته في أعماقهم عليهم أيضًا أن يرفعوا أصواتهم ليجذبوا الآخرين إلى حيث يدعوهم الله. هذا لئلا إذا تقدم أحد هؤلاء خالي اليدين يجد الأبواب موصدةً أمامه. وحينئذ يسمع قول إشعياء الذي إِبّانَ خدمة الكلمة أغلق شفتيه بالرغم من أن النور السماوي أشرق وأضاء عليه وهو بهذا يصرخ نادمًا موبخًا نفسه قائلاً: “ويل لي أني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين” (إش 6: 5). وليسمع هؤلاء كلمات سليمان التي تبين كيف أن المعلم تزداد حكمته إذا لم يحجب مواهبه بسبب خطيئة الخمول، والتي تقول: “النفس السخِيَّة تُسَمَّنُ والمُرْوِي هو أيضًا يُرْوى” (أم 11: 25). الذين يخرجون لخدمة التعليم يوزِّعون بركاته، وبذلك يمتلئون داخليًا ويزدادون. وكلما استمر المعلم يروي سامعيه بنبيذ الكلمات الروحية الفعالة، أسكرته رشفات النعمة المتكاثرة. ليسمع هؤلاء كيف أن داود قام بتقديم ذلك بموهبة من الله، ولم يخبِّئ موهبة التعليم التي أعطاها الله إياه: “هوذا شفتاي لم أمنعها. أنت يا رب علمت. لم أكتم عدلك في وسط قلبي. تكلمت بأمانتك وخلاصك” (مز 40: 9-10)[338].
البابا غريغوريوس (الكبير)
V “أثر غضبه هو هلاكه” (سي 1: 22)، “الإنسان الغضوب ليس جميلاً”، فإنه لا يوجد شيء أكثر عيبًا ولا أقبح من الوجه الملتهب غضبًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“محتكر الحنطة يلعنه الشعب،
والبركة على رأس البائع” [ع 26]
يليق بنا ألا نحتفظ ببركات الرب وعطاياه لأنفسنا وحدنا في أنانية، بل نقدم مما وهبنا لإخوتنا. ربما يقصد بالاحتكار هنا أن يحتفظ الإنسان بالحنطة ولا يبيعها منتظرًا ارتفاع السعر حيث يملي شروطه على المشترين.
V ليت محبة المال تنتهي، لتمت شهوة (الغنى)… أن تطلب زيادة في السعر علامة الخبث لا البساطة. لذلك قيل: “من يطلب سعرًا عاليًا لحنطته يلعنه الشعب”.
V بحق يقول سليمان الحكيم: “محتكر الحنطة يتركه للأمم”، لا يورثه، لأن من يقتني الطمع لا يعمل لصالح خلفائه.
القديس أمبروسيوس
V “محتكر الحنطة يلعنه الناس”. من يحتجز لنفسه (الحنطة) ليس به رحمة. لا يجمع (الحنطة) من أجل الرحمة. مع أنه ما لم يجمع كيف له أن يقدم رحمة؟ أليس أيضًا حقيقة أن الناس يباركون من ينفق ويعطي؟ كما هو مكتوب هنا وعلى صفحات الأسفار المقدسة؟[339]
القديس الأنبا شنودة
يرى البابا غريغوريوس(الكبير) أن من يحتجز الحنطة لنفسه ويحتكرها هو ذاك الذي يحتجز كلمة الكرازة المقدسة لنفسه، ويلتزم بالصمت دون الانتفاع بها في إصلاح الآخرين، مثل هذا يستحق لعنة الشعب[340].
V الذين يستطيعون التعليم بتأثير عظيم إلا أنهم يبتعدون بفعل التواضع المفرط، ينبغي أن يتعلموا بأن يستدلوا من التفكر في الأمور الصغيرة كم يخطئون كثيرًا في حق المهام الأكبر والأعظم. ولذلك إن كان لهم أن يخفوا الأموال التي في حوزتهم عن الإخوة المعوزين، فإنهم دون شك يبثون فيهم الكآبة والحزن. ليتفكروا كم هم متورطون في ذنب عظيم، لأنهم إذ يحجبون كلمة التعليم عن الإخوة الخطاة، يحجبون دواء الحياة عن أنفسٍ سائرة إلى الموت. لذلك بالحق يقول الحكيم: “الحكمة المكتومة والكنز المدفون، أيّ منفعة فيهما”(سي 20: 32). إن كانت مجاعة تفني شعبًا، وأخفى هذا الشعب قمحه، فهؤلاء بلا شك هم دعاة للموت ومبشرون به. وعليه ليتفكر الذين لا يتقدمون لخدمة خبز النعمة التي قد أُنْعِمَ بها لهم عندما تهلك النفوس من العطش للكلمة المقدسة، في هول العقاب. لذلك قيل أيضًا بالحق على لسان سليمان: “محتكر الحنطة يلعنه الشعب” (أم 11: 26) الذي يخبِّئ الحنطة يحتكر لنفسه كلمات التعليم المقدس. إن مثل هذا الإنسان تصيبه اللعنة، لأنه بسبب خطيئة الصمت يستحق عقاب كل الذين كان يمكن أن يسلكوا في الصواب بسببه[341].
البابا غريغوريوس (الكبير)
ثالثًا: البحث عن الصلاح [ع 27-31]
البار لا يعتمد على الغنى المادي، بل على البرّ الأصيل [ع 28]. يرث مكافآت تبني بيته [ع29]، ويرى ثمر حياته في نفوسٍ يقودها نحو الرب [ع 30].
“من يطلب الخير يلتمس الرضا،
ومن يطلب الشر فالشر يأتيه” [ع 27]
من يسعى نحو الصلاح يُكافأ حسب إخلاصه وأمانته، فينال رضا الآخرين، ويصير موضع فرحهم. أما من يصنع الشر ويُسر بمتاعب الآخرين والإساءة إليهم، فيرتد هذا عليه. وكما قال أدوني بازق: “سبعون ملكًا مقطوعة أباهم أيديهم وأرجلهم كانوا يلتقطون تحت مائدتي، كما فعلت جازاني الله” (قض 1: 7). يقول الرسول: “الذي يزرعه الإنسان إيَّاه يحصد أيضًا. لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فسادًا، ومن يزرع للروح، فمن الروح يحصد حياة أبدية. فلا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكلّ، فإذًا حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولاسيما لأهل الإيمان” (غل 6: 7-10).
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه يليق بنا أن ننتهز كل فرصة لعمل الخير، فإن ضاعت الفرصة قد لا تعود مرة أخرى[342].
ويقول الأب ماريوس فيكتورينوس: [إنه لا يكفي أن نعمل الخير بل يلزمنا أن نسعى دومًا لعمل الخير، فإن كثيرين بدأوا بعمل الخير وتوقفوا، إما لأنهم تعبوا أو ضلوا عن الطريق. يلزمنا ألا نفشل في عمل الخير والاستمرار فيه[343]. كما يقول أيضًا: [الوقت مقصِّر، والحياة تبلغ نهايتها سريعًا، نهاية العالم على الأبواب. لنا فرصة، أي مادمنا في الحياة أو لا تزال الحياة قائمة في هذا العالم[344].]
“من يتكل على غناه يسقط،
أما الصديقون فيزهون كالورق” [ع28]
يقول الرسول: “أوصي الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا، ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى، بل على الله الحيّ الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع، وأن يصنعوا صلاحًا، وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة” (1 تي 6: 17-18).
يحذرنا السيد المسيح من الإقتداء بالغني الغبي الذي قال: “أعمل هذا، أهدم مخازني، وأبني أعظم، وأجمع هناك كل غلاتي وخيراتي، وأقول لنفسي: يا نفسي لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكُلي واشربي وافرحي” (لو 12: 18-19).
V فكَّر في نفسهِ قائلاً: ماذا أعمل، لأن ليس لي موضع أجمع فيه أثماري. قال أعمل هذا. أهدم مخازني وأبني أعظم وأجمع هناك جميع غلاَّتي وخيراتي. ليس هناك موقف أكثر تفاهة من هذا. فالحقيقة أنه قد هدم مخازنه، إذ أن المخازن الآمنة التي يعتمد عليها هي بطون الفقراء، وليست حوائط المخازن…
حقًا أتى الموت، وأخمد كل هذه الرفاهية، واقتاده كأسير منكسر الرأس، يئن خزيًا لا يستطيع الكلام، يرتعد خائفًا، وكأنما تمتعه بكل هذا الترف كان حلمًا.
أخيرًا أصبح الغني يتضرع إلى الفقير متوسلاً له، وهو الذي كان من قبل ملقى جائعًا يتعرض لأفواه الكلاب. انعكس الوضع وعرف الجميع من هو الغني الحقيقي ومن هو الفقير الحقيقي، وهكذا أصبح لعازر أغنى الجميع والآخر هو أفقر الجميع. وكما هو الحال في المسرح حيث يدخل الممثلون بأقنعة مستعارة لملوك وقادة وأطباء ومعلمين وحكماء وجنود، بينما هم في حقيقتهم ليسوا كذلك، هكذا في الحياة الحاضرة، فالفقر والغنى ليست إلا أقنعة، فإنك إن جلست في المسرح ورأيت أحد الممثلين يرتدي قناع ملك فإنك لا تحسبه محظوظًا لذلك ولا تعتقد أنه ملك فعلاً، ولا تتمنى أن تكون مثله، ولكن لأنك تعرف أنه تاجر أو ربما صانع حبال أو صانع براميل أو شيء من هذا القبيل، فإنك لهذا لا تحسبه محظوظًا بسبب قِناعه المستعار أو زيِّه الذي يرتديه، ولا أن تحكم على وضعه الاجتماعي بسبب رخص زيه الآخر، فليست هذه علامة تعتمد عليها.
وهنا أيضًا نفس الشيء، الجلوس هنا في العالم كما لو أنك بالمسرح، وبالنظر إلى الممثلين على خشب المسرح ترى العديد من الناس الأغنياء، ولكنك لا تعتقد أنهم فعلاً أغنياء، لكنهم يرتدون أقنعة مستعارة للأغنياء[345].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“من يكدر بيته يرث الريح،
والغبي خادم لحكيم القلب” [ع29]
إن كان الذي يزرع القليل من البذور يحصد الكثير في وقت الحصاد، وإن كان من الشرر الصغير تحدث حرائق قد تلتهم الآلاف من الأفدنة كما يحدث في الغابات، هكذا من يزرع القليل من الشرور والعادات الرديئة يحطم بيته، وربما أحفاد أحفاده، الذين يتمثلون به وفي شيء من المبالغة.
أما الجزء الثاني من المثل فيشير إلى أصحاب السلاطين الأغنياء، فيحسبون حياة الآخرين بين أيديهم، لكن سرعان ما ينهارون قدام أولاد الله الحكماء الأتقياء.
قُدم دانيال أمام الملك بلطشاسر، فقال له الأخير: “أأنت هو دانيال من سبي يهوذا الذي جلبه أبي الملك من يهوذا؟” (دا 5: 13) في نفس الليلة قُتل بلطشاسر وانتهت مملكة بابل، بينما كُرِّم دانيال.
أيضًا وقف بولس ليُحاكَم أمام الملك أغريباس، فإذا بالملك يقول: “بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا” (أع 26: 28).
“ثمر الصديق شجرة حياة،
ورابح النفوس حكيم” [ع30]
يقدم رجال الله ثمر البرّ كشجرة حياة، يقطف منها الخطاة فينتعشون ويحيون. لا يقدمون تعاليم نظرية مجردة، بل كلمة الله واهب الحياة. وهم في هذا يربحون النفوس لحساب ملكوت الله.
هذا ما يبغيه أولاد الله، مقتدين بالرسول بولس الذي كان يود أن يربح نفوس كل البشرية. “فإني إذ كنت حرًّا من الجميع اِستعبدتُ نفسي للجميع لأربح الأكثرين. فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود، وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس… صرت للكل كل شيء لأُخلِّص على كل حالٍ قومًا” (1 كو 9: 19-22).
“هوذا الصديق يجازى في الأرض،
فكم بالحري الشرير والخاطئ” [ع31]
إن كانت الحياة التي نعيشها مملوءة بالضعفات حتى أن الصديقين والأبرار الذين سيكافأون في السماء لا يُعفون من التعرض للتجارب والضيقات، بسبب ضعف طبيعتهم وسقوطهم في خطايا، كم بالأكثر يلزم على الأشرار والخطاة المُصرِّين على شرورهم وعنادهم أن يتوقعوا متاعب أبدية ومصيرًا رهيبًا!
V “إن كان البار بالجهد يخلص، فأين يظهر الأشرار والخطاة؟”… إن كان الله يمنحنا شيئًا، فسيُمتحن عملنا به، ومن يتبرر إلا ذاك الذي هو أطهر من الشمس؟ من يبغض الله شرير. “الخاطي” هو من يسلك بالشر[346].
القديس يوحنا الذهبي الفم
من وحي الأمثال 11
ببرَّك تقودني في كل حياتي!
V اختلَّت كل الموازين أمامي بسبب خطاياي.
من يرُدّ لي روح الإخلاص والاتزان غيرك؟
بك أعرف كيف تتقدس نفسي وأيضًا جسدي!
بك تتناغم حواسي مع عقلي لبنياني ومجدي!
بك أرى كل شيءٍ مقدسًا ومباركًا!
لتنزع عني موازين الغش والمفاهيم الكاذبة.
V ببرَّك أقتدي بك، يا أيها الوديع والمتواضع القلب.
لا يقدر الكبرياء أن يتسلل إليَّ، ويحطم حياتي بالغباء.
V ببرك أتمتع بروح الاستقامة،
فلا انحرف يمينًا أو يسارًا.
لا يحملني الاعوجاج إلى الخزي والعار!
V ببرَّك أراك أنت غناي وكنزي!
تشبعني وترويني وتغنيني وتُفرح قلبي!
لا اَتكل على غنى العالم وكنوزه،
فالعالم يزول بكل ما فيه.
وأبقى معك في أحضانك إلى الأبد.
لا يتسلط الموت عليَّ،
ولا يجد عدو الخير له موضعًا في داخلي!
V أَقتنيك فاَقتني الكمال والأمان.
أسلك فيك فتمتلئ نفسي فرحًا بالرجاء.
أنت هو مكافأتي إكليلي، ومجدي!
V ليقف العالم كله ضدي،
فإني مختفِ فيك يا غالب العالم!
العالم يبغضني، لأنه يبغضك!
يدبر مكائد لي فيَهلك هو بها!
صلَبك العالم فتحطم سلطانه!
أراد الخلاص منك، فانهارت قوات الظلمة.
V تقيم ملكوتك في داخلي.
تحسبني مدينتك المقدسة.
لا يُسمع فيها كلمة رديئة ولا مُزاح غير لائق.
بل تنطلق من فمي كلمات البركة.
ليس من كلمة استخفاف بالقريب،
وإنما يسمع الكل كلماتك واهبة الرجاء.
ليس من وشاية ولا إفشاء السرّ،
بل تُسمع كل كلمة للبنيان.
V برَّك يحمل فيه مكافأة لا يُعبر عنها.
به تتحول نفسي إلى عروس مزينة بنعمتك.
وتتقوى نفسي وتتشدد، فلا يسرق العدو غناي،
تحمل أيقونتك، فلا تعرف سوى الحب والحنو والرحمة!
يثمر برَّك فيَّ ثمار الروح المفرحة.
يعلن برَّك عربون الحياة الأبدية في داخلي.
يقوم برَّك طريقي، فلا يوجد فيه اعوجاج،
يقدس برَّك إرادتي وعواطفي واشتياقاتي،
فلا أطلب إلا الخير لكل بشرٍ.
V تتهلل نفسي مع خلاص كل نفسٍ.
اشتهي ليس فقط أن أعطي من الخيرات التي لي،
بل استعبد أيضًا نفسي للكل لأربح الكثيرين.
لأعطي مما وهبتنني، فليس لي فضل في شيءٍ!
ليس ما يشغلني في كل حياتي سوى ربح النفوس!
تفسير أمثال 10 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 12 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |