تفسير سفر الأمثال ١٦ للقمص أنطونيوس فكري

تفسير الأمثال – الإصحاح السادس عشر

 

آية (1): “للإنسان تدابير القلب ومن الرب جواب اللسان.”

هذا يشبه المثل السائد “العبد في التفكير والرب في التدبير”. فللإنسان الحق في التفكير الحر والله حر في تدابيره ليحفظ الإنسان من أخطاء تفكيره الحر. فالإنسان يفكر ويخطط ولكن حين يأتي وقت الكلام أو العمل فمن الرب يأتي الجواب (كما حدث مع بلعام) ويحدث مع كثيرين وذلك بأن يقنع الله الإنسان بغير ما فكر فيه ويجعله يميل ناحية قرار آخر فيقول قولاً آخر غير ما كان يفكر فيه ويخطط له. ولنعلم أننا لسنا أكفاء أن نعمل أي شئ، بل الله هو الذي يعمل فينا أن نريد وأن نفعل (في13:2).

 

آية (2): “كل طرق الإنسان نقية في عيني نفسه والرب وازن الأرواح.”

لن نكتشف عيوبنا إلا إذا أتينا أمام الله فنوره يكشف خطايانا. ولكن يبدو لقلوبنا أننا بلا خطية فالقلب خداع (أر9:17 + دا27:5) وزنت في الموازين فكنت ناقصاً، هكذا كل منا، فإذا كنا بعدين عن نور الله نكون منحازين لأنفسنا ونجد أننا كاملين لا نخطئ.

 

آية (3): “الق على الرب أعمالك فتثبت أفكارك.”

الإتكال على الله بالكامل يعطي تسليم هادئ وفكر هادئ غير متقلقل بلا مخاوف ولا قلق ولا اضطراب بل في سكون قلب وفكر (2تي12:1). إذاً لنصلي لله ونترك له نتيجة كل عمل فإذا لم يكمل العمل فلا نحزن لأن الله لم يريد.

 

آية (4): “الرب صنع الكل لغرضه والشرير أيضاً ليوم الشر.”

كل خليقة الله تظهر مجده وعمل يديه (مز19). فالله صنع الكل لمجد اسمه والأبرار سيمجدونه، أما الأشرار فسيعترفون بعدله في يوم الدينونة وسيظهر عدل الله ومجده في دينونة الأشرار، حقاً فالله يريد أن الجميع يخلصون (1تي4:2 + حز11:33) ولكن لن يخلص الجميع لأنهم لم يريدوا ذلك. والله قادر أن يحول حتى الشر لمجد اسمه، فالله تمجد وسط شعبه بعناد فرعون. والله تمجد وخلص شعبه في كل العالم بمؤامرات الكهنة ويهوذا يوم الصليب. والله صنع الكل أبراراً وأشراراً، فالكل به كان حتى الأشرار، هو خلقهم حسناً ولكنهم تمردوا عليه والله سيجازيهم في يوم الشر.

 

آية (5): “مكرهة الرب كل متشامخ القلب يداً ليد لا يتبرا.”

لو تكاتف كل الأشرار فهذا لن يعفيهم من دينونة الله.

 

آية (6): “بالرحمة والحق يستر الإثم وفي مخافة الرب الحيدان عن الشر.”

الرحمة والحق تقابلا معاً على الصليب. وهذا يجب أن يكون طريق كل منا، فقوة الشر تنكسر فينا بنفس المبدأ أي الحق (الأمانة تجاه الله) والرحمة (تجاه إخوتنا) (مي7:6،8) ومثال لهذا فالمسيح غفر للزانية التي أرادوا رجمها (رحمة) ولكنه قال لها لا تعودي تخطئ (حق). وأبو مقار ستر على الراهب الزاني أمام الرهبان (رحمة) ولكنه قال له لا تفعل ذلك ثانية (حق). ونرى هنا تكامل الفضائل.

 

آية (7): “إذا أرضت الرب طرق إنسان جعل أعداءه أيضاً يسالمونه.”

إذا كان إنسان بار حقاً يعجز أعداؤه أن يجدوا علة عليه، بل الله قادر أن يحول أعداؤه إلى أصدقاء له يحبونه ويسالمونه إذ يشعرون ببركة الرب معه (مثال لذلك اسحق مع أبيمالك تك28:26) فقلوب البشر في يد الله (أم1:21) والله يصنع هذا لو أرضيناه. ومن يجد الكل هائجاً ضده فليفحص نفسه (عيسو مع يعقوب مثال لهذا، فحين أخطأ يعقوب وخدع عيسو هاج ضده عيسو وحينما عاد يعقوب لله بالتوبة وجدنا عيسو يقابله بمحبة.

 

آية (8): “القليل مع العدل خير من دخل جزيل بغير حق.”

استقامة الرجل الشريف مع قلة ما عنده يعطيه راحة البال والضمير والسلام الداخلي وهذا أفضل من الذهب والفضة.

 

آية (9): “قلب الإنسان يفكر في طريقه والرب يهدي خطوته.”

راجع عدد (1). ولاحظ أنه طالما من حق الإنسان أن يفكر بحرية، فمن المخجل أن لا يختار طريق الله.

 

الآيات (10-15): “في شفتي الملك وحي في القضاء فمه لا يخون. قبان الحق وموازينه للرب كل معايير الكيس عمله. مكرهة الملوك فعل الشر لأن الكرسي يثبت بالبر. مرضاة الملوك شفتا حق والمتكلم بالمستقيمات يحب. غضب الملك رسل الموت والإنسان الحكيم يستعطفه. في نور وجه الملك حياة ورضاه كسحاب المطر المتأخر.”

نجد هنا مواصفات الملك المثالي، الذي يرضى الرب بأعماله. فالله يعطي للملوك والرؤساء حكمة خاصة ليقودوا شعوبهم، والله أعطى لشاول الملك روحاً جديدة بعد أن أصبح ملكاً (1صم9:10-11) وسليمان امتلأ حكمة بعد أن أصبح ملكاً. ونحن نصلي لملوكنا ورؤساءنا ليكونوا بهذه المواصفات. والمواصفات الموجودة هنا لا تنطبق على ملك بشري ولكنها تنطبق على الله فهو لا يخطئ في أحكامه= في القضاء فمه لا يخون. وكلامه كأنه بوحي من الله. وهذا إعداد لفكرة المسيح الذي يملك على الكنيسة، بل هي نبوة عن ملك الملوك. ونلاحظ أن غضب الملك رُسُل الموت= أي أن غضبه هو بمثابة حكم بالموت (تث19:18) والحكيم يستعطفه= لذلك لا تكف الكنيسة عن ترديد صلاة “يا رب ارحم” “لأن في نور وجه الملك حيوة= حين يرضى الملك عن أحد يحيا. وملك الملوك يحكم بالحق= قبان الحق وموازينه للرب= وتترجم للرب ميزان العدل وقسطاسه. وإذا فهمنا الآية أنها على ملك زمني، فكل ملك صالح يجب أن يكون تعامل شعبه مع بعضهم بالأمانة. وإذا فهمنا الآية على ملك الملوك فتعني أن الله سيحكم على شعبه بأمانة. وكان هناك موازين قياسية في الهيكل وموازين قياسية عند الملك وكل الموازين في كل البلاد تضبط عليها حتى لا يحدث غش.

 

الآيات (16،17): “قنية الحكمة كم هي خير من الذهب وقنية الفهم تختار على الفضة. منهج المستقيمين الحيدان عن الشر حافظ نفسه حافظ طريقه.”

يظهر هنا أن الحكمة الإلهية والنعمة الإلهية التي هي خير من الذهب أو أي ثروة عالمية يحصل عليها من يحيد عن الشر (مت26:16). أما أي حكمة أخرى فهي نفسانية شيطانية (يع13:3-16). فعطايا الله كافية للأرض وتمتد للحياة الأبدية في السماء، بينما ثروات العالم ينتهي تأثيرها وفائدتها بموت الإنسان.

 

آية (18): “قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح.”

الكبرياء سبب سقوط إبليس وكل إنسان يفعل مثله ويتكبر يسقط. والكبرياء بداية لكل سقوط آخر. والله يخفض ويكسر المتكبرين (فرعون/ سنحاريب/ نبوخذ نصر دا31:4/ هيرودس..) وطالما أن الله يكسر المتكبرين فلا داعي للخوف منهم، بل نخاف أن يكون فينا كبرياء. ومعظم كتب اليهود المقدسة تضيف عند هذه الآية أنها هي الآية التي تتوسط الكتاب المقدس كله.

 

آية (19): “تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين.”

بشاعة الكبرياء لا يحتملها أحد، وأن نعيش مع المتواضعين الودعاء على القليل أفضل من أن أعاشر المتكبرين ويكون لي غنيمة. ويفهم المثل أيضاً أنه من الأفضل لنا أن نعيش متواضعين مع القليل من أن نكون أغنياء متكبرين.

 

آية (20): “الفطن من جهة أمر يجد خيراً ومن يتكل على الرب فطوبى له.”

الفطن= في ترجمة أخرى هو من يتعقل بكلمة الله، وهي ترجمة متمشية مع روح السفر فالفطن في نظر الحكيم ليس هو الذكي بالمفهوم العالمي بل هو من امتلأ من حكمة الله، وهذا يجب أن يكون مسترشداً بكلمة الله لكي يكون حكيماً. وهذا الفطن لابد أن يوافقه الله ويبارك أعماله. ونلاحظ أن من يثق بالله ويعرفه يفكر بهدوء وحكمة واثقاً أن الله لن يتركه.

 

آية (21): “حكيم القلب يدعى فهيماً وحلاوة الشفتين تزيد علماً.”

الإنسان الحكيم يظهر هذا في لسانه اللطيف، فاللسان الحلو ينبئ عن قلب متضع راغب في أن يتعلم، لذلك يحبه الناس ويعلمونه. الحكمة مع اللسان الحلو تجعل تبادل المعلومات سهلاً وتزداد الحكمة للجميع.

 

آية (22): “الفطنة ينبوع حياة لصاحبها وتأديب الحمقى حماقة.”

تعاليم الإنسان الحكيم تكون ينبوع حياة لمن يسمعه، أما الأحمق فتعليمه حماقة.

 

الآيات (23،24): “قلب الحكيم يرشد فمه ويزيد شفتيه علماً. الكلام الحسن شهد عسل حلو للنفس وشفاء للعظام.”

من قلبه هادئ ينعكس هذا على شفتيه فيكون كلامه حلو ومن يسمعه يفرح، بل تكون كلماته الحلوة سبب صحة للجسد (العظام).

 

آية (25): “توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت.”

تكرار للتنبيه أن رفض طريق الحكمة فيه خطورة على الإنسان.

 

آية (26): “نفس التعب تتعب له لأن فمه يحثه.”

الذي يتعب ويجتهد ويعمل هو يتعب لنفسه لأن فمه يحثه= أي حتى يسد احتياجات فمه. فاحتياج فمه يدفعه للعمل والجهاد. وهذا المبدأ اكتمل روحياً في (يو27:6). والخادم الحقيقي يشبع بتوبة الخطاة (طعامي أن أصنع مشيئة الذي أرسلني/ المسيح يذهب مسافة كبيرة ليقابل السامرية فتتوب/ أش11:53. والمسيح يشبع حين يرى زيادة عدد المؤمنين).

 

الآيات (27،28): “الرجل اللئيم ينبش الشر وعلى شفتيه كالنار المتقدة. رجل الأكاذيب يطلق الخصومة والنمام يفرق الأصدقاء.”

هنا يتكلم عن رذيلة الوشاية والنم، أو اللسان البطال الذي يتكلم كلاماً قبيحاً أو حاقد على نجاح شخص آخر فيسئ إلى سمعته، ويشبه الحكيم هنا شفتي مثل هؤلاء بأنها كأبواب جهنم، تخرج منها نار تحرق سمعة من يتكلم عنه هذا الشرير، ويخرج منها نار تزرع خصومات وتنهي صداقات وتعلم الشر وتعثر الأبرياء (يع5:3،6).

 

الآيات (29،30): “الرجل الظالم يغوي صاحبه ويسوقه إلى طريق غير صالحة. من يغمض عينيه ليفكر في الأكاذيب ومن يعض شفتيه فقد اكمل شراً.”

الرجل الظالم= رجل الإثم الذي يغوي الأبرياء بكلام معسول عن لذة الخطية. يعض شفتيه= دليل على الإصرار على الشر. من يغمض عينيه= ليتخيل الشر ولذة تنفيذه وهذا التصوير ينطبق على الشرير الظالم وعلى الجاهل الذي يتجاوب معه. فالظالم يغلق عينيه ليفكر في خطة يسقط بها البريء ويعض على شفتيه ليضمر شراً لمن يخطط ضده. والجاهل بدلاً من أن يفتح عينيه فيرى خطورة وبشاعة طريق الخطية يغلق عينيه ليتصور لذتها ثم يعض شفتيه رمزاً لأنه قرر أن يفعل الشر ليتلذذ به. وكلاهما الظالم بتخطيطه والجاهل بقبوله الخطية وكلاهما بعض شفتيه وغلق عينيه يكونا قد أكملا شراً. ولو فتح الجاهل عينيه ورأى نهاية طريق الشر وأنه ينساق وراء أكاذيب الظالم لما أنحرف وراءه أبداً.

 

آية (31): “تاج جمال شيبة توجد في طريق البر.”

هناك من هو أشيب ولكنه شرير. ولكن الأشيب البار الذي احتفظ بكماله يكون مملوءاً بركة وحكمة وبراً وتكون شيبته هذه تاج جمال له وكرامة له.

 

آية (32): “البطيء الغضب خير من الجبار ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة.”

ضبط النفس هو أعظم انتصار فكم من جبار أنهزم أمام نفسه وأمام شهوته (داود وشمشون كأمثلة). كم مدناً أخضعوها ثم استعبدوا لشهواتهم. ونحن في حرب ضد شهواتنا ومن يهزمها ويغلب هو خير من هازم جيش. فمن يهزم جيش قتل كثيرين في معركته أما المعركة ضد شهوتنا فلا تضر أحداً فضلاً عن أن الحرب ضد الشهوة أصعب جداً.

 

آية (33): “القرعة تلقى في الحضن ومن الرب كل حكمها.”

الحضن= المقصود الجزء الأسفل من الثوب الذي كان يوضع فيه حجارة القرعة. والله سمح باستخدام القرعة سابقاً في العهد القديم، فبالقرعة قسمت الأرض ومتياس تم اختياره بالقرعة. وكان يشوع قد اكتشف خيانة عاخان بالقرعة. والحكيم يقرر هنا أن موضوع القرعة لا يعني ترك الأمر للمصادفة، بل أن هنا تدبير إلهي وراء نتيجة القرعة. والمعنى الأوسع لهذه الآية أنه لا صدفة في حياتنا ولا معنى لكلمات فارغة مثل الحظ والفأل الحسن والشؤم، بل هناك من يؤمن بأن الحسد قادر أن يؤذيه.. كل هذا لا يعيره المؤمن أي إلتفات، بل يثق في أن الله كضابط الكل هو الذي يدبر ويقرر.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى