تفسير سفر الأمثال ٢٧ للقمص أنطونيوس فكري
تفسير الأمثال – الإصحاح السابع والعشرون
آية (1): “لا تفتخر بالغد لأنك لا تعلم ماذا يلده يوم.”
أحسن شرح للآية هو ما ورد في (يع13:4-16 + مت34:6). لا تفتخر بالغد= كل متعظم يتكلم عن الغد ومشاريعه وأنه سيفعل وسيفعل، ويتكلم بثقة وكأنه سيحيا إلى الأبد. ولا يعلم أنه قد يسمع “في هذه الليلة تؤخذ نفسك”. علينا أن لا نتفاخر بأنفسنا وقدراتنا، ومن يفتخر عليه أن يفتخر بالرب فقط. فالله احتفظ لنفسه بأنه يكون الغد مجهولاً أي المستقبل مجهولاً لنا، لكننا نثق في محبته وتدبيره حسناً لكل أمور حياتنا وبهذا نفتخر. وبنفس المفهوم علينا أن لا نؤجل التوبة للغد فمن يضمن [1] أن هناك غد [2] أن تستمر دوافع التوبة فينا بل ربما نتقسى.
آية (2): “ليمدحك الغريب لا فمك الأجنبي لا شفتاك.”
إن الافتخار بالمؤهلات والمواهب يفتح باب الانتقاد المرير من الناس، بل السخرية ممن يسمع وعلينا فقط أن نعمل ولتكن أعمالنا هي التي تتحدث عنا وليس لساننا، وإذا كان عملنا هدفه مجد الله حينئذ سيكون مدحنا من الله الذي سيجعل حتى الأجنبي يمدحنا (يو54:8) وعلينا أن لا نتكلم عن نجاحنا فهذا كبرياء بل ننظر لخطايانا ونعمل لنرضي الله فقط. ولاحظ أن كلامنا عن أنفسنا يثير غيرة الناس، أما لو كان الله هو الذي حرَّك قلوبهم ليمدحوننا فسيكون هذا بمحبة وليس بغيرة أو باستهزاء.. فلنترك هذا لله غير طالبين مدح أنفسنا.
الآيات (3،4): “الحجر ثقيل والرمل ثقيل وغضب الجاهل اثقل منهما كليهما. الغضب قساوة والسخط جراف ومن يقف قدام الحسد.”
الغضوب إذا غضب لا يعود يهتم بما سيقول ولا بمشاعر من حوله، وستكون كلماته وأفعاله لها ثقل الحجر حين يسقط على الإنسان، بل إن غضبه سيكون كثقل على قلبه هو نفسه، والأفضل تجنب هؤلاء وعدم إثارتهم فغضبهم ثقيل وغير مقبول، بل كل محاولة لتهدئتهم سينظرون لها بعدم ثقة وسيزداد هياجهم. أو بالأحرى هم في كبريائهم وشعورهم بالقوة المخادعة يتصورون أنهم قادرين على هدم خصومهم فهم لا يدركون الأمور إدراكاً سليماً. لهذا طالب حزقيا شعبه بعدم الرد على ربشاقي فهو كان في جهله وغروره متصوراً أنه سيهدم أورشليم تماماً. السخط جراف= أي جارف كالعاصفة، وما أقوى من السخط هو الحسد فهو قوة شر تدمر صاحبها الحاسد، وإذا خرجت هذه القوة لمجال التنفيذ وتدبير المؤامرات تكون أيضاً مدمرة (مثال لذلك مؤامرات أخوة يوسف ضده). لكن علينا أن نؤمن بأنه لا قوة لما يسمى العين الحسودة.. الخ فنحن في حماية الله.
الآيات (5،6): “التوبيخ الظاهر خير من الحب المستتر. أمينة هي جروح المحب وغاشة هي قبلات العدو.”
كلمات التوبيخ الجارحة إن صدرت من شخص محب أمين هي أفضل من كلمات لينة فيها محبة غاشة صادرة من عدو (قبلة يهوذا). وخيرٌ لنا أن يخبرنا أصدقاؤنا بنقائضنا فنصلح من أنفسنا. فالطبيب الأمين يكشف المرض لمريضه ليتحذر. الحب المستتر= هو الحب الذي يدفع صاحبه أن لا يقدم النصح والتوبيخ لمن يحبه إذا أخطأ.
آية (7): “النفس الشبعانة تدوس العسل وللنفس الجائعة كل مر حلو.”
النفس الجائعة تتلذذ بأي شئ قد تزدري به وهي شبعانة. والعكس فالنفس الشبعانة تدوس أي شئ حتى لو كان عسل، وتدوس بمعنى تزدري ولا تهتم وهكذا فالنفس التي شبعت بالرب فهي تزدري بكل ملذات العالم، مثل بولس الذي إذ عرف المسيح، حسب العالم كله نفاية. والعكس فالنفس الجائعة بسبب بعدها عن الله (الابن الضال) أكلت الخرنوب مع الخنازير. والمثل له تطبيق حرفي فالغني المدلل يسأم كل ملذاته ويتذمر عليها والفقير يفرح بالخبز والماء.
آية (8): “مثل العصفور التائه من عشه هكذا الرجل التائه من مكانه.”
العصفور التائه من عشه يتعرض للأخطار، وهكذا ابن الله لو ضل طريق الكنيسة كما تركها ديماس وابتعد عن الله. والعصفور في عشه يجد الراحة والطعام والأمان والعشرة مع بقية أسرته، وهكذا نحن في الكنيسة أعضاء جسد المسيح لابد أن نحيا في محبة، وسنحيا في حماية إلهنا رأس الكنيسة ولكن هناك من لا يقتنع بكنيسته ويرغب في التجول والإنطلاق بعيداً. وهناك من لا يشعر في حياته وعمله بعدم الرضا وعدم الإكتفاء ويتصور أنه لو إنطلق بعيداً مثل العصفور لكان هذا أفضل وكثيراً ما يكون فكره متسرعاً.
آية (9): “الدهن والبخور يفرحان القلب وحلاوة الصديق من مشورة النفس.”
كما أن الدهن والبخور يفرحان القلب هكذا الصديق الحلو ذو المشورة القلبية المخلصة فهذا مفعوله مثل الدهن والعطر للجسد. فالزيت يرطب وينعش الجسم والعطر ينعش الحواس (صداقة داود ويوناثان). فلنخلص لأصدقائنا بل لكل إنسان.
آية (10): “لا تترك صديقك وصديق أبيك ولا تدخل بيت أخيك في يوم بليتك الجار القريب خير من الأخ البعيد.”
في يوم بليتنا خيرٌ لنا أن نعتمد على الصديق الوفي من أن نذهب لأخ بالجسد لكنه بعيد. والصديق الوفي هو صديقك وصديق أبيك= أي من اختبرت وتأكدت من محبته عبر سنين طويلة من العشرة، مثل هذا الصديق الوفي لا يقدر بثمن. والأخ البعيد= هو الذي إنشغل عن أخوته وباعدت بينهم الظروف والزمن ففترت المحبة. والصديق الحلو الذي لا يجب أن نتركه خصوصاً أنه صار أخاً قريباً هو المسيح، نذهب له في ضيقاتنا.
آية (11): “يا ابني كن حكيماً وفرح قلبي فأجيب من يعيرني كلمة.”
الابن الحكيم يكون سبب فخر وكرامة للأب والعكس فالجاهل يكون سبباً لتعيير أبيه لأنه أساء تربيته. “لكي يرى الناس أعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السموات”.
آية (12): “الذكي يبصر الشر فيتوارى الأغبياء يعبرون فيعاقبون.”
تكرار للآية (3:22). فالله ينذر كثيراً بضربات بسيطة قبل أن يضرب الضربة الكبيرة. ومن هو حكيم يفهم أسلوب الله فيتوب ويذهب ليحتمي في المسيح ويتواري فيه.
آية (13): “خذ ثوبه لأنه ضمن غريباً ولأجل الأجانب ارتهن منه.”
راجع (16:20).
آية (14): “من يبارك قريبه بصوت عال في الصباح باكراً يحسب له لعناً.”
هل من المناسب أن يذهب أحد لجاره في الصباح الباكر ليمدحه بصوتٍ عالٍ تاركاً عمله ومشاغله.. هذا يعتبر نوع من النفاق والتملق لجذب أنظاره وأنظار الناس وقد يقصد في الصباح باكراً أو بصوتٍ عالٍ= الحماس المصاحب لكلمات التملق. وهذا التملق :
1) سيتسبب في جلب اللعنات على من تتملقه بسبب حسد السامعين له إذ وجدوه يأخذ أكثر من حقه (2كو6:12)
2) مثل هذا التملق سيتسبب في كبرياء من يسمعه وهذا الكبرياء سيدمره.
3) أليس من الأنسب أن يوجه المرائي كلماته الحلوة إلى الله في الصباح الباكر “الذين يبكرون إلىّ يجدونني” ولكنه لغباوته فهو لا يطلب بركة الله بل يطلب بركة الناس.
الآيات (15،16): “الوكف المتتابع في يوم ممطر والمرأة المخاصمة سيان. من يخبئها يخبئ الريح ويمينه تقبض على زيت.”
المرأة المخاصمة بصوتها العالي ومشاجراتها تتسبب في ملل زوجها وضيقه، بل هو لن يستطيع إخفاء مشاكلها عن جيرانه فهم سيسمعونها، ومن يحاول إخفاء حقيقتها لسمعته وسمعتها فسيفشل، فهو كمن يخفي الريح أو يحاول إخفاء يديه إذا إنغمست في الزيت فاليدين لو إنغمسوا في ماء سيجفوا سريعاً، أما لو إنغمسوا في الزيت فسيحتاجون للغسيل.
آية (17): “الحديد بالحديد يحدد والإنسان يحدد وجه صاحبه.”
معناه أن الأخلاق والحكمة تنمو بواسطة العلاقات الإنسانية بين البشر. وكما أن احتكاك قطعة حديد بقطعة حديد أخرى يشحذها، هكذا البشر في تعاملهم معاً يؤثرون في بعضهم. وكل منهم يكتسب خبرات جديدة تضاف له وتشحذ شخصيته. ولذلك فمن يعتزل الناس يضيق فكره. وبنفس المفهوم تتعايش الكنيسة مع سير القديسين وتقرأ السنكسار يومياً، لأن من يعاشر القديسين تتحسن سيرته ومن يعاشر الأردياء يتأثر تأثراً سيئاً.
آية (18): “من يحمي تينة يأكل ثمرتها وحافظ سيده يكرم.”
قارن مع (مت21:25). فالكلام هنا عن الولاء في الخدمة. ومن كان أميناً في خدمته يكافأ. فحارس التينة من حقه أن يأكل من ثمرها ويفرح به وهكذا كل خادم أمين. ونلاحظ أن كل خدمة هي عمل شاق ولكن نتيجة هذه الخدمة ستكون مفرحة في الوقت المناسب أي حينما تنضج التينة. (2تي6:2) + (1كو7:9). حافظ سيده= من يهتم بحماية أملاكه أي أملاك سيده وسمعة سيده مثل هذا العامل الأمين سيكرمه سيده.
آية (19): “كما في الماء الوجه للوجه كذلك قلب الإنسان للإنسان.”
الماء النقي هو أقدم مرآة بدائية. وفي هذه المرآة تكون الصورة الظاهرة متطابقة مع الحقيقة. هكذا قلب الإنسان لنفسه (1كو11:2). وكل منا يعرف حقيقة نفسه وما عليه سوى أن ينظر بعمق داخله، فإذا لم يرى حقيقة نفسه فلينظر ويتأمل في الكتاب المقدس فهو كمرآة ستكشف لنا مقدار نجاسة قلوبنا. فالقلب أخدع من كل شئ وهو نجيس (أر9:17). فلننتظر في مرآة الكلمة الإلهية لنرى حقيقتنا (يع23:1). لذلك احتاج البشر لمخلص لأنه بعمل النعمة الإلهية تتغير صورة القلب.
آية (20): “الهاوية والهلاك لا يشبعان وكذا عينا الإنسان لا تشبعان.”
كما أن الهاوية لا تشبع وكل يوم يضم لها آلاف مؤلفة من البشر الذين يموتون. هكذا قلب الإنسان لا يشبع من شهوات وملذات هذا العالم (القلب الذي يشتهي لا يجعل العينان تشبعان) وهذا ما أوضحه سليمان في سفر الجامعة. ولاحظ التشبيه الكتابي الدقيق فالقلب الذي لا يشبع من ملذات العالم يشبه الهاوية فكل ملذات العالم ستزول. وتفهم أن الخطية والموت نهمين لا يشبعان وذلك لأن كلاهما مترادفين.
آية (21): “البوطة للفضة والكور للذهب كذا الإنسان لفم مادحه.”
الذهب والفضة نختبرهم وهم خام بأن نضعهم في البوطة فيظهر معدنهم. وفرن صهر المعادن يسمى بوطة. وليس من بوطة تكشف معدن الإنسان أشد حرارة من نار المديح والإطراء. فمن السهل نسبياً أن يحتمل الإنسان الإضطهاد بسبب محبته في المسيح أما أن يحتمل الإنسان المديح والكرامة بلا انتفاخ، أو ينسب الكرامة لله لا لنفسه ففي هذا يفشل الكثيرون. ومثال لذلك فحزقيا نجح في اختبار أو بوطة حصار أشور لأورشليم ولكنه رسب في بوطة محبة المديح والكرامة حينما أتاه وفد بابل. ومن ينسب الكرامة لله فهذا سائر مع الله ويستحق المديح فعلاً، بل مقل هذا لا يشعر بأنه لا يستحق المديح بل لا يكون هناك أي وقع لكلمات المديح عليه. أما من ينتفخ فلا يستحقها (هيرودس كمثال).
آية (22): “أن دققت الأحمق في هاون بين السميذ بمدق لا تبرح عنه حماقته.”
إن الحماقة مرتبطة بقلب الجاهل وبسبب العمر الطويل والعناد صارت جزء من كيانه. وإن دققت الجاهل في هاون= (العقوبات والتجارب) لن يتخلص من شره. ومثال ذلك أحاز (2أي22:28). فهل يغير الكوشي جلده (أر23:13). أما التقويم يصلح للصغار سناً (أم15:22) فالعادات الرديئة لا تكون قد تأصلت بعد.
الآيات (23-27): “معرفة اعرف حال غنمك واجعل قلبك إلى قطعانك. لأن الغنى ليس بدائم ولا التاج لدور فدور. فني الحشيش وظهر العشب واجتمع نبات الجبال. الحملان للباسك وثمن حقل اعتدة. وكفاية من لبن المعز لطعامك لقوت بيتك ومعيشة فتياتك.”
هي نصيحة للرعاة (الخدام) الغرض منها حثهم على الاجتهاد وملخصها احفظ قطيعك يحفظك القطيع فالمروى هو أيضاً يروي. ففي (23) نصيحة بأن يهتم كل راعي بغنمه ويعرف أحوالهم ولا يترك خدمتهم لغيره، بل يباشرها بنفسه وفي (24) قطيعك هو رأسمالك الحقيقي فإن كنت غنياً فالغني لا يبقي بل إن كنت ملكاً فالملك لا يدوم. وفي (25) دعوة للراعي أن يقدم الغذاء لقطيعه ليشبع. فَنِي الحشيش= أي قُطِعَ من الأرض . وظهر العشب= حين يظهر العشب يقود الراعي قطيعه للمراعي. واجتمع نبات الجبال= يذهب الراعي للجبال ليجمع النباتات ليغذى قطيعه. فهناك وقت يقود الراعي قطيعه للمراعي الخضراء وهناك وقت يتركهم في الحظيرة ويذهب هو ليجمع لهم (تأمل للخادم: أن يذهب للجبال (السماويات) ليجمع طعام مخدوميه). وفي (26) مكافأة الخادم النشط= الحملان للباسك صوف حملانك سيمدك بما تحتاجه لتلبس. وثمن حقل أعتدة= صوف الخراف بعد جزه غالباً يعطونه لمالك الحقل كأجرة. أو يكون المقصود بيع بعض الخراف لتسديد إيجار حقلك. وفي (27) يكون لبن الماعز طعاماً لك. فالأمانة في الرعاية ستعطي للخادم غذاء وشبع ولباس. والخادم كالراعي ما عليه سوى قيادة القطيع للمراعي الخضراء والله هو الذي يعطي الغذاء للجميع.
تفسير أمثال 26 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 28 |
القمص أنطونيوس فكري | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |