تفسير سفر الأمثال ٤ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الرابع
الحكمة: إيجابيًا وسلبيًا
إذ كشف سليمان الحكيم عن أهمية الحكمة (ص1)، وبركاتها (ص2)، وطريقها (ص3)، أوضح طريق الحكمة الإيجابي وأيضًا السلبي.
حث على اقتناء الحكمة 1-9.
يؤكد سليمان الحكيم الحاجة إلى اقتناء الحكمة من الله خلال الطاعة للوصية مع الصلاة والطلبة وقبول مشورة الوالدين والقادة الروحيين، مقدمًا نفسه مثلاً لهم، إذ يقول:
“اسمعوا أيها البنون تأديب الرب،
واصغوا إلى معرفة الفهم.
لأني أعطيكم تعليمًا صالحًا فلا تتركوا شريعتي.
فإني كنت ابنًا لأبي، غضًا ووحيدًا عند أمي” [1-3].
يتقدم سليمان الحكيم إلى تلاميذه كأبناء له حتى يمكنهم أن يتقبلوا كلماته التي تحمل أحيانًا توبيخًا أو انتهارًا. لقد أحبه والداه لذا علماه، ومن جانبه كان منصتًا ومطيعًا لهما. كأنه يقول:
“ما تقبلته من والديَّ أقدمه لكم. لقد قدما لي تعاليم الحكمة ممتزجة بالحب نحوي. فأنصتوا إليّ كما كنت أنصت إليهما، أنصتوا لتتقبلوا مع الوصايا الحب الأبوي”.
قال هذا ليُظهر لهم أن ما تسلمه من والديه ويقدمه لهم إنما هي تعاليم ثمينة للغاية. بهذا يجتذب انتباههم ليجد طريقًا ينفذ به إلى قلوبهم.
سليمان الحكيم كابن أطاع والديه، الآن يعلم أولاده لا بالوصايا فحسب، وإنما أيضًا بحياته كمثالٍ لهم. وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي:
V الأب البار يربي (أبناءه) حسنًا عندما يكون مجتهدًا في تعليم الآخرين في تناغم مع سلوكه الحسن، حتى لا يخجل سامعًا المعارضة: “فأنت إذًا الذي تُعلم غيرك ألست تُعلم نفسك؟!” (رو21:2)، بل بالأحرى يكون كالعبد الصالح الذي يخلص نفسه ويقتني الغير. عندما تصير له النعمة التي تقبلها مضاعفة، إذ يسمع: “نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير” (مت21:25)[113].
البابا أثناسيوس الرسولي
يُعلن الحكيم أنه يقدم لهم تعليمًا صالحًا وشريعة، وكما يقول القديس هيبوليتوس: [يليق بنا أن نلاحظ أنه يدعو الشريعة عطية صالحة، وذلك بالنسبة للإنسان الذي يأخذ العطايا في حضنه باستقامة.]
أما هذا التعليم الصالح فيتحقق بأمرين: “الاستماع إلى تأديب الرب”، كأن التأديب معلم ننصت إليه، و“الإصغاء إلى معرفة الفهم”.
“وكان يريني ويقول لي:
ليضبط قلبك كلامي.
احفظ وصاياي فتحيا.
اقتن الحكمة. اقتن الفهم.
لا تنس ولا تعرض عن كلمات فمي” [4-5].
V بقوله: “فأحيا” لا يطلب طول العمر العادي، إذ يطلب حياة مرضية لله، لذلك يقول: “وأحفظ أقوالك“، لأن حفظ أقوال الله وعمل وصاياه هما العمر الحقيقي وعلة الحياة الأبدية[114].
أنثيموس أسقف أورشليم
V كلمة “فأحيا” توحي بحركة حياة في المستقبل. فإنني لست أفكر في الحياة الحالية، إذ يقول “سأحيا“، وهذا يتمشى بالتأكيد مع الحياة الحقيقية.
لنسمع القديس بولس وهو يتحدث عن نفسه وعن أمثاله: “حياتنا مستترة مع المسيح في الله، متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تضيئون أنتم أيضًا معه في المجد” (راجع كو3:3).
لنفهم “سأحيا” أنها تخص المستقبل، وأيضًا “أخبئ كلامك” سيكون ذلك حقيقة ليست في مرآة ولا في لغز[115].
العلامة أوريجينوس
V إنني لا أشعر بأنني أتمم وصاياك بدون مكافأة؛ أعطنا أجر هذا حياة خالدة سعيدة أعيشها وأحفظ أقوالك[116].
القديس ديديموس الضرير
V من يقدر أن ينكر أن عطية الحياة هي عمل العظمة الإلهية؟ مكتوب “احيي عبدك“. إذن يحيي من هو عبد، أي الإنسان، الذي لم تكن له حياة من قبل، بل تسلمها كعطية له[117].
القديس أمبروسيوس
“لا تتركها فتحفظك،
أحببها فتصونك” [6].
بقوله لا تتركها يشخصن الحكمة، مقدمًا إياها حارسة وصديقة، فإنك إن كنت لا تتركها تبقى هي أمينة في حراستها لك، وإن أحببتها تقوم بحمايتك.
إذ يتحدث القديس غريغوريوس أسقف نيصص إلى البتوليين من كلا الجنسين، يسألهم أن يقبلوا مشورة سليمان الحكيم، فيحبوا الحكمة كمعينٍ ورفيقٍ لهم، فإنها هي أيضًا تهب الحب بكونه ثوب العرس الذي بدونه لن يتم زفاف النفس مع السيد المسيح. يرى في الحكمة الإلهي عريسًا للنفس، يشبع أعماقها ويملأها فرحًا.
V إن كان إنسان ما يقبل نصيحة سليمان ويهتم بالمعينة والرفيقة، أي الحكمة الحقيقية التي قيل عنها: “أحببها فتصونك“، “كرِّمها فتحتضنك” ، بهذا يعد نفسه بطريقة لائقة لمثل هذا الحب، حتى يحتفل مع الضيوف المتبتلين بالعرس مرتديًا ثوبًا بلا دنس. فلا يُطرد عندما يجلس في الاحتفال، لأنه لم يلبس ثوب العرس.
واضح أيضًا أن ما يُقال هنا خاص بالرجال والنساء على قدم المساواة، لكي يتحركوا نحو العرس[118].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
“الحكمة هي الرأس (الأساس)،
فاقتنِ الحكمة،
وبكل مقتناك اقتنِ الفهم” [6].
المسيح رأس الكنيسة وأساسها هو الحكمة، من يقتنيه ينعم بالحكمة والفهم، حيث يدرك أسرار الله الفائقة وخطته لخلاصنا.
لنقتنِ الحكمة كأساس لبنيان ملكوت السموات في داخلنا. هي كنزنا الأبدي، ورصيدنا الدائم، وعلة شركة المجد السماوي.
شتان ما بين حكمتنا وفهمنا وبين حكمة الأشرار وفهمهم، فإن حكمتنا تقوم على الإيمان الحي العملي، أما الأشرار فقد يكون لهم الإيمان مع المعرفة النظرية، لكنهم لا يحملون خبرة الاتحاد مع الله في ابنه بالروح القدس، الإيمان العملي الحي، الذي خلاله نمارس بنوتنا الصادقة لله.
إذ يصير السيد المسيح رأسنا، وهو الحكمة الإلهي، يتسلم قيادة حياتنا، فنمارس الحكمة في عبادتنا الكنسية كما في حجرتنا الخاصة، وفي عملنا كما في الطريق، وفي معاملاتنا مع الأحباء كما مع المقاومين، وفي شركتنا مع السمائيين كما مع المؤمنين المجاهدين… يحكم السيد المسيح كل تطلعاتنا ونظراتنا وسلوكنا، حتى أحلامنا! نرى كل شيء من خلاله، ونراه متجليًا أمامنا في كل شيء.
“ارفعها فتُعليك،
تمجدك إذا اعتنقتها” [8-9].
يرى البعض أن كلمة “يرفع” هنا تعني “يقوى”. فإن كانت الحكمة هي عطية إلهية مجانية، وهي اقتناء السيد المسيح نفسه حكمة الله، فإنه لا يقطن في قلب متراخٍ أو مستهتر، إنما يُدعِّم سكناه فينا بالجهاد الحيّ والتمتع بالفضائل المقدسة، لنُعانقه لا بكلمات مجردة بل بالحب العملي الحيّ. نرفع الحكمة ونقوِّيها فينا، إذ تحوط بها الفضائل من كل جانب، فترفعنا الحكمة وتقوينا. ترفعنا في عينيْ الله كما في أعين السمائيين والأرضيين، حتى الشياطين تهابنا، إذ نحن مختفون في المسيح، الحكمة الحقيقية.
V ماذا يعني “ارفعها (قوِّيها)“؟ أي حوِّط حولها بالأفكار المقدسة، فإنك محتاج إلى دفاع قوي، حيث توجد أشياء كثيرة معرضة للخطر مثل ممتلكات. لكن إن كان في سلطانك أن ترفعها، وإن كان في مقدورك أن تمارس فضائل تكرم معرفة الله، فإن هذه تصير حصونًا لها. كمثال لذلك من يحفظ ممارسة (الفضيلة) وحب الدراسة وبقية سلسلة الفضائل يكرم الحكمة، أما المكافأة فهي أن تُكرم أنت بالتصاقك بها، واحتضانك لها في بهاء السماء[119].
القديس هيبوليتس
V كانت الفلسفة تهيئةً لإعداد الطريق لمن يصير كاملاً في المسيح. يقول سليمان: “ارفعها فتعليك، تمجدك إذا اعتنقتها. تعطي رأسك إكليل نعمة، تاج جمال تمنحك” [8-9]. عندما تُقوى الحكمة بثوب الفلسفة وباستخدام حسن، تحفظها من هجوم السوفسطائيين[120].
القديس إكليمنضس السكندري
“تُعطي رأسك إكليل نعمة،
تاج جمال تمنحك” [9].
تُقيم الحكمة من المؤمن أميرًا أو ملكًا يحمل على رأسه تاج نعمة وشركة مجد، فيترنم قائلاً: “جعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه” (رؤ8:1)، أو يُقيم من النفس ملكة مُتوَّجة بالمجد والجمال السماوي الفائق.
الحكمة وحياة الاستقامة 10-13.
يتحدث سليمان الحكيم عن طريق الحكمة الإيجابي، قائلاً:
“اسمع يا ابني واقبل أقوالي،
فتكثر سنو حياتك” [10].
الاستماع إلى المشورة المقدسة هو بداية الطريق الإيجابي للحكمة، حيث بروح الاتضاع يطيع المؤمن، سالكًا في الوصية. أما ثمرة هذا الطريق فهو “كثرة سني الحياة”، أو طول العمر. هذا مبدأ عام أو ثمرة عامة، لا يمكن تطبيقها بطريقة حرفية على جميع المؤمنين، إذ استشهد بعض الأطفال والشبان في مقتبل عمرهم، لكنهم لم يموتوا، إذ لازالوا في الفردوس يمارسون العبادة ويشفعون من أجل خلاص العالم. فالحديث هنا صادق تمامًا، إن أُخذ بالمفهوم الروحي.
هذا ومن الجانب الحرفي فإننا نعلم أن الشرور بصفة عامة، خاصة الغضب والزنا وغيرهما يؤثران على صحة الإنسان الجسدية والنفسية بجانب الروحية، مما يفقده سلامه الداخلي، ويجعله عرضة لأمراض كثيرة. حتى إن امتدت حياته على الأرض لكنها تُحسب كلا شيء. أما الحكمة فينبع عنها التناغم بين الجسد والنفس والروح، فيسلك الإنسان باعتدال وبروح التوازن، مما يهبه مقاومة ضد كثير من الأمراض. الإيمان الحيّ السليم والعملي سيد قوي لا للروح وحدها بل وللجسد كما للجانب النفسي.
“أريتك طريق الحكمة،
هديتك سبل الاستقامة [11].
في أبوة حانية يتقدم سليمان إلى سامعيه كمعلمٍ وهادٍ، يكشف عن أعين تلاميذه الداخلية فيروا طريق الحق، ويمسك بأيديهم ليُهديهم إلى سبل الاستقامة. وهو في هذا يحمل ظلاً لعمل السيد المسيح الذي يحلو لآباء الإسكندرية أن يدعوه “المعلم” أو “المدرب”، وقد سجل لنا القديس إكليمنضس السكندري كتابًا في هذا الأمر دعاه “المدرب Paedagogos“، فيه أظهر كيف يحتاج العالم كله إلى السيد المسيح كمعلم وطبيب، وأنه يقود مؤمنيه في طريق الكمال حتى يحملوا صورته فيهم. علم البشرية بتجسده وحلوله في وسطهم وصلبه كي يتعرفوا عليه ويقتنوه فيجدد طبيعتهم بروحه القدوس.
أورد الكتاب عينات مختلفة من المعلمين، منهم:
- موسى النبي: أول قائد لشعب الله الذي علم شعب الله الشريعة الإلهية، كما سأل الآباء والأمهات أن يُعلموا أولادهم (تث5:4). فالقائد الحيّ يخلق قادة أحياء، وكل جيل يطلب من الجيل التالي أن يقود من يأتي بعده.
- بصلئيل وأهوليب: صانعان ماهران موهوبان، دُعيا ليُعلما الآخرين صنع الخيمة (خر30:35-35)، فالقائد الماهر هو من يدرب الآخرين ليصيروا ماهرين وعاملين معه.
- صموئيل النبي: آخر قاضي لشعب إسرائيل قبل إقامة النظام الملكي، هذا حسب أن التراخي في الصلاة وتعليم الشعب هو خطية موجهة ضد الله نفسه، إذ يقول: “وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب، فأكف عن الصلاة من أجلكم، بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم” (1صم23:12).
- داود: لم يستطع أن يبني الهيكل، لكنه أعد ابنه سليمان ليبني الهيكل ويُقيم أثاثاته (1أي9:28-21). فالمعلم أو القائد هو الذي يُسر بنجاح تلاميذه ونموهم أكثر منه.
- سليمان: عُرف بالحكمة التي نالها هبة من الله، استخدمها ليُعلم شعبه أن يكونوا حكماء في كل شيء.
- عزرا: كاتب وكاهن التزم ليس فقط بحفظ الناموس، بل وأن يُعلمه للآخرين (عز10:7).
- برنابا: أحد المعلمين من بين مؤمني إنطاكية (أع1:13)، كان له أثره الفعّال على شاول الطرسوسي بعد قبوله الإيمان (أع26:9-30).
- غمّالائيل: حاخام يهودي مشهور، كان معلمًا لشاول الطرسوسي في صباه، كان له أثره عليه في السلوك حسب الناموس حرفيًا، حتى التقى بالسيد المسيح وأدرك الحاجة إلى نظرة جديدة روحية نحو الناموس.
- بولس: ربما أكثر معلمي الكنيسة الأولى فاعلية لسبب مواهبه الفذّة. علّم في العالم الروماني وواجه الأفكار الفلسفية، خاصة اليونانية.
- بريسكلا وأكيلا: أسرة حوّلت بيتها إلى كنيسة، علّمت شابًا بليغًا موهوبًا يُدعى أبُلُّوس طريق الرب (أع20:18).
- أبُلُّوس: معلّم له تأثيره القوي، إسكندري، تعاليمه مهّدت الطريق لقبول الإنجيل في أفسس (أع24:18-26).
- تيموثاوس: شاب هداه القديس بولس إلى المسيحية، صار أسقفًا (1تي3:1؛ 2تي2:4).
- تيطس: شاب آخر هداه أيضا القديس بولس إلى المسيحية وصار أسقفًا على الكنيسة في كريت (تي1:2-15).
“إذا سرت فلا تُضيق خطواتك،
وإذا سعيت (جريت) فلا تعثر” [12].
إذ يحمل المؤمن الحكمة فيه يسلك في حياته اليومية بروح الوضوح مع الاستقامة وبغير خوف من المستقبل. لذا نجده ليس فقط في عبادته، وإنما في عمله اليومي أيضًا، يسير بخطوات واسعة يعمل بلا توقف، يجري بفرحٍ مستظلاً بعناية الله الفائقة.
السير بخطوات متسعة والجري بغير عثرة يحملان السلوك المستقيم حيث لا يعرف المؤمن الخبث والخداع، ولا يُفسد وقته ولا عمله في الطرق الملتوية.
“تمسك بالأدب لا ترخه،
احفظه فإنه حياتك” [13].
يُقصد بالأدب ليس السلوك الحسن فحسب، أو النُبل في التعامل مع الغير، بل الالتصاق بالرب نفسه. فما يقوله سليمان الحكيم هنا يكرره في سفر النشيد على لسان العروس التي أمسكت بعريسها السماوي ولم تُرخه حتى تدخل به إلى أعماق نفسها وتتحد به (نش4:3).
التحفظ من الأشرار والشر14-27.
بعد الحديث عن الجانب الإيجابي لطريق الحكمة يُحدثنا الحكيم عن الجانب السلبي، وهو التحفظ من الأشرار والشر.
ربان السفينة الحكيم ليس له إلمام كامل بكل صخور المحيط والشُعب والمناطق الخطرة، لكنه يدرس بكل دقة الطريق المستقيم، ويعرف اتجاهاته، ويدرك التفاصيل الخاصة به، لذا يسير وهو مطمئن. هكذا يحيد إنسان الله عن طرق الأشرار الوعرة، ولا يفسد وقته بالانشغال بها، إنما ينشغل بطريق الحق، ويعرف ملامحه وكل تفاصيله وهو يسير فيه وهو مطمئن.
“لا تدخل في سبيل الأشرار،
ولا تسير في طريق الأثمة.
تنكَّب عنه (تجنبه).
لا تمر به. حدْ عنه وأُعبر” [14-15].
لنهرب من الالتصاق بالأشرار في سلوكهم الآثم. لنتجنب طرقهم، فلا نجاملهم على حساب خلاصنا، بل لتكن نفوسنا جادة في إغلاق كل باب يدخل بنا إلى الخطية. لا نمر مع الأشرار في طريقهم مجاملة لهم، أو رغبة في إشباع شهوات جسدية أو لنوال مكاسب مادية أو معنوية. إن لاحظنا أننا قد اقتربنا إليه فلنعطه ظهرنا ونرجع عنه ملتصقين بالرب. لنعبر عنه سريعًا حتى لا نسقط في الفخاخ.
يرى القديس هيبوليتس إن الحكيم ينصحنا بالابتعاد عن طريق الهراطقة الذين في شرهم يفسدون التعاليم، كما عن المنحرفين في سلوكهم هؤلاء الذين يدعوهم بالأثمة.
V الهراطقة هم “الأشرار”، والعصاة على الناموس هم الأثمة؛ يأمرنا أن نبتعد عن طرقهم التي هي أعمالهم[121].
القديس هيبوليتس
لما كان طريق الهراطقة برَّاقًا بفلسفات باطلة، وأيضًا طريق الأثمة مغريًا بملذاته الجسدية ومكاسبه المادية والمعنوية، لهذا بقوة لا يطلب منا الحكيم أن نحتفظ بمسافة ما بعيدًا عن هذه الطرق، بل نعطيها ظهورنا تمامًا. فطريق برّ المسيح هو نور، بينما طريق الشر والإثم ظلمة؛ وليست هناك شركة بين النور والظلمة، وبين البرّ والفساد، وبين الحق والباطل.
إننا في حاجة إلى قائد يُدير حياتنا في اتجاه مضاد للشر، هو الروح القدس، روح المسيح القادر أن ينطلق بنا إلى حيث المسيح جالس!
يكمل الحكيم حديثه عن الأشرار قائلاً:
“لأنهم لا ينامون إن لم يفعلوا سوءًا،
ويُنزع نومهم إن لم يُسقِطوا أحدًا” [16].
لا يستريح الهراطقة وأيضًا الأثمة حتى يقتنصوا ما استطاعوا من النفوس في حبائل الهرطقات أو شباك الفساد. يقضون ليالي عمرهم بلا نوم لكي يدفعوا كل إنسان ما استطاعوا نحو طريقهم.
“لأنهم يطعمون خبز الشر،
ويشربون خمر الظلم” [17].
طعامهم هو من الخبز المسروق، وشرابهم هو خمر العنف. سِمتان تُلازمان الأشرار: السرقة أو عدم الأمانة والعنف أو الظلم. هنا لا يعني بالسرقة في مفهومها الضيق، فقد يختلس الشرير مجد الله أو يسلب الحق بتشويه صورته. أما عن الظلم فيُقدمونه أحيانًا خلال كلمات معسولة مملوءة رقة ولطفًا من الظاهر.
“أما سبيل الصديقين فكنورٍ مشرقٍ يتزايد ويُنير إلى النهار الكامل،
أما طريق الأشرار فكالظلام،
لا يعلمون ما يعثرون به” [18-19].
الطريق المستقيم متميز عن الطريق الخاطئ. الطريق الأول يقود إلى مدينة الله العليا، حيث يوجد حمل الله الذي ينيرها، لذا فالطريق بهي ومشرق يحمل قبسات من المجد السماوي ينير بها اذهان السالكين فيه، فيقولون: “لتمت نفسي موت الأبرار، ولتكن آخرتي كآخرتهم” (عد10:23). أما طريق الأشرار فيحمل سمات نهايته ألا وهو مملكة الظلمة.
جاءت كلمة “سبيل” في الترجمة السبعينية بالجمع: “سبل الصديقين”. فإن كان الحق هو طريق واحد، هو شخص السيد المسيح، فإنه يجتذب المؤمنين إليه بطرق كثيرة. حقًا يلزم للكل أن يكون لهم الإيمان الواحد، لكن لكل واحد موهبته الخاصة. إنسان يلتقي مع الرب بروح العبادة الدائمة، وآخر بروح الحب والعطاء للغير، وثالث بروح الخدمة والكرازة، وكما يقول القديس بولس الرسول: “فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد. وأنواع خدم موجودة، ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة، ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل. ولكنه لكل واحدٍ يُعطي إظهار الروح للمنفعة، فإنه لواحدٍ يُعطي بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد… (1كو4:12-9).
V طريق الحق واحد، لكن فيه نهر دائم الجريان، تفيض منه مجاري من كل جانب. لذلك يقول الوحي: اسمع يا ابني واقبل أقوالي، ويكون لك طرق كثيرة للحياة. أريتك طريق الحكمة فلا تنضب ينابيعك”، هذه التي تفيض من الأرض ذاتها. إنه لا توجد فقط طرق متنوعة للخلاص يستخدمها الإنسان البار، بل يُضيف (الله) طرقًا أخرى كثيرة للبار، إذ يقول: “سبل الصديقين كنورٍ مشرق” [18][122].
القديس إكليمنضس السكندري
عندما تحدث القديس يوحنا كاسيان عن اقتدائنا بالغير، حذرنا من الارتباط بشخصٍ واحدٍ، إذ لا يوجد شخص كامل فيه كل الفضائل.
يشبّه الحكيم سبل الصديقين بالأرض وقد أشرقت عليها شمس البرّ، وتبقى تبعث أشعتها حتى يتزايد النور ويبلغ إلى القمة. أما طريق الأشرار فتحتجب عنه شمس البرّ، لذا يسوده الظلام، ويتعثر السالكون فيه.
V يقول: “فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات” (مت16:5). ليس شيء مليء بالنور مثل الحوار السامي جدًا. وكما يقول أحد الحكماء: “سبل الصديقين كنور مشرق” (أم18:4 LXX)، وهم يشرقون ليس لأنفسهم وحدهم حيث يشعلون لهيب أعمالهم (المنيرة)، وليس فقط لأجل البرّ، وإنما يشرقون أيضًا على أقربائهم[123].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“يا ابني أصغِ إلى كلامي،
أمل أذنك إلى أقوالي.
لا تبرح عن عينيك،
احفظها في وسط قلبك.
لأنها هي حياة للذين يجدونها،
ودواء لكل الجسد” [20-22].
يعود فيسأل الحكيم ابنه أن يُكرس كل أعضاء جسده وطاقاته للتمتع بالحكمة، فيطلب منه أن يميل بأذنيه، وأن يتطلع إليها بعينيه على الدوام، ويدخل بها إلى أعماق قلبه. يسأله أن يخزنها في وسط قلبه لتُحرك كل طاقاته ورغباته واشتياقاته وكلماته وسلوكه.
“فوق كل تحفظ احفظ قلبك،
لأن منه مخارج الحياة” [23].
كما أن الدم الفاسد يدخل إلى القلب ثم يخرج منه نقيًا خلال الشرايين ليُغذي الجسم كله من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين، هكذا برّ المسيح يدخل إلى أعماق القلب ليتوجه كل كيان الإنسان الداخلي والخارجي.
ما نحتفظ به في قلبنا يملك على أفكارنا وكلماتنا وسلوكنا، سواء كان ذلك هو برّ المسيح أو الشر.
V لنحفظ قلوبنا، ولنحفظ أفواهنا، فقد كُتب عن كليهما. في هذا الموضع أمرنا أن نَحذَر من فمنا، وفي موضع آخر قيل لك: “احفظ قلبك بكل اجتهاد”. إن كان داود يأخذ حذره أفلا تحذر أنت؟!
إن كان لإشعياء شفتان نجستان، إذ قال: “ويل لي، إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين” (إش5:6)؛ إن كان لنبيّ الرب شفتان نجستان فكيف تكون لنا شفتان طاهرتان؟[124]
القديس أمبروسيوس
V احفظ قلبك بكل اجتهاد، أي ليس خفية، فإنه يجب إظهار الأفكار والكشف عن الأعمال. استخدم يديك في العمل، وقلبك في التأمل في الصلاة[125].
القديس مار أفرآم السرياني
V لنكن متحفظين بكل عناية، كما هو مكتوب: “احفظ قلبك بكل سهر”. لأن أعداءنا مرعبون وماكرون – هم الأرواح الشريرة – نصارع ضدهم، وكما يقول الرسول لسنا نُصارع ضد لحم ودم، بل ضد الرئاسات، ضد القوات، ضد رؤساء عالم هذه الظلمة، ضد أجناد الشر في السماويات. ما أكثر عددهم في الهواء المحيط بنا! فإنهم ليسوا بعيدين عنّا[126].
البابا أثناسيوس الرسولي
الملك سليمان والعالِمْ هارفي
يرى البعض في حديث سليمان الحكيم “فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة” [23]أنه سابق للعالم هارفي صاحب الاكتشاف العظيم عن الدورة الدموية التي تتحقق بواسطة القلب؛ هذا الاكتشاف الذي أحدث ثورة في الفكر الطبي. هنا نجد سليمان يتحدث بهدوء وفي يقين، مستخدمًا هذه الحقيقة العلمية للكشف عن حقيقة روحية. فكما أن القلب هو مركز النظام الجسمي، منه تصدر الحياة، هكذا القلب أو الإنسان الداخلي هو مركز الحياة الروحية1.
“انزع عنك التواء الفم،
وأبعد عنك انحراف الشفتين” [24].
ما هو التواء الفم إلا الغضب والإدانة والاندفاع في الكلام، أما انحراف الشفتين فيعني النميمة وتشويه الحقائق.
“لتنظر عيناك إلى قُدامك (باستقامة)،
وأجفانك إلى أمامك مستقيمًا.
مهِّد سبيل رجلك، فتثبت كل طرقك” [25-26].
عمل رجال العهد القديم هو تهيئة الطريق لكي يسلكه المؤمنون بروح القوة والغلبة، بنفوس متشددة بروح الرجاء الحيّ. صرخ القديس يوحنا المعمدان الذي جاء بروح إيليا ليُهيئ الطريق للرب قائلاً: “أعدوا طريق الرب. اصنعوا سُبله مستقيمة، كل وادٍ يمتلئ، وكل جبل وأكمة ينخفض، وتصير المعوجات مستقيمة والشعاب طرقًا سهلة. ويُبصر كل بشر خلاص الله” (لو4:3-6).
هكذا يشترك سليمان الحكيم مع بقية رجال العهد القديم في إعداد البشرية لقبول الرب، لتسلك في مسالك مستقيمة بأرجلٍ قويةٍ قادرة على العبور في الطريق الملوكي الذي لا تجد فيها شخصًا أعرج قط! لا يسلكه من يُعرِّج بين الله وبليعال، ولا بين الروحانية الملتهبة والحرفية القاتلة، ولا بين السماء والأرض، بل يُستعلن فيه إنجيل المسيح واهب الفرح السماوي!
V من أجل التعلم، قيل في سليمان حسنًا: “يا ابني لا تفعل شيئًا بدون مشورة، وعندما يتحقق ذلك لا تندم” (ابن سيراخ 24:32). وأيضًا: “لتكن أجفانك أمام خطواتك” [25]. لأنه بالحق أجفاننا تسير أمام خطواتنا عندما تضبط المشورات الصالحة أعمالنا. لأن من يهمل النظر إلى قدام، فيغلق عينيه عندما يريد أن يتقدم للعمل أثناء رحلته، فإنه لا يتقدم للعمل متطلعًا إلى قدام، لهذا سرعان ما يسقط، إذ لا يحذر بجفنيْ عين المشورة ليُدرك أين يجب أن يضع قدم علمه[127].
الآب غريغوريوس (الكبير)
V من كانت أفكاره متحررة من الهوى، ينظر باستقامة، ويكون حكمه سليمًا من الانفعال بالمظاهر الخارجية. عندما يقول “لتنظر عيناك باستقامة”، يعني بصيرة النفس[128].
القديس هيبوليتس
أخيرًا يقول الحكيم:
“لا تمل يمنة ولا يسرة،
باعد رجلك عن الشر” [27].
يحذرنا من السير في الطرق الملتوية، والمنحرفة سواء من جهة اليمين أو اليسار، فإن الطريق المستقيم الملوكي هو طريق الاعتدال.
V يليق بنا حقًا أن نسلك الطريق الملوكي، ولا ننحرف إلى جانبٍ منه سواء كان عن اليمين أو اليسار، وذلك كما يقول سفر الأمثال[129].
القديس غريغوريوس النزينزي
V يحذرنا سليمان، أحكم إنسان، ألا ننحرف إلى الجانب اليمين أو الجانب اليسار. فلا تتشامخ بسبب فضائلك، ولا تنتفخ من أجل ما بلغته من روحيات، منحرفًا نحو اليمين. ولا تتمايل نحو طريق الرذائل، نحو اليسار، مفتخرًا بما هو عار (في19:3)[130].
القديس هيبوليتس
V تحتل الفضيلة مركزًا متوسطًا؛ فيُقال إن الشجاعة الناضجة هي الطريق ما بين الجسارة والجبن[131].
القديس يوحنا كاسيان
V الانحراف نحو اليمين هو أن يخدع الشخص نفسه فيقول إنه بلا خطية. والانحراف نحو اليسار هو أن يحيط الإنسان نفسه بخطاياه ظانًا انه لا يًصاب بضررٍ ولا يُعاقب[132].
القديس أغسطينوس
وفي حديث القديس يوحنا كاسيان عن “كيف يهاجم المجد الباطل الراهب من اليمين ومن الشمال” يقول:
V من يصبو أن يسير قدمًا في الطريق الملكي “بسلاح البر لليمين ولليسار“، ينبغي وفق تعليم الرسول أن يمر “بمجد وهوان، وبصيت رديء وصيت حسن” (2كو7:6،8).
يسير بعناية لتوجيه مجراه المستقيم وسط أمواج التجارب المتلاطمة. وبحذر يمسك بالدفة، فيهب روح الرب، وينشر عبيره حولنا.
إننا نعلم أننا إذا انحرفنا قليلاً نحو اليمين أو اليسار سرعان ما تتحطم سفينة حياتنا فوق الصخور الوعرة. لذلك يحذرنا سليمان الحكيم قائلاً: “لا تمل يمنة ولا يسرة” (أم27:4). بمعنى لا تمتدح فضائلك أمام نفسك، ولا تزهو بإنجازاتك الروحية من اليمين، ولا تتحول إلى طريق الرذائل نحو الشمال، وتختار شيئًا من هذه الرذائل لنفسك، وباستخدام كلمات الرسول: “فخرًا في خزيك” (في19:3).
لأنه حين لا يستطيع إبليس أن يبعث بالمجد الباطل في إنسانٍ عن طريق حسن هندامه وأناقة لباسه، يحاول اصطناعه عن طريق زيٍّ أشعث ولباسٍ قذرٍ مهملٍ.
وإذا لم يستطع أن يسقط إنسانًا بالفخر يسقطه بالاتضاع.
وإذا لم يستطع أن يدفعه نحو التعالي بنعمة المعرفة والفصاحة، يسحبه إلى أسفل تحت ثقل الصمت.
وإذا صام إنسان علانية يهاجمه كبرياء الزهو والغرور، وإذا أخفاه احتقارًا لما يسفر عنه من فخار وقع فريسة لخطية الكبرياء ذاتها.
ولكي لا تدفعه وصمة المجد الباطل فإنه يتجنب إطالة الصلوات على مرأى من الاخوة، لكن لأنه يمارسها سرًا، دون أن يشعر به أحد لا ينجو من كبرياء الزهو[133].
القديس يوحنا كاسيان
من وحي الأمثال 4
احملني في طريق الحكمة
فلا انحرف عنه يمنه أو يسرة
V لتحملني يا أيها الحكمة الإلهي على ذراعيك،
فانحني بروح الطاعة والاتضاع،
مقتديًا بك يا سيد الكل!
V احملني، فأنت هو الرأس،
من اقتناك يقتني كل ما هو صالح!
ترفعني من وسط وحل العالم،
فأُمجدك مجاهدًا للبقاء بين يديك!
V تحتضني لتُقويني،
واحتضنك بأعمال برَّك فيَّ، فأثبت فيك!
تكللني، فأنت هو إكليلي وجمالي وعزّي وقوتي!
V تسير بي في طريقك الملوكي،
فأجري نحو أحضان أبيك،
واجتذب معي كثيرين يُشاركوني في الطريق!
أُوسِّع خطواتي مسرعًا نحو السماء،
وأجري ولا تتعثر قدماي!
V أستنير بك يا شمس البرّ،
فيزداد بهاؤك فيَّ!
أبغض الظلمة وأكره طريق الأشرار.
لكن بالحب أصرخ لأجل خلاص الساقطين!
V بك لا انحرف يمينًا،
إذ أشعر ببرك لا برِّي!
ولا انحرف شمالاً،
إذ أطلب لذة الشركة معك، لا ملذات الخطية.
V نعم، احملني على ذراعيك،
ارفعني، أنر أعماقي،
فتلتصق نفسي بك وحدك!
تفسير أمثال 3 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 5 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |