تفسير سفر الأمثال ٦ للقمص أنطونيوس فكري
تفسير الأمثال – الإصحاح السادس
نجد في هذا الإصحاح دروس عديدة لنسلك بأمان في هذا العالم ولنضمن ميراث الأبدية.
الآيات (1-5):
“يا ابني أن ضمنت صاحبك أن صفقت كفك لغريب. أن علقت في كلام فمك أن أخذت بكلام فيك. إذا فافعل هذا يا ابني ونج نفسك إذا صرت في يد صاحبك اذهب ترام وألح على صاحبك. لا تعط عينيك نوماً ولا أجفانك نعاساً. نج نفسك كالظبي من اليد كالعصفور من يد الصياد.”
أن ضمنت صاحبك= أي تكفلت بدفع دين صاحبك لمن استدان منه صفقت كفك= كان تصفيق الكف في العهد القديم معناه وضع يد الضامن في يد صاحب الدين علامة الضمانة والتعهد بالوفاء. لغريب= شخص غير معروف عندك وربما ليس يهودياً. إن علقت في كلام فمك= أي اشتبكت أو أمسكت كما في شبكة على غير انتباه، وذلك بتسرعنا في إعطاء الوعود لسبب أو لآخر فنمسك بكلمات فمنا ولاحظ أن الوعود قد تكون بسبب التعاطف. إن أخذت بكلام فيك= أمسكت رغم إنذارك. إذهب ترام وألح= إذا كنت قد وعدت وضمنت فالأفضل أن تعتذر، إذهب لصاحبك المديون حتى يعفيك من الضمانة أن يسدد الدين الذي ضمنته فيه فتضمن سلامتك. وواضح هنا أن سليمان يحذر من ضمانة أحدد وكرر هذا في (15:11 + 18:17 + 16:20 + 26:22،27). بل هو يطلب أن يكون الرجوع في موضوع الضمان بمنتهى السرعة= لا تعط عينيك نوماً= لا تتكاسل في هذا الأمر بل إفعله بأوفر سرعة. مثل الظبي= المشهور بسرعة الهرب. وكم خربت بيوت بسبب موضوع الضمان. ونلاحظ أنه كثيراً ما يكون اعتدادنا بذواتنا ورغبتنا في أن يرانا الناس بصورة القادرين هو الدافع لمثل هذا التصرف، أي أن نضمن الآخرين.
والكتاب لم يمنع الضمان نهائياً فبولس ضمن أنسيموس (فل18،19). ولكن هناك شروط لنقدم على ضمان شخص:-
- في حدود إمكانياتنا، وبحيث لو دفعنا مبلغ الضمان لا يحدث خراب لنا نحن (27:22).
- الأفضل من ضمان شخص محتاج أن نعطيه مساعدة في حدود إمكانياتنا (27:3)
- عدم ضمان مستهتر طائش، بل نضمن إنسان مجتهد. وهذا لمنع هذا المستهتر الطائش من الدخول في علاقات متهورة مع غرباء أجانب سعياً وراء ربح سريع بلا أمان، ومثل هذا الشاب الطائش حين يجد وراءه ضامناً يندفع بالأكثر في هذه الإندفاعات المجنونة.
بعد أن رأينا خطورة ضمان شخص متهور طائش نتأمل في ذاك الذي احتمل لأجلنا كل ما احتمل ليسدد ديننا، وهو الذي كان ضامناً لنا حتى لا نعود مديونين لأحد. والآن بعد أن احتمل ما احتمله ليحررنا من الدين الذي علينا، يجب أن لا نعود ونصبح مديونين ثانية لإبليس بأن نقبل أي خطايا يعرضها علينا، أو نصير عبيداً للناس (1كو23:7). وإلتزامنا بوصايا الله فيها ضمان سلام بيوتنا وكل مالنا.
الآيات (6-11):
“اذهب إلى النملة أيها الكسلان تأمل طرقها وكن حكيماً. التي ليس لها قائد أو عريف أو متسلط. وتعد في الصيف طعامها وتجمع في الحصاد أكلها. إلى متى تنام أيها الكسلان متى تنهض من نومك. قليل نوم بعد قليل نعاس وطي اليدين قليلا للرقود. فيأتي فقرك كساع وعوزك كغاز.”
في الآيات السابقة رأينا أن من يضمن إنسان آخر بطريقة خاطئة يعرض نفسه وبيته للخراب، وهنا نرى أن الكسل أيضاً يعرض الإنسان للخراب ويقوده لحياة الفقر. ويقودنا هنا الحكيم أن نتأمل الحيوانات والحشرات لنتعلم منها، وهو شئ مخجل، لكن علينا أن نعترف أن الإنسان وصل لحالة سيئة بعد سقوطه. وعموماً فالحصاد يتبع الزرع، ومن يكد ويتعب من المؤكد سيحصد ثمر جهاده. ولقد انتشر في كنيسة تسالونيكي مبدأ خطير، أننا أناس روحيين منتظرين مجيء المسيح فلنترك أعمالنا ونهملها والله يعولنا، ولكن بولس الرسول نبه لخطورة هذا المبدأ وأعطاهم درس ملخصه أن كل إنسان يجب أن يعمل حتى يأكل (2تس6:3-16) وهكذا كان منذ البدء حين خلق الله آدم ليعمل الجنة (تك5:2،15). ثم بعد السقوط قال له: “بعرق وجهك تأكل خبزاً” (تك19:3). والنملة تقدم درساً فهي تجمع طعامها وتخزنه لوقت الحاجة، فهي تجمع طعامها وقت الحصاد وتخزنه حتى إذا جاء الشتاء تجد طعامها. وعلى الإنسان أن يعمل طوال النهار ليستريح ليلاً، بل يعمل طوال العمر ويستريح بعد أن ينهي عمله على الأرض . ونتعلم من النملة التي تخزن وقت الوفرة، عدم الإسراف بلا معنى، فالنملة تخزن وقت الوفرة حتى إذا جاء عليها وقت القحط تجد ما تعيش به، وعلينا عدم الإسراف حتى إذا جاء وقت قحط نجد ما نعيش به، وهذا لا يتعارض مع قول المسيح (مت24:6-34) الذي ينادي بعدم الاهتمام بالغد، فالمسيح يطلب أن لا نخاف من الغد ولا من المستقبل ولكنه لم يطلب الإسراف والتبذير اليوم، فلنسلك بحكمة وندبر بقدر ما نستطيع بلا هم ولا قلق، وما لا نستطيع نحن تدبيره سيدبره الله، وإن لم يكن لنا اليوم ما نوفر منه للغد، فالله سيعطينا احتياجنا للغد.
قائد= قائد الجيش. عريف= المدبر الذي ينظم العمل. المتسلط= الحاكم أو الرئيس الأعلى وهؤلاء هم أفراد الهيئة الحاكمة العليا في ذلك الوقت والتي كانت تقوم بالتنظيم الحكومي. قليل نوم بعد قليل نعاس= تمثيل تهكمي للغة الكسلان معناه أنه ينام ثم يقوم بكسل لينام ثانية بلا رغبة في النهوض- وطي اليدين قليلاً للرقود= أي طي اليدين لإعادة النوم. يأتي فقرك كساعٍ= هو المسافر المستعجل، رمز لسرعة إتيان الفقر للكسلان فمن لا يعمل لتفادي العوز يأتيه العوز بسرعة. وعوزك كغازٍ= الغزاة يأتون فجأة، ويهجمون وقت النوم، والموت هكذا يأتي فجأة لكل خاطئ، والعوز يأتي فجأة لكل كسلان.
ودرس النملة هو درس في ضرورة الجهاد الروحي، درس للحياة الأبدية، فنحن نحتاج للجهاد الروحي بلا تراخي ولا كسل، ولا وقت للنوم “استيقظ أيها النائم” (أف14:5) وأنها الآن ساعة لنستيقظ (رو11:13). وكما أنه على الكسلان أن يلاحظ النملة ليتعلم الجهاد، علينا أن نراقب القديسين (في17:3 + عب7:13) فمن المخجل أن النملة تتصرف بحكمة وهي بلا قيادة (قائد / عريف/ متسلط) ونحن لا ننظر لآبائنا القديسين ونعمل بحسب إرشادهم ونسير في طريقهم، لذلك تقرأ الكنيسة لنا يومياً السنكسار لنقتدي بهم.
الآيات (12-15):
“الرجل اللئيم الرجل الأثيم يسعى باعوجاج الفم. يغمز بعينيه يقول برجله يشير بأصابعه. في قلبه أكاذيب يخترع الشر في كل حين يزرع خصومات. لأجل ذلك بغتة تفاجئه بليته في لحظة ينكسر ولا شفاء.”
نأتي هنا إلى درس جديد، يأتي في مكانه بعد درس النملة والكسلان، فالكسلان إذ لا يجد شئ يشغله ويشغل عقله وقلبه، ينشغل فيما هو باطل (هناك مثل عامي يقول اليد العاطلة نجسة)، فهذا الكسلان العاطل إذ لا يجد ما يشغل به أوقاته يكرس كل أعضائه (فكرة وقلبه وعينه ويده ورجله”) للشر.ومثل هذا نهايته تكون سيئة، وهو جعل أعضاؤه آلات إثم بدلاً من أن يجعلها آلات بر (رو19:6).
الرجل اللئيم= جاءت في الأصل العبري بليعال “رجل تافه بلا عمل عديم النفع، بل هو مخرب شرير، وهكذا كل من ترك الله يفقد براءته. يغمز بعينيه= ابتداء من هنا نجد مواصفات رجل بليعال “اللئيم”. فهو يستعمل حركات خاصة بعينيه ليعبر عن أفكاره الشريرة. يقول برجله يشير بأصابعه يستعمل حركات من أصابع يديه وحركات من رجليه ليدبر شروراً ضد الآخرين. في قلبه أكاذيب= ينتقل الحكيم إلى أصل الداء ومصدر كل الشرور ألا وهو القلب فالشرير قلبه مملوء بالضلالات والتصورات الآثمة (أر9:17) يخترع الشر= قلبه معمل للشر. ونهايته شريرة= لأجل ذلك بغتة تفاجئه بليته.
الآيات (16-19):
“هذه الستة يبغضها الرب وسبعة هي مكرهة نفسه. عيون متعالية لسان كاذب أيد سافكة دماً بريئاً. قلب ينشئ أفكاراً رديئة أرجل سريعة الجريان إلى السوء. شاهد زور يفوه بالأكاذيب وزارع خصومات بين اخوة.”
هنا يلخص الحكيم الأشياء التي يكرهها الله. والله لا يكره شيئاً سوى الخطية، ومن يفعل شيئاً يكرهه الله فخرابه أكيد، فالله المحب لا يكره سوى ما يُدمِّر الإنسان، فخطايانا لن تطول الله بل ستدمرنا نحن أنفسنا.
هذه الستة.. سبعة= تعبير يهودي مألوف (أي19:5). فرقم 6 يدل على النهاية أو الحد الأقصى، ورقم 7 يدل على الكمال. وفي هذا الاصطلاح ما يدل على أن الشيء السابع قد زاد عن الحد. وهنا يذكر الصفات الممقوتة التي تجتمع في رجل بليعال، ويذكر بعد ذلك 7 صفات رديئة أولها عيون متعالية= إشارة للكبرياء وتشامخ الروح وازدراء الآخرين، هي صورة كل من هو ضد المسيح المتواضع، وهذه الخطية أول خطية يكرهها الله فهي سبب سقوط إبليس (راجع أش12:14-17). وبالذات (آية13:14). وخطية الكبرياء هي سبب السقوط دائماً “قبل الكسر الكبرياء” ومن هنا نفهم معنى الأرقام (6،7) فلها تفسيرين:
الأول: أن من تجتمع فيه هذه الخطايا يكون قد زاد عن الحد ووصل لدرجة أن الله يكرهه. فتعبير (6،7) في اللغة اليهودية يعني أن الشيء فاق الحد.
الثاني: 6 هي الخطايا (لسان كاذب…… زارع خصومات). والسابعة هي رأس كل البلايا أي أول ما ذُكِر وهي خطية الكبرياء= عيون متعالية (أم18:16)
اللسان الكاذب= هو ضد المسيح، فالمسيح هو الحق. والكلام الباطل يكشف القلب المخادع. أيد سافكة دماً= هذه صفة إبليس الذي كان قتالاً للناس منذ البدء (يو44:8) وهو أيضاً أبو كل كذب (يو44:8). قلب ينشئ أفكاراً رديئة= مصدر كل الأفعال الشريرة. أرجل سريعة الجريان إلى السوء= الأرجل تنفذ ما بدأ في القلب أولاً. شاهد زور= هنا اللسان ينفذ أيضاً ما بدأ في القلب. زارع خصومات= بأكاذيبه المختلقة ينشر سموماً وسط الناس. ولاحظ رجل بليعال بمواصفاته المذكورة هنا، فهو ينشر أكاذيب، قد تقود لسفك دماء، يستعمل حركات يديه، وغمزات عينيه ليقود من هم أدواته لصنع الشر، رجل بليعال هذا تجارته صناعة الإثم وهذا عكس ما قيل في المزمور (138) حيث البركة في الحب.
الآيات (20-25):
“يا ابني احفظ وصايا أبيك ولا تترك شريعة أمك. اربطها على قلبك دائماً قلد بها عنقك. إذا ذهبت تهديك إذا نمت تحرسك وإذا استيقظت فهي تحدثك. لأن الوصية مصباح والشريعة نور وتوبيخات الأدب طريق الحياة. لحفظك من المرأة الشريرة من ملق لسان الأجنبية. لا تشتهين جمالها بقلبك ولا تأخذك بهدبها. لأنه بسبب امرأة زانية يفتقر المرء إلى رغيف خبز وامرأة رجل آخر تقتنص النفس الكريمة. أيأخذ إنسان ناراً في حضنه ولا تحترق ثيابه. أو يمشي إنسان على الجمر ولا تكتوي رجلاه. هكذا من يدخل على امرأة صاحبه كل من يمسها لا يكون بريئاً. لا يستخفون بالسارق ولو سرق ليشبع نفسه وهو جوعان. أن وجد يرد سبعة أضعاف ويعطي كل قنية بيته. أما الزاني بامرأة فعديم العقل المهلك نفسه هو يفعله. ضرباً وخزياً يجد وعاره لا يمحى. لأن الغيرة هي حمية الرجل فلا يشفق في يوم الانتقام. لا ينظر إلى فدية ما ولا يرضى ولو أكثرت الرشوة.”
لقد سبق الحكيم وحذر من بعض الأشياء التي تأتي بالخراب مثل ضمان شخص آخر والكسل واللؤم وتدبير الشر. وهنا يأتي للزنا كخطية تُدمِّر من يرتكبها وتفقره. يا أبني احفظ وصايا أبيك ولا تترك شريعة أمك= لأن ما من أب أو أم يخافان الله نجدهما يشجعان أولادهم على الزنى. وتفهم الآية على أن الله هو أبونا السماوي والكنيسة هي أمنا ووصية الله واضحة “لا تزن” وهكذا تعلم الكنيسة. والوصايا تحرس الإنسان من الخراب في العالم إينما ذهب وهي كمرشد له= إذا ذهبت تهديك وهي كحارس له= إذا نمت تحرسك وهي كمعلم له= إذا استيقظت فهي تحدثك. إذاً الوصية هي مرشد وحارس ومعلم فهي نور في ظلام هذا العالم الذي يسوده الشيطان ومن أسلحة الشيطان الزنا وخطايا الجنس، ونقف في وجهه بالتزامنا بالوصية أي “لا تزن” مهما كان الإغراء= ملق لسان الأجنبية تأخذك بهدبها= تغويك بحركات عينيها فهي تقتنص النفس الكريمة= النفس كريمة لأن نفوسنا عزيزة جداً لدى الله فهو مات لأجل هذه النفوس. ولكن الزانية تستدرج البرئ بغوايتها والنتيجة هلاكه فهي كأنها صياد إصطاد الفريسة ليقتلها. ونتائج الزنا خراب أكيد= يفتقر المرء إلى رغيف خبز وهو خراب مؤكد= أيأخذ إنساناً ناراً في حضنه ولا تحترق ثيابه. فنار الشهوة تشعل نار جهنم. ولنلاحظ أن الناموس يأمر برجم الزاني، لذلك فمن يشبع شهوته بلذة الزنى يكون كمن ينتحر فالعقوبة معروفة. ويلجأ الوحي لأسلوب آخر لمن فقد بصيرته فالزاني فقد بصيرته وما عاد يرى غضب الله أو نتائج الخطية، ومثل هذا يخيفه الله بانتقام الزوج الذي لن يتسامح أبداً مع من زنى مع زوجته فلعله يرتدع، والله يخيف الزاني بأنه لو إفتضح أمره فسيضربونه وسيكون في عار فخطية الزنا آثارها رهيبة وتبقى العمر كله. الزاني بامرأة.. المهلك نفسه= الله يخيف الزاني من عقوبة الشريعة. ضرباً وخزياً= الله يخيفه هنا من الفضيحة والإهانة. لأن الغيرة هي حمية الرجل= الله يخيفه هنا من انتقام الزوج. وبينما أن السرقة مرفوضة فالناس لا يبرئون لصاً حتى لو كان جوعاناً لا يستخفون بالسارق ليشبع نفسه= إلا أن هناك أمل أن يطلقوا سراحه أن رد ما سرقه = إن وجد يرد سبعة أضعاف= ليس المقصود أضعاف حرفياً فحتى الناموس لا يقول سبعة أضعاف، ولكنها تعنى رقم كامل، أي يتركون اللص لو سدد لمن سرقه ما يَرْضَي به. أما الزاني فلا تُقْبَلْ منه فدية أو رشوة.
وأسلوب التخويف من النتائج المباشرة للزنا مع من فقد بصيرته نستعملها حتى الآن فنحن نقول لمن يزني، أهرب لئلا يدركك “الإنتقام، أمراض الزنا، الفضيحة.. ” ونلاحظ أن خطية الزنا يتكرر التنبيه عليها لخطورتها وليحفر الله في أذهاننا الخوف منها.
تفسير أمثال 5 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 7 |
القمص أنطونيوس فكري | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |