تفسير رسالة يعقوب أصحاح 3 – كنيسة مارمرقس مصر الجديدة

الأصحاح الثالث
اللسان والحكمة

 

(1) خطورة اللسان (ع 1-8):

1 لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِى، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ. 2 لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي الْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ، قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ الْجَسَدِ أَيْضًا. 3 هُوَذَا الْخَيْلُ، نَضَعُ اللُّجُمَ فِي أَفْوَاهِهَا لِكَيْ تُطَاوِعَنَا، فَنُدِيرَ جِسْمَهَا كُلَّهُ. 4 هُوَذَا السُّفُنُ أَيْضًا، وَهِىَ عَظِيمَةٌ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَتَسُوقُهَا رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ، تُدِيرُهَا دَفَّةٌ صَغِيرَةٌ جِدًّا إِلَى حَيْثُمَا شَاءَ قَصْدُ الْمُدِيرِ. 5 هَكَذَا اللِّسَانُ أَيْضًا، هُوَ عُضْوٌ صَغِيرٌ وَيَفْتَخِرُ مُتَعَظِّمًا. هُوَذَا نَارٌ قَلِيلَةٌ، أَىَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ؟ 6 فَاللِّسَانُ نَارٌ! عَالَمُ الإِثْمِ. هَكَذَا جُعِلَ فِي أَعْضَائِنَا اللِّسَانُ، الَّذِي يُدَنِّسُ الْجِسْمَ كُلَّهُ، وَيُضْرِمُ دَائِرَةَ الْكَوْنِ، وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ. 7 لأَنَّ كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَالّزَحَّافَاتِ وَالْبَحْرِيَّاتِ يُذَلَّلُ، وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ الْبَشَرِى. 8 وَأَمَّا اللِّسَانُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَهُ. هُوَ شَرٌّ لاَ يُضْبَطُ، مَمْلُّوٌ سُمًّا مُمِيتًا.

 

ع1: كان يعقوب الرسول أسقفًا لأورشليم ومن أعمدة الكنيسة، ومع هذا يقول باتضاع “لا تكونوا معلمين يا أخوتى“، لأنه وجد أن البعض يتسابق ليأخذ صورة المعلم والمرشد فيضع نفسه في خطر وذلك لما يلى:

  1. لأنه يعطى إحساسًا كاذبًا لنفسه بأنه أفضل من الآخرين.
  2. لأن التعليم أصلًا موهبة من الروح القدس فلا يغتصبها أحد بكبريائه.
  3. كل معلم يأخذ دينونه أعظم، لأنه بما يعلم يجب أن يعمل هو أولًا.
  4. كل من يعطِ كثيرًا يُطلَب منه أكثر (لو12: 48).
  5. كل معلم مُعَرَّض للسقوط ومتى أسقطه الشيطان يشتِّت الرعيَّة. لذلك نجد ان أريوس الذي كان خطيبًا بارعًا وضلَّ، أسقط وراءه الكثيرين.

 

ع2: أي إنسان معرض للسقوط في الخطية، ولا يستطيع أحد أن يضبط لسانه تمامًا إلا الكامل وهو المسيح. فمن يضبط لسانه يستطيع أن يضبط كل شهواته وأفكاره وحواسه. وحيث أن الإنسان يجاهد ويضبط نفسه بنعمة الله إلى حد ما، فينبغي أن يكون حريصًا في عدم الإندفاع إلى تعليم الآخرين.

† لنحترس إذًا في كل ما نَتَعلّمه ونُعَلِّمه أيضًا. لذلك لا بُد أن يكون لكل إنسان أب اعتراف حكيم، يكون مرشدًا له حتى تستقيم حياته الروحية، وبدلًا من أن يعلم الآخرين يهتم أولًا بخلاص نفسه لأن الحرب شديدة على الخدام.

 

ع3: يشبه الرسول اللسان بثلاثة تشبيهات:

1- التشبيه الأول : يشبه اللسان باللجام الذي يوضع في فك الخيل ليديرها الفارس في الإتجاه الذي يريده، لأنه إن لم يكن للخيل لجام أسقطت وأهلكت قائدها. كذلك من يضبط لسانه يستطيع أن يحرك جسمه كله، أي سلوكه، في طريق الحق حتى لا ينفلت الجسم في شهواته كالخيل الذي بلا لجام.

† فلندرِّب أنفسنا على ضبط اللسان لنستطيع بنعمة المسيح ضبط شهوات الجسد.

 

ع4: التشبيه الثاني : يشبه اللسان بدفة السفينة، فرغم صغرها يستطيع الربان أن يدير بها سفينة ضخمة إلى الجهة التي يريدها مهما كانت الرياح شديدة. كذلك اللسان عضو صغير يجب أن نتعامل معه بحذر في كل كلمة ننطق بها، “لأنك بكلامك تتبرر وبكلامك تدان” (مت 12: 37)، فاللسان يمكن أن يدنِّس الجسم كله ويحكم علينا مع أنه في استطاعته من جهة أخرى أن يقود الإنسان في سلام كدفة السفينة.

 

ع5، 6: التشبيه الثالث: يشبه اللسان بشرارة أي نار صغيرة تستطيع أن تشعل حرائق ضخمة.

كما أن شرارة صغيرة تشعل حرائق ضخمة، كذلك اللسان بكلمة منه تشتعل النار في عالم الخطية والإثم فتحدث الإنشقاقات والبغضة والكراهية بين الناس.

وتضرم : أي تشعل الحروب بين الشعوب. ويفتخر اللسان متعظمًا أنه يدير الكون كله وهو يقود الإنسان إلى الكبرياء فيدنِّس الجسم كله لأنه يجلب شرورًا كثيرة ثم يلقى الجسد كله في جهنم.

جهنم : نسبة إلى وادي “هنوم” ويقع في جنوب شرق الهيكل أسفل أورشليم، وكانت دماء الذبائح تسيل فيه واليهود يلقون به الحيوانات الميتة والقاذورات لحرقها ولذا فالنيران لا تنطفئ فيه ليلًا ونهارًا، فيشار به إلى النار الأبدية.

 

ع7، 8: التشبيه الرابع: يشبهه بالسُّم، لأنه من السهل على الإنسان أن يروِّض وحوشًا أو طيورًا أو زواحف، أما اللسان السليط الذي تعود على الكلام القبيح فيصعب ترويضه ولكن الله بالطبع يقدر على ذلك. فأحيانًا ينطق اللسان بكلمة فتخرج كسم الثعبان المميت وتقضى على علاقة استغرق بناؤها سنينًا طويلة. لذلك يقول داود في المزمور “اجعل يا رب حارسًا لفمى احفظ يا رب شفتيّ” (مز141: 3).

† إن كان لسانك يؤثر على خلاص نفسك وعلاقاتك مع من حولك إلى هذه الدرجة، فليتك لا تندفع في الكلام لتعطى نفسك فرصة أن تطلب الله وتسمع باهتمام من حولك فيرشدك الله بالكلام المناسب.

(2) اللسان بركة ولعنة (ع 9-12):

9 بِهِ نُبَارِكُ اللَّهَ الآبَ، وَبِهِ نَلْعَنُ النَّاسَ الَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ اللَّهِ. 10 مِنَ الْفَمِ الْوَاحِدِ تَخْرُجُ بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ. لاَ يَصْلُحُ يَا إِخْوَتِى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الأُمُورُ هَكَذَا، 11 أَلَعَلَّ يَنْبُوعًا يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ الْعَذْبَ وَالْمُرَّ؟ 12 هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِى تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُونًا، أَوْ كَرْمَةٌ تِينًا؟ وَلاَ كَذَلِكَ يَنْبُوعٌ يَصْنَعُ مَاءً مَالِحًا وَعَذْبًا.

 

ع9، 10: يوبخ الرسول من يشتمون غيرهم، فكيف بلسانهم يباركون الله في صلوات ثم يضايقون الناس المخلوقين على صورة الله بكلماتهم الردية .. فماذا يفعلون، هل يباركون الله أم يلعنونه؟‍!

ويعلن أن هذا خطأ شديد لا يصح أن يكون أبدًا.

 

ع11: التشبيه الخامس : يشبه اللسان بعين الماء، ويتساءل هل يمكن أن يخرج من نفس العين نوعان من الماء أحدهما عذب والآخر مر؟!.. وهذا سؤال استنكارى أي لا يمكن أن يحدث ذلك، وبالتالي لا يصحّ أن يخرج من نفس اللسان صلوات وكلمات ردية. وهكذا يدعونا يعقوب الرسول للتوبة عن الكلام الردئ.

 

ع12: التشبيه السادس : يشبهه بالشجرة، ويتساءل سؤالا استنكاريًا ثانيًا، هل يمكن أن تعطى الشجرة ثمرًا مخالفًا لنوعها؟!.. فهل تقدر التينة مثلًا أن تعطى زيتونًا أو الكرمة تعطى تينا؟!.. بالطبع لا يمكن. هكذا لسان أولاد الله لا بُد أن يتكلم بكلمات بركة فقط سواء مع الله في صلوات أو مع الناس بكلام طيب.

† لأنك ابن الله فلابد أن يظهر ذلك في كلامك مع الآخرين بالكلمات الطيبة سواء بالتشجيع أو الإعتذار عن أخطائك وإظهار استعدادك لمساعدتهم والتعاون معهم، فتقدم محبة الله التي فيك بكلماتك الحسنة.

(3) اللسان والحكمة (ع 13-18):

13 مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ، فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ فِي وَدَاعَةِ الْحِكْمَةِ. 14 وَلَكِنْ، إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَّزُبٌ فِي قُلُوبِكُمْ، فَلاَ تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى الْحَقِّ. 15 لَيْسَتْ هَذِهِ الْحِكْمَةُ نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ، بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ. 16 لأَنَّهُ، حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَّزُبُ، هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِىءٍ. 17 وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ، فَهِيَ أَوَّلًا طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ. 18 وَثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَمَ.

 

ع13: يحدث المؤمنين الذين يريدون أن يعلِّموا غيرهم فيقول لهم، من فيكم له حكمة ومعرفة وعلم حتى يُعلِّم غيره فيلزمه أن يظهر حكمته بأمرين:

  1. التصرف السليم في مواقف الحياة المختلفة، لأنه كيف تعلِّم غيرك الحكمة وأنت تتصرف بطريقة غير سليمة.
  2. أن يصحب تصرفاته السليمة وداعة أي هدوء في القلب وكذلك عدم إنزعاج في معاملاته مع الآخرين.

 

ع14-16: فلا تفتخروا وتكذبوا على الحق: تظنوا في أنفسكم أنكم معلمون حكماء مع أنكم ساقطون في الخطية ولكم معرفة وحكمة بشرية بعيدة عن الله والحق.

يعقد الرسول مقارنة بين الحكمة الأرضية والحكمة السماوية. فالحكمة الأرضية نابعة من محبة العالم فيدوس الأخ على أخيه من أجل المال، وهي “نفسانية” أي صادرة عن الذات البشرية (الأنا) كالتعاليم التي تاخذ شكلًا دينيًا ولها تأثير عاطفى إنفعالى وإيحاء للنفس بالقداسة والتقوى ولكنها بعيدة عن الروحيات؛ أما القديس الحقيقي فيشعر دائمًا بأنه خاطئ ومحتاج للتوبة كلما تقدم من العرش الإلهي كإشعياء النبي. فالحياة الروحية غالبًا ليس بها قفزات عنيفة ولكنها تنمو بالتدريج كالنبات أو كالطفل عندما تعطيه وجبة فإنه لا يكبر فجأة، ولكنه ينمو يومًا بعد يوم.

والحكمة الأرضية أيضًا “شيطانية” أي باعثها الخفى هو الشيطان، الذي يوحى للإنسان أنه وحده حكيم فيدخله روح الكبرياء والغيرة وتحدث الإنقسامات والتشويش والانحرافات والتحزب والمحاباة، وتقوم الهرطقات تحت ستار هذه الحكمة.

 

ع17، 18: الحكمة السماوية يمنحها الله لمن يطلب بإيمان غير مرتاب، ومميزاتها هى:

1- طاهرة : أي نقية بلا غرض ملتوى، بعيدة عن المحاباة، صاحبها متدين ديانة طاهرة تظهر في إفتقاد الأرامل والأيتام.

2- مسالمة : لأن مصدرها ملك السلام وليس كما يعطى العالم سلامًا مؤقتًا، فهي صانعة سلام فيشيع السلام والهدوء بين الإنسان ونفسه وبينه وبين الله وبينه وبين الناس.

3- مترفقة : بأخطاء الآخرين تحتضنهم وتتحمل ضعفهم وتشجعهم على التوبة، مثل ترفق المسيح وتشجيعه زكا رئيس العشارين (لو19: 1-10) والمرأة الخاطئة في بيت سمعان الفريسي (لو7: 36-50).

4- مذعنة : تعني الإستعداد لطاعة الوصية الإلهية والكنيسة والوالدين، كما ذُكِرَ عن المسيح أنه كان خاضعًا لأمه العذراء ويوسف النجار (لو2: 51)، كما تسمع للآخرين ولكن بتمييز دون انقياد وخضوع للآراء الخاطئة.

5- مملوَّة رحمة وأثمارًا صالحة : الحكمة السماوية تثمر ثمار رحمة وأعمال صالحة على الضعفاء والخطاة والمحتاجين والفقراء والمرضى وصغار النفوس، مستندة على الإيمان الحي العامل بالمحبة.

6- عديمة الريب : أي ثابتة في محبة الله والإيمان به، بعيدة عن الشك والتردد.

7- عدم الرياء : أي ما بداخل القلب هو ما يظهر على الإنسان في سلوكه وتصرفاته.

8- تهب ثمر البر : الحكمة السماوية تزرع السلام فتثمر برًا وأعمالًا صالحة ونقية.

† ليتنا نتضع أمام الله والآخرين ونطلب منه الحكمة فيعلِّمنا كيف نتصرف ونتكلم مع مَن حولنا محتفظين بالطهارة والتوبة، لكي يظل يعمل فينا بروحه القدوس ويهبنا حكمته.

تفسير يعقوب 2 يعقوب 3 تفسير رسالة يعقوب تفسير العهد الجديد تفسير يعقوب 4
كنيسة مارمرقس مصر الجديدة
تفاسير يعقوب 3 تفاسير رسالة يعقوب  تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى