تفسير سفر أيوب ٩ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح التاسع
الحاجة إلى مُصالح وسيط
يجيب أيوب على بلدد في الأصحاحين التاسع والعاشر.
لم تُقدم هذه الحوارات بلا هدف، فقد كان لكل صديقٍ لمسته الخاصة للمشكلة. أما أيوب صاحب المشكلة، فكان في جدية يبحث عن حلٍّ أو آخر. يتكلم عن الله بوقارٍ، وعن نفسه في تواضعِ، وعن متاعبه في انفعالٍ، لكنه لم ينطق بكلمةٍ واحدةٍ لتوبيخ أصدقائه، أو اتهامهم بالقسوة عليه. كما لم يجب مباشرة على بلدد.
يتفق أيوب مع بلدد في الخطوط الخاصة بأحكام الله السلوكية، ولكن كيف يمكن لنا الالتقاء مع الله وجهًا لوجه عندما تبدو أعماله وخططه فائقة؟ إنه دومًا يغمرنا بحكمته وقوته [٣-٤]. لكن خلال ما يعانيه أيوب يتطلع إلى الله فيراه عنيفًا. حقًا إن الله يدبر الطبيعة ويهتم بها، ولكن هذا – في نظره – لا يهبه تفسيرًا لمشكلة الألم التي حلت به.
الآن بدأ أيوب بموافقة أصحابه على أنه لا يستطيع إنسان أن يكون بارًا أمام الله، وعلى قول بلدد إن الله لا يعوج القضاء (3:8).
ثم يتكلم عن حكمة الله وقدرته وقد استقاها أيوب من مملكة الطبيعة، التي يعمل فيها إله الطبيعة بقدرة لا تُقاوم. يفعل ما يرضيه وكل نظم الطبيعة وقواتها مستمدة منه، وتعتمد عليه. فهو يستطيع أن يزحزح في الجبال ويجعل أعمدة الأرض تتزلزل، ويتحكم في الشمس والنجوم.
ثم يثبت برَّه بقوله: “كامل أنا لا أبالي بنفسي، فرذلت حياتي” [21]. أي أنه يتمسك ببرِّه، ولو كلفه حياته، وينكر أيوب على بلدد قوله إن الله يميز في معاملته للناس بين الكامل والشرير (20:8). ثم يرجع أيوب إلى التأمل في حالته الخاصة [25-31]. إنه لا يمكن أن ينسى ألمه أو يتعلل بالرجاء، لأنه يشعر بأن الله يحكم عليه ولا يزال يعامله كنجسٍ.
يرى أيوب أن الله قد طرحه كمن هو في غضبٍ شديدٍ من جهته، وأن رجاءه الوحيد هو أن يلتقي معه وجهًا لوجه ليحقق له العدالة، لكن لا يزال غير الممكن الوصول إليه، حتى في المحكمة يتعامل الله معه كما لو كان قاضيًا غير عادلٍ. يكتشف الحاجة إلى وسيط بين الله غير المنظور والناس. اشتاق أيوب أن يجد هذا الوسيط الذي يستطيع أن يقدمه لله القدير. يترجى أيوب لو كان له وسيط لدى الله، أو يتخلى الله عن عصا سلطانه ويصير بشريًا لمرة واحدة!
لم يكن ممكنًا لأيوب أن ينسى آلامه [٢٥-٢٨]، وأن الله يبدو كمن هو مصمم على إظهار أيوب أنه نجس ومذنب. يحاول أيوب أن يجعل من نفسه أن يكون أبيض كالثلج، وطاهرًا كما بالزوفا [٢٩-٣١].
لقد قدم لنا أيوب مفهومًا إنجيليًا صادقًا عن التطهير من الخطايا.
طلب أن يرى الله مذلته، ويتطلع إلى حالته بعين الشفقة، وأن يمنحه الله بعض الراحة، ثم يتأمل في إمكانية إيجاد المصالحة [32-39]. وإنما يجد صعوبة في أن معاملته ليست مع إنسان مثله بل مع الله، ويشعر أن كل محاولة يثبت بها أنه بريء عقيمة، لذا يتوق إلى مُصَالِح حكيم يوفق بينهما ويصالحهما [33].
يشتكي أيوب من الله فيتحدث عنه بصيغة الغائب. كيف الحوار معه، وهو لا يسمع ولا يحاور، وإن الله يجازي البار والخاطئ على السواء، حين تأتي الكارثة ويُقتل الأبرياء، يهزأ الله بالضيقات التي تصيبهم [32-33]. إنه في حيرة عظيمة بين الشعور بظلم الله نحوه وبين تذكر الشركة المباركة معه في الماضي. واضح إن مشاعر أيوب تنطوي على شيئين متناقضين فهو يعتقد أنه على صواب، ولكنه لا يعرف كيف يثبت ذلك، فحتى الآن لم يوجه إليه اتهام محدد من الله. وفي نفس الوقت إذا دخل في مواجهة مع الله يخشى ألا يتمكن من الدفاع عن نفسه بنجاح.
- لن يتبرر أحد أمام الله 1-2.
- البرهان على ذلك 3-13.
- عجزه عن أن يحاجج الله 14-21.
- لا نحكم حسب الظاهر 22-24.
- هول متاعبه وحيرته 25-31.
- الحاجة إلى وسيط 32-35.
- لن يتبرر أحد أمام الله
فَقَالَ أَيُّوبُ: [1]
صَحِيحٌ. قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ كَذَا.
فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ عِنْدَ اللهِ؟ [2]
لم يدافع أيوب عن اتهام بلدد له بكثرة الكلام (أي 8: 2). كذلك كشف له أنه يتفق معه في مبدأ: “الله لا يعوج القضاء، وأن الأتقياء محفوظون بعناية الله، وأن الشرير يهلك بشره”.
لكنه تساءل: “كيف يتبرر الإنسان عند الله؟“. لا يحمل هذا التساؤل روح التذمر، ولا يحمل ثورة ضد صرامة الله، وإنما هو اعترف بالواقع أن الله إن عاملنا حسب استحقاقنا لهلك كل البشر، لأنه ليس بار في عيني الله، ليس ولا واحد.
إذا ما تطلع أيوب إلى نفسه مقارنًا نفسه بمن هم حوله يرى أنه بار، لكن إذ يتطلع إلى الله القدوس البار، يجد نفسه ليس بطاهرٍ، ولا يقدر أن يتبرر أمامه. فإنه حتى ملائكته القديسين لن يتبرروا أمامه. يقول المرتل: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حيٌ” (مز 2:143).
لن يقدر أحد أن يتبرر أمام الله سوى كلمته الأزلي الذي صار إنسانًا بلا خطية وحده، من يختفي فيه يحمل برَّه، فيتبرر أمام الرب.
يقول الرسول: “ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرًا وقداسة وفداء” (1 كو 30:1)، “وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البرّ وقداسة الحق” (أف 24:4).
v انظروا كيف يعترف أيوب أيضًا بخطاياه (9: 2-3، 19-20، 30؛ 13: 26-5:14، 16:14، 17). يقول أنه متأكد أنه لا يوجد بار أمام الرب. هكذا هو متأكد من هذا أيضًا أننا إن قلنا إننا بلا خطية، فالحق ليس فينا. بينما يقدم الله شهادة سامية عن برِّه بالنسبة لمستوى السلوك البشري، إلا أن أيوب نفسه يعرف الحقيقة أنها هكذا حيث يقول: كيف يتبرر المائت أمام الرب؟ إن شاء أن يحاجه لا يقدر أن يجيبه”[372].
القديس أغسطينوس
v نراه من خلال كلماته يعبر عن نفسه بطريقة رائعة بكونه ورعًا وفاضلاً، إذ يقدم سلوكه كتقدمه لله، مكيفًا كلماته لحساب مجد الله. حتى عندما يتكلم من نفسه، أو عند إثارة زوجته له، وعندما أغضبه أصدقاؤه، بل وعندما سحب الواشي (إبليس) حنجرته ليجدف، لم يتوقف البار عن تمجيد الله. “أبارك الرب في كل حين” (مز 34: 1).
بطريقة أفضل صحح أيوب كلمات أصحابه الذين أهانوه، محولاً كل ما نطقوا به ضد المصارع في حقدٍ واستخفافٍ نحو أيوب البارع إلى بركة من أجل الله. إن قلت: كيف ذلك؟ تعلم هذا، فإن بلدد بنية حاقدة في عبارته بدأ بهذه المقدمة: “هل الرب يعوج القضاء أو الصانع كل الأشياء يعكس الحق؟” (8: 3) ماذا يمكن لأيوب أن يقول عن هذا؟ كيف يجيب خصمه محولاً بطريقة عجيبة ما قد عني به أن يصرعه؟ لنصغ، “فأجاب أيوب وقال: “صحيح قد عرفت أنه كذا. فكيف يتبرر الإنسان المائت عند الرب؟” [1-2].
لماذا تهين أيوب كمن هو ليس ببارٍ؟
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v أجابهم أيوب: “صحيح، قد علمت إنه كذا. فكيف يتبرر الإنسان المائت عند الله؟ لأنه إن شاء أن يحاجه لا يسمعه، فلا يجيبه عن كلمة واحدة بألف كلمة، لأنه حكيم في فهمه وقوي وعظيم، فمن هو صلب بما فيه كفاية حتى يقوى على الوقوف أمامه؟ الذي يجعل الجبال تشيخ وهي لا تعلم! والذي يقلبها في غضبه. المزعزع الأرض من أساساتها، فتزلزل أعمدتها! يتحدث إلى الشمس، فلا تشرق ويضع ختمه على النجوم. الباسط السماوات وحده والماشي على البحر كما على أرض ممهدة، صانع النعش (أو العاس ّPleiades)[373]ونجمة المساء Evening star والدب الجبار (العظيم) Great Bear ومخادع الخيول.
فاعل عظائم لا تُفحص، وعجائب لا تعد، مجيدة وبلا قياس ولا عدد. إن مرّ عليّ لا أراه، وإن اجتاز بي فلا أدرك كيف؟” (أي 2:9-11 LXX). كم كان بوقه أقوى، حينما جعله يهتف بخصوص قدرة الرب! لكن في هذه القوة ينال البار عوناً لا هلاكًا. حقًا بينما تبدو أنها قدرة الرب هي التي توصف، إذا في الحقيقة أسرار فدائنا تُستعلن![374]
القديس أمبروسيوس
v إنه الكنز الذي أُعطي لهم في هذه الحياة ليمتلكوه في داخل نفوسهم، الذي “صار لنا حكمة الله وبرًّاوقداسةً وفداءً” (1 كو 1: 30). فالذي وجد كنز الروح السماوي وامتلكه يتمم به كل برّ الوصية وكل تتميم الفضائل بنقاوةٍ وبلا لومٍ، بل بسهولة وبدون تغصبٍ.
لذلك فلنتضرع إلى الله، ونسأله ونطلب منه بشعور الاحتياج، أن ينعم علينا بكنز روحه، لكي ما نستطيع أن نسلك في وصاياه كلها بطهارةٍ وبلا لومٍ، ونتمم كل برّ الروح بنقاوة وكمال، بواسطة الكنز السماوي، الذي هو المسيح[375].
القديس مقاريوس الكبير
v إذ يخضع الإنسان لله يتقبل برًّا، أما من يقف أمامه فيفقد البرّ. فإن من يقارن نفسه بمصدر كل الخيرات، يحرم نفسه من الصلاح الذي ناله. من ينسب لنفسه البركات الموهوبة له من الله يحارب الله بذات عطايا الله.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v برّ الله هو المسيح، يقول الرسول: “صار لنا من الله حكمة وبرًّا وقداسة وفداءً”؛ كما هو مكتوب “من يفتخر فليفتخر في الرب”.
برّ الله الذي هو عطية النعمة بدون استحقاقات، لا يُعرف بواسطة أولئك الذين يريدون أن يُقيموا برّهم الذاتي، فلا يخضعون لبرّ الله الذي هو المسيح.
في هذا البرّ نجد غنى عذوبة الله التي يقول عنها المزمور: “ذوقوا وانظروا ما أعذب الرب” (مز 8:43)[376].
القديس أغسطينوس
- البرهان على ذلك
إِنْ شَاءَ أَنْ يُحَاجَّهُ لاَ يُجِيبُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ [3].
لا يستطيع إنسان ما أن يباري خالقه في المناقشة أو في النضال. لا يقدر الإنسان أن يجيب عن سؤال واحدٍ من بين كل ألف سؤال يقدمه الله له. لقد تكلم الله مع أيوب وعرض عليه عدة أسئلة، ووقف أيوب عاجزًا عن الإجابة عن أي سؤال منها (أي 38، 39). هكذا تقف حكمة الإنسان صامته في عجز أمام حكمة الله الفائقة.
يوجه الله إلى الإنسان ألف اتهام، ولا يجد الإنسان إجابة ليبرر ما يفعله ولو في أمرٍ واحد من الألف، لأن الله لا يخطئ في حكمه. وهو يعرف أعماقنا أكثر من معرفتنا نحن لأنفسنا. ليس لنا إلا أن نضع أيادينا على أفواهنا كما فعل أيوب (أي 40: 4-5).
v ألم اعترف لك بمعاصي، يا إلهي، وأنت نزعت أثم قلبي؟ إنني لا أناضل في المحاكمة معك، إذ أنت هو الحق. لست أود أن أخدع نفسي، لئلا يقف إثمي ضد نفسه. لذلك لست أجادل في أحكامك، لأنك “إن كنت تراقب الآثام يا رب فمن يقف؟” (مز 130: 3)[377].
v لست أجادل في المحاكمة معك، يا من أنت هو الحق. لن أخدع نفسي، لئلا تقف آثامي ضد الحق. لذلك لن أناضل في المحاكمة معك. لأنك إن كنت تراقب الآثام يا رب فمن يقف أمامك؟ (مز 3:130)[378].
v الله وحده هو البارّ والذي يبرّر، يهب الإنسان البرّ.
إنهم يطلبون أن يُثبتوا برّ أنفسهم، بمعنى أنهم يظنّون بأن الصلاح هو من عندهم لا عطيّة إلهية. بهذا “لم يخضعوا لبرّ الله” (رو 10: 3)، لأنهم متكبرون ويحسبون أنهم قادرون على إرضاء الله بذواتهم لا بما لله[379].
القديس أغسطينوس
v في الكتاب المقدس رقم 1000 عادة ما يشير إلى “المجموع الكلي”…. يقول المرتل: “الكلمة التي أوصي بها ألف جيل” (مز 105: 8 )… هكذا قيل بيوحنا الرائي: “يملك معه ألف سنة” (رؤ 20: 6)، لأن ملك الكنيسة المقدسة يتم حيث يصير كاملاً في مجموعه…
الآن من يناضُل مع الله لا يُنتسب إليه، بل ينسب لنفسه مجد صلاحه. ليت الإنسان القديس يعتبر أن ما قد ناله فعلاً حتى أعظم العطايا أهمية إنما إذا تمجد إنما بسبب ما ناله كهبة… وليقل: “من يحاججه لا يقدر أن يجيب واحد عن ألف”. لأن من يناضل مع خالقه يعجز عن الإجابة عليه عن واحد من ألف. فإن الإنسان الذي يضع نفسه في موضع الكمال يبرهن على أنه ينقصه حتى بداية الحياة الصالحة نفسها.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v “إن كنت تراقب الآثام يا رب، يا رب فمن يقف؟” (مز 3:130). بمعنى أن كل أحدٍ يقول: “أنا خاطي، إني مملوء بخطايا بلا حساب، لا أقدر أن أقترب إلى الله وأصلي وأدعوه”… إنه مستحيل بالنسبة لأي أحدٍ أن يقدم حسابًا دقيقًا عن شئونه، وإنما يطلب الرحمة والحنو. نقول هذا، لا لنسحب النفوس إلى عدم المبالاة، بل لنقدم تعزية لأولئك الذين سقطوا في اليأس. “من يقول: إني زكيت قلبي، وتطهرت من خطيتي” (أم 9:20) فليتذكر: “من يثق في أنه حرٌ من الخطايا؟[380]”
القديس يوحنا الذهبي الفم
هُوَ حَكِيمُ الْقَلْبِ وَشَدِيدُ الْقُوَّةِ.
مَنْ تَصَلَّبَ عَلَيْهِ فَسَلِمَ؟ [4]
إن تجاسر أحد وأصر على عناده وتمرده على الله، حتما يجني ثمر حماقته. كل الذين تحدوا ولم يتوبوا لم يسلموا، ولا وجدوا سلامًا في أعماقهم، وراحة في طريقهم، ونجاحًا في أعمالهم. كل مقاومة الله تشبه العشب أو الشوك الذي يتحدى النار فيحترق ويهلك (إش 27: 4؛ حز 28: 24).
الملائكة الذين تصلبوا على الله لم يسلموا (2 بط 2: 4). وإذ حارب التنين الله طُرح إلى الأرض (رؤ 12: 7-9). هكذا الخطاة المتمردون “يذخرون لأنفسهم غضبًا في يوم الغضب” (رو 2: 5).
إنه لجنون مطبق أن يقف الإنسان ليقاوم الله أو يناضل ضد الكلي الحكمة والقدرة، العارف بكل شيء والقادر على كل شيء.
من يريد السلام الحقيقي لا يدخل في خصومة مع الله، بل يقبل السيد المسبح الذي هو سلامنا، يهبنا المصالحة مع الله أبيه، ومع نفوسنا ومع إخوتنا، بل ومع الطبيعة نفسها.
v “فإنه هو حكيم في القلب، وقدير في القوة“. أي عجب إن دعونا خالق الحكماء حكيمًا، هذا الذي نعرف أنه الحكمة ذاتها؟ وأي دهشة أن يصفه بـ “القدير“، حيث أنه هو القدرة ذاتها؟ لكن القديس إذ يسَّبح الخالق بهاتين الكلمتين ينقل إلينا المعنى حيث يدعونا أن نرتعب عند معرفتنا لأنفسنا. فإن الله يدعى “الحكيم” إذ يعرف تمامًا أسرار قلوبنا، كما يضيف “القدير“، إذ معروف أنه يضربهم بقوةٍ. لذلك فإنه لا يُخدع بواسطتنا إذ هو حكيم، ولا نقدر أن نهرب منه لأنه قوي…
“من يقاومه ويكون له سلام؟” لأن خالق كل الأشياء بطريقة عجيبة هو نفسه يديرها، حتى إذ خلقت تعمل معًا في تناغمٍ. لهذا فإن أية مقاومة ضد الله تكسر التناغم معًا في سلام، ولا يمكن إدارة هذه الأمور حسنًا، إذ تفقد الإدارة التي من فوق. إن خضعت هذه الأمور لله تستمر في السلام، وإن تركت لذاتها تعمل في تشويش… أب الجنس البشري الأول إذ عصى وصية خالقه تعرض لغطرسة الجسد، وإذا لم يخضع لخالقه في طاعة له، ينحط بذاته حتى يفقد سلام الجسد…
الآن يُقال إننا نقاوم الله حينما نعارض تدبيره. ليس أن ضعفنا يقاوم قراراته غير المتغيرة، ولكن ما يفعله ضعفنا ليس فيه قوة لإتمامه. لكن إن حاول الضعف البشري غالبًا ما يعرف قوة تدبيره، ومع هذا يهدف نحو معارضته قدر استطاعته.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v من يطلب السلام يطلب المسيح، إذ هو السلام[381].
القديس باسيليوس الكبير
v يقول: “(المسيح) هو سلامنا” (أف 14:2). يدعوه في موضع آخر وسيطًا. إنه بإرادته يتوسط بين مجالين منقسمين.
النفوس المولودة من ينبوع صلاح الله، حُجزت في العالم. وُجد حاجز في الوسط، نوع من السياج. حاجز من صنع خداعات الجسد والشهوات العالمية. والمسيح بسٌَره، بصليبه وآلامه وطريق حياته، حطم هذا الحاجز. لقد هزم الخطية وعلَّم أنه يلزم تحطيمها.
نزع الحاجز من الوسط. لقد غلب العداوة في جسده. العمل ليس عملنا نحن. لم نُدع لنحرر أنفسنا.
الإيمان بالمسيح هو خلاصنا[382].
الأب ماريوس فيكتورينوس
الْمُزَحْزِحُ الْجِبَالَ وَلاَ تَعْلَم،
الَّذِي يَقْلِبُهَا فِي غَضَبِه ِ[5].
كثيرًا ما نتطلع إلى الجبال في الطبيعة فنظنها ثابتة ومستقرة، ليس من يقدر أن يحركها أو يزحزحها، لذا دُعيت “الجبال الدهرية” (حب 3: 6)، وتبدو الشمس والمسكونة بقوانينها ثابتة، لكن عندما يشاء الرب السماء والأرض تزولان، وأيضًا الجبال تتزحزح بكلمة منه. إلهنا هو “المزحزح الجبال ولا تعلم“، أي إن أرادت أو لم ترد. هو إله المستحيلات، أمامه ارتعد جبل سيناء (مز 68: 7)، وقفزت الجبال (مز 114: 4)، واندكت أو تبددت الجبال الدهرية (حب 3: 6).
“تهتز الجبال من أساسها مع المياه، والصخور كالشمع تذوب أمام وجهك” (يهوديت 18:16).
“ارتجفت الأرض وارتعشت، أسس الجبال ارتعدت وارتجت، لأنه غضب” (مز 7:18)
“ذابت الجبال مثل الشمع قدام الرب، قدام سيد الأرض كلها” (مز 5:97)
“يمس الجبال فتدخن” (مز 32:104).
“الجبال قفزت مثل الكباش، والآكام مثل حملان الغنم” (مز 4:114).
“انزل ألمس الجبال فتدخن” (مز 5:144).
v ما هي الجبال التي جعلها الرب تشيخ؟ إنها موسى وهرون ويشوع بن نون وجدعون والأنبياء وكل رجال أسفار العهد القديم. لقد جاء الرب يسوع، واحضر العهد الجديد، وما قد صنعه (قبلاً) صار قديمًا. تجدد المسيحي وشاخ اليهودي؛ النعمة تجددت، والحرف شاخ. لقد تزحزحت الجبال وانتقلت. نعم لقد زحزح المفهوم الذي بحسب الحرف، وهدمه، وأقام الإدراك الذي بحسب الروح. لهذا فإن فهم الناموس حسب الجسد قد عبر وصار الناموس روحيًا. لهذا يقول الرسول: “فإننا نعلم أن الناموس روحي، وأما أنا فجسدي” (رو 7: 14). ولكن هو نفسه الذي كان جسديًا صار روحيًا، كما يؤكد الرسول قائلاً: “أظن إني أنا أيضًا عندي روح الله” (1 كو 7: 40). هكذا جعل يسوع هذه الجبال تشيخ ولم يعلم اليهود ذلك. حقًا لو عرفوا ذلك لما صلبوا رب المجد، ولما اتبعوا الخرافات اليهودية[383].
القديس أمبروسيوس
v نقول إن اليهود، بالرغم من سابق تمتعهم بعطف الله إذ كانوا محبوبين منه أكثر من غيرهم، إلا أن هذا التدبير والنعمة الإلهيين قد تحولا إلينا، عندما نقل يسوع السلطان العامل بين اليهود إلى مؤمني الأمم[384].
v عندما خاطب يسوع اليهود بقوله: “ملكوت الله ينزع منكم، ويُعطي لأمة تعمل أثماره” (مت 21: 43)، فأي تدبيرٍ آخر كان بسلطانه الإلهي مزمعًا تقديمه، غير أنه دفع الكتاب اليهودي بأكمله – الذي كان يتضمن أسرار ملكوت الله- إلى دائرة الضوء[385].
v نحن الذين نُقلنا من الناموس والأنبياء إلى الإنجيل، قد أعيد ختاننا (يش 7:5) (بالصخرة) التي هي المسيح (1 كو 4:10)، فتحققت فينا كلمة الرب ليشوع، “اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر” (يش 9:5)[386].
العلامة أوريجينوس
v يقول: الجبال لا تعرف ذلك. وكما قال داود: “يمس الجبال فتدخن” (مز 104: 32). يتحدث في هذه العبارة عن قدرة الله قائلاً إنه قادر أن يفعل كل شيء في قوة غضبه. فإن أيوب يقدم شهادة عن عدله، كما يقدم شهادة أيضًا عن قوته.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v “يستخدم الجبال وهي لا تعلم، الذي يقلبها في سخطه“. “يستخدم” الجبال المنظورة بالحق عندما يريد أن يغير وجه الخليقة المنظورة. لكنه ليس بالأمر العجيب لهذه (الجبال) التي لا تعرف أنها “تُستخدم“، لأنها لم تُمنح عقلاً مثل الكائنات البشرية والملائكة الأحياء. لذلك يدعو أيوب قوة الشياطين المتعجرفة جبالاً. لهذا فإن إرميا النبي يدعو الواشي (إبليس) “جبل الفساد الذي يفسد كل الأرض” (إر 28 [35]: 25). لأن فساد الشياطين خسيس. فمع أنهم مملوءون خداعًا لا يستطيعون أن يبلغوا أفكار الله، إذ يريد أن يخفي أفكاره عنهم، ولا أدركوا السقوط الذي حل بهم. ما يقوله بولس هو مثال لهذا: “لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر، ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون، بل نتكلم بحكمة الله في سرٍّ. الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا. التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر، لأن لو عرفوا لم صلبوا رب المجد” (1 كو 2: 6-8).
ذاك الذي يستخدم هذه (القوات) في صراعات سرّ الصلب، هو نفسه الذي خلقهم (كو 1: 16)، وأهلكهم (عا 3: 14)، وليس فقط أهلكهم بل و”في غضبه” دمر مذابحهم، وبدد هياكلهم، وأتلف تماثيلهم. في نصرة، نزع مجدهم (كو 2: 15)، فإنه ليس فقط اغتصبت الشياطين المجد (رؤ 13: 4-8)، إذ كان يجب ألا يفعلوا هذا، إنما أيضًا أفسدوا البشرية معهم. ولكن في أي وقت يحل بهم الدمار الحقيقي العادل، كما في سخطٍ كاملٍ؟ عندما ينتهي هذا العالم المنظور. على أي الأحوال، إن قلتم، كيف يفعل هذا؟ فستتعلمون ذلك من الآتي: “المزعزع الأرض من مقرها” [6].
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
الله في محبته للبشرية يقيم من مؤمنيه الحقيقيين جبالاً مقدسة ثابتة، تكون كجبل سيناء حيث يظهر عليه الرب ويقدم شريعته لموسى، أو كجبل تابور حيث يتجلى عليه في وسط كنيسته التي تضم رجال العهد القديم، ممثلين في موسى وإيليا، ورجال العهد الجديد ممثلين في بطرس ويعقوب ويوحنا. من الجانب الآخر فإن الأشرار المقاومين للرب، غير الخاضعين له، وإن كانوا يظنون في أنفسهم أنهم جبال راسخة، فإن أساساتهم ترتعد أمام الرب في غضبه، وبرجزه يرجفهم، يمسهم بغضبه فيدخنون. تقفز مثل الكباش من أمام وجهه، وتذوب كالشمع أمام النار.
v “ارتجت الأرض وارتعشت” (مز 7:18). عندما تمجٌَد ابن الإنسان هكذا ارتج الخطاة وارتعشوا. “أسس الجبال ارتعدت” (مز 7:18)، فإن رجاء المتكبرين الذين كانوا في هذه الحياة قد ارتعد. “وارتجت لأنه غضب”. هذا هو الرجاء في البركات الزمنية، لم يعد بعد متأسسًا في قلوب الناس[387].
v “ذابت التلال مثل الشمع قدام الرب” (مز 5:97). من هم التلال؟ المتكبرون. كل شيء يرتفع ضد الله خلال المسيح والمسيحيين يرتعب ويخضع… أين تشامخ القوات؟ أين قسوة غير المؤمنين؟ كان الرب بالنسبة لهم نارًا، فذابوا عند حضرته مثل الشمع. كانوا قساة حتى عملت النار.
القديس أغسطينوس
v “ذابت الجبال مثل الشمع” (مز 5:97). بالنسبة لي تبدو الجبال أنها قوات الشياطين. سواء كانوا جبالاً أو لا يكونون، فهم بالتأكيد الناس المتكبرون.
هذه النار لا تهلك الذين في الأسفل (المتواضعين) وإنما تهلك المتشامخين وحدهم. كحقيقة واقعة فإن البرق نادرًا ما يؤثر على الذين هم في الوادي، وإنما لن ينجو منه أولئك الذين في الأعالي على الجبال.
القديس جيروم
يقدم لنا القديس أمبروسيوس مفهومًا رائعًا عن زحزحة الجبال وهي لا تعلم، فإنه إذ جاء إلى العالم حرك الجبال المقدسة، حيث حرك مفاهيمنا عن موسى النبي مستلم الشريعة وعن الأنبياء ورجال العهد القديم. حركها من الفكر اليهودي الحرفي لنتسلمها نحن بالروح خلال الإنجيل. فمع تمسك اليهود بالشريعة والآباء والأنبياء، لكنهم لا يعلمون سٌر الله وحكمته الخفية، لأنهم لا زالوا يرونهم خلال البرقع الموضوع على وجه موسى. لقد تحرك هذا كله ليكون نصيبنا، فندرك ونعلم سٌر خطة الله الأزلية وحكمته الفائقة وتدبيره لخلاصنا. هذا ما كان يعتز به الرسول بولس بعدما التقى بالسيد المسيح وتزحزحت الجبال بالنسبة له، وصارت له دراية بالسٌر الإلهي، فلم يستطع أن يصمت.
“الذي بحسبه حينما تقرأونه تقدرون أن تفهموا درايتي بسٌر المسيح” (أف 4:3).
“ليفتح الرب لنا بابًا لنتكلم بسٌر المسيح” (كو 3:4).
“لكي تتعزى قلوبهم مقترنة في المحبة لكل غنى يقين الفهم لمعرفة سٌر الله الآب والمسيح” (كو 2:2).
“وأنير الجميع في ما هو شركة السرّ المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح” (أف 9:3).
الْمُزَعْزِعُ الأَرْضَ مِنْ مَقَرِّهَا،
فَتَتَزَلْزَلُ أَعْمِدَتُهَا [6].
إن كانت الأرض تبدو كأنها مستقرة على أعمدة ليس من يقدر أن يزعزعها، فإنها بأمر خالقها تتزعزع، وليس ما يوجد من يدعمها.
من الجانب الرمزي، رأينا أن الجبال تتزحزح بمعنى أن المتشامخين الذين يسكنون قمم الجبال يتعرضون للدمار خلال البروق الإلهية. هذا ومن جانب آخر، فإن الناموس والآباء والأنبياء هم جبال مقدسة عالية، تتحرك من أيدي اليهود الحرفيين في فهمهم إلى أبناء العهد الجديد الذين انكشفت لهم الحكمة الإلهية، وتعرٌفوا على سٌر المسيح المكتوم. بنفس المنطق بالنسبة للأرض فإنها تشير إلى الأشرار الذين صاروا ترابًا كأبيهم آدم الأول، حيث قيل له: أنت تراب، وإلى التراب تعود”. الآن إذ نزل السماوي إلى أرضنا، وحل بيننا، صار كواحدٍ منا، صرنا نتمتع بالحياة السماوية، فنسمع الصوت الإلهي: “أنت سماء وإلى السماء تعود”.
وحل بيننا، وصار كواحدٍ منا، صرنا نتمتع بالحياة السماوية، فنسمع الصوت الإلهي: “أنت سماء وإلى السماء تعود”.
v قائد المئة الغريب يعرف، بينما اللاوي الذي من خاصته لم يعرف. الأممي سجد له، والعبراني جحده. لهذا فإنه ليس بالأمر غير المعقول أن أعمدة العالم قد تحركت (أي 9: 6) عندما لم يؤمن رؤساء الكهنة.
لقد تحركت الأعمدة لكي تحتل مكانها أعمدة جديدة. كما لو ان الله نفسه حسب ذلك لائقًا أن يقول:” أنا أقمت أعمدتها” (مز 75: 3). تعلموا أية أعمدة أقامها: “يعقوب وصفا ويوحنا المعُتبرون أنهم أعمدة أعطوني وبرنابا يمين الشركة” (غلا 2: 9)[388].
القديس أمبروسيوس
v بالأواني والدلو يكيل الماء الخارج من الينابيع الطبيعية، أما الماء النابع من الينابيع الروحية فإنه يقاس بفهمنا ورغبتنا المتقدة ووقارنا، بهذا نقترب إليها. من يسلك بهذا الترتيب يحمل في الحال بركات لا تعد، حيث تعمل نعمة الله فيه بطريقة غير منظورة، وتخفف عبء ضميره ، وتأتى به إلى آمان وفير، وتعده بعد ذلك لكي ينسحب من شاطئ الأرض، ويحمل مرساة السماء. فإنه يمكن للإنسان الذي لا يزال يحتضن جسده ألا يكون له شيء يتعلق بالأرض، بل يضع أمام عينيه كل مباهج السماء ويتأملها بلا انقطاع[389].
v أريدكم أن تحفظوا أذهانكم في هذه الأمور على الدوام (كو 1:3). فإن اهتمامنا بها يحررنا من الأرض وينقلنا إلى السماء[390].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يحق لنا أن نكون هناك في حضرة الله في السماوات، نحن الذين حفظنا الدرس بينما كنا على الأرض، وذهبنا هناك إلى السماء كي نكون في محبة الله الآب، ذاك الذي عرفناه ونحن على الأرض، ولأن الله الكلمة القدوس صنع كل شيء وعلمنا ويعلمنا كل شيء، وهو يدربنا في كل الأمور الصالحة[391].
القديس إكليمنضس السكندري
v ترك إبراهيم مدينته وأقاربه بناء على أمرٍ إلهي، لكن هجرته كانت تناسبه كنبي، هدفها طلب معرفة الله.
بالحق لم تكن هجرة جسدية – كما أظن – إنما كانت تُعدهُ لمعرفة تلك الأمور التي تكتشفها الروح.
بتركه وطنه، أي خروجه من ذاته، خارج دائرة الأفكار الدنيئة والأرضية، رفع إبراهيم ذهنه قدر المستطاع فوق الحدود العامة للطبيعة البشرية، وتخلي عن ارتباط النفس بالحواس.
هكذا إذ لم تعقه تعلقات الحواس، صار عقله نقيًا، يدرك ما هو غير منظور، ولم يعد السمع والنظر يسببان لذهنه خطأ بسبب المظاهر[392].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
v عندما تتحقق إرادة الله بواسطتنا نحن الذين على الأرض كما تتحقق في الذين هم في السماء نتشبه بالسمائيين إذ نحمل مثلهم صورة السماوي (1 كو 49:15) ونرث ملكوت السماوات (مت 34:25). ويأتي الذين بعدنا وهم على الأرض يصلون لكي يتشبهوا بنا إذ نكون نحن في السماء (الفردوس) [393].
العلامة أوريجينوس
v يجب أن تتوقوا إلى السماء، والأمور التي في السماء، بل حتى قبل السماء، فقد أمرنا أن نجعل الأرض سماءً، وأن نتصرف ونتحدث في كل الأمور كما لو كنا نتحدث هناك، بينما نحن على الأرض. هذا أيضًا يجب أن يكون غاية صلاتنا التي نقدمها للرب. فلا شيء يُعيق وصولنا إلى كمال القوى العلوية لأننا نقطن على الأرض؛ إنما من الممكن حتى ونحن نسكن هنا أن نفعل كل شيء كما لو كنا قاطنين سلفًا في الأعالي[394].
v حقًا لقد جاء السيد ليُلغي الأمور القديمة ويدعونا إلى وطن أعظم.
إنه يصنع كل شيء ليعتقنا من الأمور غير الضرورية، ومن عاطفتنا نحو الأرض. لهذا السبب أشار إلى الوثنيين أيضًا قائلاً: “إن هذه كلها تطلبها الأمم” (مت 33:6)؛ التي تقدم تعبها كله من أجل الحياة الحاضرة، ولا تبالي بالأمور المقبلة، ولا بأي فكر سماوي[395].
القديس يوحنا الذهبي الفم
الآمِرُ الشَّمْسَ فَلاَ تُشْرِقُ،
وَيَخْتِمُ عَلَى النُّجُومِ [7].
لا يتوقع أحد ما ألا تشرق الشمس في موعدها، إذ وضع لها الرب قوانين ثابتة. لكنه إن شاء فلا تشرق. مرة أمر أن تقف لخدمة شعبه فوقفت (يش 10: 12). ما حدث في أيام يشوع بن نون يعلن عمل الله العجيب خلال خدامه، وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [إن كانت الشمس قد توقفت في جبعون، والقمر في وادي إيلون إلاَّ أن هذا العمل ليس عمل ابن نون، بل عمل الرب الذي سمع الصلاة، هذا الذي انتهر البحر، وعلى الصليب جعل الشمس تظلم (مت 27: 45)[396].]
مرة أخرى طلب الله أن تتراجع الشمس فأطاعت الأمر الإلهي (2 مل 20: 9). هكذا أيضًا بالنسبة للنجوم فهو وحده يقدر أن يختمها أو يخفيها عن أعيننا.
الله بإرادته يحفظ نظام سير الطبيعة كامتداد لعملية الخلق، وكعمل من أعمال عناية الإلهية.
الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ،
وَالْمَاشِي عَلَى أَعَالِي الْبَحْرِ [8].
الله الذي خلق الكون يحفظ ناموس الطبيعة فتبقى السماوات مبسوطة، وبدون عنايته لانهار نظامها. إنه يطأ البحار بقدميه ويمنعها من أن “ترجع لتغطي الأرض” (مز 104: 9). إنه يسير على الأمواج الهائجة، معلنًا أنه وحده يهدئ كل أمواج التجارب الثائرة ضدنا.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه ليس من وجه للمقارنة بين ما فعله موسى النبي أثناء عبور البحر الأحمر وسير السيد المسيح على الماء. فما فعله موسى مارسه كخادمٍ خلال الصلاة, أما السيد المسيح فبسلطانٍ مطلقٍ. عندما هبت الريح عبروا تحت قيادة موسى على أرض جافة وسط البحر (خر 14: 21), أما السيد المسيح فسار على سطح البحر كما على طريقٍ، ليشهد عن ما ورد في الكتاب المقدس “السائر على البحر كما على رصيف”[397].
v “الباسط السماوات وحده” [8] بماذا يشير بالسماوات إلا إلى الحياة السماوية ذاتها التي للكارزين، الذين قال عنهم المرتل: “السماوات تعلن مجد الله” (مز 19: 1).
البابا غريغوريوس (الكبير)
v يعلمنا إنجيل الرب أنه ليس الآب بل الابن هو الذي مشى على البحر عندما سأله بطرس قائلاً: “مرني أن آتي إليك على الماء” (مت 28:14)[398].
v إنه الرب الذي يختم ويحصي حشد الكواكب (أي 9: 6). هو وحده الذي يبسط السماء، وقد سار على البحر كما على رصيف (أي 9: 8، مت 14: 25).
عندما رآه بطرس يسير قال: “يا سيد، مرني أن آتي إليك علي الماء” (مت 14: 28). أمره الرب، لكنه تردد وكاد أن يغرق ويهلك بين الأمواج، لولا أن الرب بسط يمينه إليه (مت 14: 29-31). الجسد ترنح، ويمين الرب أنقذت. وقال له الرب: “يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟” (مت 14: 31) إنه الإيمان هو الذي مشى في شخص الرسول، وليس الجسد[399].
القديس أمبروسيوس
v من كان قادرًا أن يمشي على البحر إن لم يكن خالق المسكونة؟
بالحق قال عنه بالروح القدس الذي نطق قديمًا جدًا خلال الطوباوي أيوب: “الباسط السماوات وحده، والماشي على البحر كما على الأرض”.
قيل عنه في شخص الحكمة: “سكنت في الأماكن العلوية، وعرشي كان في عمود سحاب” (سيراخ 4:24-5).
بالمثل أعلن داود في المزمور: “في البحر طريقك يا الله، وسبلك في المياه الكثيرة” (مز 19:77) لاحظ أيضًا حبقوق: “سير المياه طما، أعطت اللجة صوتها” (حب 10:3)[400].
الأب خروماتيوس
صَانِعُ النَّعْشِ وَالْجَبَّارِ وَالثُّرَيَّا وَمَخَادِعِ الْجَنُوبِ [9].
هو خالق مجموعات النجوم، وقد ذكر هنا ثلاث مجموعات نيابة عن الجميع: “النعش والجبار والثريا“، ولا يزال يحفظها في الوجود ويوجه تحركاتها، وذلك لخدمة بنى البشر.
يرى القديس غريغوريوس النزينزي أنه عندما يشير الكتاب المقدس هنا إلى النعش والجبار والثريا، يقصد كل الكواكب وعنايته الإلهية بها. وذلك مثلما يشير إلى اهتمامه بفراخ الغربان (مز 8:147) فيعني كل الطيور[401].
“مخادع الجنوب“، أي النجوم التي ترى من جهة القطب الجنوبي ولا يراها من هم في نصف الكرة الشمالي.
يري البابا غريغوريوس (الكبير) في هذه الكواكب معنى رمزيًا للكنائس السبع التي هي الكنيسة الجامعة، هذه التي رآها القديس يوحنا الحبيب كسبعة منائر. إنها تتمتع بعطايا النعمة الإلهية السبع، أشعتها تشرق بنور الفضيلة الصادر عن الحق.
v يشير بالنعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب إلى كل مجموعة كواكب السماوات وكل ما يوجد هناك… حتمًا يتحدث أيوب عن كل نوع من المعجزات التي تمت بواسطة الله. على أي الأحوال إنه يتحدث بالأكثر عن التدابير التي تحققت من أجلنا، فإنها بالتأكيد تدابير إلهية سامية تفوق الطبيعة. إنها غير مدركة، لأنها أعلى جدًا من أن يبلغ إليها روح بشري. وهي مجدية لأن الله يتقبل العبادة من الخلائق هنا من أسفل، وتلك التي هي في العلا المملوءة بأعمال عجيبة… لقد أعلن لنا يوحنا اللاهوتي: “وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كُتبت واحدة فواحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة” (يو 21: 25). ليس فقط لأنها فوق كل عدد، وإنما لأن أعماله سامية، وأن أذان هذا العالم تعجز عن تقبلها.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
فَاعِلُ عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ،
وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدُّ [10].
هنا يكرر أيوب ما سبق أن قاله أليفاز حرفيًا، أرجو الرجوع إلى تفسير أيوب 5: 9.
هُوَذَا يَمُرُّ عَلَيَّ وَلاَ أَرَاهُ،
وَيَجْتَازُ فَلاَ أَشْعُرُ بِهِ [11].
أعمال الله فائقة، يعمل معنا وحولنا وفينا دون أن نراه (أع 17: 23). إدراكنا المحدود يعجز عن معرفة تحركاته لأجلنا، لذا يصعب علينا بل ويستحيل تقييم تصرفاته حتى الظاهرة، لأننا لا ندرك ما هو وراءها. ليس من حقنا أن نعلق على تصرفاته، أو نظن أننا قادرون على تفسيرها.
v إذ حُرم الجنس البشري من الفرح الداخلي وذلك بسبب الخطية، فقد بصيرة الذهن، ولا يستطيع أن يخبر أين تسير هذه الأمور.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v “إذ يرتفع (الله) عليّ لا أراه، وإذ عبر بي لا أعرف أيضًا هذا”. الله يرتفع فوق كل واحدٍ منا، عندما يرجئ الحكم الذي علينا. ومن جانب آخر يعبر بنا، أي يعبر في وسطنا… في المقام الأول لا نقدر أن نراه بعيون جسدنا، وثانيًا لا نستطيع أن نبلغ إليه بروحنا، لأن ما يشكله رقيق للغاية ليس فقط بالنسبة للعيون، وإنما حتى بالنسبة للأرواح.
v إنه يعبر خلال أذهاننا، لكن من الواضح أن عبوره تم خلال حياتنا حيث عبر بطريق تدبير تجسده وآلامه على الصليب وقيامته المجيدة… وفوق هذا كله من يقدر أن يعرف كيف كان هو إنسانًا والله (في نفس الوقت)؛ كيف تألم وحطم الألم؛ كيف ذاق الموت كإنسان، وكإله أخضع الهاوية وحطم الموت (1 كو 15: 54؛ 2 تي 1: 10؛ 1 بط 3: 22).
إنه ذاك الذي حرر البشرية من تلك اللعنة ومن شر الخطية (رو 8: 2)، ولم يستطع أحد أن يخفف من الأثقال التي علينا التي حررنا هو منها.
لا يستطيع أحد بعد أن يقول له: “ماذا تفعل؟” أو لماذا تبرر الخطاة، وتُدخل – تحت البركة – ذاك الذي كان تحت تهديد اللعنة (غل 3: 13-14؛ تث 21: 23). لقد فعل هذا أولاً بكونه الله، بالقوة التي تخصه بكونه الله، إذ عمل بسلطانٍ، إذ دفن دين خطايانا في الأرض (كو 2: 14)، لذلك يضيف: “يرد غضبه” هذا الذي كان ضدنا.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن هذا حال الإنسان الذي يشعر بالعزلة عن الله. لقد عبر به ووهبه خبرة الطهارة، لكنه بعد ذلك سقط تحت مرارة تجارب الجسد، هذه التي تحوط بالذهن، وتحتشد به، فتصير العين الداخلية غير طاهرة، وبالتالي عاجزة عن رؤية الله. هذا بسماح من الله لكي يتواضع الذهن ويطلب العون الإلهي.
v إذ يجد الذهن نفسه تحت التجربة ضعيفًا يلجأ إلى طلب عون الكائن الإلهي، ويتوقف تمامًا عن اعتماده على ذاته. وهكذا يحدث أن يعبر، فيلصق الذهن ذاته بالله في أكثر عمق، وذلك بذات المركبة التي بها صار في حزنٍ لسقوطه وبُعدِه عن الله.
لذلك فإن دخول الله وخروجه لا يمكن اكتشافه تمامًا بقدراتنا مادام موضع تناوب حالنا (من دخول الله وخروجه) مخفيًا عن أعيننا. كمثال لا يوجد تأكيد معين أن تجربة ما هي لاختبار الفضيلة أم هي أداة لتدميرنا.
أما عن العطايا، فإننا لا ندرك قط إن كانت هي مكافآت عن أعمال مارسناها، أم هي سند في طريق الإنسان إلى وطنه (السماوي).
البابا غريغوريوس (الكبير)
v عندما تعرض الرسول لمعرفة الأمور الإلهية – في رسالته إلى أهل كورنثوس – أكد أن معرفته – بالرغم مما ناله منها- لا تزال محدودة وغاية في الضآلة. إذ قال: “فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئًا، فإنه لم يعرف شيئًا بعد كما يجب أن يُعرف” (1 كو 8: 12).
لقد أكد لنا أننا الآن نعرف بعض المعرفة، أما الجانب الأعظم منها فسنعرفه في الدهر الآتي: “لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض” (1 كو 13: 9-10).
وعندما أراد توضيح الفارق بين معرفتنا هنا ومعرفتنا في الحياة الأخرى لجأ إلى هذا التصوير: “لما كنت طفلاً كطفل كنت أتكلم، وكطفلٍ كنت أفطن، وكطفلٍ كنت أفتكر، ولكن لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل. فإننا ننظر الآن في مرآة، في لغز، ولكن حينئذ وجهًا لوجه” (1 كو 13: 11-12).
هل لمست مدى الفارق بينهما؟ إنه كاختلاف معرفة الطفل الصغير عن معرفة الرجل الناضج، وكاختلاف الرؤية في مرآة عن التطلع وجهًا لوجه، إذ تشير المرآة إلى التعبير العميق لكن في غموض!… فلماذا إذن لا نصدق قول بولس: “من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟!” (رو 9: 20)
تأمل كيف يليق بنا الخضوع لإرادة الله في صمت!
إنه بلا شك لا يقصد بقوله هذا أنه يود أن يفقدنا إرادتنا. حاشا! لكنه يؤكد أنه ينبغي على الباحث الالتزام بالصمت، كالطين في يدَّ الخزاف لا يقاوم ولا يجادل. وقد ذكر الخزاف والطين ليذكرنا بطبيعتنا، فإنهما في درجة واحدة من حيث وجودهما (لأن الخزاف مخلوق من التراب) ومع هذا يخضع الطين للخزاف، فأية مغفرة يترجاها الإنسان وهو يتجاسر بتهور مجادلاً إرادة الله جابله، مع أن الفارق بينه وبين الوجود ذاته لا نهائيًا؟!
أذكر أيها الإنسان من أنت؟
ألست طينًا وترابًا ورمادًا؟
ألست بخارًا؟
ألست عشبًا؟ ألست زهرة عشب؟
هكذا يتسابق الأنبياء في رسم صور قدام أعيننا للتعبير عن حقيقة وجودنا. أما الله الذي تود أن تخضعه لفضولك الطائش فهو لا يخضع للموت أو التغيير. إنه سرمدي لا بداية له ولا نهاية، غير مدرك، فائق لكل فهم وكل منطق، غير موصوف ولا منظور! هذه الصفات التي لا نقدر إدراكها أنا وأنت أو حتى الرسل والأنبياء، بل ولا القوات السمائية – بالرغم من طهارتها غير المنظورة وروحانيتها ومعيشتها في السماء على الدوام[402].
القديس يوحنا الذهبي الفم
إِذَا خَطَفَ فَمَنْ يَرُدُّهُ،
وَمَنْ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؟ [12]
الله صاحب السلطان، ليس من خليقة لها أن تراجعه فيما يعمل. نضع ثقتنا فيه، ونقبل مشيئته، حتى وإن بدت مُرة بالنسبة لنا. إذا خطف حتى نفوسنا من يقدر أن يقاومه، أو يدخل في مناقشته؟ من يقول له: ماذا تفعل؟ أو لماذا تفعل هكذا؟ (را 4: 35).
v “إن أراد أن يهلك فمن يرده، ومن يقول له: ماذا تفعل؟“
“من يرده؟” أي من ينقذنا؟ لا يستطيع أحد أن يقول: “ماذا تفعل؟” أولاً لا يجسر أحد على ذلك، ولا يكون أحد هناك لأن النتائج تحمل شهادة ذاتية.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v يلزم تكريم أعمال خالقنا على الدوام دون فحصٍ، فإنها لن تكون ظالمة.
فإن من يبحث عن علة مشورته السرية لا يُحسب هذا إلا مقاومة من الإنسان ضد مشورته في كبرياءٍ.
فعندما لا يمكن للإنسان أن يكتشف دافع أعمال الله يلزمنا أن نصمت في تواضعٍ، خاضعين لأعماله، لأن الحواس الجسدية ليست على مستوى يمكنها أن تخترق أسرار جلاله…
يضيف فيما بعد بولس: “ألعل الجبلة تقول لجابلها: لماذا صنعتني هكذا؟” (رو 9: 20)
البابا غريغوريوس (الكبير)
يعلق البابا غريغوريوس (الكبير) على قول أيوب: “من يقول له: ماذا تفعل؟” قائلاً بأنه لا يستطيع أحد أن يقاوم غضب الله. مع هذا فالكتاب المقدس يقدم لنا عدة أمثلة لوقوف بعض رجال الله أمام غضب الله.
لقد قاوم موسى النبي غضب الله حين وقف يشفع في الشعب الساقط، قائلاً: “والآن إن غفرت خطيتهم وإلا فأمحني من كتابك الذي كتبت” (خر 32: 32).
أيضًا طلب موسى من هرون أن يأخذ جمرة ويجعل فيها نارًا من على المذبح، ويضع بخورًا، ويذهب مسرعًا إلى الجماعة، ويكفر عنهم “لأن السخط قد خرج من قبل الرب” (عد 16: 46- 48).
كما أطفأ فينحاس غضب الله حين زنى الشعب مع نساء غريبات، فأظهر غيرته بأن طعن الإسرائيلي والمديانية في بطنها فامتنع الوبأ عن بني إسرائيل (عد 25: 8).
وهكذا وقف داود يشفع في شعبه أمام الرب ليرفع غضبه عنهم (2 صم 24).
وطالبنا الحق أن نصلي حتى من أجل أعدائنا ومضطهدينا (مت 5: 33).
هكذا يظهر الله عظمة حبه الفائق للإنسان فإنه وإن عجز أي كائن عن الوقوف أمام غضب الله إلا أنه حتى في غضبه يعلن حبه، فيعطي فرصة للإنسان أن يقتحم محبة الله بتواضعه وتوبته ومحبته لله والناس ولخلاص نفسه؛ فيطلب رحمة لنفسه ويشفع عن إخوته.
يقدم لنا القديس مار يعقوب السروجي صورة رائعة لمقاومة غضب الله، وذلك بالتوبة:
v قال يونان: ليس من وسيلة لإبطال الغضب، فقد اعتصم الإثم وحلّ الانقلاب ليحطمكم…
قرب الضيق، وصار السقوط على الباب.
الرب أرسلني، ذاك الجبار الحامل الخليقة، لكي أدعو بالانقلاب وبصوت الفزع على أسواركم…
لطمت هذه الأصوات ملك نينوى، وارتعب عندما سمع الأخبار الشنيعة. خاف من يونان أكثر من صفوف الجبابرة. وتذلل الملك المخوف قدام إنسان حقير. قام من كرسيه البهي. وتذلل الملك المخوف قدام إنسان حقير. قام من كرسيه البهي وطرح التاج عنه، ولبس مسوحًا، وأعد نفسه للتوبة…
أدرك أن هذه المعركة ليست كالمعارك المعتادة، فجمع شعبه وحثهم على الجهاد. جمع جنوده وصفهم للطِلبة، وموَّن صفوف الجنود بالصلوات ليسّيج الأبواب. جعل الرجال والنساء والأطفال يمسكون بالصوم، كل واحدٍ حسب قوته ليصطفوا للقتال مقابل الغضب.
قال الملك لجنوده مثل هذه الكلمات: اجتمعوا معًا للطِلبة، فإن قتالاً جديدًا ندخل فيه على غير العادة…
ليس ابن يومٍ واحد يكف عن الجهاد. قتال شديد، لا ترون فيه مللاً. رُضّع اللبن يشتركون معنا هنا بين الصفوف ويسندوننا قبل أن يحل الشر بنا.
في هذا القتال الصبيان أقوى من الرجال، والأطفال يجاهدون أسهل من الجبابرة.
الأطفال الذين لم يخطئوا في هذه المعركة يخرجون بالألوف ويشتركون معنا، فبهم يصير النضال أفضل.
ها العبراني يجزم ويهدد بهلاكنا، لنعمل لئلا يفرح إذا ما غلبنا. لم يهدأ عن أن يدعو بالغضب على فسادنا. ونحن لن نهدأ حتى ندعو المراحم لخلاصنا. طلب الرجل أن يثٌَبت كلمته لأنه نبي، اتركوه يكرز، وتعالوا نطلب نحن من سيده…
نرجع إلى سيده صاحب السلطان لكي لا يهلكنا. إنه رسول ينطق بما قيل له. في سلطانه أن يكرز لا أن يُهلك، فلا نحزن. لو أن بيده (النبي) الأمر لقلب المدينة. لا نمل، فإن الدمار بيد الرب. ليس بيد النبي أن يبني ويهدم كما يهدد… لكن مقابل صوته نوقظ أصوات التوبة، وندعو بالبكاء، فنُسكت الرجل ونخمده. لا نسأله فإنه لا يطيعنا ويتوقف عن كلامه. لنرسل أصوات آلامنا إلى العلي فهو يخلصنا.
القديس مار يعقوب السروجي
اللهُ لاَ يَرُدُّ غَضَبَهُ.
يَنْحَنِي تَحْتَهُ أَعْوَانُ رَهَبَ [13].
متى غضب ليس من يرده عن غضبه سوى رحمته وحبه. فهو يسحق المتكبرين المقاومين له. وكما جاء في سفر زكريا، “فليسكت قدامه كل البشر” (زك 2: 13). التوبة بتنهداتها ودموعها وتواضعها ترد الغضب الإلهي.
v التوبة نار تلتهم كل ضعف بشري، تنزع التهاون والكسل وثقل الجسد، وتعطي للنفس جناحًا تطير به نحو السماء، وتظهر لها خلال هذه القمّة المرتفعة بطلان هذه الحياة الحاضرة.
من لا يرتفع إلى مركز المراقبة لا يستطيع أن يلتقط صورة صادقة للأرض ومحتوياتها. فإن أمورًا كثيرة تظلم مجال الرؤية وتصم الأذنين وتلعثم اللسان. لهذا يليق بالإنسان أن ينتزع نفسه من هذا الصخب، ويبتعد عن الدخان، ويدخل إلى الوحدة ليجد السلام العميق والهدوء والسكون مع الاستنارة.
عندما تركز الأعين على حب اللَّه، ولا تعود تسمع الأذن إلا كلماته وكأنها سيمفونية روحية عذبة، تصبح النفس أسيرة (اللَّه) تشعر بتقزز من الطعام والنوم.
حقًا أن ضجة العالم والاهتمامات المادية تنزلق على النفس لكنها لا تدخل إليها، وبارتفاع النفس هكذا لا تعود تبالي بفرقعات العواصف الأرضية.
وكما أن سكان الجبال لا يعودون يسمعون أصوات المدينة ولا يرون ما يدور فيها، إنما يحسبون هذه كلها أشبه بضجيج مبهم، هكذا الذين تركوا العالم بإرادتهم وانطلقوا يطيرون في مرتفعات الفلسفة (الحكمة) لا يعودون يدركون شيئًا عن أحوال العالم، لأن كل حواسهم متجهة نحو السماء.
إذن لنبحث لا عن وحدة البرية فحسب، إنما عن وحدة الرغبة الداخلية. لنختبئ فوق أعلى قمة النفس حيث لا يسكن فيها شيء أرضي.
إن قوة التوبة كمثل هواء يطرد الغبار ويكتسح الشهوات أسرع من الدخان.
القديس يوحنا ذهبي الفم
v أية خطايا يمكن للندامة أن تفشل في غسلها؟ أيّة وصمات راسخة لا يمكن لمثل هذه الدموع أن تغسلها؟ باعتراف بطرس الثلاثي مسح إنكاره الثلاثي[403].
القديس جيروم
v الصلاة الممتدَّة والدموع الغزيرة تجتذبان الله للرحمة.
v البكاء وحده يقود للضحك المطوَّب.
v أراد يسوع أن يُظهر في نفسه كل التطويبات، إذ قال: “طوبى للباكين“، وقد بكى هو نفسه لكي يضع أساس هذا التطويب حسنًا[404].
العلامة أوريجينوس
- عجزه عن أن يحاجج الله
كَمْ بِالأَقَلِّ أَنَا أُجَاوِبُهُ،
وَأَخْتَارُ كَلاَمِي مَعَهُ [14].
يقف أيوب في انسحاق أمام الله معترفًا أنه يعجز عن الدخول في حوارٍ معه. لكن كما يرى كثيرون ركز أيوب أنظاره على ضعفه، فانحدر نحو اليأس، عوض التطلع إلى مراحم الله الفائقة وحبه للبشرية، ونسي أن الله الكلي القدرة يشتاق أن يدخل في حوار مع خليقته، ولم يمنع الشيطان أن يحاوره، كما رأينا في الأصحاحين الأولين من السفر.
v من الجدير بالملاحظة أن هذا القديس (أيوب) قد عبر إلى دينونة نفسه حتى متى حلت دينونة الله لا تجد فيه شيئا تمسك به. إنه يتطلع إلى ضعفه فيقول: “كم بالأقل أنا أجاوبه، وأختار كلامي معه” [14]. فإنه لا يتكل على برّه الذاتي، بل يلجأ إلى الرجاء وحده في استعطاف الله. لذا أضاف: “حتى إن كان لي شيء من البرً فإنني لا أود أن أجيب، بل أقدم طلبة لدياني [15]. وإذ يدرك استعطاف الله يضيف: “عندما أدعو يجيبني، فإنني أؤمن انه لا يسمع صوتي” [16]. لماذا يتضاءل هكذا… لماذا يرتعب بمثل هذه الريبة المحزنة؟ عيناه مثبتتان على رهبة الديان… فيتضاءل أمام قوة العين الفاحصة. فإن كل ما يفعله يبدو له ضئيلاً.
البابا غريغوريوس (الكبير)
لأَنِّي وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أُجَاوِبُ،
بَلْ أَسْتَرْحِمُ دَيَّانِي [15].
قد يبرر الإنسان نفسه لأنه لا يعرف حتى حقيقة نفسه، وما بداخله. إنه لا يعرف الأخطاء الخفية التي قد لا يدركها الإنسان نفسه. هذا ما عبَّر عنه الرسول بولس بقوله: “لست أشعر بشيء في ذاتي”، أي لم يكن يشعر بشرٍ متسلط عليه، “لكنني لست بذلك مبررًا” (1 كو 4: 4). هكذا كان يخشى الرسول أنه إن برر نفسه يكشف له خطايا خفية لا يعرفها. هذا ما دفع أيوب أن يطلب الرحمة من الديان فاحص القلوب، ويرتمي على مراحمه لا على استحقاقاته الشخصية.
ما يشغل ذهن أيوب ليس أن يتبرر في أعين الناس، فإنهم وإن كانوا يهينونه ويطرحونه أرضًا، ويسحقونه بأقدامهم، فإن الذي يدينه هو الديان الرحوم، الذي لن يقدر أن يتبرر أمامه بذاته، بل يطلب رحمته وحنوه الإلهي.
v يقول (أيوب لبلدد): إنك تسب أيوب باطلاً. ماذا تنتفع، وأنت تطأ البار بقدميك؟ إني أرجئ الحكم لله، ملتجئًا إلى عنايته الإلهية وحنوه. إنه لا يصغي إلى ما يقال عني دون أن يفحص؛ لا يخضع لما قيل عني. لا يتهم الله أيوب كخاطئ، بل ولا يصغي لذلك، ذلك للسبب التالي: وإن كنت بارًا بمقارنتي بمن هم أبرار لكنني محتاج إلى نوع من حكم الله من جهتي وشهادة من العلا. إن كانت حياتي تتفق مع الحق الإلهي الذي للديان، فليس من يقدر أن يبطل قوة هذا الحق.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v كل برٍّ بشريٍ لا يحسب برًا لو فحص بأحكام دقيقة… كأنه يقول في وضوح: وإن كان يلزمني أن أنمو في ممارسة الفضيلة، فإنني أكون متقدمًا في الحياة، ليس عن استحقاق ذاتي، بل بنعمة الله الغافرة. لهذا يلزم أن نكون حارين في الصلاة عندما نسلك باستقامة، حتى تصير كل طرق البرّ التي نسلكها مملحة بالتواضع.
البابا غريغوريوس (الكبير)
لَوْ دَعَوْتُ فَاسْتَجَابَ لِي،
لَمَا آمَنْتُ بِأَنَّهُ سَمِعَ صَوْتِي [16].
يفسر البعض هذه العبارة: إنه إذ آمن سُمعت صلواته، ليس من أجل صلاته نفسها، لكن من أجل اسم الله القدوس الذي آمن به. “لا من أجلكم أنا صانع يقول السيد الرب، فليكن معلومًا لكم” (حز 36: 32).
يري البابا غريغوريوس (الكبير) في حديث أيوب هنا صورة حية للصراع المستمر في حياة المؤمن، فإنه بالنعمة يدعو الله فيستجيب له، حيث يلتهب قلبه بحب الإلهيات لكن وسط هذا السمو العجيب تقتحم الأفكار الزمنية الفكر، فيجد المؤمن نفسه كمن سقط، فيظن أن الله لا يسمع صوته.
v كثيرًا ما يلتهب الذهن بنار الحب الإلهي، ويرتفع ليرى السماويات والأسرار الخفية. ينتقل الذهن إلى العلا، وُيجرح بالحب الكامل، ويصير متغربًا عن الأمور السفلية؛ لكنه بعد ذلك إذ يُضرب بتجربة مفاجئة تنحني النفس التي سندها الله بهدفٍ واضحٍ، وتُجرح بتجربةٍ تهاجمها. إنها تقف في حيرة تتردد بين الممارسات الصالحة والشريرة، ولا تستطيع أن تخبر أي الجانبين أقوى.
كثيرًا ما يحدث أنها تقف في دهشة كيف تقتني الحقائق العلوية بينما تصارع مع الأفكار الشريرة. مرة أخرى تحتاج أن تعرف كيف تتسلل إليها الأفكار الشريرة بينما تنقلها غيرة الروح القدس بقوةٍ إلى الأمور السامية. هذه الحركات المتناوبة (بين الأفكار السماوية والشريرة) يراها المرتل بحق عندما يعلن: “يصعدون إلى السماوات، يهبطون إلى الأعماق” (مز 107: 26)… يرتعب الذهن من تحركاته هذه، ومن الأمور التي يخضع لها لا إراديًا، حتى يظن في نفسه أنه مطرود ومرذول.
البابا غريغوريوس (الكبير)
ذَاكَ الَّذِي يَسْحَقُنِي بِالْعَاصِفَةِ،
وَيُكْثِرُ جُرُوحِي بِلاَ سَبَبٍ [17].
شعر أيوب بأنه لم يرتكب خطايا غير عادية، مع هذا حدثت له نكبات غير عادية، فقد هبت عواصف التجربة لا لتزعجه وإنما لتسحقه. فقد جرحته النكبات بكثرة بلا سبب.
يرى بعض المفسرين أن أيوب هاجم العدالة الإلهية بقوله “بلا سبب“، لكن البعض يرى أن أيوب كان في ذهول لأنه لم يسقط في تعدٍ صارخ، ولا ارتكب خطية في نظر الناس أنها جريمة كبرى.
v “ذاك الذي يسحقني بالعاصفة” [17]… دُعيت بالحق “عاصفة“، لأنها تُعلن باضطراب العناصر. وكما يشهد المرتل بقوله: “يأتي إلهنا ولا يصمت؛ نار قدامه تحرق، وحوله عاصف عنيف” (مز 60: 3). يقول نبي آخر أيضًا: “الرب في الزوبعة، وفي العاصف طريقه” (نا 1: 3). في هذه الزوبعة لن ينكسر البار، لأنه يخشى على الدوام ويخاف لئلا ينكسر.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v لاحظوا في كلماته أنه لم يقل: “لم يجرحني قط بلا سبب” بل “يكثر جروحي بلا سبب“. فإنه ليس بسبب كثرة خطاياه حلت به تلك الجراحات الكثيرة، إنما من أجل امتحان صبره…
مرة أخرى، يقول: “حفظت طريقه ولم أحد، من وصاياه لم أبرح” (أي 23: 11، 12). إنه يحفظ طرق الله ولم يحد عنها إذ لم ينسها، بل كان يتقدم راكضًا فيها، بالرغم من أنه ضعيف، وأحيانا يتعثر ويسقط. ومع هذا فهو يستمر في الطريق، يخطئ أقل فأقل حتى يبلغ حالة الكمال، حتى لا يعود يخطئ[405].
v قال هذا عن اليهود الذين في اعتدادهم بذواتهم احتقروا النعمة، ولم يؤمنوا بالمسيح أنه يقول بأنهم أرادوا أن يُقيموا برّهم، هذا البرّ الذي من الناموس، لا أنهم ينفّذون الناموس، بل يقيمون برّهم في الناموس، عندما يحسبون في أنفسهم أنهم قادرون على تنفيذ الناموس بقوتهم، جاهلين برّ الله (رو 10: 3)، لا البرّ الذي لله بل البرّ الذي يمنحه الله للإنسان[406].
القديس أغسطينوس
لاَ يَدَعُنِي آخُذُ نَفَسِي،
وَلَكِنْ يُشْبِعُنِي مَرَائِرَ [18].
يتعرض كل إنسان لآلام بين حين وآخر، أما أيوب فلم تتركه الآلام يتنفس، ولم يفارقه المر. وفي هذا كله لم يعرف ما هي العلة.
v “لا يدعني آخذ نفسي، ولكن يشبعني مرائر” [18]. كثيرًا ما يسمح للتجارب أن تحل بي، فلا أستطيع أن آخذ نفسي. إذ كثيرًا ما يجلب العدو عذابات عليً، “إنني مملوء مرائر“. أيضا زوجتي وأصحابي هم الذين يسفهونني بسبهم لي وحديثهم معي بحقدٍ. لهذا أشعر بأن هذا يحل بي من عند الله الذي يسمح له أن يحلّ بي، مع أن في استطاعته أن يمنعه عني. ومع هذا لن أكف عن الشهادة لعدل الله وقوته (مز 71: 19). بعنايته الإلهية يحفظ كل الأمور في يده. لا يجسر إنسان له حس صالح أن يفتري على أحكامه، إذ هي صادر عن البار القدير.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
إِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ الْقَوِيِّ يَقُولُ: هَأَنَذَا.
وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ يَقُولُ:
مَنْ يُحَاكِمُنِي؟ [19]
يتطلع أيوب إلى الله فيراه دون منازع القوي، ليس من يقدر أن يقف أمامه. هو يتكلم فيفعل (حز 22: 14). أما من جهة القضاء فليس من سلطة أعلى، ولا من محكمة عليا تستمع إلى احتجاج إنسان، هو ديان الكل، فوق كل الخليقة.
v “إذ هو قوي يحكم؛ فمن إذن يقاوم حكمه؟” [19]… تعلن لنا الشمس عنه كما تعلن غيرها من المخلوقات، كم هو عظيم وقدير، ولا تقدر أن تعصى أمره (مز 104: 19). كذلك يعلن القمر عنه وهو ينمو (حتى يصير الهلال بدرًا) وينمحق (حيث يتضاءل بعد اكتماله) حسب قانونه. يعلن البحر أيضًا عنه حيث لا يتعدى الحدود المعينة له، ويقاوم الرمل عنف الأمواج.
هذا هو السبب الذي لأجله لا يستطيع أحد أن يقاوم أحكامه، وأن يعصاها. على أي الأحوال، إن كنتم تتحدثون عن الأحكام التي يدين بها البشرية، من له الجراءة أن يقاومه؟ فإن كنتم تتحدثون عن إبراهيم، فقد قال عن نفسه: “أنا تراب ورماد” (تك 18: 27). وداود بنفس الروح قال: “آثامي قد طمت فوق رأسي، كحملٍ ثقيلٍ أثقل مما أحتمل” (مز 38: 4).
إنه لا يكف عن أن يتغنى بقيثارته ما يعلنه إشعياء الشهير: “ويل لي، لأني إنسان بائس، نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب يحتفظ بتعاليم دنسةه” (راجع إش 7: 5). لهذا يضيف المصارع: “إن بديت بارَا يتدنس فمي” [20] كيف يكون هذا؟ أنصتوا: ليس من السهل عل شخصٍ ما أن يكون بلا لوم في الأعمال والكلمات. لهذا بحق يضيف: “وإن بديت كاملاً، فإني بالتأكيد أحمق“.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v قد يقول قائل: ماذا أفعل؟ كيف أكون نورًا، وها أنا أعيش في الشرور والآثام؟! وبهذا يتطرق إليه اليأس والحزن، إذ ليس لنا خلاص بدون الشركة مع الله، والله نور وليس فيه ظلمة البتة، والخطية ظلمة، فكيف أتطهر منها؟! يكمل الرسول قائلاً: “ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية“. يا لعظم هذا الضمان الذي وهبه لنا! إننا بحكم وجودنا في هذا العالم وسط التجارب قد يتعثر الإنسان بعدما غفرت له خطاياه في المعمودية، لذلك يجب علينا أن نبذل ما في وسعنا معترفين بحالنا كما هو حتى يشفينا السيد المسيح بدمه[407].
القديس أغسطينوس
إِنْ تَبَرَّرْتُ يَحْكُمُ عَلَيَّ فَمِي؟
وَإِنْ كُنْتُ كَامِلاً يَسْتَذْنِبُنِي [20].
أما من جانب أيوب فإن برر نفسه يتحول دفاعه إلى إثم، ويُحكم عليه من كلماته، لأن الله عارف بخبايا القلب التي قد لا يعرفها الإنسان نفسه. “إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا”. إن حسب أيوب نفسه كاملاً، يحسب هذا اتهامًا لله، وذنبًا يرتكبه كمتكبر جاهل بأعماقه.
v إنني افتخر لأنني أخلص، وليس لأنني بلا خطايا، بل لأن الخطايا قد غُفرت. إنني لا أفتخر لأني نافع أو لأن أحدًا ما نافع لي، وإنما لأن المسيح هو شفيعي (محامي) أمام الآب، لأن دم المسيح سفك من أجلي[408].
القديس أمبروسيوس
كَامِلٌ أَنَا. لاَ أُبَالِي بِنَفْسِي.
رَذَلْتُ حَيَاتِي [21].
يتطلع أيوب إلى شيخوخته فيرى في نفسه أنه كهل، لا ينتفع بطول السنين التي عاشها، فقد أنتجت لا شيء! إنها سنين مرذولة بلا ثمر. هذه أحاسيس الإنسان الذي يتطلع إلى حياته خارج دائرة حب الله ونعمته واهب الثمر!
- لا نحكم حسب الظاهر
هِيَ وَاحِدَةٌ.
لِذَلِكَ قُلْتُ إِنَّ الْكَامِلَ وَالشِّرِّيرَ هُوَ يُفْنِيهِمَا [22].
يصر أصدقاء أيوب على أن الأبرار ينجحون في هذا العالم ومصونون من التجارب، وإن لحقتهم سرعان ما تُرفع عنهم. أما الأشرار ففاشلون تحوط بهم التجارب في هذا العالم وتسحقهم، وليس من منقذ. أما أيوب فيؤكد عكس ذلك فقد ينجح بعض الأشرار في هذا العالم ويزدهرون، بينما يتعرض الأبرار للتجارب المتلاحقة. هذه هي نقطة الخلاف الرئيسية في كل المناقشات بين أيوب وأصدقائه، هدفها أن يؤكد الأصدقاء بأن أيوب شرير مرائي، يحمل صورة التقوى ويخفى شرورًا تغضب الله.
يؤكد أيوب هنا أن الأحداث الزمنية ليست هي المقياس للتعرف على حقيقة الإنسان إن كان بارًا أو شريرًا.
“هي واحدة“، قد تحل النكبات على الأشرار كما على الأبرار، والموت يحل بهؤلاء وأولئك. “السيف يأكل هذا وذاك” (2 صم 11: 25). يأكل يوشيا الملك الصالح كما يأكل آخاب الملك الشرير. هكذا نرى أن “الكامل والشرير هو يفنيهما“. لقد أُرسل الصالحون والأشرار معًا إلى سبي بابل (إر 24: 5، 9).
v “هي واحدة، أنا قلت الكامل والشرير هو يفنيهما” [22]. يمكن توضيح ذلك بالكلمات التالية: إني قلت هذه الكلمات عن نفسي، حتى وإن كنت كاملاً لا أظهر كاملاً لو فُحصت بدقة، ولا إن كنت شريرًا أظهر هكذا إن بقيت مخفيًا، أنسحب من الامتحان الدقيق الثاقب. أما الديان الحازم فهو يدرك كل الأمور، ويخترق حيل الأشرار بطريقة عجيبة. من أجل البلوغ إلى الأفضل يدين كل حسب ميله.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v أليست هذه هي منطوقات مواطن أورشليم السماوية:
“صارت دموعي لي طعامًا نهارًا وليلاً” (مز ٣:٤٢).
“أعوم كل ليلة سريري بدموعي، بدموعي أبلل فراشي” (مز ٦:٦).
“تنهدي ليس بمستور عنك” (مز ٩:٣٨).
“حزني قد تجدد” (مز ٢:٣٩)؟
أليس أولاد الله الذين يئنون مثقلين لا يريدون أن يتعروا، بل يلبسوا فوقها حتى يُبتلع المائت من الحياة؟ أليس حتى الذين لهم ثمار الروح يئنون داخلهم مترقبين التبني، خلاص أجسادهم؟ (رو ٢٣:٨).
ألم يكن للرسول بولس نفسه مواطن أورشليم السماوية هذا كله عندما كان مثقلاً وفي حزن قلب مستمر من أجل إخوته الإسرائيليين؟ لكن سوف لا يكون موت في المدينة إلا عندما يُقال: “أين نضالك يا موت؟ أين شوكتك يا موت، فإن شوكة الموت هو الخطية”[409].
القديس أغسطينوس
إِذَا قَتَلَ السَّوْطُ بَغْتَةً
يَسْتَهْزِئُ بِتَجْرِبَةِ الأَبْرِيَاءِ [23].
إذ امتد السيف بغتة يقتل هذا وذاك؛ الشرير لهلاكه، والبار لتزكية إيمانه. “لكي تكون تزكية الإيمان مع أنه يُمتحن بالنار توجد للمدح والكرامة والمجد” (1 بط 1: 7). إذ يستخف الأبرياء بالموت لأنه عبور إلى المجد!
يعلق البابا غريغوريوس (الكبير) على عبارة: “يضحك بتجربة الأبرار” قائلاً: [إن كان يستخدم تعبير “ضحك” الله ليعني به فرحه، فإنه يقال أنه يضحك بتجربة الأبرار، إذ يطلبوه بغيرةٍ (في وقت التجربة) وفي حنو يفرح بنا، فإن ألمنا يسبب له نوعًا من الفرح حينما تصير لنا رغبات مقدسة أن نؤدب أنفسنا من أجل حبنا له.]
v يقول بولس (2 كو 4: 17) أن أحزاننا الحاضرة خفيفة إذ تحدث في حدود زمنٍ ما ومكانٍ معين. مقابل هذا التعب الهيّن نقتني المجد بدرجةٍ تفوق كل قياسٍ[410].
أمبروسياستر
v كل محنة إما هي عقاب للأشرار أو اختبار للأبرار… هكذا السلام والهدوء في أوقات المشاحنات يمكن أن ينتفع بهما الصالحون بينما يفسد الأشرار[411].
القديس أغسطينوس
الأَرْضُ مُسَلَّمَةٌ لِيَدِ الشِّرِّيرِ.
يُغَشِّي وُجُوهَ قُضَاتِهَا.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُو،َ فَإِذًا مَنْ؟ [24]
كثيرًا ما يسمح الله للأشرار أن ينجوا بل ويتسلطوا على الأرض، فمن جانب لا يشتكي العدو بأن الأبرار يعبدون الرب ويتقونه لنوال بركات زمنية ونجاح أرضي، ومن جانب آخر فإن الله يترك الشرير في حريته لعله يتوب عن فعله إن تلامس مع محبة الله، أو يمتلئ كأس شره إن أصر على تمرده وعناده.
إن كان العدو الشرير يُدعى “إله هذا الدهر”، فلا نعجب إن تسَّلم الأشرار الأرض، وظنوا أنهم ناجحون وملوك.
تُسلم الأرض ليد الأشرار، ويتمتع الأبرار بالسماء، لأن السماوي ساكن فيهم.
“يغشى وجوه قضاة الأرض” بينما يتعرض الأبرار للظلم على الأرض ويلبس الأشرار قناعات، فيظهرون كقضاة للأرض، كمن يحكمون بالعدل، وإن لم يكن الأمر كهذا.
مع تقديم هذه الحقيقة، لكن يرى الكثيرون أن أسلوب أيوب يحمل نوعًا من التذمر، كيف يترك الرب الأشرار ينجحون ويسيطرون على الأرض، ويظهرون كقضاة يحكمون على الأبرياء.
مع تقديم مبدأ هام بحكمة كان يمكن لكلمات أيوب أن تعزيه داخليًا، فلا يبالي باتهامات أصدقائه. لكن يبدو أن التذمر الداخلي – كضعف بشري – أثار فيه مشاعر مرة. فقد رأى أيام رخائه قد عبرت سريعًا، هربت منه، ولم يبقَ لها أثر، فصار كمن لم يذق الخير قط.
يرى القديس أغسطينوس أن الأرض هنا تشير إلي الجسد[412]، فقد يسمح الله بتسليم الجسد للتأديب بيد الشرير، أو للفحص والتزكية، أما نفس البار فلن يقدر العدو أن يقترب إليها.
ماذا يعني القول: “الأرض مسلمة ليد الشرير” (24:9) سوى أنه إذ خُلق الجسد من التراب، فقد يسمح الله بتسليم أجسادنا الترابية للأشرار ، لكن لا سلطان لهم عليها سوى ما فيها من تراب، أما إذ تحمل الطبيعة الجديدة التي على صورة خالقها وتلبس صورة آدم الثاني الذي من السماء، فلا سلطان لأحدٍ منهم عليها. يرى القديس أغسطينوس أن الكلمة الإلهي نفسه وقد تجسد، أخذ هذا الجسد الترابي وسمح بتسليمه للأشرار للمحاكمة وقتله، لكي لا نخشى الأشرار، بل نشارك مسيحنا آلامه وموته لنختبر قيامته وأمجادها[413].
v غالبًا ما يُسلم البار في يدي الشرير، لا ليُكرم الأخير، وإنما لكي يُختبر الأول، وبالرغم من أن الشرير يأتي إلى موت مهيب كما هو مكتوب (أي 23:9)، إلا أنه في الوقت الحاضر يكون الصديق موضع سخرية، بينما صلاح الله والمخازن العظيمة المخزونة لكل منها مخفية[414].
القديس غريغوريوس النزينزي
v ما هو معني: “الأرض مُسلمة ليد الشرير” (أي 9: 24)؟ يُسلم الجسد في أيدي المضطهدين، لكن الله لا يترك باره هناك. من الجسد المسبي يحضر النفس التي لا تُغلب[415].
v “الشرير يراقب الصديق محاولاً أن يميته، الرب لا يتركه في يده” (مز 32:37-33). فلماذا إذن ترك الشهداء في أيدي الأشرار؟ لماذا فعلوا بهم ما أرادوا (مت 12:17)؟ ذبحوا البعض بالسيف، وصلبوا البعض، وألقوا البعض للوحوش، وحرقوا البعض بالنار، وقادوا البعض في سلاسل، وأهلكوهم بخططٍ مدمرةٍ. بالتأكيد “لم يترك الرب قديسيه” إنه لا يتركهم في أيديهم. أخيرًا لماذا ترك ابنه الوحيد في أيدي الأشرار؟… اسمع ما يقوله سفر آخر متنبأ عن آلام ربنا المقبلة في أيدي الأشرار: “أُعطيت الأرض في أيدي الأشرار” (أي 24:9)… إنه يتحدث عن تسليم الجسد في أيدي المضطهدين. لكن الله لم يترك “صفية” (مز 10:16) هناك، فمن خلال الجسد الذي أُسر، قاد النفس غير المنهزمة[416].
v “هلموا نقتله، فيكون لنا الميراث” (مر 7:12). يا لكم من أغبياء! كيف يكون لكم الميراث؟ هل لأنكم قتلتموه؟ نعم، لقد قتلتموه، لكن لا يكون لكم الميراث… عندما افتخرتم أنكم قتلتموه إنما نام، إذ قال في مزمور آخر: “أنا اضطجعت ونمت”.
لقد ارتجوا وأرادوا قتلي، وأنا نمت، لو لم أرد ذلك لما نمت.
أنا نمت، لأن “لي سلطان أن أضع (حياتي)، ولى سلطان ان آخذها أيضًا” (يو 18:10).
“أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت” (مز 5:3).
لتثوروا أيها اليهود، لتُعطَ الأرض في أيدي الأشرار، أي ليُترك الجسد في أيدي المضطهدين، ليعلقوه على خشبة، ويثبتوه بالمسامير، ويطعنوه بالحربة.
ألم يضف ذاك الذي ينام أنه يقوم أيضًا؟.. متى خُلقت حواء؟ عندما نام آدم! متى خرجت أسرار الكنيسة من جنب المسيح؟ عندما نام على الصليب[417].
v ليثر المضطهدون! لتُسلم الأرض في يد الشرير (أي 10: 17)! ليسمر الجسد على الخشبة بالمسامير، ويُطعن بحربة. فإن ذاك الذي يضطجع وينام يقول “أنا أقوم ثانية[418]”.
القديس أغسطينوس
- هول متاعبه وحيرته
أَيَّامِي أَسْرَعُ مِنْ عَدَّاءٍ تَفِرُّ
وَلاَ تَرَى خَيْرًا [25].
سرعة العدائبن (الذين يجرون المركبة) غالبًا ما تُستخدم في العصور القديمة لنقل الرسائل العاجلة. كان الملوك يحتفظون ببعض هؤلاء العداء لخدمة القصر الملوكي.
حينما أرسل الملك حزقيا دعوة إلي جميع إسرائيل ويهوذا للاحتفال بعيد الفصح في أورشليم “ذهب السعاة بالرسائل من يد الملك ورؤستائه، في جميع إسرائيل ويهوذا” (2 أي 30: 6). وفي أيام إرميا يبدو أنه كانت هذه الخدمة قد استقرت وانتظمت، ففي نبوته عن خراب بابل قيل: “يركض عداء للقاء عداءٍ، ومخبرٍ للقاء مخبرٍ، ليخبر ملك بابل بأن مدينته قد أخذت عن أقصى” (إر 51: 31). كذلك استخدم الفارسيون رسل سريعين. اُستخدموا عندما صدر الأمر بقتل جميع اليهود في الإمبراطورية (إس 3: 13، 15)، وأيضًا عندما صدر الأمر للانتقام من أعدائهم: “فخرج البريد ركاب الجياد والبغال، وأمر الملك يحثهم ويعجلهم” (إس 8: 14)[419].
v اخبرني أي شيء ثابت في هذا العالم؟ الثروة التي غالبًا ما لا تبقى حتى المساء؟ أم المجد؟ أستمع ماذا يقول رجل بار: “حياتي أسرع من عدًّاء (a runner)[420].
القديس يوحنا الذهبي الفم
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الله خلق الإنسان ليرى خيرًا، أي يرى الله الخير الأعظم،، أما وقد دخلت الخطية في حياته، ففقد بصيرته الداخلية ولم يعد ينظر النور الإلهي ولا يرى خيرًا، فيتشكك في تصرفات لله.
v خُلق الإنسان لهذا الهدف، أن يرى خيرًا، الذي هو الله. ولكنه إذ لم يرد أن يقف في النور، هرب من النور، وفقد عينيه. على نفس المستوى تعهد الأمور الجسدية بالخطية. فخضع للعمى وصار غير قادر على رؤية النور الداخلي…
لكن عندما نفكر في مثل هذه الأمور متشككين على الدوام (في الله كصانع خيرات) تلح علينا أسئلة صعبة ونحن صامتون: “لماذا يخلق الله شخصًا سبق فرأى أنه سيهلك؛ لماذا وهو الأعظم في القوة والصلاح لم يضع في ذهنه أن يخلق الإنسان عاجزًا عن أن يهلك؟
وإذ في صمته يتساءل الفكر هكذا، يخشى الإنسان أنه في تهوره خلال هذه الأسئلة يسقط في الكبرياء، فيتراجع نحو التواضع الذي يحجم أفكار القلب.
وكلما صار في محنٍ أشد – وسط المتاعب – يتألم بخصوص تفسير المعنى السري للأحداث، لذلك يكمل:” إن قلت لا أتكلم بهذه الطريقة، أغير ملامح وجهي وأصاب الحزن” [ 27].
البابا غريغوريوس (الكبير)
تَمُرُّ مَعَ سُفُنِ الْبَرْدِيِّ.
كَنَسْرٍ يَنْقَضُّ إِلَى صَيْدِهِ [26].
هجرته أيام رخائه كسفينة تُسرع نحو مينائها الآمن، وكالنسر الذي ينقض على فريسته في لمح البصر، كما لا يبقى للسفينة أثر بعد عبورها، ولا للنسر في الجو بعد انقضاضه على الفريسة، هكذا عبرت أيام الرخاء وليس من أثرٍ لها. هوذا الزمن يسرع بالإنسان كما إلى الزوال، سرعان ما يعبر بنا إلى الأبدية، فلا يكون للزمن موضع في أبديتنا.
v “حياتنا أسرع من العدٌاء runner تعبر فلا يُرى شيء. إنها كممر سفينة أو كنسر طائر يطلب طعامًا” (9: 25-26 LXX)، هكذا تعبر حياة الإنسان. ما نقوله ننساه، ولا تبقى علامة لعبورنا ظاهرة سوى أنها مملوءة حزنًا وآسى. “ضُربت في كل أطرافي. هل وُجد وسيط بيننا لكي يوبخ ويفصل بيننا” (أي 9: 28، 33LXX)[421].
القديس أمبروسيوس
v كما لا يترك البحر أثارًا للسفن، ولا يوجد آثار في الهواء للنسر المنقض على الفريسة (حك 5: 10-11)، هكذا يكون غنى العالم عندما يعبر، فإنه لن يترك ذرة من الآثار التي للسعادة. فإن الغنى وما يصدر عنه يُطرح في النسيان. لهذا فإن أيوب كمثالٍ احتقر كل تأثير لتلك الحياة وعدم استقرارها، وهو يشير علينا ألا نرتبط بها.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
إِنْ قُلْتُ: أَنْسَى كُرْبَتِي،
أُطْلِقُ وَجْهِي وَأَبْتَسِمُ [27].
يبدو أن أيوب بدأ يتطلع إلى ما وراء الزمن ليجد أن كربته ستنحل يومًا ما ولا يكون لها وجود، حين تنطلق نفسه من هذا العالم، فتصير كل حياته كظل قد عبر لا أثر له. قال في نفسه أن ينسى ما هو عليه من كربٍ، يترك همومه ويتعزى أو يبتهج (يضحك).
إن أراد أيوب البار ألا يتكلم وسط ضيقته، ووضع في قلبه أن يتجاهل ما حلّ به، فإن ملامح وجهه تشهد عن عنف التجربة وتنطق بقسوة العاصفة وعنفها دون أن ينطق بكلمة.
v الشرور التي تحل عليكم ستعبر، وذاك الذي تنتظرونه بصبرٍ سيأتي. أنه سيمسح عرق التعب. أنه سيجفف كل دمعة، ولا يكون بكاء بعد. هنا أسفل يلزمنا أن نئن وسط التجارب، إذ يتساءل أيوب: “ما هي حياة الإنسان على الأرض سوى محنة؟” (أي 7: 1)[422].
القديس أغسطينوس
َأخَافُ مِنْ كُلِّ أَوْجَاعِي
عَالِمًا أَنَّكَ لاَ تُبَرِّئُنِي [28].
يرى أيوب أنه أن دخل حتى مع نفسه في حوار بخصوص آلامه ربما يخطئ في حق الله، لذا يخشى التفكير فيها إذ لا يقدر أن يتبرر. خشي أن يعاتب الله من أجل سماحه له بهذه الآلام، لأنه يعلم أنه بهذا لا يبرئه الله، بل يكون ذلك ضده.
v “كنت أخاف من كل أعمالي، عالمًا أنك لا تبرئني، عندما أكون مذنبًا” [28- 29].
ما هي الأعمال التي مارسها الطوباوي أيوب، هذه قد أوضحها هذا التاريخ المقدس. فقد تعلم أن يسترضي خالقه بتقديم محرقات كثيرة. بحسب عدد أبنائه – كما هو مكتوب – كان يبكر في الصباح وقدم محرقات عن كل واحدٍ منهم، مطهرًا إياهم ليس فقط من الأعمال الدنسة، بل ومن الأفكار الشريرة. سجل لنا بشهادة الكتاب المقدس: “لأن أيوب قال ربما أخطأ بني، وجدفوا على الله في قلـوبهم” (1: 5).
مارس مشاعر العطف حيث أعلن عن نفسه عندما أزعجه أصدقاؤه: “ألم أبكِ لمن عسر يومه؟” (30: 25). لقد تعهد القيام بدور الحنو، إذ يقول: “كنت عيونًا للعمي وأرجلاً للعرج” (29: 15).
احتفظ بنقاوة الطهارة في قلبه؛ في هذا يكشف نفسه بكل وضوح في وقارٍ: “إن غوى قلبي على امرأة” (41: 9).
بلغ أعلى قمة التواضع من أعماق قلبه، إذ يقول: “إن كنت قد رفضت حق عبدي وأمتي في دعواهما علي” (31: 13).
لقد وهب بسخاء عظيم، قائلاً: “أو أكلت لقمتي وحدي، فما أكل منها اليتيم؟” (أي 31: 17)… مارس الضيافة قائلاً: “غريب لم يبت في الخارج، فتحت للمسافر أبوابي” (31: 32).
وفي وسط كل هذه الأمور، لتكميل فضائله بأسمى طريق للحب، أحب أعداءه أنفسهم. يقول في هذا: “إن كنت قد فرحت ببلية مبغضي، أو شمت حين أصابه سوء، بل لم أدع حنكي يخطئ في طلب نفسه بلعنة ” (31: 29-30).
إذن لماذا كان القديس خائفًا من أعماله (9: 28)، مادام قد مارس علي الدوام أعمالاً تجعل الله يلين أمام العصيان؟ كيف هذا؟ كيف يخاف حتى من هذه الأعمال العجيبة في ذعر، حيث يقول: “أخاف من كل أعمالي” [28] إلا إذا استنتجتا من أعمال القديس وكلماته أننا بالحق نريد أن نسر الله بعد أن تغلبنا على العادات الشريرة يلزمنا أن نخاف من ذات الأعمال الصالحة التي نمارسها. فإنه يوجد على وجه الخصوص أمران يلزم أن نخشاها بصورة جادة في ممارستنا للأعمال الصالحة وهما: الكسل والخداع. قيل بالنبي حسب الترجمة القديمة: “ملعون من يعمل عمل الرب بخداع ورخاوة” (إر 48: 10).
فالإنسان يرتكب جريمة الخداع في عمل الرب عندما يحب ذاته بمبالغة من أجل الأعمال الصالحة التي فعلها. فيبذل كل وسعه أن يحول الأعمال الصالحة إلى مكافأة. كذلك يليق بنا أن نضع في ذهننا أنه يوجد ثلاثة طرق يُمارس فيها الخداع. إن يكون هدفه إما كسب المشاعر الخفية لزملائه المخلوقين، أو طلب المديح، أو نوال نفع خارجي (مادي). على نقيض ذلك قيل بالنبي عن الإنسان المستقيم: “طوبى لمن ينفض يديه عن كل منفعه” (راجع إش 33: 15)… وذلك إن كان لا يهدف إلى نوال مجد باطل من زملائه، ولا إطراء من شفاههم، ولا هبات من أياديهم…
لهذا لأن الأعمال الصالحة ذاتها لا تقدر أن تهرب من الخطية الكامنة ما لم تُحرس بمخافة شديدة. لذلك بحق قال القديس في هذا الموضع: “كنت خائفًا من كل أعمالي“.
البابا غريغوريوس (الكبير)
أَنَا مُسْتَذْنَبٌ،
فَلِمَاذَا أَتْعَبُ عَبَثًا؟ [29]
يرى أيوب أنه عبثًا يُتعب نفسه لكي يتبرأ أمام الله.
v من يعرف وهن الطبيعة البشرية ينال خبرة قوة الله.
الأب مكسيموس المعترف
v يقول: أنا أعرف إنني ضعيف أمام عدل الله اللانهائي؛ أما أمام البشر فإني بار حسب شهادتك (1: 1؛ 8؛ 2: 3).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v هؤلاء لأنهم كانوا ينظرون عظمة الله، ظهر لهم صغر أشخاصهم. كانوا ينظرون إلى أمواج بهائه، وصفاء طبيعته، وعجب أزليته، ومجد عظمته، وقوة عدم محدوديته، وجمال قداسته السامي، وإلى هذه الأمور الموجودة طبعًا منه وعليه وله وبه. فكانت أفكارهم مستنيرة ليروا نفوسهم، ويتأملوا أشخاصهم كما هو مكتوب. كانوا أيضًا محترسين لئلا يوجد جواب الإثم في قلوبهم أو التفكير الذي يؤدي إلى الظن أن صلاح شخصياتهم استحقوه بفضائلهم ليبلغوا إلى قمة عظمة الله[423].
v لا تقدر نفسي أن تثبت في التواضع الحقيقي، وترى صغر ذاتها، وتفكر في فقر طبيعتها، ما لم تبهرها ثروات الله الخفية، ويُحركها سمو منظرها. فالفقر يُترك بالغنى، والظلمة تُبغض بإشراق النور. ويُشعر بتواضع النفس من سمو الله العجيب، من شعر بعظمة الله، يرى صغر ذاته[424].
القديس مار يعقوب السروجي
وَلَوِ اغْتَسَلْتُ فِي الثَّلْجِ
وَنَظَّفْتُ يَدَيَّ بِالأَشْنَانِ [30].
v الثلج هو دموع التواضع الذي فيها تسمو كل الفضائل الأخرى في عيني الديان الحازم… فإن البعض يحزنون، ولكن في غير تواضع، وذلك إذ يحزنون يبكون، ولكن هذه الدموع عينها يقدمونها وهم مستخفين بحياة إخوتهم، أو في تعالي على تدبير خالقهم. هؤلاء لهم ماء ولكن ليس ثلجًا (snow water)، ولن يمكنهم أن يغتسلوا، لأنهم لا يغتسلون بدموع التواضع. أما من يغتسل ويتطهر من الخطية بالثلج، فهو الذي في يقين يقول: “القلب المنكسر والمتواضع لا ترذله يا الله” (مز 51: 17).
v يمكن أيضًا أن يُفهم “الثلج” بمعني آخر. فإن الماء الصادر عن ينبوع وفي مجرى نابع عن الأرض، أما الثلج فيسقط من السماء. كثيرون جدًا يحزنون مولولين على أمور أرضية… إنهم يجرحون بالألم في صلواتهم، ولكن من أجل الأفراح بالملذات الزمنية لذلك فإنهم لا يغتسلون بالثلج، لأن دموعهم نابعة من أسفل…
أما الذين يحزنون لأنهم يتوقون إلى مكافآت في العلا فهم يغتسلون ويتطهرون بالثلج، حيث تفيض عليهم الندامة السماوية. إذ يطلبون الأبدية بدموعٍ وحزنٍ، وقد التهب فيهم الشوق إليها، وبهذا ينالون من العلا الوسائل التي بها يتطهرون.
v ماذا يُقصد بالأيدي سوي “الأعمال”؟ فقد قال النبي لأشخاص معينين: “أياديكم مملوءة دمًا” (إش 1: 15)، قاصدًا “أعمالكم مملوءة قسوة”.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v في هذه المعركة العظيمة، إذ يعيش الإنسان تحت النعمة فتعينه، وبالتالي يحارب حسنًا ويفرح في الرب بمخافة، فإنه لا يحتاج إلى مقاتلين جبابرة أو مهلكين عتاة لأجل إماتة أعمال الجسد، إنما يمكننا الشفاء من بعض جراحات الخطية بهذا القول اليومي: “وأغفر لنا ذنوبنا” (مت 6: 12)، مجاهدين بهذه الصلاة ضد الرذائل وضد الشيطان رئيس الرذيلة بحرصٍ عظيمٍ جدًا وحذاقة بالغة، مبطلين مشوراته المميتة التي يقدمها ألا وهي عدم إدانة الإنسان نفسه وتقديم أعذار يبرر بها خطاياه.
هذه المشورات (الشيطانية) ليست فقط تترك الجراحات بغير شفاء، بل تدفع بها إلى أضرار خطيرة ومهلكة.
وهنا تظهر الحاجة إلى عفة مملوءة حذرًا، حتى تقمع شهوة الكبرياء البشرية، حيث يسر الإنسان بنفسه، ولا يريد أن يرى في نفسه أنه مستحق للوم. فإذا أخطأ يستنكف من الاعتراف بخطئه، وبدلاً من أن يتهم نفسه بتواضعٍ مشفي، يبحث لنفسه عن عذر يقدمه بزهوٍ مميت.
ولأجل قمع هذا الكبرياء، نجد ذاك الذي طلب العفة من الله بقوله “ضع يا رب حارسًا لفمي وبابًا حصينا لشفتي، ولا تمل قلبي إلى كلام شر”، يخشى لئلا “يتعلل بعللٍ “. فإن هذا “التعليل” أكثر من كلام الشر …
فالشرير ينكر أنه شرير، بالرغم من ارتكابه الشر الذي لا يقدر أن ينكره. فإذ لا يقدر أن يخفي عمل الشر، لأنه واضح أنه قد ارتكبه، يبحث كيف ينسب الشر إلى غيره ظانا بهذا أنه يُبعد نفسه عما يستحقه.
وإذا لا يرغب في نفسه أن يكون مجرمًا، يضيف إلى خطئه خطأ بتقديمه تبريرات. وبدلا من أن يتهم نفسه بخطاياه يقدم أعذارًا دون أن يدري أنه بهذا ينزع عن نفسه العفو لا العقوبة[425].
القديس أغسطينوس
فَإِنَّكَ فِي النَّقْعِ تَغْمِسُنِي،
حَتَّى تَكْرَهَنِي ثِيَابِي [31].
كان يُظن في القديم أن ماء الثلج له خاصية تطهير الجلد. كانوا يظنون أن الجلد يصير أبيض بواسطة ماء الثلج، وأنه يمنع العرق. وكان البعض يظن أن الشخص الأسود يمكنه أن يصَّير البشرة بيضاء باغتساله بالثلج.
ليس من طريق للتبرئة أمام الله، فالثلج يعجز عن تنظيف جلده، والاشنان (الصابون أو المطهر) عن تنظيف يديه. ليس من جدوى في ذلك، فإنه كلما حاول الإنسان أن يبرئ نفسه يجد نفسه مغموسًا في الوحل (النقع)، حتى يكره ثيابه ويعاف لمس نفسه.
ولعل أيوب يرى أنه ليس فقط باطلاً يبرئ نفسه أمام من هم حوله، بل مع كل محاولة للتبرئة يكشف الله ضعفاته الخفية، فيرى نفسه غائصًا في الوحل الكريه في نظر الناس. لم يكن أيوب يجسر على الحوار مع الله كما لو كان إنسانًا مثله، فليس للخزف أن يحاور الخزاف.
v واضح أن البشر يدعون أبرارًا ويُقال عنهم أنهم بلا أخطاء، ولكن إن تسلل إهمال إليهم يسقطون. يحتل الإنسان دائمًا المكان الوسط، فيمكن أن ينزلق من أعلى الفضيلة إلى الرذيلة، ويمكن أن يقوم من الرذيلة إلى الفضيلة. لن يكون في أمان، بل يلزمه أن يخشى تحطيم سفينته حتى في الجو الحسن، بهذا لا يمكن لإنسانٍ أن يكون بلا خطية. يقول سليمان: “لأنه لا إنسان صديق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ” (7: 20) كذلك في سفر الملوك: “ليس إنسان لا يخطئ” (2 أي 6: 36). كذلك يقول الطوباوي داود “الأخطاء من يشعر بها؟ من الخطايا المستترة أبرئني ومن خطايا الكبرياء احفظ عبدك” (مز 19: 12-13). وأيضًا: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي” (مز 143: 2). والكتاب المقدس مملوء من مثل هذه العبارات[426].
القديس جيروم
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) في عبارات أيوب هنا صرخات التوبة حيث يشعر أنه وإن كان بحسب البشر هو بار، لكنه مذنب في عيني الله، فيطلب الصفح. هكذا عاش أيوب كل حياته يطلب التوبة، فتصير حياته مطوبة.
v تستطيع في يوم واحد أن تقتني كل أبدية يا أخي، وفي يومٍ واحدٍ تفقدها. أعطيت لك آلاف الأيام على الأرض لتُستخدم لخلاصك الأبدي أو دينونتك الأبدية. مطوب مئات المرات اليوم الذي تتوب فيه عن كل أعمالك الشريرة وكلماتك الدنسة وأفكارك، وتعود إلى الله بصرخة تطلب الرحمة. هذا اليوم أفضل لك من ألف يوم آخر!
ما هو هذا اليوم المبارك؟ إنه يوم إدانة الإنسان لنفسه. عندما يبزغ فجر ذاك اليوم فإن الإنسان الذي يدين العالم كله حتى ذلك الحين حين يتطلع إلى نفسه أنه أعظم الخطاة على أرض الله. يشعر بالخجل أمام الله، وأمام كل إنسان وأمام كل شيء خلقه الله على الأرض. هذا الخجل يلتهب فيه كنارٍ، عندئذ يعرف ويعترف: “أنا أعظم الخطاة على أرض الله، كل البشر الآخرين أفضل منى… يا رب أرحمني، يا رب أنا الخاطي واغسلني من وحل خطاياي، حتى ابدأ أتشبه بخليقتك.”
لا تتوقع يا أخي أن يوم التوبة المبارك يأتي من ذاته، بل تمسك به في أول يوم يلتقي فيه بك، وقل: “أنت هو اليوم المبارك الذي فيه أشتري الحياة الأبدية[427]”.
الأسقف نيقولاي فيليميروفيش
v ماذا يقصد “بالثياب” إلا الجسم الأرضي، الذي تلتحف به النفس وتتغطي؟… يقال إن ثيابنا تشمئز منا، إذ تجعلنا مكروهين. لقد شعر بكراهية الثياب ذاك الذي قال: “ولكني أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي” (رو 7: 23). هذه الثياب عينها التي لم يكن قادرًا أن يسر بها نهائيا رغب بكل غيرة أن يلقيها جانبًا لكي يستردها يومًا ما في حالة أفضل بكثير، قائلاً: “ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت؟”
البابا غريغوريوس (الكبير)
- الحاجة إلى وسيط
لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَانًا مِثْلِي،
فَأُجَاوِبَهُ فَنَأْتِي جَمِيعًا إِلَى الْمُحَاكَمَةِ [32].
v هذا ما يعنيه تقريبا؟ إن كان الذي يعاقبني إنسانًا، فإن عقوباته لا تدين بالتمام من يسقط تحتها. أستطيع أن أحاكم أمامه، وأبرهن له أنه ظالم، ولكن لأنك أنت هو الله فهذا مستحيل.
القديس يوحنا الذهبي الفم
لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ
يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا! [33]
شكوى أيوب تمثل صرخة البشرية منذ سقوطها، فهي في حاجة إلى مصالحٍ يمكن اللجوء إليه ليرد الإنسان إلى الأحضان الإلهية. من هو هذا الذي له القدرة أن يمد يده بالحب ليضم الإنسان إلى الله. من هو هذا الذي له تلك الدالة إلا كلمة الله المتجسد، الذي هو واحد مع الأب في ذات الجوهر، ومساوٍ له، وقد صار واحدًا مع بنى البشر، صار آدم الثاني.
إذ الشفيع ربنا يسوع المسيح وحده بلا خطية، فهو قادر أن يقوم بعمل المصالحة بين الآب والإنسان.
v ألا ترون كيف أعلن أيوب عن مجيء المسيح، متنبأ تحت مظهر هذه الصلاة، سرّ وسيط حياتنا؟ لهذا قال أيضًا بولس: “لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح” (1 تي 2: 5). فإنه ماذا يحدث لو أن المسيح قد تجسد وقام بتكرار ما قاله إشعياء في توبيخه للناس؟ “اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني. كفوا عن فعل الشر. تعلموا فعل الخير. اطلبوا الحق، أنصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة. هلم نتحاجج يقول الرب. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج” (إش 1: 16- 18).
لماذا قيل عن المسيح أنه “الوسيط“؟ لأنه أخذ شكل الإنسان والله (في 2: 6) فإنه من الضروري للوسيط أن يكون قادرًا على قيادة الأعداء للمصالحة (رو 5: 10)، أن يحمل وجه الاثنين، فإنه بهذا يحقق الاتفاق والمصالحة. وإذ يريد المسيح أن يصالح الإنسان مع أبيه (2 كو 5: 18)، إذ هو الله وصار إنسانًا (في 2: 7) أخذ شكل الاثنين.
بل ذهب إلى أبعد من هذا؛ إذ يعلن للبشر ما يفعله في أمر دينونتهم، كيف أنه الديان وهو المحب لهم، وكيف يبرز الديان كصانع الخيرات والرؤوف، فإنه يصف الاغتسال، شاهدًا عن الغسل بالمعمودية.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v “لنا سلام مع الله” (رو1:5)، من خلال ربنا يسوع المسيح الذي صالحنا مع الله خلال ذبيحة دمه…
جاء المسيح لكي يُهْلِك الأعداء، ويصنع السلام، ويصالحنا مع الله الذي فَصَلْنَا عنه حاجز الشر الذي أقمناه بخطايانا.
v ظهر في هيئته الجسدية وبذل ذاته كجسدٍ، يجذب لنفسه الجسديين حتى يُحوِّلهم أولاً إلى شبه الكلمة الذي صار جسدًا، ثم بعد ذلك إلى ما كان عليه قبل أن يصير جسدًا.
العلامة أوريجينوس
لِيَرْفَعْ عَنِّي عَصَاهُ
وَلاَ يَبْغَتْنِي رُعْبُهُ [34].
v من يقدر أن يرفع عصا الله، أي غضبه الإلهي، فلا يعود يرتعب الإنسان منه؟ إنه ربنا يسوع المسيح الذي وضع إثمنا عليه، ودخل بنا إلى الحب الإلهي فصرنا بروحه القدوس أبناء لله، لنا من الدالة عليه.
“ليرفع عني عصاه” [34]، فإنه إذ تجسد وصار مثلنا فلا يضربنا بالعصا ولا بالخوف، بشرط أن نهرب إلى نعمته وإلي الإيمان، نهرب إلى ذاك الذي قام من الأموات: قال الملاك للنسوة: “لا تخفن” (مت 28: 5؛ 10). وعندما ظهر للتلاميذ استخدم ذات اللغة مرة أخرى. في هذا المعني أكمل أيوب: “إذا أتكلم ولا أخافه [35]. فقد أبطل الخوف عنا، وشيّد ناموس الحب (مت 22: 37- 39). هذا ما كتبه يوحنا اللاهوتي: “المحبة الكاملة تطرد خوفنا” (راجع 1 يو 4: 18).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
إِذًا أَتَكَلَّمُ وَلاَ أَخَافُهُ.
لأَنِّي لَسْتُ هَكَذَا عِنْدَ نَفْسِي [35].
بالمُصالح ندخل إلى الأب في دالة البنوة، نتمتع بحبه، ونفرح بالاتحاد معه.
v في الناموس امسك الله العصا، حيث قال: “إن فعل إنسان هذا أو ذاك ليمت موتا”. وأما في تجسده فقد نزع عصاه، مظهرًا طريق الحياة بوسائل لطيفة. فقد قيل له بالمرتل: “تقدم وأملك وتهلل من أجل الحق والدعة والبرّ”. فإنه لا يفكر في أن يخيف بكونه الله، بل يسكن في قلوبنا كأبٍ يحب. كما يعلمنا بولس بوضوح: “إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف، بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا، الآب” (رو 8: 15). لهذا لاق أن يضيف هنا: “إذًا أتكلم ولا أخافه” [35]، لأنه إذ رأى القديس مخلص العالم قادمًا في وداعة لم يلتحف بالخوف، بل بنعمة التبني صعد إلى الحب. يقول يوحنا: “لا خوف في المحبة، بل المحبة الكاملة تطرد الخوف” (1 يو 4: 18). ويقول زكريا: “منقذين من أيدي أعدائنا نعبده” (لو 1: 74).
فالخوف ليس له قوة ليقيمنا من موت الخطية، لكن نعمة الوداعة المنسكبة تقيمنا إلى عرش الحياة. هذا ما أشير إليه بأليشع، فإنه إذ أرسل خادمه بالعصا لم يرد الحياة للصبي الميت مطلقًا. ولكن عند مجيئه شخصيًا بشخصه وبسط نفسه على الجسم الميت، ولصق نفسه بأعضائه ومشى هنا وهناك، ونفخ في فم الجسم الميت سبع مرات، رده إلى نور الحياة الجديدة خلال خدمة الحنو… فالله إذ قدم رعب الناموس بواسطة موسى يكون كمن أرسل العصا بواسطة الخادم. لكن عندما جاء بشخصه وبسط نفسه في تواضع على الجسد الميت جعل نفسه ملتصقًا بأعضاء الجسد الميت”. الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس، وإذ وجد في الهيئة كانسان…” (في 2: 6 -8).
لقد نفخ في الجسم الميت سبع مرات، وذلك بالإعلان عن النعمة الإلهية، واهبًا روح النعمة السباعية للذين انطرحوا في موت الخطية. بعد هذا قام حيًا، في ذاك الصبي الذي لم تستطع عصا الرعب أن تقيمه إنما نال الحياة بروح الحب.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v لماذا تخافون أيها المسيحيون؟
المسيح يتحدث: “أنا هو لا تخافوا”.
لماذا تنزعجون لهذه الأمور؟ لماذا تخافون؟
لقد سبق فأخبرتكم بهذه الأمور أنها ستحدث حتمًا… “أنا هو لا تخافوا. فرضوا أن يقبلوه في السفينة“.
إذ عرفوه وفرحوا تحرروا من مخاوفهم. “وللوقت صارت السفينة إلى الأرض التي كانوا ذاهبين إليها“. وُجدت نهاية عند الأرض، من المنطقة المائية إلى المنطقة الصلدة، من الاضطراب إلى الثبات، من الطريق إلى الهدف[428].
القديس أغسطينوس
v إرادة الله لا أن يخلّصك من المخاوف بل يحثّك على ازدرائها، فإن هذا أعظم من التخلُّص منها[429].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
من وحي أيوب 9
هب لي مصالحة أبدية!
v من يتبرر أمامك يا أيها القدوس.
إن حاكمت تتبرر أنت!
إن أعلنت خطاياي فهمي بلا حصر.
إن قدمت ألف اتهامٍ لا أستطيع ان أجيب بكلمة!
أنت فاحص القلوب والكلى،
لا تُخفى عنك أفكاري وضعفاتي الخفية.
اعترف لك إني خاطي.
v لا اقدر أن أقف أمامك في خصومة،
فأنت الحكمة عينها والقدرة.
أمامك تتزحزح الجبال الراسخة وهي لا تدري.
أمامك تنهار النفوس المتشامخة،
وتذوب الجبال البشرية كالشمع أمام النار.
لتزحزح كل كبرياء في داخلي.
ولتذب كل فسادٍ في أعماقي.
ولتقم جبالك المقدسة، كلمتك الثابتة،
عوض جبالي المتشامخة الفاشلة!
v ظن اليهود أنهم أصحاب الجبال العالية،
إذ تسلموا الشريعة، ومنهم جاء الآباء والأنبياء.
لقد تزحزحت هذه الجبال عنهم،
ونقلتها إلينا لننعم بها بالروح لا الحرف.
كشفت لنا أسرار الناموس الداخلية،
وأعلنت لنا النبوات التي تحققت بمجيئك.
وأشرقت بالحق علينا عوض الظلال!
لك المجد يا مقيم جبالك في أعماقنا!
v كيف أدخل في محاكمة معك، يا أيها الخالق القدير؟
تأمر الشمس فلا تشرق، والنجوم فلا تتحرك.
لتقف الشمس، فتظهر ظلمتي الداخلية،
ولتتوقف الكواكب فلا أجد بصيص نور داخلي!
عوض الشمس الظاهرة، فلتشرق علىٌ يا شمس البرٌ،
إني محتاج إليك، فإني جالس في الظلمة.
تشرق علىٌ بنور برِّك، فتقيم منى كوكبًا يحمل بهاء مجدك.
عوض تبرير نفسي أمامك أقتنيك فأتبرر.
v كيف أتراءى أمامك كما في ساحة قضاء،
وأنت باسط السماوات، والماشي على أعالي البحر؟
لتقم من أرضي سماء، فأصير مسكنًا لك.
لتعبر في داخل نفسي كما على بحرٍ هائجٍ.
حضورك يبكم الأمواج ويهدئ الرياح والعواصف.
إني في حاجة إلى غنى نعمتك،
فأنت تعبر بي ولا أراك، تجتاز فلا أشعر بك.
من يقدر أن يقول للخالق: لماذا فعلت؟
إني أصمت وسط العاصفة،
وأنتظر حضورك، فأنت طبيب نفسي،
تشفيني من جروحي الكثيرة المميتة!
أريد أن أراك!
أريد أن أسمع صوتك!
v لماذا تضطرب نفسي عندما تُسلم الأرض ليد الشرير؟
هوذا إبليس صار رئيس هذا العالم الشرير!
ليملك، ولكن الأرض تزول، وينحدر هو إلى الجحيم!
لماذا تئن نفسي، فأنت القدوس صرت إنسانًا!
صوَّب إبليس سهام الموت إليك،
ولم يدرك أنك القيامة والحياة الأبدية.
بإرادتك سلمت جسدك للموت إلى حين.
لكي تحطم الموت وتقتله في داره.
لست أخاف بعد من الشرير،
فإنه لن يجد بعد فيّ أرضًا يستلمها.
حولت أرضي سماء،
فلا موضع لعدو الخير في داخلي!
v إني أترقب رحيلي بفرحٍ وبهجة قلبٍ!
تعد حياتي كسفينة في البحر، لا تترك أثرًا على المياه.
وأطير كنسرٍ في السماء، لا أترك أثرًا لرحلتي في الهواء.
إني بروحك القدوس أطير إليك،
واستقر في أحضان أبيك السماوي.
لست افتخر إلا بصليبك وغنى نعمتك الساترة على ضعفاتي وشروري!
v لن أبرر نفسي! لا ليس ما أتبرر به.
هب لي مصالحة أبدية.
أنت وحدك تنزع العداوة، وتدخل بي إلى حضن أبيك.
أنت بدمك تتكلم، فامتلئ رجاء وحبًا!
فيك وحدك وبك أتمتع بالأمجاد الأبدية.
تفسير أيوب 8 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم |
تفسير أيوب 10 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |