تفسير إنجيل لوقا أصحاح 2 – أ. بولين تودري
2. أفراح الميلاد
+ ميلاد المخلص (2: 1-7)
تجمعت الحوادث، وتعددت اتجاهات الناس، واستخدم الآب ضابط الكل كل هذا لإتمام النبوات وتحديد ميعاد تجسد ابنه.
ففي تلك الأيام – أي في قرب الزمان الذي وُلد فيه يوحنا المعمدان- صدر أمر من أوغسطس قيصر إمبراطور الرومان بأن تكتتب كل المسكونة إذ كان يأمر أن تقدم له كل عشر سنين من ملكه بيانًا عن أحوال مملكته في قائمة تشمل عدد سكان المملكة وثرواتهم. وقصده من ذلك فرض الضرائب عليهم، ومعرفة مدى قوة المملكة. وقد صدر الأمر أن تكتتب كل المسكونة أي كل المملكة الرومانية، لأن أغلب المسكونة في ذلك الوقت كانت تحت سلطة الرومان. وكان الاكتتاب بحسب النظام الروماني ملزمًا للرجال والنساء. ويمكن أن يتم الاكتتاب في أي موضع دون الحاجة لانتقال كل إنسان إلى مدينته التي نشأ فيها. لكن الرومان وقد أرادوا مجاملة اليهود أمروا بإجرائه حسب النظام اليهودي حيث يُسجل كل إنسان اسمه في موطنه الأصلي.
وكانت هذه بداية أحداث الميلاد الإلهي، فقد صعد (بيت لحم أعلى من الجليل. فالذهاب إليها فيه صعود حقيقة) يوسف من ناصرة الجليل إلى بيت لحم في اليهودية مع مريم امرأته حيث وضعت ابنها هناك ليتم ما جاء على لسان ميخا النبي في القديم منبئًا عن مولد المسيح في بيت لحم “أما أنت يا بيت لحم بيت أفراته وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل” (ميخا 5: 2).
ولعل تدبير الله في اختيار بيت لحم بالذات مكانًا لميلاد يسوع إشارة إلى أن هذا الطفل هو الخبز الحي النازل من السماء، لأن بيت لحم تعنى بيت الخبز. وقد سُجل اسمه مع كل الناس في الاكتتاب الأول (كيرينيوس ملك على سوريا مرتين. مرة منذ ثلاث سنين قبل الميلاد إلى سنة بعده. ومرة من السنة السادسة إلى الحادية عشر بعد الميلاد. فالاكتتاب الأول تم في مدة ملكه الأول. أما الاكتتاب الثاني جاء ذكره في (أع 5: 37). وبهذا تحدد بالضبط تاريخ ميلاد مخلصنا) أيام كيرينيوس والى سورية، حتى يُحسب كواحد منا نحن البشر، وبكرًا (كلمة بكر لا تعنى من يتبعه آخرون، ولكنها تعنى بالأكثر من لم يسبقه أحد في الميلاد، فالبكر هو كل فاتح رحم). بين أخوة كثيرين، أي بكرًا لنا.
وُلد يسوع ولم يكن له موضع في المنزل وكأنه يريد أن يقول (أتيت بلا مأوى لكي أسكن في نفوس بنى البشر، ويكون بيتي هو قلب الإنسان، وغطائي محبته، أريد أن أكون واحدًا فيه).
+ رعاة.. يحرسون.. رعيتهم (2: 8-20)
في تلك الكورة، أي في الأرض المجاورة لبيت لحم، كان هناك رعاة يتناوبون الحراسة. أنهم ليسوا رعاة عاديين، بل هم غالبًا مسئولون عن رعاية الأغنام المخصصة للذبائح التي ستقدم للهيكل. ولعلهم وهم يقومون بحراسة رعيتهم كانوا يتأملونها وهي تتحول إلى ذبيحة تحترق على المذبح من أجل رفع الخطايا، بل كانوا متوقعين بالصبر الذبيحة الحقيقية التي ترمز إليها كل هذه الأغنام، يسوع الحمل الحقيقي الذي يفدى شعبه بذبيحة نفسه (عب 9: 26). اشتاق الرعاة إلى مجيء المخلص، فاستحقوا أن يكونوا أول من تعلن لهم البشارة بالفرح العظيم “أنه وُلد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب”. حقًا قال داود في المزامير “يعطيك الرب حسب قلبك” (مز 20: 4).
أما مريم الحمامة الهادئة، فعندما زارها الرعاة، عبرت عن فرحتها بطريقتها، فكانت تحفظ هذه الأحداث في خزانة قلبها، وصارت تفكر فيها.. هذا هو الصمت المقدس، صمت اللسان، بينما القلب يلهج في تسبيح أعمال الله نهارًا وليلًا.
+ ختان الطفل يسوع وتقديمه للهيكل (2: 21-24)
لقد كان لزامًا على كل ابن ذكر من نسل إبراهيم أن يختتن علامة عهد مقدس مع الله، وبداية دخوله في عضوية الجماعة المقدسة (تك 17: 9-14). لذلك تقدم فادينا ومخلصنا يسوع ليتمم الناموس (اسم يسوع في العبرية ينطق يشوع ومعناه يخلص).
وبعد انتهاء أيام التطهير اللازمة للعذراء. جاءت إلى الهيكل. إذ أنه حسب الشريعة الموسوية تبقى المرأة بعيدة عن الهيكل لمدة أربعين يوما إن أنجبت ذكرًا، وثمانين يومًا إن أنجبت أنثى (لا 12: 1-8)، وعليها أ ن تقدم ذبيحة تطهير في نهاية هذه المدة.
كما تم في هذا اليوم طقس آخر حسب الشريعة الموسوية، وهو أن كل ذكر فاتح رحم يُعتبر مخصصًا للرب (خر 13:12)، ولكي يسترده أبواه يقدمون عنه ذبيحة فرخيّ حمام إذا كانوا فقراء.
لم يكن الرب محتاجًا لتتميم ما تطلبه الشريعة من ختان وفداء بفرخي حمام، لكنه انحنى بإرادته خاضعًا للناموس من أجلنا، كما قال بولس الرسول “لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد (آدم) جُعل الكثيرون خطاة، هكذا أيضًا بإطاعة الواحد (المسيح) سيُجعل الكثيرون أبرارًا” (رو 5: 19).
+ قلوب متشوقة ليسوع (2: 25-38)
يذكر لنا القديس لوقا مجموعة من الشخصيات التي عاشت مع أحداث الميلاد وهى:
* سمعان الشيخ.. أحد الاثنين والسبعين شيخًا من اليهود الذين طلب منهم بطليموس ترجمة التوراة (العهد القديم) إلى اليونانية، والتي سُميت الترجمة السبعينية. قيل أنه أثناء الترجمة أراد أن يُبدل كلمة (عذراء) في الآية “ها العذراء تحبل وتلد..” (أش 7: 15) بكلمة (فتاة)، لأن العذراء لا تحبل. فإذا بالروح القدس يوجهه ويرشده قائلًا له أنه لن يرى الموت قبل أن يرى يسوع المولود من العذراء.
سمعان تعنى المستمع، وكان سامعًا للروح فيه (فالروح القدس كان عليه.. وأوحى إليه بالروح أنه لا يرى الموت.. واتى بالروح إلى الهيكل)، هذا الروح العامل فيه جعله منتظرًا لمجيء المخلص.
اشتهى ان يرى يسوع، ولما رآه نطق مسبحًا ومباركًا الله، وتكلم بالروح متنبئًا للطفل بأن علامة صليبه ستقاوم، وأنه جاء ليُسقط فينا كل ما هو شرير، ويقيم ما هو أفضل وتنبأ لأمه العذراء -التي تمثل الكنيسة كلها- أنها ستتألم كثيرًا لأنها سترى آلام ابنها بعينيها. وتنيح سمعان في نفس اليوم.
* حنة بنت فنوئيل.. حنة تعنى (نعمة)، وفنوئيل تعنى (وجه الله)، أرملة مشتاقة هي الأخرى أن ترى يسوع. كانت تقيم بالهيكل وتواظب على العبادة فيه، بأصوات وطلبات ليلًا ونهارًا. لقد حولت تجربتها المرة في ترملها المبكر إلى حنين ملتهب للعريس السماوي، فاستحقت أن تنال نعمة رؤية وجه الله. فسبحته وتكلمت عنه.
* جموع كثيرة منتظرين فداء أورشليم.. أناس أتقياء. درسوا النبوات وفهموا منها قرب مجيء المخلص، تشوقوا لرؤية يسوع، فاجتمعوا في الهيكل في أوقات الصلاة يعبدون بالروح، فتمتعوا به.
+ ينبغي أن أكون فيما لأبى (2: 39 – إلخ.)
وبعد أن أكملوا كل شيء تطلبه الشريعة. رجعوا أخيرًا إلى الجليل، محل سكناهم الذي ارتحلوا منه لأجل الاكتتاب، وذلك بعد أن مكثوا مدة في بيت لحم زارهم فيها المجوس ثم هربوا إلى مصر من وجه هيرودس، كما جاء في إنجيل القديس متى. وبقيت ناصرة الجليل هي وطن السيد المسيح إلى أن بلغ سن الثلاثين. وفي خلال هذه السنين نما جسم الصبي في القامة، وتقدمت نفسه في الحكمة، فهو إنسان وإله في آنٍ واحد، وهذا التدرج في النمو لا ينفى كمال لاهوته. لقد مر يسوع عبر كل مراحل الإنسان من طفولة وشباب ورجولة لكي يقدسها لنا من جديد، ولكي يشعر بنا جميعًا صغارًا وكبارًا، أما النعمة التي كانت عليه ما هو إلا سرور الآب بابنه.
كان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم كعادة اليهود، وكان المسافرون يسيرون على قافلتين، أحداهما للنساء والأخرى للرجال، وكان الصبيان يسيرون أما مع الرجال أو النساء.لذلك فإنه إذ انقضى اليوم الأول من رحلة العودة من أورشليم اقتربت القافلتان والتقى يوسف بمريم وكل منهما يسأل الآخر عن الصبي، إذ حسب كل منهما أنه مع الآخر. ثم بقيا يومًا كاملًا يسألان عنه بين الأقرباء والمعارف وإذ لم يجداه قررا الرجوع إلى أورشليم حيث وجدوه في الهيكل، مهتمًا فيما لأبيه السماوي.
ليت النفس تنمو في الحكمة والقامة أمام الله، بإتحادها الدائم وعشرتها مع عريسها السماوي بالتوبة والصلوات، وبالأعمال الحسنة أمام الناس. لتذهب مسرعة إلى هيكل أبيها الحبيب ولا تخرج منه. وان طلبها أقرباؤها بين طرق العالم، ووسط الجماهير فلا يجدانها هناك بل يجدانها في هيكل الكتاب المقدس تسأل الأنبياء والرسل عن مفاهيم الزواج الروحي الذي تكرست له.