تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 21 للقديس كيرلس الكبير

الأصحاح الحادي والعشرون

عظة 138 المرأة صاحبة الفلسين(لو21: 1-4):

وَتَطَلَّعَ فَرَأَى الأَغْنِيَاءَ يُلْقُونَ قَرَابِينَهُمْ فِي الْخِزَانَةِ، وَرَأَى أَيْضًا أَرْمَلَةً مِسْكِينَةً أَلْقَتْ هُنَاكَ فَلْسَيْنِ. فَقَالَ: «بِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمِيعِ، لأَنَّ هؤُلاَءِ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا فِي قَرَابِينِ اللهِ، وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا، أَلْقَتْ كُلَّ الْمَعِيشَةِ الَّتِي لَهَا».

اليوم ينفتح أمامنا منظر من مناظر التقوى، مع يسوع كحكم قانوني للمباريات، والذي بقرار عادل يُوزّع الأوسمة والنياشين للذين دعوا للمشاركة في السباق. والأشخاص الذين تقدمهم لنا هذه المباريات ليحوزوا على إعجابنا، ليسوا هم عازفى قيثارات ولا هم مصارعين مهرة، ولا هم أيضا ممن اعتادوا أن ينالوا المجد بواسطة أصوات المزمار الرخيمة، بل هم بالأحرى من أولئك الذين تفضل مخلّص الكل وتنازل وكرمهم بسبب أنه يحب البر. إن أكثر صفوة مكرمة بين هؤلاء والمُفضّلون عن كل الآخرين هم أولئك الرحماء وذوو العطف الذين يشهد لهم المخلّص نفسه بقوله: طوبى للرحماء لأنهم يرحمون” (مت 5: 7).

هؤلاء كان المسيح يراقبهم وهم يلقون قرابينهم في الخزانة، لأننا هكذا سمعنا الإنجيلى القديس يُعلن لنا ذلك هنا. لكن أي فم سيكفي لأولئك الذين يُسبحون إله الكل ! وكما يقول الكتاب ” مجد الرب إخفاء الكلمة” (أم ٢:٢٥س)، لأنه يستحيل أن نُسبِّح لطفه الفائق وعظمة محبته للبشرية التي لا تقارن كما يحق لهما، فهو ينسب لنفسه ويحسبه ،كقرابين كل ما نفعله للإخوة الذين أضناهم الفقر ، لأنه قال : ” الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم (مت 25: 40)، ومكتوب: ” من يُحسن إلى الفقير يُقرض الرب “. وعن هذا يُعبّر أحد القديسين عن إعجابه بطريقة جميلة جدا بقوله في أحد المواضع، بل بالأحرى يقول لكل بني البشر : إن كنت بارا فماذا تعطيه؟ أو ماذا يأخذه من يدك؟ لرجل مثلك شرك، ولابن آدم “برك” (أى 35: 7 و8). لذلك كما قلتُ (من قبل) إن أعمالنا وأفعالنا تعمل لمن هم رفقاؤنا وإخوتنا، ولكن الله يأخذها لنفسه لأنه محب للبشر، ويحسبها كثمر ،روحي، وذلك لكيما تكون له فرصة ليُظهر رحمة لأولئك الذين اعتادوا التصرف هكذا، ولكي يعتقهم من كل خطية، لأنه مكتوب: الرحمة” تفتخر على الحكم ” (يع 2: 13).

 لذلك ـ لو سمحتم – ليتنا نراقب جهاد الرحماء ونرى ما هي طبيعته ولمن بالأساس يُخصص المخلص استحساناته ومدحه بواسطة قراره المقدس والإلهي. لقد تقدم بعض الأغنياء وهم جالبين معهم عطاياهم التي جهزوها وألقوا قرابينهم في الخزانة، ولكونهم يمتلكون ثروة كبيرة وغنى وافرا، فإن العطايا التي قدمها كل واحد – كما يبدو- كانت كبيرة في حد ذاتها، ولكنها من الناحية الأخرى صغيرة لا تتناسب مع دخل مقدّميها. ثم جاءت بعدهم امرأة منضغطة في فقر مدقع لا يُحتمل والتى كل رجاء معيشتها يكمن في عطف المحسنين ومن الفتات كانت تجمع بصعوبة ومشقة مؤونة ضئيلة وتافهة تكفى بالكاد لقوت اليوم، وأخيرًا بعد كل الأغنياء) قدمت هذه المرأة فلسين، لأنه لم يكن في مقدورها أن تُقدّم أكثر من هذا، وإن جاز القول – فإنها جردت نفسها من كل ما لديها وغادرت الرواق المقدس بیدین خاويتين يا لهذا العمل العجيب والمدهش المرأة التي على الدوام تطلب من الآخرين صدقة، تقرض الله جاعلة حتى الفقر في حد ذاته مثمراً لإكرام الله. لذلك فقد فازت على الآخرين وتكلّلت من قبل الله بجزاء عادل.

لكن ربما يضايق هذا الكلام بعضا من الأغنياء، ولذلك سنوجه لهم ملاحظات قليلة. أنت تبتهج أيها الغني بوفرة ممتلكاتك، نصيبك خصب أكثر مما تتطلبه احتياجاتك الضرورية. أنت تحصد حقولاً ومقاطعات، ولك حقول كروم كثيرة وواسعة وبساتين محملة بما لذ وطاب حتى فقدت مذاقها بسبب التأخر وضياع موسم جمعها، ولك معاصر وبيادر ومواشي لا حصر لها، وبيت جميل مبني بثمن عظيم وفيه مخازن كثيرة وملابس منسوجة بألوان مختلفة، وأخيرًا أنت لا تُقدّم بما يتناسب مع دخلك؛ حتى إنك عندما تعطي، فلن تفقد قط سوى القليل جدا من غناك الوافر. أما تلك المرأة فقد قدمت فلسين، وهي لم تكن تمتلك شيئًا أكثر مما قدمته؛ إذ لم يعد يتبق لديها شيء بعد الفلسين وخرجت من الخزانة بيدين فارغتين ولكنهما يدين سخيتين، فقد قدمت كل ما تملكه ألا يحق لها لأجل ذلك أن تفوز بالإكليل؟ ألم تكن تحق لها الأفضلية بمقتضى قرار مقدس؟ أما تفوقت هي على سخائك (أيها الغني)، على الأقل من جهة استعدادها؟

– إن الحكيم بولس يكتب أيضا شيئًا من هذا القبيل: ” لأنه إن كان النشاط موجودًا فهو مقبول على حسب ما للإنسان لا على حسب ما ليس له (2کو 8: 12). ليس فقط يمكن للغني أن ينال نعمة لدى الله بتقديم خيرات للإخوة لأن مخلّص الكل سيقبل تقدمته – بل حتى من يمتلك القليل جدا يمكنه أيضا أن ينال نعمة الله بتقديمه القليل الذى له، وأيضا لن يعاني أية خسارة لأجل هذا (الذي قدمه، لأن العالم بكل شيء سيمتدح استعداده للعطاء)، وسيقبل نيته (الحسنة)، وسيجعله معادلاً للغنى، أو بالأحرى سيكلله بكرامة أكثر وجاهة وامتيازا.

وهذا أيضا يستحق أن يثير إعجابنا وانتباهنا، إنَّ الجموع التي كانت صاعدة إلى الهيكل، كان البعض منها يقدّم عجولاً مسمنة، والبعض يقدم غنمًا وبخوراً ولبانًا وأشياء أخرى غيرها لا غنى عنها لتقديم الذبائح التي يأمر بها الناموس بطريقة لائقة، لكن نظرة المخلّص لم تكن مركّزة على هؤلاء، بقدر ما كانت مثبتة على من يُقدِّمون قرابينهم في الخزانة، أي على من كانوا محسنين وشفوقين، لأنه يقبل الرائحة الطيبة للعبادة الروحية، لكنه يغض نظره عما يُعمل في رموز وظلال، لأنه عرف أنَّ الرموز لا تفيد وأن الظل ضعيف، لذلك فهو يكرم الإحسان إلى الفقير، وإذ يعرف هذا أحد الرسل، فإنه يكتب قائلاً: ” الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه، افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم” (يع 1: 27).

ونحن نجد أيضا أنَّ الوصية التي أعطاها موسى تحثنا على محبة الفقير، وتنهضنا إلى عمل الإحسان، لأن الله الذى وضع أمامنا طريق السلوك الإنجيلي، هو نفسه الذي حدد منذ القديم الوصية لموسى، لم يكن إلها غيره، إنه هو نفس الإله الوحيد من حيث إنه إله لا يتغير، لأنه يقول بغم أحد الأنبياء القديسين: “أنا الذي أتكلم اليكم، قريب” (إش 52: 6 س). لذلك فهو تكلم هكذا بواسطة موسى قائلاً: ” إن كان فيك فقير أحد من إخوتك في أحد أبوابك في أرضك التي يعطيك الرب الهك، فلا تُحول ‘ قلبك ولا تقبض ينك عن أخيك المحتاج، بل افتح ينك له بسعة وأقرضه مقدار ما يحتاج إليه، وبحسب ما ينقصه (تث 15: 7 و8 س). أنتم تسمعونه يدعو صدقتهم قرضا، لأن الله هو الذي يقبلها وسوف يُعوّضها ليس بما يساويها بل بالأحرى بكيل فائض، لأنه يقول: كيلاً جيدًا” ملبدًا” مهزوزا فائضا يعطون في أحضانكم ” (لو 16: 38) . وكما يقول الحكيم بولس: ” يحب الله المعطي بسرور (2كو 9: 7). وكون أنه من الصواب أن نكون محسنين للإخوة وليس بخلاء، وليس كمسألة إلزامية بل بدافع من المحبة أكثر من كونه مراعاة للوجوه وبمودة متبادلة لا لوم فيها، فإنه حتى ناموس العهد القديم يُوضحه بقوله: ” ولا تحزن في قلبك عندما تعطيه، لأنه بسبب هذا الأمر يباركك الرب إلهك في كل أعمالك وجميع ما تمتد إليه ينك ” (تث 15: 10 س). ولذلك يقول بولس الرسول: المعطي فليعط بسخاء، المدبّر فباجتهاد، الراحم فبسرور ” (رو 12: 8)، لأن المحبة التى نظهرها للفقير ليست غير مثمرة، بل هي دين يُرد بزيادة. 

لذلك ينبغي لنا أن نكون مجتهدين في إتمام هذا الواجب بكوننا متيقنين أنه لو وزعنا بيد سخيَّة، فإننا سننفع أنفسنا، لأنه هكذا يعلّمنا أيضا بولس الطوباوي قائلاً: “هذا وإنَّ من يزرع بالشح فبالشح أيضا يحصد ، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضا يحصد كل واحد كما ينوى بقلبه ” ( 2كو 9: 8 ز9). وكما لو كان يقطع الكسل من جهاداتنا الصالحة، فإن الرسول يضيف في الحال هذه الكلمات: ” والله قادر أن يزيدكم كل نعمة لكى تكونوا ولكم كل اكتفاء كل حين في كل شيء تزدادون في كل عمل صالح. كما هو مكتوب، فرق أعطى المساكين، بره يبقى إلى الأبد (2كو 9: 8 و9) لأن الذى يُظهر رحمة للفقير، لن يُتخلى عنه أبدًا، بل بالأحرى سيُحسب أهلاً للغفران من المسيح. مخلصنا به ومعه يليق التسبيح والسلطان الله الآب مع الروح القدس إلى دهر الدهور. الذي آمین

عظة 139 يسوع ينبئ بخراب الهيكل ونهاية العالم والمجيء الثاني (لو21: 5-13):

وَإِذْ كَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ عَنِ الْهَيْكَلِ إِنَّهُ مُزَيَّنٌ بِحِجَارَةٍ حَسَنَةٍ وَتُحَفٍ، قَالَ: «هذِهِ الَّتِي تَرَوْنَهَا، سَتَأْتِي أَيَّامٌ لاَ يُتْرَكُ فِيهَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ». فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ:«يَامُعَلِّمُ، مَتَى يَكُونُ هذَا؟ ومَا هِيَ الْعَلاَمَةُ عِنْدَمَا يَصِيرُ هذَا؟» فَقَالَ: «انْظُرُوا! لاَ تَضِلُّوا. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ! وَالزَّمَانُ قَدْ قَرُبَ! فَلاَ تَذْهَبُوا وَرَاءَهُمْ. فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَقَلاَقِل فَلاَ تَجْزَعُوا، لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هذَا أَوَّلاً، وَلكِنْ لاَ يَكُونُ الْمُنْتَهَى سَرِيعًا». ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ زَلاَزِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ، وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ. وَتَكُونُ مَخَاوِفُ وَعَلاَمَاتٌ عَظِيمَةٌ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَبْلَ هذَا كُلِّهِ يُلْقُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، وَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَامِعٍ وَسُجُونٍ، وَتُسَاقُونَ أَمَامَ مُلُوكٍ وَوُلاَةٍ لأَجْلِ اسْمِي. فَيَؤُولُ ذلِكَ لَكُمْ شَهَادَةً.

لقد تسلمنا من المسيح معرفة الأشياء التى كانت مزمعة أن تحدث، لأنه هو نفسه الذي ينير خفايا الظلام ويعرف الخفايا ( 1كو 4: 5)، والمُذْخر فيه جميع كنوز الحكمة وخفايا المعرفة (انظر 2كو 2: 3)، وهو يُغيّر الأوقات والأزمنة ويعيد تشكيل الخليقة إلى ما كانت عليه في البداية لأن الخليقة التي لم تكن موجودة قد جاءت بواسطته إلى الوجود بحسب إرادة الله الآب، لأنه هو قوة الله الحية وحكمته الذاتية، وأيضا بواسطته ستتغير الخليقة) بسهولة إلى ما أفضل، هو لأن تلميذه يقول : لكننا ننتظر سموات جديدة وأرضا جديدة ” (2بط 3: 13).

والآن فإن سبب هذا الاستطراد، هو من جهة بسبب السؤال الذي وُجّه إلى المسيح مخلصنا جميعًا من جهة الهيكل والأشياء التي فيه، ومن الجهة الأخرى للإجابة على هذا السؤال لأن البعض منهم أروه الأعمال العظيمة التي كانت في الهيكل، وجمال التقدمات (أي التحف على الجدران)، منتظرين منه أنه سيبدي إعجابه بالمشهد مثلهم، مع أنه هو الله والسماء هي عرشه. لكنه لم يُعط أي اهتمام – إن جاز القول – أيا كان بهذه المباني الأرضية، إذ هي أشياء تافهة، بل هي لا شيء على الإطلاق، بالمقارنة بالمنازل التي هي فوق؛ وإذ استبعد الحديث عنها (المباني الأرضية)، فقد تحول بالأحرى إلى ما هو ضروري لمنفعتهم. لأنه سبق فحذَّرهم أنه مهما كان الهيكل يستحق أن ينال كل إعجاب منهم، إلا أنه حينما يحين وقته، فإنه سيُدمر من أساساته، إذ يُهدم أرضا بقوة الرومان، وتُحرق كل أورشليم بالنار، وتُجازَى بعدل لأجل قتلها الرب، لأنه بعد صلب المخلّص، كانت هذه الأشياء هي نصيبهم الذي كابدوه.

لكنهم لم يفهموا معنى ما قيل بل بالحري ظنوا أنَّ الكلمات التي قالها تشير إلى انقضاء العالم، لذلك سألوه: ” متى يكون هذا وما هي العلامة عندما يصير هذا ؟ ” فماذا كان جواب المسيح إذن؟ إنه استجاب لرأي الذين سألوه، وإذ يغفل مؤقتاً ما كان يقوله عن حصار أورشليم، فإنه يشرح ما سيحدث عند انقضاء العالم، فيحذرهم ويشهد قائلاً: “انظروا لا تضلوا، فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين إني أنا هو والزمان قد قرب، فلا تذهبوا وراءهم”. لأنه قبل مجيء المسيح مخلصنا من السماء، سيظهر مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، مُدَّعين كذبًا ” قائلين أنا هو” (أي كل منهم يدَّعي أنه المسيح)، وسوف يأتون إلى العالم کمثل زوابع دخان منبعثة من نار على وشك الاشتعال ويقول: ” فلا تذهبوا وراءهم”. لأن كلمة الله الوحيد الجنس ارتضى أن يأخذ لنفسه شبهنا وأن يحتمل الولادة بالجسد من امرأة لكيما يخلّص كل من هم تحت السماء. وكان هذا بالنسبة له إخلاء لذاته واتضاعًا، لأن ما هو قدر الإنسانية بالمقارنة بالجلال والمجد الإلهى الفائق؟ لذلك فكشخص وضع ذاته حتى الإخلاء، فإنه فضل أن يبقى غير معروف، حتى أوصى رسله الأطهار قبل صليبه الثمين، بأن لا يُظهروه (مت 17: 9). لأنه من الضروري أن تبقى طريقة تدبيره في الجسد مخفية، حتى إذا احتمل الصليب الثمين لأجلنا كإنسان، فإنه يلاشي الموت ويطرد عنا جميعًا طغيان الشيطان، لأنه كما يقول بولس: ” الحكمة التي كانت في المسيح، التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر، لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد ” ( 1كو 2: 8) . لذلك كان يلزم أن يظل غير معروف خلال الفترة التي سبقت آلامه أما مجيئه الثاني من السماء فلن يحدث بطريقة خفية كما حدث مجيئه الأول، بل سيكون مُبهرًا ومُرعبًا، لأنه سينزل بمجد الله الآب ومعه الملائكة القديسون محيطون به ليدين العالم بالعدل. ولأجل هذا يقول: عندما يقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة فلا تذهبوا وراءهم.

وقد أعطاهم علامات واضحة وجليَّة عن الزمان الذى فيه يقترب انقضاء العالم، فيقول : ” لأنه ستكون حروب وقلاقل ومجاعات وأوبئة في كل مكان، وتكون مخاوف وعلامات عظيمة من السماء “، وكما يقول إنجيلي آخر: “لأن كل النجوم تسقط وقوات السموات تتزعزع ” (انظر مت 24: 29).

لكن المخلّص يضع في وسط الكلام ما يشير إلى سبي أورشليم لأنه يخلط الأحداث ببعضها في كل من جزئي الرواية. ويقول: ” وقبل هذا كله يلقون أيديهم عليكم ويطردونكم ويسلمونكم إلى مجامع وسجون وتساقون أمام ملوك وولاة لأجل اسمى، فيؤول ذلك لكم شهادة لأنه قبل أزمنة الانقضاء، سُبيَت أرض اليهود، واجتاحتها حشود الجيوش الرومانية، وأحرق الهيكل، وأطيح بحكومتهم الوطنية، وتوقفت سبل العبادة الناموسية، لأنه لم تعد بعد ذبائح تقدم، إذ أن الهيكل كان قد دُمر، وكما قلت فإن وطن اليهود مع أورشليم ذاتها قد صار قفرا تماما. وقبل أن تحدث هذه الأشياء، قام اليهود باضطهاد التلاميذ المباركين، فقد سُجنوا وكان لهم نصيب في محن لا تُحتَمَل، وسِيقُوا أمام قضاة وأرسلوا أمام ملوك، لأن بولس قد أرسل إلى روما إلى قيصر. لكن هذه الأمور التي أتت عليهم كانت شهادة لهم، حتى يحصلوا بواسطتها على مجد الاستشهاد.

وهو يصرخ قائلاً: ” لا تهتموا من قبل لكي تحتجوا لأني أعطيكم فما وحكمة لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها ” (عدد 14و15). ولكي يزيل منهم كل دوافع الجبن البشري قال لهم ” إنهم سوف يُسلمون من الإخوة والأقرباء والأصدقاء (عدد16)، لكنه وَعَدَهم أنه بالتأكيد وبالتمام سينجيهم قائلاً: ” ولكن شعرة من رؤوسكم لا تهلك ” (عدد 18).

وأيضا لكيما يجعل تنبؤه أكثر وضوحًا وتأكيدًا، ويجعل زمن سبي أورشليم أكثر جلاء، فإنه يقول لهم: ” ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش فحينئذ اعلموا أنه اقترب خرابها ” (عدد 20).

وبعد ذلك ينقل كلامه من هذا الموضوع إلى وقت انقضاء العالم، ” وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم، وعلى الأرض كرب أمم بِحَيْرَة، والبحر والأمواج تضج والناس يغشى عليهم من خوف وانتظار ما يأتي على المسكونة، لأن قوات السموات تتزعزع ” ( عدد ٢٥ و ٢٦) . لأنه بسبب أن الخليقة تبدأ في التغير إن جاز القول – وتجلب على سكان الأرض أهوالاً لا تطاق، فإنه سيكون هناك ضيق ،مُرعب، ونفوس ترحل بالموت، لأن الخوف المريع الذي يفوق الاحتمال الخاص بالأمور المزمعة أن تحدث سيكون كافيًا لإهلاك كثيرين.

ثم يقول : ” وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيا في سحابة بقوة ومجد كثير (عدد 27). لذلك فالمسيح لن يأتي في الخفاء أو في غموض، بل كإله ورب بمجد يليق بألوهيته، وسيحول كل الأشياء نحو الأفضل، لأنه سوف يُجدد الخليقة ويعيد تشكيل طبيعة الإنسان إلى ما كانت عليه في البداءة. ثم يقول : ” ومتى ابتدأت هذه تكون فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم لأن نجاتكم تقترب” (عدد 28). لأن الموتى سيقومون، وهذا الجسد الأرضي والعاجز سيخلع عنه الفساد وسيلبس عدم الفساد بعطية المسيح الذي يمنح الذين يؤمنون به أن يتشكلوا على مثال جسده المجيد، لذلك فكما قال تلميذه: ” ولكن سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السموات فجأة بضجيج، وتنحل العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها “، ثم يضيف قوله ” فبما أنَّ هذه كلها تنحل، أي أناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى؟” (2بط 3: 10 و11). والمسيح نفسه يقول أيضا : “اسهروا إذن وتضرعوا في كل حين لكي تُحسبوا أهلاً للنجاة من جميع هذا المزمع أن يكون وتقفوا قدام ابن الإنسان” (لو 21: 36). ” لأننا جميعا سوف نقف أمام كرسي المسيح لنعطي حسابا عن كل ما صنعناه” (انظر رو 14: 10)، ولأن المسيح صالح ومحب للبشر ، فإنه سيُظهر رحمة لأولئك الذين يحبونه، الذى به ومعه يليق التسبيح والسلطان الله الآب مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين

عظة 140 خيانة يهوذا لتسليم المسيح (لو21: 37، 38)

(تقرأ يوم خميس السر)[1]

(لو 37:21، 38): ” وَكَانَ فِي النَّهَارِ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ وَفِي اللَّيْلِ يَخْرُجُ وَيَبيتُ فِي الْجَبَ الذي يُدْعَى جَبَلَ الزَّيْتُونِ. وَكَانَ كُلِّ الشَّعْبِ يُبكِّرُونَ إِلَيْهِ فِي الْهَيْكَلِ لِيَسْمَعُوهُ “.

(لو22: 1-6) : ” وَقَرُبَ عِيدُ الْفَطِيرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْفَصْحُ وَكَانَ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ لأَنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ. فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا الذي يُدْعَى الإِسْخَرْيُوطِيُّ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأثْنَيْ عَشَرَ فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقَوَّادِ الْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ، فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةٌ. فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةٌ لِيَسَلْمَهُ إِلَيْهِمْ خلوا مِنْ جَمْع “.

الكل ورب مع إن جَمْع اليهود سويًا مع رئيسهم وقفوا ضد مجد المسيح وصارعوا ضد رب الكل، لكن يمكن لأي إنسان أن يُدرك أنهم أعدوا فيهم ضد نفوسهم ذاتها، لأنهم حفروا لأنفسهم حُفَر هلاك، وكما يقول المرنم ” تورطت الأمم في الحفرة التي عملوها في الفخ الذي أخفوه وقعت أقدامهم” (مز ١٥:٩س). لأن المخلص ورب الكل، مع أن يمينه مقتدرة وقوته تهزم الموت والفساد معا، لكنه أخضع ذاته طواعية باتخاذه الجسد ليذوق الموت لأجل حياة الكل، لكيما يوقف الفساد ويبطل خطية العالم، ويخلّص الذين كانوا في قبضة العدو من طغيانه غير المحتمل . لكن ربما تخيلت تلك الحيَّة المتمردة أنها قد سادت حتى على المسيح نفسه لكونه – كما قلت – عانى الموت في الجسد لأجلنا، كما تطلب التدبير (الإلهي)، ولكن ذلك الكائن التعيس قد خاب أمله. 

إذن دعنا نرى كيف أخطأ الهدف وقذف (سهمه) بعيدًا عن الهدف حينما تآمر على المسيح وسلَّمه لأيدي أولئك الذين قتلوه. يقول (الكتاب): ” وكان في النهار يعلم في الهيكل وفى الليالي يخرج ويبيت في الجبل الذي يُدعى جبل الزيتون “. ومن الواضح أنَّ ما كان يعلمه أشياء تفوق الخدمة الناموسية لأنه قد حان الوقت الذي ينبغي أن يتغيَّر فيه الظل إلى الحقيقة، وهم كانوا يسمعونه بسرور، لأنهم كثيرًا ما تعجبوا منه : ” لأن كلامه كان بسلطان” (لو 4: 32)، لأنه لم يحدّث الناس كمثل واحد من الأنبياء القديسين أو كموسى معلّم الأقداس قائلاً: ” هكذا قال الرب…”، بل لكونه هو نفسه الذي تكلم منذ القديم بواسطة موسى والأنبياء، ولكونه رب الكل، فإنه حول بسلطان إلهي ما كان ممثلاً في الرمز وضعف الحرف إلى عبادة روحية، ” لأن الناموس لم يُكمل شيئًا” (عب 7: 19).

وكما قلت كان يقضى الليالي في جبل الزيتون، متحاشيا أصوات الصخب التي كانت في المدينة، لكي في هذا الأمر أيضا يكون مثالاً لنا، لأنه يجب على الذين يرغبون أن يحيوا حياة هادئة مطمئنة أي مملوءة راحة، أن يتحاشوا على قدر المستطاع الازدحام والصخب.

لكن دعنا نرى خط سير خبث إبليس وماذا كانت نتيجة خططه الماكرة مع قايين ضد المسيح. فإنه قد زرع الحسد ضد المسيح في رؤساء مجمع اليهود، والذي وصل إلى حد القتل، لأن هذا الداء (الحسد) يُؤدِّي عادةً إلى جريمة القتل، فمثل هذه النتيجة كانت هي النهاية الطبيعية لهذه الرذيلة؛ فهذا ما حدث وهابيل وهكذا كان هذا واضحًا في حالة يوسف وإخوته. ولذلك فإن بولس الإلهى يجعل هذه الخطايا – مرتبطة معا وقريبة إحداها للأخرى، لأنه يتكلم عن البعض قائلاً: ” مشحونين حسدًا وقتلاً ” (رو 1: 29). لذلك طلب (اليهود) أن يقتلوا يسوع بتحريض الشيطان الذي غرس هذا الشر فيهم، والذي كان هو قائدهم في مؤامراتهم الشريرة، لأنه هو نفسه مخترع القتل وأصل الخطية وينبوع كل شر. وماذا كانت الحيلة التي اخترعتها هذه الحية المتعدّدة الرؤوس؟ يقول النص : ” فدخل الشيطان في يهوذا الذي يُدعى الإسخريوطي وهو من جملة الاثنى عشر”. لماذا لم يدخل الشيطان في الطوباوي بطرس أو في يعقوب أو يوحنا أو أي واحد آخر من بقية الرسل بل في يهوذا الإسخريوطي (بالذات؟ أي موضع وجده الشيطان فيه؟ فهو لم يستطع أن يقترب إلى أحد من بين كل الذين ذكرناهم هنا ، لأن قلبهم كان ثابتا ومحبتهم للمسيح كانت غير متزعزعة، لكنه وجد له مكانا في الخائن، لأن داء الطمع المر قد قهره وتسلّط عليه هذا الداء) الذى يقول عنه بولس الطوباوي إنه أصل كل الشرور (1تى 6: 10) ، لأنه عندما سكبت امرأة طيبًا على المخلص ذات مرة كان وحده من بين كل (التلاميذ الذى وبخها قائلاً: ” لماذا هذا الإتلاف؟ لأنه كان يمكن أن يُباع هذا بكثير ويُعطى للفقراء”. لكن الإنجيلي الحكيم تكلّم – إن جاز القول . ضد كلماته الزائفة، إذ أضاف في الحال قوله: ” قال هذا ليس لأنه كان يبالي بالفقراء بل لأنه كان سارقا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يُلقى فيه ” (يو 12: 6) . والشيطان لكونه ماهرا في عمل الشر، عندما يستحوذ على نفس أي إنسان فإنه لا يهاجمه بواسطة الرذائل عموما، بل بالحرى يبحث عن الهَوَى الخاص الذي ينغلب منه ذلك الشخص)، وبواسطة ذلك الهوى يجعله فريسة له. لذلك فلأن الشيطان عرف أن يهوذا طماع، فإنه اقتاده إلى الفريسيين والرؤساء، ووعدهم أنه سيخون معلمه وهم قد دفعوا ثمن الخيانة أو بالحرى ثمن هلاكهم بمال مقدس. آه أية دموع يمكن أن تكفى سواء على الذي خان يسوع مقابل أجر، أو لمن استأجروه فدفعوا ثمن جريمة قتل بمال مقدس ! أية ظلمة قد أتت على نفس الذي قبل الرشوة! لأجل فضة قليلة خسر السماء وفقد إكليل الخلود وكرامة الرسولية المحبوبة، وحسبانه ضمن عداد الاثني عشر، الذين قال لهم المسيح في موضع ما: “أنتم نور “العالم” (مت 5: 14) . إنه لم يهتم بأن يكون نورا للعالم، بل نسي المسيح الذي قال : ” أنتم الذين تبعتموني في تجاربي، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضا على اثني عشر كرسيا وتدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر (مت 19: 28) . لكنه لم يُرد أن يملك مع المسيح. يا لارتباك الضلال الذي أعمى ذهن هذا الإنسان الطماع ! فإنه سلّم للموت من هو أقوى من الموت. ألم تعلم أنه أقام لعازر من القبر في اليوم الرابع، وأنه بإشارة منه أقام ابن الأرملة وابنة رئيس المجمع ؟ ألم تسمعه يقول لليهود فيما يخص جسده : ” انقضوا هذا الهيكل وفى ثلاثة أيام أقيمه ثانية؟ ” (يو 2: 19). هل نسيت كلماته: ” أنا هو القيامة والحياة ؟ (يو 11: 25). فماذا كان إذن سبب مثل هذا الجنون المطلق؟ يخبرنا الإنجيلي إذ يقول : ” فدخله الشيطان”، إذ قد جعل شهوة الطمع مَعْبَرًا وبابا له. فإن ” التقوى مع القناعة تجارة عظيمة ، وكما يقول الكتاب المقدس : ” لأننا لم ندخل العالم بشيء، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء” (1تى 6: 6 و 7) . ” وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة، تُغرق الناس في العطب والهلاك ” (1تی 6: 9) والتلميذ الذي صار خائنا هو برهان واضح على ذلك، إذ قد هلك لأجل قليل من الشواقل.

وماذا يقول المرء عمَّن استأجروه؟ الذين سقطوا في نفس العطب والهلاك معه، إنهم كانوا ضحايا لسُكّر مماثل، مع أنهم كانوا يملكون شهرة في معرفة الناموس وكلام الأنبياء القديسين. كان من واجبهم أن يعرفوا معنى ما سبق أن قيل منذ القديم، الذي كان قد تقرر سابقا من قبل الله بخصوصهم. لأن من بين هذه الكلمات أقوال مثل هذه ” على الرعاة الأردياء اشتعل غضبي وأنا سأفتقد الخراف” (زك 10: 3 س)، لأن الرعاة الأشرار هلكوا بطريقة شائنة، أما دعوة أولئك الذين كانوا مطيعين لأجل الخلاص، فقد كانت نوعا من الافتقاد، لأن بقية من إسرائيل قد خلصت. وكما لو كانوا بالفعل قد سقطوا في الخراب، لهذا كانوا يولولون ويبكون، فإن النبي يقول إنه سمع صوت ولولة الرعاة لأن فخرهم ،خرب صوت زمجرة الأسود، لأن كبرياء الأردن خربت” (زك 11: 3 س). يُطلق النبي لقب الأسود على كبرياء الأردن ويشير بهم (أي بالأسود) إلى رؤساء المجمع اليهودي الذين بسبب المجازاة العادلة على شرهم ضد المسيح، ولولوا مع آبائهم وأبنائهم، لأنهم فنوا كما بنار وسيف، بينما هيكل أورشليم قد أحرق أيضا، وكل مدن اليهودية حل بها الخراب والدمار التام.

كان هذا هو مصيرهم، أما المسيح فهو يخلصنا بإرادته الرحيمة، الذي بـــه ومعه الله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمین

  1.  يوصى القديس كيرلس أن تقرأ هذه العظة يوم خميس العهد الذي تم فيه تأسيس سر الشكر، ولذلك يسميه خميس السر.

زر الذهاب إلى الأعلى