تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 5 للقديس كيرلس الكبير
الأصحاح الخامس
(لو5: 1-2) ” وإذ كان الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله، كان واقفـا عنـد بـحيـرة جنیسارت. فرأى سفينتين واقعتين عند البحيرة، والصيادون قد خرجوا منهمـا وغسلوا الشباك “.
يليق أن نعجب بالطريقة الماهرة التي استُخدمت لصيد أولئك الذين سيصيرون صيادين لكل الأرض، وأعني بهم الرسل القديسين الذين رغم أنهم كانوا ماهرين في صيد السمك، إلا أنهم أمسكوا في شبكة المسيح، لكي يستطيعوا هم أيضا بإلقاء شبكة الكرازة الرسولية، أن يجمعوا لهم سكان العالم كله. لأنه حقا قال في موضع آخر بواسطة أحد الأنبياء القديسين ” هأنذا أرسل صيادين كثيرين يقول الرب، فيصطادونهم ثم بعد ذلك، أرسل كثيرين من القانصين فيقتنصونهم” (إر 16: 16)، وهو يعني بالصيادين الرسل القديسين، أما القانصين فيقصد بهم أولئك الذين تبعوهم كمدبرين ومعلمين للكنائس المقدسة. وأرجو أن تلاحظوا أن الرب لم يكرز فقط، بل يجرى آيات أيضا، معطيا بذلك أدلة على قوته ومثبتا كلامه بعمل المعجزات، لأنه بعد أن تحدث الجموع، رجع إلى أعماله العادية المقتدرة، وعن طريق تعامله مع التلاميذ الصيادين فأنه يمسك بهم كأسماك، لكي يعلم الناس أن مشيئته قادرة على كل شيء، وأن الخليقة تطيع أوامره الإلهية.
(لو5: 3-7) ” فدخل إحدى السفينتين التي كانت لسمعان، وسأله أن يبعد قليلا عن البر. ثم جلس وصار يعلم الجموع من السفينة. ولما فرغ من الكلام قال لسمعان: ابعد إلى العمق وألقوا شباككم للصيد. فأجاب سمعان وقال له: يا معلم، قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئا. ولكن على كلمتك ألقي الشبكة. ولما فعلوا ذلك أمسكوا سمكا كثيرا جدا، فصارت شبكتهم تتخرق. فأشاروا إلى شركائهم الذين في السفينة الأخرى أن يأتوا ويساعدوهم “.
حيث إنه لم يكن قد علمهم بقدر كاف، وكان من المناسب أيضا أن يضيف عملاً إلهيا على كلماته لأجل فائدة الحاضرين، طلب إلى سمعان ورفاقه أن يبعدوا عن الشاطئ وأن يلقوا شباكهم للصيد. ولكنهم أجابوا أنهم قد تعبوا الليل كله ولم يمسكوا شيئا، ومع ذلك فإنهم ألقوا الشبكة باسم المسيح وفي الحال امتلأت من السمك لكن عن طريق حقيقة منظورة تمت بطريقة معجزية كمثل ونموذج يمكن أن يقتنعوا به تماما أن تعبهم لم يكن بدون مكافئة، ولا غيرتهم ستكون بلا ثمر، تلك الغيرة التي أظهروها بنشر شبكة تعليم الإنجيل، لأنه يلزم بالتأكيد أن يمسكوا بأفواج الأمم داخل هذه الشباك… ولكن لاحظوا هذا أنه لا سمعان ولا رفقاؤه استطاعوا أن يجذبوا الشبكة إلى الشاطئ، وإذ قد انعقد لسانهم من الخوف والدهشة ـ لأن الدهشة أخرستهم ـ أشاروا إلى شركائهم، أي أولئك الذين يشاركونهم في عمل الصيد، أن يأتوا ويساعدوهم للمحافظة على الصيد وعلى ما اصطادوه، لأن كثيرين قد اشتركوا مع الرسل القديسين في أتعابهم ولا يزال الأمر كذلك إلى الآن، خاصة أولئك الذين يفتشون عن معنى المكتوب في الأناجيل المقدسة، وآخرين أيضا معهم، وأعنى الرعاة والمعلمين ومدبري الشعب، المتدربين في تعليم الحق. لأن الشبكة لا تزال مطروحة بينما المسيح يقوم بملئها، وهو يدعو الذين في أعماق البحر أن يتغيروا، بحسب كلمة الكتاب، أي أولئك الذين يعيشون في تيار وأمواج الأمور العالمية.
(لوه: ۸ـ۹) ” فلما رأى سمعان بطرس ذلك خر عند ركبتي يسوع قائلا: اخرج من سفينتي يارب، لأني رجل خاطي! إذ اعترته وجميع الذين معه دهشة على صيد السمك الذي أخذوه”
لهذا السبب فإن بطرس إذ رجع بذاكرته إلى خطاياه السابقة خاف وارتعد، وإذ شعر انه غير طاهر فإنه لا يجرؤ أن يستقبل ذلك الذي هو طاهر، وخوفه هذا يستحق المدح لأنه قد تعلم من الناموس أن يميز بين المقدس والنجس.
(لو5: 12-13) ” وكان في إحدى المدن، فإذا رجل مملوء برصاً. فلما رأى يسوع خر على وجهه وطلب إليه قائلا: يا سيد، إن أردت تقدر أن تطهرني. فمد يده ولمسة قائلا: أريد، فاطهر! وللوقت ذهب عنه البرص”
ايمان الرجل الذي اقترب من يسوع يستحق كل مدیح، لأنه يشهد أن عمانوئيل يستطيع أن يتمم كل الأشياء بنجاح، ويسعى للحصول على الشفاء بأمر إلهي منه، رغم أنه يعلم أن مرضه كان عديم الشفاء؛ لأن البرص كانت تعجز أمامه مهارة الأطباء. ولكنه يقول (في نفسه): إني أرى الشياطين النجسة تطرد بسلطان إلهي، وأرى آخرين يطلقون أحرارا من أمراضهم، وأدرك أن مثل هذه الأشياء تتم بقوة إلهية لا تقهر، وإني أرى أيضا أنه صالح ومستعد تماما أن يعطف على أولئك الذين يأتون إليه، لذلك فما الذي يمنع أن يشفق علي أنا أيضا؟ وما هو جواب المسيح؟ إنه يدعم إيمانه ويعطيه تأكيدا كاملاً لإيمانه. فإنه يقبل طلبه ويعلن أنه يستطيع بقوله: “أريد فاطهر”. كما يمنحه أيضا لمسة يده القدوسة والكلية القدرة، وفي الحال تركه البرص وانتهت معاناته. تعالوا واشتركوا معي في التعجب من المسيح، إنه بذلك يعمل في نفس الوقت بقوة إلهية وجسدية معا، فأن “يريد” هذا فعل إلهي، كما أراد بالنسبة لكل شيء أن يوجد، ولكن أن “يمد يده” فهذا فعل بشري، فالمسيح يعرف بأنه واحد من اثنين كما هو مكتوب، “الكلمة صار جسدا”.
(لو5: 14) ” فأوصاه أن لا يقول لأحد. بل امض وأر نفسك للكاهن، وقدم عن تطهيرك كما أمر موسى شهادة لهم “.
رغم أن الأبرص صمت ولم يتكلم فإن حقيقة الشفاء نفسها كانت كافية أن تعلن لكل الذين عرفوه عن عظمة وقوة ذلك الذي شفاه، ولكن المسيح يوصيه ألا يقول لأحد، لماذا؟ لكي يتعلم أولئك الذين ينالون من الله موهبة الشفاء ألا يتطلعوا إلى مدح أولئك الذين شفوهم ولا إلى أي مدح من أي إنسان، لئلا يسقطوا فريسة للكبرياء الذي هو أردأ جميع الرذائل.
وهو يأمر عن قصد أن يقدم للكهنة التقدمة حسب ناموس موسى لأنه كان يرغب في الحقيقة أن يبطل الظل ويحول الرموز إلى عبادة روحية. ولأن اليهود لم يكونوا قد آمنوا به فإنهم ربطوا أنفسهم بأوامر موسى، مفترضين أن عاداتهم القديمة لا تزال قائمة، ولذلك فقد سمح هو للأبرص أن يقدم تقدمة شهادة لهم. وما هو هدفه من منح هذا التصريح للأبرص؟ السبب هو أن اليهود إذ كانوا يستخدمون احترامهم للناموس كحجة، يتذرعون بها، ويقولون إن موسى النبي كان خادما لشريعة من الأعالي فإنهم كانوا يسعون أن يعاملوا المسيح مخلصنا كلنا باحتقار، ولقد قالوا صراحة: “نحن نعلم أن موسى كلمه الله وأما هذا فما نعلم من أين هو؟” (يو 9: 29)، لذلك كان من الضروري أن يقتنعوا بواسطة الحقائق الفعلية أن مستوى موسى أقل من مجد المسيح، لأن موسى كان أمينا كخادم في بيته، وأما المسيح فكابن على بيت أبيه (عب 3: 5). إذا فمن هذا الشفاء للأبرص، يمكننا أن نرى بوضوح تام أن المسيح يفوق ناموس موسى بما لا يقارن، لأن مریم أخت موسى، هي نفسها ضربت بالبرص لأنها تكلمت ضده، وموسى تألم جدا بسبب إصابتها، ولأنه لم يكن في مقدوره أن يزيل المرض من أخته فإنه سقط بوجهه أمام الله، قائلاً: ” أتوسل إليك اللهم اشفها ” (عد 12: 13)، فلاحظوا هذا إذا أنه أولاً كان هناك توسل، لقد سعى بالصلاة أن يحصل على رحمة من فوق، أما مخلص الكل فتكلم بسلطان إلهي: ” أريد فاطهر”، لذلك فإن نزع البرص كان شهادة للكهنة لكي يعرف أولئك الذين يعطون أعلى رتبة لموسى أنهم يضلون عن الحق. فإنه كان مناسبا، بل ومناسبا جدا أن يعتبر موسى بتقدير كخادم للشريعة، وخادم للنعمة التي تكلم بها ملائكة ولكن تقديرنا لعمانوئيل يجب أن يفوق جدا تقديرنا لموسى. وكذلك المجد الذي ينبغي أن نعطيه له كابن الله الآب.
وكل من يريد أن يرى، يمكنه أن يرى سر المسيح العميق، والفائق القدرة الذي كتب لمنفعتنا في سفر اللاويين، لأن ناموس موسى يعلن أن الأبرص نجس ويأمره أن يخرج خارج المحلة كنجس، ولكن إن زال المرض منه فإن الناموس يأمر بالسماح للمريض بدخول المحلة، وبالإضافة إلى ذلك فإن الناموس يحدد بوضوح الطريقة التي تعلن بها طهارة الأبرص فيقول: ” هذه تكون شريعة الأبرص يوم تطهيره. يؤتى به إلى الكاهن، ويخرج الكاهن إلى خارج المحلة فإن رأى الكاهن وإذا ضربة البرص قد برأت من الأبرص يأمر الكاهن أن يؤخذ للمتطهر عصفوران حيان طاهران…. ويأمر الكاهن أن يذبح العصفور الواحد في إناء خزف على ماء حي، أما العصفور الحي فإنه يغمسه في دم العصفور المذبوح على الماء الحي ويرش على المتطهر من البرص سبع مرات فيطهره ثم يطلق العصفور الحي على وجه الصحراء” (لا 14: 1-7). فالعصافير إذا عددها اثنان وكلاهما بلا عيب أي طاهران، وهي بلا لوم من جهة الشريعة، ويذبح أحدهما على الماء الحي، أما الآخر إذ ينجو من الذبح، فإنه بعد ذلك يعمد في دم العصفور الذي ذبح، ثم يطلق حرا.
هذا المثل إذا يمثل لنا السر العظيم والمكرم الذي لمخلصنا، لأن الكلمة كان مـن فوق، أي من الآب، من السماء، ولهذا السبب من المناسب جدا أن يقارن بطائر، فرغم أنه نـزل لأجل تدبير الخلاص ليأخذ شكلنا أي يأخذ صورة عبد إلا أنه رغم ذلك كان من فوق، نعم فإنه حتى حينما كلم اليهود قال هكذا بوضوح ” أنتم من أسفل أمـا أنـا فمن فوق” (يو 8: 3). وأيضا “ليس أحد صعد إلى السماء إلا ابن الإنسان الذي نزل من السماء” (يو 3: 13)، فكما قلت الآن حالاً، فإنه حتى حينما صار جسدا، أي إنسانا كاملاً، لم يكن أرضيا، بل كان سماويا ويفوق الأشياء العالمية من جهة لاهوته، فيمكننـا أن نرى إذا، في العصفورين المقدمين في تطهير الأبرص، يمكننا أن نرى المسيح متألما بالجسد حسب الكتب، ولكنه يظل متعاليا على الآلام. نراه مائتا في طبيعته البشرية، ولكنه حي بطبيعته الإلهية، لأن الكلمة هو الحياة. فقد قال التلميذ الحكيم جدا: ” مماتا في الجسد ولكن محيي في الروح” (ابـط۳: ۱۸). ولكن رغم أن الكلمة لا يمكن أن يقبل آلام الموت في طبيعته الخاصة، إلا أنه ينسب إلى نفسه ما تألم به جسده، العصفور الحي اعتمد في دم العصفور الميت، وهكذا اصطبغ بالدم، وإذ صـار مـشتركا فـي الآلام، فإنه أطلق حرا إلى الصحراء، وهكذا أيضا رجع كلمة الله الوحيد إلى السماء مع الجسد الذي اتحد به. وكان منظرا غريبا جدا في السماء وجموع الملائكة دهشت حينما رأت ملك الأرض ورب القدرة مثلنا في الشكل وقالوا ” من ذا الآتي من أدوم ” ـ ويعنون بذلك الأرض ـ “بثياب حمر من بصرة” (إش 63: 1)، وتفسير لفظة بـصرة هو جسد. ثم سألوه ما هذه الجروح في يديك؟ فأجاب ” هي التي جرحت بها في بيت أحبائي” (زك 13: 6). فكما أنه بعد عودته إلى الحياة من الموت حينمـا كـشف بقـصـد حكيم، يديه لتوما، أمره أن يلمس آثار المسامير، والفتحة التي في جنبه، هكذا أيضا حينما وصل إلى السماء، أعطى برهانا كاملاً للملائكة القديسين أن إسرائيل قد طـرد بعدل ولم يعد شعبه. لهذا السبب أراهم ثيابه المصبوغة بالدم، والجروح في يديه، ليس لأنه لا يستطيع أن يلاشي الجروح، لأنه حينما قام من الأموات أبطل الفساد وأبطـل معه كل علاماته وصفاته. لذلك احتفظ بآثار الجروح لكي تعلن حكمـة الله المتنوعـة التي صنعها في المسيح فتعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين بواسطة الكنيسة بحسب خطة الخلاص.
ولكن ربما يسأل أحد ويقول، كيف تستطيع أن تؤكد إن يسوع المسيح هو نفسه الابن والرب والوحيد بينما هناك عصفوران قد قدما؟ ويضيف أيضا، ألا يوضح الناموس بهذا أنه يوجد ابنان ومسيحان؟ نعم إن بعض الناس قد وصلوا إلى مثل هذه الهوة من عدم التقوى بأن يفكروا وأن يقولوا إن كلمة الله الآب هو مسيح واحد بمفرده، وأن ذلك الذي جاء من نسل داود هو مسيح آخر. ولكننا نجيب أولئك الذين يتصورون بجهلهم الأمور هكذا، بما كتبه بولس الإلهي: ” رب واحد، ایمان واحد، معمودية واحدة” (أف 4: 5). لذلك إن كانوا يؤكدون أنه يوجد ابنان فبالضرورة يكون هناك ربان، وإيمانان، ومعموديتان. لذلك رغم أنه، أي بولس يملك المسيح متكلما فيه كما يؤكد هو نفسه فمع ذلك يصير تعليمه خاطئا، لكن هذا لا يمكن أن يكون بالمرة! لذلك فنحن نعترف برب واحد هو كلمة الله الوحيد المتجسد، غیر فاصلین بین الناسوت واللاهوت، بل نؤكد بالخلاص أن كلمة الله الآب صار هو إنسانا في الوقت الذي فيه استمر إلها.
وبعد ذلك لندع أصحاب الرأي المضاد أن يتكلموا قائلين “إن كان هناك ابنان، واحد من نسل داود والآخر منفصل عنه هو كلمة الله الآب، ألا يكون كلمة الله الآب أعلى في طبيعته من ذلك الذي جاء من نسل داود؟ فماذا نفعل إذا، ونحن نرى العصفورين غير مختلفين في الطبيعة الواحد عن الآخر؟ بل العكس هما من نفس النوع ولا يختلفان في أي نقطة أحدهما عن الآخر”. ولكن هؤلاء لا يربحون شيئا بمجادلتهم هذه لأنه يوجد فرق عظيم جدا بين اللاهوت والناسوت وحينما نشرح الأمثلة، ينبغي أن نفهمها بحسب تشابهها المناسب، لأن الأمثلة قاصرة تماما عن مستوى الحق. وهي عادة تعطي توضيحا جزئيا للأشياء التي تشير إليها. وفوق ذلك نقول، إن الناموس كان نوعا من الظل والمثال، ورسم يضع الأشياء أمام عيني الناظرين. ولكن في الفن التصويري تكون الظلال هي أساس الألوان وحينما توضع درجات الألوان الساطعة على الظلال، فحينئذ يلمع جمال الرسم، وبنفس الطريقة حيث أنه كان مناسبا لناموس موسى أن يخطط لسر المسيح بوضوح، فإن الناموس لا يظهر كميت وكحي في نفس العصفور الواحد لئلا إذا حدث ذلك يكون له شكل شعوذة مسرحية، ولكنه أشار إليه كمتألم مذبوح في أحد العصفورين وأظهر في العصفور الآخر المسيح كحي ومطلق حرا.
ولكني سأحاول أن أبين أن ما أناقشه هنا لا يخرج عن حدود الاحتمال المعقول بواسطة قصة أخرى، لأنه لو أراد أحد من جماعتنا أن يرى تاريخ إبراهيم موضحا في رسم فكيف يرسمه الفنان، هل يرسمه وهو يعمل الأشياء مرة واحدة؟ أم أنه پرسمه في صور متتابعة وهو يعمل أعمالاً مختلفة في عدة صور رغم أن الذي يعمل كل الأعمال المختلفة هو شخص واحد. فأنا أعني أن يرسمه مثلاً مرة وهو جالس على الحمار وإسحق يسير مرافقا له والغلمان يتبعونهما، ثم في مرة أخرى يرسم الحمار متروكا مع الغلمان وإسحق يحمل الحطب وإبراهيم نفسه يحمل السكين والنار في يديه. وفي جزء آخر يرسم إبراهيم نفسه في موقف مختلف تماما. إذ يكون إسحق مربوطا فوق الحطب وإبراهيم يمسك السكين بيده اليمني مستعدا أن يذبحه، ولكن في كل هذه الرسوم لا يكون غير إبراهيم واحد رغم أنه يمثل بأشكال مختلفة في الرسم، ولكنه هو واحد وهو نفس الشخص في كل الرسوم إذ أن فن الرسام يتكيف بحسب ما تحتاجه الأمور المطلوب توضيحها في الرسم، لأن من المستحيل أن نراه في رسم واحد يعمل الأعمال المذكورة سابقا، لذلك هكذا الناموس أيضا كان رسما ومثالاً لحقائق آتية. ولذلك فرغم أنه كان هناك عصفوران، إلا أن الذي كان يشير إليه العصفوران هو واحد فقط، كمتألم وكحر من الألم، كمائت وكمن هو فوق الموت، وصاعد إلى السماء كباكورة ثانية للطبيعة البشرية المتحدة في عدم فساد، لأنه صنع لنا طريقا جديدا إلى ما هو فوق، ونحن سنتبعه حينما يحين الوقت. فذبح أحد العصفورين بينما العصفور الآخر يعتمد في دم المذبوح ويظل هو حرا من الذبح، كان هذا إشارة إلى ما سيحدث حقيقة لأن المسيح مات لأجلنا، ونحن الذين اعتمدنا في موته، قد خلصنا بدم نفسه.
(لو5: 17) ” وفي أحد الأيام كان يعلم، وكان فريسيون ومعلمون للناموس جالسين وهم قد أتوا من كل قرية من الجليل واليهودية وأورشليم. وكانت قوة الرب لشفائهم .”
كان يحيط به مجموعة من الكتبة الحاقدين ومن الفريسيين، هؤلاء جميعا كانوا يشاهدون أعماله العجيبة، وكانوا أيضا يستمعون إليه وهو يعلم. ويقول الإنجيل إن قوة الرب كانت حاضرة لشفائهم. فهل معنى هذا الكلام هو كما لو أن الله أعطاه القدرة أن يعمل المعجزات؟ أي هل استعار القوة من آخر؟ ولكن من الذي يتجاسر أن يقول هذا الكلام؟
إنه هو بالحرى الذي كان يعمل بقوته الخاصة، كان يعمل كإله ورب وليس كشخص يشترك في نعمة إلهية. لأن الناس في الحقيقة هم الناس حتى بعد أن يحسبوا أهلاً للمواهب الروحية، إلا أنه يتضح أحيانا أنهم ضعفاء، وذلك بحسب القياس المعروف الله الذي يوزع النعم الإلهية. أما في حالة مخلصنا كلنا فلم يكن هناك شيء من ذلك، فإن قوته للشفاء لم تكن قوة بشرية، بل هو قوة إلهية فائقة لا تقاوم، لأنه هو الله وهو ابن الله.
المسيح وحده هو الذي يعلم لأنه هو المعلم الحقيقي، وهو حكمة الآب، لأن جميع الباقين يعلمون بمقدار ما ينالون منه، ويقول الإنجيل إن قوة الرب كانت حاضرة لشفاء الكل، وهذا معناه أن قوته القادرة على الشفاء لم تكن بشرية بل قوة إلهية لا تضعف، لأن بقية القديسين ينالون قوة لعمل الشفاء في وقت معين، بينما في أوقات أخرى لا ينالون هذه القوة. أما يسوع فإذ هو الله وهو قوة الأب فإنه شفى الجميع في كل الأوقات.
(لو5: 18-20) ” وإذا برجال يحملون على فراش إنسانا مفلوجاً، وكانوا يطلبون أن يدخلوا به ويضعوه أمامه. ولما لم يجدوا من أين يدخلون به لسبب الجمع، صعدوا على السطح ودلوه مع الفراش من بين الأجر إلى الوسط قدام يسوع. فلما رأى إيمانهم قال له: أيها الإنسان، مغفورة لك خطاياك”
حينما كان عدد غير قليل، كما يقول الإنجيل، من الكتبة والفريسين مجتمعين إذا برجال يحملون إنسان مشلولاً على فراش ولأنهم لم يستطيعوا أن يدخلوا من الباب صعدوا به على السطح ليحاولوا أن يعملوا أمرا غريبا وجديدا. فإذ رفعوا الأجر، فإنهم أزالوا الخشب الموضوع هناك. وبينما كانوا يفعلون هذا كان يسوع ينتظر بصبر والحاضرين كانوا صامتين ينتظرون نتيجة ما حدث، ويرغبون أن يروا ما الذي سيقوله يسوع وماذا سيفعل، لذلك إذ كشفوا- السقف فإنهم أنزلوا الفراش ووضعوا المشلول في الوسط فماذا فعل الرب بعد ذلك؟ إنه لما رأى إيمانهم، ليس إيمان المشلول، بل إيمان الحاملين لأنه من الممكن أن يشفى الإنسان بواسطة إيمان آخرين، أو ربما أن الرب لاحظ أيضا أن المفلوج نفسه له إيمان ولذلك شفاه، وأيضا من المحتمل أن يكون المكان الذي أنزلوا منه فراش المفلوج بين الأجر كان مفتوحا على الهواء حتى أنهم لم يحتاجوا أن يكسروا السقف. ولكن حينما يقول له المخلص ” أيها الإنسان مغفورة لك خطاياك”، فإنه يوجه هذا الكلام للجنس البشري عموما. لأن أولئك الذين يؤمنون به إذ ينالون الشفاء من أمراض النفس فإنهم يحصلون على غفران الخطايا التي ارتكبوها سابقا. أو ربما يقصد هذا: أني ينبغي أن أشفى نفسك قبل أن أشفى جسدك، لأنه إن لم يحدث ذلك، فإنك بحصولك على قدرة المشي يمكن أن تفعل خطية أكثر، وحتى إن كنت لم تطلب هذا ولكنني أنا كإله أرى أمراض النفس التي جلبت عليك هذا المرض.
والآن إذ اجتمع عدد كبير من الكتبة والفريسيين فلابد أن تجرى معجزة إلهية لأجل منفعتهم، وبسبب الازدراء الذي كانوا ينظرون به إليه فان المخلص فعل حسنا إذ صنع من أجلهم عملاً عجيبا جدا، لأنه كان هناك رجل ممددا على فراش يعاني من مرض لا شفاء له ولأن مهارة الأطباء أثبتت عدم نفعها بالمرة، فقد حمله أقرباؤه إلى الطبيب الذي من فوق، من السماء، وحينما أصبح في حضرة ذلك الذي له القدرة على الشفاء فإنه إيمانه صار مقبولاً، وقد أظهر المسيح في الحال أن ذلك الإيمان يمكن أن يلاشي الخطية، لأنه يبشره وهو موضوع هناك قائلاً ” مغفورة لك خطاياك”، ولكن ربما يقول واحد إن ما كان يريده الرجل هو أن يتحرر من مرضه، فلماذا إذا يعلن له المسيح غفران خطاياه؟ لقد حدث هكذا لكي تتعلم أن الله يرى أحوال الناس في سكون وبدون ضوضاء ويراقب سيرة حياة كل واحد، لأنه مكتوب “طرق الإنسان أمام عيني الرب، وهو يزن كل سبله” (أم 5: 21). ولأن الله صالح ويريد خلاص جميع الناس فإنه كثيرا ما يطهر أولئك الذين ارتكبوا الخطايا بأن يصيبهم بمرض في جسدهم لأنه هكذا يقول بصوت إرميا ” يا أورشليم سوف تتعلمين بالتعب والضرب” (إر6: 8 س). وأيضا كاتب سفر الأمثال يقول ” يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخر حينما يوبخك لأن الذي يحبه الرب يؤدبه. ويجلد كل ابن يقبله” (أم 3: 11 ، 12 س، انظر عب 12: 5 ، 6). حسنا إذا يعلم المسيح أنه سيقطع سبب المرض وجذر المعاناة وأعني به الخطية، لأنه إذا أزيلت هذه فبالضرورة فإن المرض الناتج عنها يتلاشى في نفس الوقت.
(لو5: 21-23) ” فابتدأ الكتبة والفريسيون يفكرون قائلين من هذا الذي يتكلم بتجاديف؟ من يقدر أن يغفر خطايا إلا الله وحده؟ فشعر يسوع بأفكارهم، وأجاب وقال لهـم مـاذا تفكرون في قلوبكم؟ أيما أيسر: أن يقال: مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال: قم وامش؟ “.
فيسوع إذ كان مملوءا بسلطان إلهي على غفران الخطايا، ولكن هذا الإعلان يسبب اضطرابا لعصبة الفريسيين الجاهلة الحقودة… لأنهم قالوا بعضهم لبعض: ” من هذا الذي يتكلم بتجاديف؟” ولكنك أيها الفريسي لو كنت تعرف الكتب الإلهية لما قلت هذا عنه، ولو وضعت في عقلك كلمات النبوة، لفهمت سر التجسد الممجد المملوء قوة، ولكنهم الآن ينسبون إليه التجديف، ويجدون ضده أقصى عقوبة ويحكمون عليه بالموت، لان ناموس موسى يأمر أن من جدَّف على اسم الرب ينبغي أن يموت. (انظر لا 24: 16). ولكن حالما يصلون إلى قمة جسارتهم فإنه يظهر أنه هو الله ليوبخهم مرة أخرى على عدم تقواهم الفظيع. لأنه قال لهم ” ماذا تفكرون في قلوبكم؟” لذلك فإن كنت أيها الفريسي تقول، من يستطيع أن يغفر الخطايا إلا الله وحده، فإني أقول لك أيضا من يقدر أن يعرف القلوب ويرى الأفكار المختفية في أعماق العقل إلا الله وحده؟ لأنه هو نفسه يقول في موضع آخر بصوت الأنبياء ” أنا الرب فاحص القلوب ومختبر الكلي” (إر 17: 10)، ويقول داود أيضا ” المصور قلوبهم جميعا” (مز 33: 15)، لذلك فالذي هو كاله يعرف القلوب والكلي فهو كإله أيضا يغفر الخطايا.
(لو5: 24) ” ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا، قال للمفلوج: لك أقول: قم واحمل فراشك واذهب إلى بيتك!”.
ولكن لأنه كان لا يزال هناك مجال مفتوح لعدم الإيمان في قوله ” مغفورة لك خطاياك”، لأن الإنسان لا ينظر الخطايا المغفورة بعيني الجسد، بينما إزالة المرض وقيام المشلول ومشيه كل هذه تحمل معها برهانا ظاهرا على القوة الإلهية، لذلك أضاف يسوع ” قم واحمل فراشك واذهب إلى بيتك”، وهذا قد تم ورجع الرجل إلى بيته متجررا من المرض الذي عاني منه طويلاً، لذلك فقد تبرهن بالحقيقة الفعلية أن ابن الإنسان له سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا. ولكن عن من يقول هذا؟ هل عن نفسه أم عنا نحن أيضا؟ كلا الأمرين صحيح، لأنه هو يغفر الخطايا لكونه الإله المتجسد، رب الناموس، ونحن أيضا قد نلنا منه هذه النعمة العظيمة والعجيبة جدا، لأنه قد توج طبيعة الإنسان بهذه الكرامة العظيمة أيضا، إذ قال للرسل القديسين ” الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء” (مت 18: 18)، وأيضا ” من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت” (يو 20: 23). وما هي المناسبة التي تجده يتكلم فيها هكذا إلى الرسل؟ لقد حدث هذا بعدما داس على قوة الموت، وقام من الموت، حينما نفخ فيهم وقال ” اقبلوا الروح القدس” (يو 20: 22)، لأنه إذ قد جعلهم شركاء طبيعته، ومنحهم سكني الروح القدس، فإنه جعلهم أيضا مشاركين في مجده، بإعطائهم للقوة أن يحلوا ويمسكوا الخطايا. وكما أننا قد أمرنا منه أن نمارس هذا العمل، فكيف لا يغفر هو نفسه الخطايا بالحرى بينما هو يعطى الآخرين السلطان الذي يمكنهم أن يفعلوا هذا؟
(لو 5: 27-29) ” وبعد هذا خرج فنظر عشاراً اسمه لاوي جالسا عند مكان الجباية، فقال له:اتبعني. فترك كل شيء وقام وتبعه. وصنع له لاوي ضيافة كبيرة في بيته. والذين كانوا متكئين معهم كانوا جمعاً كثيرا من عشارين وآخرين “.
كان لاوي عشارا، إنسانا لا يشبع من الربح القبيح ولا من الطمع الفاحش، وفي سعيه وراء ما ليس له كان يهمل العدل، فهذه كانت هي خصائص العشارين. ولكنه أنتزع من صميم معمل الإثم، وخلص بدعوة المسيح مخلصنا جميعا، لأنه قال له، اتبعني فترك كل شيء وتبعه. انظر بولس الحكيم جدا يقول بحق إن ” المسيح جاء ليخلص الخطاة” (اتي1: 15)، ألا تنظر كلمة الله الوحيد إذ قد أخذ الجسد، كيف نقل إلى نفسه أمتعة إبليس؟
العظتان (21، 22)
” أم كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوى وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولا، وحينئذ ينهب بيته؟” (مت 12: 29)، فالمقصود ببيت القوي أي الشيطان هو بلدته على الأرض، أما أمتعته فهي أولئك الذين يفكرون مثله، فإنه كما أننا ندعو القديسين أواني مقدسة، هكذا فليس هناك ما يمنع أن تسمي أولئك الذين يرتكبون كل الشرور (بأواني الشيطان أو أمتعته)، لذلك فكلمة الله الوحيد دخل عند تجسده إلى بيت القوي، أي إلى هذا العالم، وهكذا نهب أمتعته.
ولاوي خلص حقا، وتوبة لاوي توحي لنا نحن برجاء سعيد لأننا من هذه الحقيقة نتعلم أن التوبة تخلص، نعم وأكثر من ذلك، فإن الله نفسه الذي هو رب الكل سيكون ضمانتنا الأكيدة، حيث يقول بصوت النبي “التفتوا إلي واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض” (إش 45: 22).
أي واحد منكم له مئة خروف وضل واحد منها أفلا يترك التسعة والتسعين على الجبال ويذهب يطلب الضال؟ وإن اتفق أن يجده فالحق أقول لكم إنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل. لأن جمهور الكائنات العاقلة التي تشكل قطيع المسيح في السماء وعلى الأرض، هذا الجمهور لا يعد، وهو عظيم جدا حتى أنه يصل إلى عدد كامل. لأن هذا ما يشير إليه بتعبير مئة فجموع الملائكة القديسين هم التسعة والتسعين، لأني كما قلت هم كثيرون، أما القطيع على الأرض فهو واحد، ولكن من النافع أن يكمل العدد، ولذلك يبحث عنه المسيح، فهل بحث عنه إذا كمن كان ضالاً، أم أنه لم يكن قد وصل إلى هذا؟ ولكن من الواضح أن ما يبحث عنه هو الذي ضل. باي طريقة إذا قد ضل وفقد؟ بسقوطه في الخطية، وبابتعاده عن المشيئة الإلهية وضلاله عن الراعي الشامل.
ولكن كل هذه الأشياء لم تؤثر في الفريسيين، بل بالعكس فإنهم يلومون التلاميذ، فاسمع المكتوب:
(لو5: 30-31) ” فتذمر كتبتهم والفريسيون على تلاميذه قائلين: لماذا تأكلون وتشربون مع عشارين وخطاة؟ فأجاب يسوع وقال لهم: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى “.
هناك بعض الناس يحاولون أن يحرموا الخطاة من الرحمة الإلهية، لأنهم لا يسمحون بالتوبة، وكأنهم يوبخون المخلص لبحثه عن خاصته، وسعيه أن يجمعهم من كل ناحية تشتتوا فيها. ولهؤلاء نقول: إن الفريسيين يقدمون لكم مثال التذمر حينما رأوا لاوي يدعى من الرب وجمهور من العشارين مجتمعين معا في وليمة مع المسيح مخلصنا جميعا، فتوجهوا إلى الرسل القديسين يلومونهم قائلين: لماذا تأكلون وتشربون مع العشارين؟ ولكنهم تلقوا الجواب: ” لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب”، لأن مخلص الكل، لكونه طبيب الأرواح، فإنه لا يتخلى عن أولئك الذين هم في حاجة إليه، بل لأنه يستطيع أن يطهرهم، فإنه يقصد أن يتحدث مع أولئك الذين لم يتطهروا بعد من خطاياهم. ولكن دعنا نرى أيها الفريسي، كبرياءك المفرط، فدعنا نتخذ المسيح نفسه، الذي كل الأشياء مكشوفة أمامه، نتخذه كشارح وموضح للوم الكبير الذي تجلبه على نفسك بمعاملتك المتغطرسة للخطاة. فقد تحدث السيد عن فريسي يتباهى بنفسه وهو يصلي وعن عشار يدين نفسه. فقال الرب: ” الحق أقول لك أن هذا (أي العشار) نزل إلى بيته مبررا أكثر من ذلك الفريسي”. لذلك فالعشار الذي اعترف بخطيته تبرر أفضل من الفريسي المتعالي.
ولكن لأي سبب يلوم الفريسيون المخلص لأكله مع الخطاة؟ هم يلومونه بسبب أن الناموس يفصل بين ما هو مقدس وما هو نجس، أي أن كل شيء مقدس لا ينبغي أن يتصل بالأشياء النجسة، فقد وجهوا الإتهام على اعتبار أنهم يدافعون عن الناموس. ولكن في الحقيقة كان عندهم حسد للرب وكانوا يتصيدون له الأخطاء. ولكنه يبين لهم أنه في حضوره الآن في العالم لم يأت كقاض بل كطبيب، ويعمل ما يجب على الطبيب أن يقوم به، بأن يختلط بأولئك الذين هم في حاجة إلى الشفاء. ولكنهم بمجرد أن سمعوا ردا وتوضيحا على اتهامهم الأول، قدموا اتهاما آخر بسبب أن تلاميذ الرب لم يكونوا يصومون قاصدين أن يجدوا فرصة ضدهم.
(لو5: 33) ” وقالوا له: لماذا يصوم تلاميذ يوحنا كثيرا ويقدمون طلبات، وكذلك تلاميذ الفريسيين أيضا، وأما تلاميذك فيأكلون ويشربون؟”.
ولكن انظروا استمرارهم في الخبث، فبعد أن رد الرب على اتهامهم الأول، فإنهم غيروا الحديث إلى موضوع آخر راغبين أن يجدوا فرصة لاتهام التلاميذ القديسين، بل ويسوع نفسه بإهمال الناموس. ولكنه يجيبهم بأنه يوجد هنا الآن عرس، فهو زمان الدعوة، زمان الكرازة، والأطفال تتم تربيتهم، وأولئك الذين تتم دعوتهم يتغذون باللبن، فالصوم ليس مناسبا لهم. وهم يقولون، نعم أنتم تأكلون مع العشارين والخطاة، رغم أن الناموس يأمر أن الطاهر لا ينبغي أن يتصل بالنجس، وحجتك في تعدي الناموس هي محبتك للبشر، ويقولون لماذا لا تصومون حسب عادة الأبرار وأولئك الذين يرغبون أن يعيشوا حسب الناموس؟ وجوابا على مثل هذه الاعتراضات يمكن أن نقول، أيها اليهودي هل أنت تفهم وتعرف الطريقة السليمة للصوم؟ لأنه كما يقول إشعياء النبي: ” في أيام صومكم توجدون مشيئتكم الخاصة، وبكل أشغالكم تسخرون، ها أنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمة الشر، لماذا تصومون لي؟ ليس هذا هو الصوم الذي أختاره يقول الرب” (إش 58: 3-5 س). فإن كنتم أنتم أنفسكم لا تعرفون كيف تصومون، فلماذا تلومون الرسل القديسين على عدم صومهم حسب طريقتكم؟
ولننظر الموضوع في ضوء آخر، وذلك في حالة أولئك الذين صاروا حكماء اسطة العهد الجديد في المسيح، فهؤلاء يصومون بحكمة، أي بتذليل أنفسهم أمام عيني الله، وبأن يضعوا على أنفسهم تعبا إراديا وصوما عن الطعام، وذلك لكي يتمموا التوبة عن خطاياهم، أو لكي يربحوا موهبة روحية جديدة، أو حتى لكي يميتوا ناموس الخطية الذي في أعضائهم الجسدية.
ولكن هذا النوع من الصوم تجهله أنت أيها الفريسي! لأنك قد رفضت أن تقبل العريس السماوي الذي هو غارس ومعلم كل فضيلة، أي المسيح. وأيضا فإن القديسين يصومون لكي يخضعوا شهوات الجسد بإرهاقه. أما المسيح فلم يكن محتاجا أن يصوم لكي يكمل الفضيلة، لأنه كإله كان حرا من كل شهوة، ورفاقه لأنهم نالوا من نعمته صاروا أقوياء وأكملوا الفضيلة حتى بدون صوم. ورغم أنه صام أربعين يوما فهو لم يفعل هذا ليميت أي شهوات في نفسه، بل ليضع مثالاً للبشر في سلوكه بقانون الصوم والإمساك، لذلك فهو يدافع عن نفسه حسنا بالكلمات التي يسجلها البشير بعد ذلك.
(لو 5: 34) “فقال لهم: أتقدرون أن تجعلوا بني العرس يصومون ما دام العريس معهم؟ “.
أرجو أن تلاحظوا الطريقة التي بها يوضح المسيح أنهم لم يكن لهم أي اشتراك في الفرح والعيد، بل هم غرباء تماما عن الشعور بأي فرح من جهته وليس لهم شركة في عيد العالم العظيم. لأن ظهور مخلصنا للعالم لم يكن شيئا أقل من عيد شامل قد وحد فيه نفسه روحيا مع طبيعة الإنسان، لكي تكون كأنها عروس له، لكي بعد أن كانت عقيمة لمدة طويلة تصير مثمرة، ومباركة بأولاد كثيرين. لذلك فالجميع هم أبناء العرس الذين دعاهم برسالة الإنجيل الجديدة. أما الكتبة والفريسيون فلم يكونوا من بني العرس لأنهم ربطوا أنفسهم فقط بظل الناموس وحده. ولكن كما أنه أذن مرة لأبناء العرس أن يتعبوا أنفسهم بالصوم كامتياز مناسب للوقت لأنهم كانوا يحتفلون بعيد روحاني، فإنه لكي لا يكون الصوم مرفوضا كلية عندنا فإنه يضيف كلاما مناسبا جدا قائلاً:
(لو5: 35) ” ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم، فحينئذ يصومون في تلك الأيام “.
لأن الأشياء تكون صالحة في وقتها المناسب. ولكن ما معنى أن يرفع العريس عنهم؟ المقصود هو ارتفاعه إلى السماء.
(لو5: 36، 37) ” وقال لهم أيضا مثلا: ليس أحذ يضع رقعة من ثوب جديد على ثوب عتيق. وإلا فالجديد يشقة، والعتيق لا توافقه الرقعة التي من الجديد. وليس أحد يجعل خمراً جديدة في زقاق عتيقة لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق، فهي تُهرق والزقاق تتلف “.
الأشياء التي يؤسسها المسيح لا يستطيع أن يقبلها أولئك الذين يعيشون حسب الناموس ولا تدخل في قلوب من لم ينالوا التجديد بعد بواسطة الروح القدس، وهذا يوضحه الرب بقوله “إن رقعة جديدة لا يمكن أن توضع على ثوب عتيق، ولا تستطيع الزقاق القديمة أن تحتمل الخمر الجديد”. لأن العهد الأول قد شاخ، وهو لم يكن بلا عيب، لذلك فأولئك الذين يتمسكون به ويمسكون بالوصية التي عتقت ليس لهم نصيب في عهد المسيح الجديد. “لأنه فيه (المسيح) كل الأشياء صارت جديدة” (2کو 5: 17). ولكن عقلهم إذ قد فسد فليس لهم أي انسجام ولا أي نقطة اتفاق مع خدام العهد الجديد، وإله الكل يقول في موضع ما بواسطة أحد الأنبياء القديسين: ” وأعطيكم قلبا جديدا وأجعل روحا جديدة في داخلكم” (حز 36: 26).
وداود أيضا يرنم ” قلبا نقيا أخلق في يا الله، وروحا مستقيما جدد في داخلي” (مز 50: 10 س).
ونحن قد أمرنا أن نخلع الإنسان العتيق، وأن نلبس الإنسان الجديد الذي يتجدد حسب صورة خالقه (انظر کو 3: 9). وبولس أيضا يعطي نصيحة قائلاً: ” لا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيروا بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة” (رو 12: 2). لذلك فأولئك الذين لم ينالوا تجديد الروح بعد، لا يستطيعون أن يختبروا إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة.
” وليس أحد يجعل حمرا جديدة في زقاق عتيقة “.
إذا فقلب اليهود هو زقاق عتيق، ولذلك لا يستطيع أن يحفظ الخمر الجديدة التـي هي وصية الإنجيل المخلصة ” التي تفرح قلب الإنسان”. ولكن المسيح قد ملأنا بهـذه البركات العظيمة بمنحه إيانا مواهب روحية بسخاء، وقد فتح لنا الطريق واسعا إلـى كل فضيلة.
تفسير إنجيل لوقا – 4 | إنجيل لوقا – 5 | تفسير إنجيل لوقا | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل لوقا – 6 |
القديس كيرلس الكبير | ||||
تفاسير إنجيل لوقا – 5 | تفاسير إنجيل لوقا | تفاسير العهد الجديد |