تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 6 للقديس كيرلس الكبير

الأصحاح السادس

(لو6 : 1-2) ” وفي السبت الثاني بعد الأول اجتاز بين الزروع. وكان تلاميذه يقطفـون السنابل ويأكلون وهم يفركونها بأيديهم. فقال لهم قوم من الفريسيين: لماذا تفعلون ما لا يحل فعله في السبوت؟ “.

إن الله وعد بعهد جديد إذ أن العهد الأول “عتق وشاخ وهو قريب من الاضمحلال” حسب كلمات بولس الإلهي (عب 8: 13). نعم إنه يقول بواسطة أحد الأنبياء القديسين ” ها أيام تأتي يقول الرب حين أكمل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهذا جديدا، لا كالعهد الذي عملته مع آبائهم، يوم مع آبائهم، يوم أمسكت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر” (إر31: 31 ، 32 س). فإن كان العهد الجديد هو الثاني ويختلف عن الأول، فإنه تكون هناك كل الضرورة بالنسبة لأولئك الذين يريدون أن يعيشوا حسب العهد الجديد، أن يتخلوا عن النواميس القديمة وينسجموا مع تلك التي تقودهم إلى جدة حياة الإنجيل. ولكننا يمكن أن نرى أن كل هذا لا يفهم منه الكتبة والفريسيون شيئا، ولكونهم معدمين تماما من معرفة الكتب المقدسة، فلم يكن لديهم سوى غرض واحد، وهو أن يجدوا في كل فرصة لوما على الكرازة الإلهية السماوية. فهم لذلك يراقبون الرسل القديسين في ملازمتهم واتباعهم لمخلصنا جميعا، ويخبرونه عنهم قائلين: ها نحن نرى أولئك الذين يتتلمذون تحت يديك، يفعلون ضد تعاليم الناموس، لأنهم يفعلون ما لا يحل فعله في السبوت، فبينما يوصى الناموس الناس ألأ يعملوا عملاً في يوم السبت، ولا يتدخلوا في أي عمل كان، فإن التلاميذ يفركون سنابل القمح بأيديهم.

ولكن أخبرني أنت نفسك، ألست تكسر الخبز حينما تجلس للأكل يوم السبت؟ فلماذا إذا تلوم الآخرين، ولكن لكي نستعمل ضدهم متراس كلمات المخلص فلننصت. 

 

 

من عظة (23)

ولكن الله يقول: ” إني أريد رحمة لا ذبيحة، معرفة الله أكثر من محرقات” (هو6: 6). ما هو المقصود برحمة؟ والمقصود بذبيحة؟ إن رحمة تشير إلى التبرير والنعمة في المسيح التي هي بواسطة الإيمان، لأننا تبررنا ليس بأعمال الناموس التي عملناها، بل برحمته العظيمة. والذبيحة تعني ناموس موسى.

(لو 6: 6 ـ 8) ” وفي سبت آخر دخل المجمع وصار يعلم. وكان هناك رجل يده اليمنـى يابسة، وكان الكتبة والفريسيون يراقبونه هل يشفي في السبت، لكي يجدوا عليه شكاية. أما هو فعلم أفكارهم، وقال للرجل الذي يده يابسة: قُم وقف في الوسط. فقام ووقف .

كان تعليمه عن أشياء سامية للعقل، وما يجعل طريق الخلاص الذي انفتح بواسطته واضحا لسامعيه، وفي الحال بعد تعليمه أظهر قوته الإلهية بعد أن مهد بالكلمات الطريق إلى الإيمان. لأن المعجزة أحيانا تحول إلى الإيمان أولئك الذين لم يؤمنوا بالكلمة، ولكن الفريسيين كانوا يراقبونه ليروا إن كان سيشفي في السبت، فإن هذه هي طبيعة الإنسان الحسود، أنه يجعل حسنات الآخرين طعاما لمرضه، ويكاد يصاب بجنون بسبب شهرتهم. فماذا قال عن هذا، ذلك الذي يعرف كل الأشياء، ويفحص القلوب وما هو في الأعماق؟ لأن “عنده يسكن النور” كما يقول الكتاب (دا 2: 22). تكلم الرب إلى الرجل الذي يده يابسة وقال قم وقف في الوسط. ولماذا فعل هذا؟ ربما لكي يحرك الفريسي القاسي الذي لا يشفق نحو العطف والشفقة، فربما يخجلهم مرض ذلك الرجل، ويستحثهم أن يبعدوا نيران الحسد. 

(لو 6: 9 ، 10) ثم قال لهم يسوع: أسألكم شيئا: هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر؟ تخليص نفس أو إهلاكها؟. ثم نظر حوله إلى جميعهم وقال للرجل: مد يدك. ففعـل هكذا. فعادت يده صحيحة كالأخرى “.

هذا السؤال الذي سأله الرب هو في الحقيقة حكيم جدا. وهو مناسب جدا لمواجهة حماقتهم، لأنه إن كان يحل فعل الخير في السبت، وليس هناك ما يمنع أن يشفق الله على المريض، فكفوا إذا عن تصيد الفرص لتجدوا شيئا ضد المسيح. فإنكم بذلك تنزلون على رؤوسكم العقاب الذي قرره الآب على أولئك الذين لا يكرمون الابن، لأنكم قد سمعتم الله يقول عن الابن بصوت داود وسأقطع أعداءه من أمام وجهه، وأضرب أولئك الذين يبغضونه” (مز 89: 3). ولكن إن كان لا يحل فعل الخير في السبت، وإن كان الناموس يمنع تخليص النفس، فقد جعلتم أنفسكم ديانين للناموس، وصرتم مفترين على الوصية التي من أجلها تستحق خدمة موسى الإعجاب. إن الرب يجيب قائلاً لا، إن إله الكل لم يوص بناموس السبت لأجل نفسه، بل بالحرى لأجلنا نحن الذين انحنت رقابنا تحته. أنتم تقولون حسنا نحن نوافق على كلماتك، لذلك فإن ما هو إلهي يكون حرا من إجبار الناموس.

فلماذا إذا تلومون المسيح لأنه أراد أن يظهر رحمة في السبت وينقذ نفسنا حية؟ وإن أردنا أن نفحص بدقة الناموس الموضوع بخصوص السبت، فسنجد أنه موضوع من الله لأجل أغراض الرحمة. لأنه أمر ألا نعمل عملاً في السبت ونترك كل مجهود، بل وحتى الحيوانات غير العاقلة يجب أن تستريح في نفس الوقت. لأنه قال: أن يستريح عبدك، وأمتك، وثورك، وحمارك وكل بهائمك (انظر تث 5: 4). ولكن الذي عنده رحمة على الثور والحيوانات الأخرى كيف لا يشفق في السبت على إنسان مصاب بمرض شديد غير قابل للشفاء؟

(لو 6: 11) “فامتلأوا حمقا وصاروا يتكالمون فيما بينهم ماذا يفعلون بيسوع “.

ألم تكن المعجزة كافية لكي تنتج إيمانا؟ أنتم ترونه يعمل بكرامة إلهية، ويشفي المرض بقوة عظيمة، أما أنتم فتشتغلون بالقتل الناتج عن حسدكم وشركم.

(لو 6: 12) “وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي وقضى الليل كله في الصلاة لله”.

كل ما فعله المسيح، فعله لأجل بنياننا، ولأجل منفعة أولئك الذين يؤمنون به، وعن طريق تعريفنا بسلوكه الخاص كنموذج للحياة الروحية، فإنه جعلنا عابدين حقيقيين، لذلك دعنا نرى في النموذج والمثال الذي تزودنا به أعمال المسيح، نرى الطريقة التي ينبغي أن نقدم بها صلواتنا إلى الله. فيجب أن نصلي سرا وفي الخفاء، دون أن يرانا أحد. فهذا هو معنى ذهاب يسوع إلى الجبل وحده ه ليصلي لوقت طويل بتمهل، وهذا هو ما علمه نفسه لنا بقوله وأنت متى صليت فادخل مخدعك” (مت 6: 6). لأننا ينبغي أن نصلي غير طالبين مجدا من الناس، بل ” رافعين أيادي مقدسة” (انظر 1تي 2: 8). بينما النفس كما لو كانت ترتفع عاليا للتأمل في الله، تاركين كل اضطراب ومتخلين عن الهموم العالمية. وهذا ينبغي أن نفعله لا بتقلب، ولا بهمة متوانية ضعيفة، بل بالعكس بجدية وغيرة، وبصبر يستحق التقدير، لأنك قد سمعت من الإنجيل هنا، أن يسوع لم يصلي فقط بل أنه أيضا قضى الليل كله في الصلاة.

ولكن ربما أن عدو الحق لن يحتملنا ونحن نتكلم هكذا، لأنه يقول [ إنه يصلي ويطلب من الآب ما ليس عنده، فكيف تقولون إذا إنه من نفس جوهر الآب ومساو له في كل شيء، وإنه لا يختلف عنه في أي شيء؟ ]. “لأنه بدون كل مشاجرة الأصغر يبارك من الأكبر” (عب 7: 7). وبالتأكيد فإن الذي يعطي هو أعظم من الذي يسأل لينال شيئا. فأولئك الذين يقبلون الإيمان الصحيح دعهم يعلموننا قبل كل شيء ما هي الأشياء التي يتصورون أن الابن محتاج إليها؟ وما هو الذي يسعى ليحصل عليه باعتباره لا يملكه بعد؟

إن الابن هو النور الحقيقي، وهو الحياة بطبيعته الخاصة، وهو علة الحياة، وهو أيضا رب القوات، هو الحكمة والبر، هو خالق الكون وصانعه، وهو أعلى من كل الأشياء التي أتت إلى الوجود، هو ملك الكون، هو مدبر السماء والأرض، هو المعطي مع الله الآب لكل بركة. وهذا يمكن أن تتعلمه مما كتبه بولس المبارك: ” نعمة لكم وسلام من الله أبينا وربنا يسوع المسيح” (رو 1: 7). وهو ظاهر بوضوح فوق العرش في الأعالي وتمجده كل الخلائق العقلية. وبحسب هذا فهو بالطبيعة وارث لكل الكرامات الإلهية الخاصة بالله الآب، ولذلك تحدث إليه قائلا له: ” وكل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي، وأنا ممجد فيهم” (يو17: 10)، ولكن ذلك الذي له كل ما يخص الله الآب كما يخصه، هل يكون محتاجا إلى شيء بعد؟ ولكن إن كان حسب قولهم محتاجا إلى أي شيء، وهم يؤكدون أن هذا صحيح، فليس هناك ما يمنعنا من القول إن الآب نفسه يكون محتاجا إلى هذا الشيء، لأنه إن كان كل ما للابن هو للأب، وكان هناك شيء ما يحتاج إليه الابن، لذلك ينبغي أن الآب أيضا يكون في نفس الحال مثله، لأن كل ما للابن هو للأب. ولكن الآب هو كامل تماما ولا ينقصه أي صلاح بالمرة مما يناسب الألوهية، لذلك فالابن أيضا هو كامل تماما، لأن له كل ما للأب، إذ هو صورة الآب ورسم جوهره، ولكن الرسم يظهر فيه الأصل تماما، والرسم موجود بكليته في الأصل. وهذا يكفي فيما يخص هؤلاء.

وأولئك أيضا الذين انخدعوا بخطب نسطوريوس الفارغة، يقولون إنه غير مناسب بالمرة للابن باعتباره الله بالطبيعة أن يصلي، وأن هذا بالحرى (أي الصلاة) يخص الإنسان المرتبط معه بطريق الاتصال به أي ذلك الإنسان الذي هو من نسل داود، فهذا الإنسان الذي من نسل داود هو الذي قدم الصلاة. فماذا نجيب على هذا الكلام؟ نقول إنهم بذلك يجهلون تماما سر تجسد الابن الوحيد. تذكروا يوحنا الإنجيلي المبارك الذي يقول: ” والكلمة صار جسدا ” (يو 1: 14)، وعن هذا أعطانا بولس الكلي الحكمة برهانا واضحا بقوله عنه ” لأنه ليس يمسك الملائكة بل يمسك نسل إبراهيم، من ثم كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء لكي يكون رحيما ورئيس كهنة أمينا في ما الله حتى يكفر خطايا الشعب” (عب 2: 16 ، 17). فعلى أي أساس يخرج نسطور خارج نطاق الطبيعة البشرية ذاك الذي رغم أنه مولود ولادة إلهية ككلمة الله الآب، إلا أنه وضع نفسه إلى الإخلاء، حتى يصير أخا لنا بأن صار مثلنا، ومشابها لسكان الأرض في كل شيء ما عدا الخطية وحدها؟ لأنه إذ صار مثلنا فإنه من غنى لطفه ومحبته لجنس البشر فإنه لا يزدري بالأمور البشرية، بل يضع أمامنا تصرفه كمثال للصلاح التام، لكي كما سبق أن قلت نكون جادين في اتباع خطواته.

(لو 6: 13 -16) ” ولما كان النهار دعا تلاميذه، واختار منهم اثني عشر، الذين سماهم أيضا رسلا: سمعان الذي سماه أيضا بطرس وأندراوس أخاه. يعقوب ويوحنـا. فيلبس وبرثولماوس. متى وتوما. يعقوب بن حلفى وسمعان الذي يدعى الغيور. يهوذا أخا يعقوب، ويهوذا الاسخريوطي الذي صار مسلما أيضا “.

 إن ربنا يسوع المسيح، إذ قد قضى الليل في الصلاة، وقد تحدث مع أبيه في السماء بطريقة لا يمكن التعبير عنها وتفوق قدرتنا على الفهم وهي معروفة له وحده، وبذلك جعل نفسه مثالاً لنا في أمر ضروري لخلاصنا، لأنه علمنا بأية طريقة يمكننا نحن أيضا أن نقدم صلواتنا بطريقة سليمة وبلا لوم. وبعد ذلك نـزل من الجبل واختار أولئك الذين سيصيرون معلمي العالم، بحسب الكلمات التي نطق بها: ” أنتم نور العالم”. وقد تنبأ داود المبارك أيضا عن هذا الاختيار للرسل القديسين وكأنه يوجه الحديث للمسيح: “سوف تقيمهم رؤساء على سائر الأرض، وسوف يذكرون اسمك جيلا بعد جيل” (مز 45: 16)، لأنهم في الحقيقة حينما كانوا في الجسد ذكروا مجد المسيح مبشرين بسره في المدن والقرى، والآن بعد أن انتقلوا إلى المنازل العلوية فإنهم لا يزالون يتحدثون إلينا عنه بواسطة البشائر التي سجلوها عنه.

إن أولئك الذين اختيروا كهنة حسب ناموس موسى، أعني هرون ورفاقه صاروا مبهجين للحواس بواسطة الثياب المناسبة لكرامتهم الكهنوتية، أما التلاميذ الإلهيون فإذ قد تزينوا بالمواهب الروحية، فإنهم استؤمنوا على خدمة الإنجيل. فقد قال لهم: ” اشفوا مرضی، اخرجوا شياطين، طهروا برصا، أقيموا موتى” (مت 10: 8)، وهكذا إذ توشحوا بقوة المسيح، فقد ملأوا العالم كله دهشة. ولكن لاحظوا اعتدال البشير، فإنه لا يقول فقط أن الرسل القديسين قد اختيروا، بل أنه بالحرى يسجل أسماءهم واحدا واحدا، وهو بذلك يحترس لكي لا يدع فرصة لأحد أن يقحم اسمه في شركة أولئك الذين قد اختيروا، لأنه كما يقول بولس ” لا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله” (عبه: 4)، ورغم أن الرسل القديسين قد دعوا بالاسم إلى هذه الكرامة العظيمة والعالية، إلا أنه من وقت إلى آخر كان يقوم بعض الناس الذين وصلوا إلى درجة من الجنون والتهور حتى أن يسموا أنفسهم رسلاً للمسيح ويحاولون أن يغتصبوا كرامة لم تعط لهم. عن هؤلاء يقول الرسول ” لأن مثل هؤلاء هم رسل كذبة، فعلة ماكرون، مغيـرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح، ولا عجب، لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور. فليس عظيما إن كان خدامه أيضا يغيرون شكلهم كخدام للبر” (2کو 11: 13-15).

ولكننا لا نعرف ولن نقبل أي شخص سوى أولئك المذكورين في الكتابات الإنجيلية، ومعهم ذلك الذي اختير بعدهم أعني بولس الكلي الحكمة، الذي شهد له المخلص نفسه أيضا قائلاً: ” لأن هذا إناء مختار لي ليحمل اسمي أمام الأمم” (أع 9: 15)

الناموس يشير إليهم بالرمز، والأنبياء يتنبأون عنهم. فمثلاً مكتوب في كتب موسى وتأخذ دقيقا وتخبزه اثنى عشر قرصا، وتجعلها صفين كل صف ستة على المائدة الطاهرة أمام الرب، وتجعل على كل صف لبانا نقيا وملحا فيكون للخبز تنكارا وقودا للرب” (لا 24: 5-7). لأن الخبز الذي نزل من السماء ويعطى الحياة للعالم، لا يمكن أن يكون آخر سوى المسيح مخلص العالم. وتمثلاً به فإن التلاميذ المباركين يسمون أيضا خبزات، لأنهم إذ قد صاروا مشاركين له؛ هو الذي يطعمنا للحياة الأبدية، وهم أيضا يغذون بكتاباتهم أولئك الذين يجوعون ويعطشون إلى البر. وكما أن المخلص الذي هو النور الحقيقي دعا التلاميذ أيضا نورا بقوله: “أنتم نور العالم” (مت 5: 14)، هكذا أيضا إذ هو نفسه خبز الحياة فقد وهب تلاميذه أن يحسبوا أيضا خبزات.

وأرجو أن تلاحظوا الفن العجيب الذي في الناموس، فإنه يقول وتجعل على الخبزات لبانا وملحا”. فاللبان هو رمز الرائحة الذكية، والملح رمز للفهم وحسن الإدراك، وكلاً هذان الأمران كانا موجودين بأعلى درجة في الرسل القديسين لأن حياتهم كانت حياة ذات رائحة طيبة، كما قالوا أيضا “نحن رائحة المسيح الذكية الله (2کو 2: 15)، وأيضا كانوا مملوعين من الفهم، حتى أني أسمع داود النبي يرنم بخصوصهم في المزامير: ” هناك بنيامين متسلطهم، رؤساء يهوذا هم قادتهم، رؤساء زبولون، رؤساء نفتالي” (مز 68: 27)، لأن التلاميذ المباركين قد اختيروا غالبا من كل سبط في إسرائيل، وكانوا حملة النور إلى العالم ” ممسكين بكلمة الحياة” (في 2: 16). والعجيب حقا هو هذا فإن حكماء اليونانيين يملكون قدرا كبيرا من براعة الكلام وفصاحة عجيبة في اللغة، أما تلاميذ مخلصنا فكانوا مجرد صناع وصيادين ونوتيه، ولم يكونوا يتعاظمون بمهارة الكلام ولا لهم فصاحة التعبير، بل كانوا رجالاً بسطاء، ولكنهم كانوا أغنياء في المعرفة، تصمت أمامهم آداب اليونانيين بعباراتها الرنانة. فقوة التبشير الإنجيلي امتلكت العالم.

والله يذكرهم أيضا بواسطة صوت النبي قائلاً عن عدو الكل أي الشيطان ” ويل للمكثر ما ليس له، والمثقل نفسه رهونا. فبغتة سيقومون ويضربونك، ويستيقظ أعداؤك فتكون غنيمة لهم” (انظر حب 2: 7). لأن الشيطان قد جمع كل سكان الأرض مع أنهم لم يكونوا له، وقد جعلهم يتعبدون له، ولكن أولئك الذين كانوا سيسلبون غنائمه قد استيقظوا، لأن شبكة الكرازة الرسولية اصطادت أولئك الذين سقطوا في الخطية، وأعادوا العالم ثانية إلى الله.

من عظة 25
تمثلوا بي كما أنا أيضا بالمسيح (1كو 11: 1)

وكيف كان الحكيم بولس مثل المسيح؟ هل هو أسس السموات (مز33: 6)، مثلما فعل كلمة الله؟ هل هو ثبت الأرض فوق أساساتها الراسخة؟ هل هو خلـق الـشمس والقمر والنجوم، والنور؟ كيف إذا كان هو مثله؟ لقد كان (مثله) بتمثله بتلك الفضيلة البشرية التي أظهرها المسيح كمثال لنا.

(لو 6: 17-19) ” ونزل معهم ووقف في موضع سهل، هو وجمع من تلاميذه، وجمهـور كثير من الشعب، من جميع اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيداء، الذين جاءوا ليسمعوه ويشفوا من أمراضهم، والمعذبون من أرواح نجسة. وكانوا يبرأون. وكل الجمع طلبـوا أن يلمسوه، لأن قوة كانت تخرج منه وتشفي الجميع “.

ولكن أرجو أن تلاحظوا طريقة الاختيار، لأن الإنجيلي الحكيم جدا يقول إن الاختيار لم يتم في زاوية أو سرا، بل بالحري حينما اجتمع تلاميذ كثيرون معا، وجمهور كبير من كل بلاد اليهود، ومن ساحل صور وصيدا، وهاتان المدينتان الأخيرتان كانتا عابدتين للأوثان أي كانتا عرجاء الساقين لأنهما كانتا من ناحية تحافظان على عادات اليهود، ولكن دون أن تتركا ممارساتهما الوثنية. إذا فالاختيار قد حدث في حضور كل هؤلاء الناظرين. إنهم اختيروا معلمين لكل الذين تحت السماء، وهذه الرسالة التي تمموها، عندما دعوا اليهود أن يأتوا من عبادتهم الناموسية، كما دعوا أولئك الذين يخدمون الشياطين أن يأتوا من الضلال الوثني إلى الإيمان هي بالحق.

وحينما قام الرب بتعيين وإقامة الرسل القديسين، صنع آيات كثيرة وعجيبة، فطرد الشياطين، وخلص الذين اقتربوا منه من الأمراض غير القابلة للشفاء، وأظهر قوته الخاصة الإلهية، حتى يعرف كلاً من اليهود الذين أسرعوا إليه معا وأولئك الذين من بلاد الوثنيين أن المسيح الذي نال التلاميذ منه كرامة الرسولية، لم يكن إنسانا عاديا من الذين في مستوانا، بل بالعكس هو الله، لكونه الكلمة الذي صار جسدا، ومع ذلك فقد احتفظ بمجده الخاص، لأن “قوة كانت تخرج منه وتشفى الجميع”، لأن المسيح لم يستعر قوة من شخص آخر غيره، بل لكونه هو نفسه الله بالطبيعة، رغم أنه صار جسدا فقد شفاهم جميعا بخروج قوة منه إلى المرضى.

فإذا أردتم أن تتعلموا تفسير أسماء الرسل، فاعرفوا أن بطرس تشرح على أنها تعني الحل أي الفك، أو المعرفة؛ وأندراوس تعني قوة مناسبة أو إجابة، ويعقوب هو الذي يمسك بالعقب، ويوحنا يعني نعمة الرب، ومتى هو المعطى (أي الذي ينال)، وفيلبس هو فتح اليدين أو فم المصباح، وبرثلماوس تعني الابن الذي يمسك بالماء، وتوما تعني حفرة أو توأم، ويعقوب بن حلفى تعني استئصال عبور الحياة، ويهوذا تعني التسبيح، وسمعان تعني الطاعة.

من عظة (27) التطوبيات

(لو6: 20) ” ورفع عينيه إلى تلاميذه وقال: طوباكم أيها المساكين، لأن لكم ملكوت الله”.

هذه هي كلمات المخلص حينما كان يوجه تلاميذه إلى جدة حياة الإنجيل بعد أن اختارهم للرسولية. ولكننا يجب أن نعرف من هم المساكين الذين يتكلم لهم بمثل هذه الأمور العظيمة، لأنه في الإنجيل حسب متى مكتوب هكذا: “طوبی للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات” (مت 5: 3). وهو يريدنا بهذا أن نفهم بكلمة المسكين بالروح أنه هو الإنسان الذي يفكر أفكارا منخفضة عن نفسه، وعقله منخفض بوضوح، وقلبه لطيف، ومستعد للطاعة والخضوع، وهو بريء كلية من إثم الكبرياء.

مثل هذا الإنسان هو جدير بالإعجاب وهو صديق الله حتى إن الله قال بواسطة أحد أنبيائه القديسين: ” إلى من أنظر إلا إلى المتضع والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي؟” (إش 66: 2). وداود النبي أيضا يقول إن المنسحق والمتواضع القلب لا يرنله الله” (مز 51: 17) والمخلص نفسه أيضا يقول: ” تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29). وفي الدروس الموضوعة أمامنا الآن يقول إن المساكين سيكونون مغبوطين بدون أن يضيف كلمة “بالروح”، ولكن البشيرين يتكلمون بهذه الطريقة لا كمتناقضين أحدهم مع الآخر، بل كما لو كانوا في أحيان كثيرة يقسمون الرواية بينهم. فمرة يلخصون، نفس التفاصيل، وفي مرة أخرى فإن ما يهمله أحدهم يذكره الآخر في روايته، حتى لا يخفي أي شيء نافع عن أولئك الذين يؤمنون بالمسيح. لذلك فإنه يبدو محتملاً أن المقصود بالمساكين الذين يطوبهم هم أولئك الذين لا يهتمون بالغنى، وهم مرتفعون فوق الطمع ويحتقرون الهدايا الوضيعة، وهم متحررون من محبة المال، وهم لا يعطون أي اعتبار لمظاهر التفاخر بالغنى.

وهكذا فإن بولس الحكيم جدا يرشدنا بوضوح إلى أفضل التعاليم حيث يقول، “لتكن سيرتكم خالية من محبة المال، كونوا مكتفين بما عندكم” (عب 13: 5)، وأضاف إلى هذا قوله: “فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما” (1تي 6: 8)، لأنه كان ضروريا بصورة مطلقة، لأولئك الذين سيكون عملهم هو الكرازة برسالة الإنجيل الخلاصية أن يكون لهم عقل لا يبالي بالغنى، بل ويكون منشغلاً فقط بشهوة الأمور الفضلي. وبالإضافة إلى ذلك فإن الحديث لا يؤثر على أولئك الذين لهم موارد كثيرة، بل فقط على أولئك الذين شهوتهم في الغنى، ومن هم هؤلاء؟ هم كل الذين تنطبق عليهم كلمات المخلص: ” لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض” (مت 6: 19).

(لو 6: 21) ” طوباكم أيها الجياع الآن، لأنكم تشبعون “.

في إنجيل متى يقول: ” طوبي للجياع والعطاش إلى البر لأنهم سيشبعون” أما هنا فهو يقول فقط إن الجياع سيشبعون، لذلك فنحن نقول إنه أمر عظيم وسامي جدا أن نجوع ونعطش إلى البر، أي أن نعتاد أن نشترك في المساعي الجادة نحو التقوى، لأن هذا هو معنى البر، كما لو كان هو طعامنا وشرابنا. وبمقدار ما يجب أن نعطي لهذه الفقرة أيضا معنى، بحسب الشروحات السابقة فنحن نقول أيضا هكذا: إن المخلص نطق بالطوبي لأولئك الذين يحبون الفقر الاختياري، لكي يمكنهم بكرامة وبدون تشتت أن يمارسوا سيرة الحياة الرسولية. لأن هذا يتطابق بوضوح مع عدم اقتناء ذهب ولا فضة في مناطقهم، ولا ثوبين، وأيضا أن يحتملوا خشونة كبيرة في طريقة حياتهم، ونادرا ما يحصلوا على الطعام لحاجتهم، ولكن هذا أمر ثقيل على أولئك الذين يعانون الفقر والاضطهادات، لذلك فإن ذلك الذي يعرف القلوب لا يسمح لنا أن نفقد روحنا المعنوية بسبب نتائج الفقر، ولأنه يقول إن أولئك الذين يجوعون الآن لأجل تقواهم من نحوه، سوف يشبعون أي سوف يتمتعون بالبركات العقلية والروحية المذخرة لهم.

(لو 6: 21) “طوباكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون”.

إنه ينطق بالطوبى للباكين، ويقول إنهم سيضحكون، ولكننا نقول إن المقصود بالباكين ليس مجرد الذين يذرفون الدموع من عيونهم، لأن هذا أمر عام للجميع بلا استثناء سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين وهو يحدث من طبيعة متألمة. بل المقصود بالحرى هم أولئك الذين ينأون بأنفسهم عن حياة الملاهي والغرور واللذات الجسدية.

فعن الأولين نقول إنهم يعيشون في تمتع وضحك أما المؤمنون فيتخلون عن الترف ويتركون حياة الإهمال واللذات الجسدية وكل شيء آخر سوى البكاء. وبسبب مقتهم للأمور العالمية فإن مخلصنا يعلن أنهم مغبوطون، ولهذا السبب فقد أوصانا أن نختار الفقر، وهو يكرم الأمور التي تصاحب الفقر بالضرورة، مثل نقص الأشياء الضرورية للتمتع، واتضاع الأرواح الذي تسببه البلايا، فإنه مكتوب “كثيرة هي بلايا الصديقين، ومن جميعها ينجيهم الرب” (مز 33: 19 س).

(لو 6: 22 ، 23) ” طوباكم إذا أبغضكم الناس، وإذا أفـرزوكم وعيـروكم، وأخرجـوا اسمكم كشرير من أجل ابن الإنسان. افرحوا في ذلك اليوم وتهللوا، فهوذا أجركم عظيم في السماء. لأن آباءهم هكذا كانوا يفعلون بالأنبياء “

يسبق الرب فيذكر الاضطهاد حتى قبل أن يذهب الرسل إلى إرساليتهم. لقد سبق الإنجيل وأنبا بما سيحدث. لأنه كان متوقعا تماما أن أولئك الذين كرزوا برسالة الإنجيل، وجعلوا يهجرون طريقة عبادتهم الناموسية ليتعلموا طريق . الإنجيل للحياة الفاضلة، بينما هم أيضا يربحون عابدي الأوثان إلى الاعتراف بالحق، كان متوقعا أن هؤلاء يحتكون بكثير من الكفار والأشرار، لأن مثل هؤلاء هم الذين في عداوتهم ضد التقوى، يثيرون حروبا واضطهادات ضد الذين يبشرون بيسوع، ولكي يحفظ تلاميذه من السقوط، في محنة شديدة تفوق العقل حينما يأتي الوقت الذي فيه تهجم عليهم هذه المصائب من جهة أو أخرى، فإنه يسبق وينبههم لأجل منفعتهم، أنه حتى هجوم الأشياء المحزنة التي يصعب احتمالها سوف تأتي معها بمكافأتها وفائدتها لهم، فكأنه يقول: ” لأنهم سيعيرونكم كمخادعين وكمضللين، وسوف يفرزونكم من وسطهم وحتى من صداقتهم ومجتمعهم”. ولكن لا تدعوا أي شيء من هذه الأشياء يزعجكم، كأنه يقول: لأنه أي أذي يمكن أن يلحقه اللسان الشرير بالعقل المثبت الراسخ، لأنه يقول إن احتمال معاناة هذه الأشياء لن يكون بدون ثمرة، لأولئك الذين يعرفون كيف يحتملون بتقوى، ولكن هذا هو عربون السعادة العليا. وبالإضافة إلى ذلك يقول لهم لفائدتهم، إنه لن يحدث لهم شيء غريب حتى حينما يعانون من هذه الأشياء، بل العكس فإنهم سوف يشبهون أولئك الذين قبلهم كانوا حاملي كلمات الله إلى الإسرائيليين، والذين اضطهدوا، ونشروا، وماتوا قتلى بالسيف، واحتملوا التعييرات الواقعة عليهم ظلما ـ ولذلك فهو يريد أيضا أن يفهم تلاميذه أنهم سيصيرون شركاء مع أولئك الذين يتمثلون بأعمالهم، وأنهم لن يفشلوا في ربح إكليل الأنبياء بعد أن ساروا مثلهم في نفس الطريق.

عظة (29)
مضار الغنى ـ وفائدة الرحمة

 (لو 6: 24) ” ولكن ويل لكم أيها الأغنياء، لأنكم قد نلتم عزاءكم…”.

اقبلوا تلك الأشياء التي تقودكم إلى الحياة الأبدية، لأنه مكتوب أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (مت٤:٤). كل الكتاب هو بالحقيقة موحى به من الله، ولكن هذا صحيح بنوع خاص من كلام الإنجيل، لأن الله الذي أعطى في القديم الناموس الذي يتكون من رموز وظلال بواسطة خدمة موسى، هو نفسه إذ قد صار إنسانا تكلم إلينا، كما يشهد بولس الحكيم قائلاً: ” الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه” (عب 1:1). فنحن متعلمون من الله، لأن المسيح هو بالحق الله وابن الله. لذلك فلنثبت انتباهنا بحرص على ما يقول، ونفحص بتدقيق عمق ما يعنيه، لأنه يقول: ” ويل لكم أيها الأغنياء لأنكم قد نلتم عزاءكم”. ومناسب جدا أن يضاف هذا القول على الحديث الذي سبق، لأنه بعد أن بين أن الفقر لأجل الله هو أصل كل بركة، وقال إن جوع القديسين وبكاءهم لن يكون بدون مكافأة، فإنه يتقدم ليتكلم عن الأمور المضادة ويقول عنها إنها تجلب الحزن والدينونة. لأنه يلوم الأغنياء، وأولئك الذين ينغمسون بدون إتزان في الملذات وهم دائما في الملاهي والأفراح أي في الملذات العالمية، وبذلك فإن المسيح لا يترك وسيلة دون أن يستخدمها لمنفعة الذين يقتربون منه وخاصة الرسل القديسين. لأنه إن كان احتمال الفقر لأجل الله، مع الجوع والدموع ـ التي تعني التعرض للألم والضيقات في سبيل التقوى ـ إن كانت هذه نافعة أمام الله، وهو ينطق بثلاثة تطويبات لأولئك الذين يحتملونها، فإنه ينتج بالضرورة أن أولئك الذين يعتنقون الرذائل المضادة لتلك الفضائل، أن يكونوا معرضين إلى أعظم لوم.

لذلك فإن الناس يمكن أن يربحوا إلى الرغبة في العمل والفقر الاختياري لأجل الله بواسطة شهوة الأكاليل والمكافأة، وأيضا من الجهة الأخرى فإنهم يمكن أن يهربوا من الغني ومن الحياة في التنعم واللهو عن طريق الخوف من العقاب الذي يهددون به. لذلك فهو يقول إن الأولين هم ورثة لملكوت السموات، أما الآخرين فإنهم سيتورطون في بؤس فائق، لأنه يقول ” لأنكم قد نلتم عزاءكم”.

وتتاح لنا الفرصة أن نرى هذا الحق موضحا بطريقة جميلة في أمثال الإنجيل كما لو كان في رسم، لأننا قد سمعنا الإنجيل يقول إنه كان هناك إنسان غني يلبس الأرجوان والبز، وكان لعازر المسكين مطروحا عند بابه مضروبا بالفقر والقروح، والغني لم يشعر بأي إشفاق من نحوه. ولكن الإنجيل يقول إن لعازر حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم بينما الغني كان في العذاب واللهيب. وحينما رأى الغني لعازر في راحة وسعادة في حضن إبراهيم، وتوسل قائلاً: ” يا أبي إبراهيم ارحمني، وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد طرف لساني، لأني معذب في هذا اللهيب” (لو 16: 24). ولكن ماذا كان جواب إبراهيم المبارك؟ قال: ” يا ابني اذكر أنك قد استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا، والآن هو يتنعم وأنت تتعذب” (لو 16: 25). لذلك فحق هو ما يقوله المسيح هنا عن أولئك الذين يعيشون في غنى وتنعم ولهو: ” لأنكم قد نلتم عزاءكم”، ويقول عن أولئك الشباعي الآن إنهم سيجوعون، وعن الضاحكون الآن إنهم سيحزنون ويبكون.

 ولكن هيا بنا ودعونا نفحص الأمر بين أنفسنا. إن مخلصنا في أمثاله قد تكلم هكذا ” إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصليا، واحد فريسي والآخر عشار، أما الفريسي فوقف يصلي في نفسه هكذا، اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار، أصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتني. وأما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلا: اللهم ارحمني أنا الخاطئ. الحق أقول لكم إن هذا نزل إلى بيته مبررا دون ذاك” (لو 18: 10 -14). لأن الفريسي المتكبر كان يفتخر على العشار، وإذ ادعى لنفسه رتبة واضع الناموس، أدان رفيقه الذي كان من واجبه أن يظهر شفقة من نحوه. أما العشار فلأنه قد أدان ضعفه الخاص فإن ذلك أدى إلى تبريره، لأنه مكتوب ” أعلن خطاياك أولاً لكي ما تتبرر” (إش 43: 26 س)، لذلك فلنفك أولئك الذين يعانون من الأمراض ونطلقهم أحرارا ولا ندينهم، وذلك لكي ما يحلنا الله من خطايانا، لأنه هو لا يدين بل بالحرى يظهر رحمة.

والرحمة لها اتصال وثيق بالفضائل التي تكلمنا عنها الآن، وهي الصفة التي يذكرها بعد ذلك، لأنها أمر ممتاز جدا وهي تسر الله جدا، وهي مناسبة جدا لأقصى درجة ومناسبة جدا بصورة فائقة للنفوس التقية، والتي فيما يخصها يكفينا أن نطبع في أذهاننا أنها صفة من صفات الطبيعة الإلهية، لأنه يقول “كونوا رحماء كما أن أباكم السماوي أيضا رحيم . لقد أعطانا تأكيدا كاملاً أننا سنكافاً بيد سخية من الله الذي يعطي كل الأشياء بسخاء لأولئك الذين يحبونه، وذلك لأنه يقول ” كيلا جيدا ملبدا فائضا يعطون في أحضانكم” (لو 6: 38)، ويضيف أيضا ” لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يكال لكم”. ولكن هناك تناقض ظاهر بين الإعلانين، لأنه إن كنا سننال كيلاً جيدا وملبدا وفائضا، فكيف سيكال لنا بنفس الكيل الذي نكيل به؟ لأن هذا يتضمن مكافأة مساوية لنا وليست مكافأة فائضة جدا فوق كل المقاييس. فماذا نقول إذا؟ إن بولس الكلي الحكمة قد حررنا من هذه الصعوبات بأن قدم لنا حلاً لهذه الأمور، لأنه يقول إن ” من يزرع بالشح” وهو يعني بذلك من يوزع حاجات الحياة الضرورية على أولئك الذين هم في ضيق وعوز بقلة وكما لو كان بيد مغلقة وليس بسخاء واتساع، ” فبالشح أيضا يحصد، والذي يزرع بالبركات فبالبركات أيضا يحصد” (2کو 9: 6). وهو يعني بذلك أنه يعطي بسخاء، حتى أنه إذا كان أحد ليس له ما يعطيه فإنه لم يخطئ بعدم عطائه، لأن الإنسان يكون مقبولاً بحسب ما له وليس بحسب ما ليس له. وهذا ما علمنا إياه ناموس موسى الحكيم جدا بالرمز، لأن أولئك الذين كانوا تحت الناموس كانوا يقدمون الذبائح الله بحسب ما يملكون وبحسب ما يستطيعون أن يحتملوا، فالبعض مثلاً يقدمون العجول والبعض يقدمون الكباش، أو الخراف، أو اليمام أو الحمام، أو الدقيق المخلوط بالزيت، ولكن حتى ذلك الذي يقدم هذا (الدقيق) لأنه ليس له عجل ليقدمه، ورغم أن هذا قليل جدا ويمكن الحصول عليه بثمن رخيص جدا، فإنه يكون مساويا للآخر (أي الذي قدم العجل) فيما يخص نيته.

من عظة (29)
الرحمة ومحبة الأعداء وعدم الإدانة

(لو 6: 24) ” ويل لكم أيها الأغنياء، لأنكم قد نلتم عزاءكم “.

هذا أيضا يجب أن نبحثه فيما بين أنفسنا، لأنه هل كل من هو غني، ويملك ثروة وفيرة هو بالتأكيد مقطوع الرجاء من جهة توقع نعمة الله؟ هل هو مغلق عليه تماما من جهة رجاء القديسين؟ وهل ليس له ميراث ولا نصيب مع الذين يكللون؟ نقول ليس الأمر هكذا، بل بالحرى على العكس، إن الرجل الغني لو أظهر رحمة على لعازر لصار مشتركا في عزائه، لأن المخلص أوضح طريقا للخلاص لأولئك الذين يملكون الغنى الأرضي، بقوله: ” اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية ” (لو 16: 9).

‏ (لو 6: 27 ، 28) “لكني أقول لكم أيها السامعون: أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم،  باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم .

ان بولس المبارك ينطق بالحق حينما يقول: ” إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة” (2کو 5: 17)، لأن كل الأشياء قد صارت جديدة فيه وبواسطته، كل الأشياء أي العهد، والناموس وطريقة الحياة. ولكن انظروا بدقة ولاحظوا كيف أن طريقة الحياة الموصوفة هنا تليق بصورة شاملة بأولئك المعلمين القديسين، الذين كانوا عتيدين أن يكرزوا برسالة الخلاص في كل أركان العالم، ومع ذلك فبسبب هذا الأمر نفسه (أي الكرازة)، ينبغي أن يتوقعوا أن مضطهديهم سيكونون كثيرين وأنهم سيتأمرون ضدهم بطرق مختلفة كثيرة. فلو كانت النتيجة إذا أن التلاميذ قد صاروا ناقمين على هذه المضايقات وكانوا يرغبون في الانتقام من أولئك الذين أزعجوهم، لكانوا قد ظلوا صامتين وعبروا بهم دون أن يقدموا لهم الرسالة الإلهية، ولا أن يدعوهم إلى معرفة الحق. لذلك فقد كان ضروريا أن يشد ذهن المعلمين القديسين بإحساس عال من واجب الصبر، لكي يجعلهم يحتملوا كل ما يمكن أن يحل بهم، حتى لو شتمهم الناس، وتأمروا ضدهم بلا مخافة. وهكذا كان سلوك المسيح نفسه قبل كل الآخرين، وذلك كمثال لنا، لأنه بينما كان لا يزال معلقا على الصليب الثمين، وبينما كان الشعب اليهودي يهزأون به، فإنه قدم الله الآب صلوات من أجلهم قائلاً: ” اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون ” (لو 23: 34). وأيضا إستفانوس المبارك بينما كان يرجم بالحجارة، جثا على ركبتيه قائلاً: ” يا رب لا تقم لهم هذه الخطية” (أع 7: 60). وبولس المبارك أيضا يقول ” نشتم فنبارك، يفتري علينا فنعظ” (1كو 4: 12).

لذلك فإن تعليم الرب كان ضروريا للرسل القديسين، ونافعا جدا لنا نحن أيضا لكي يلزمنا أن نعيش بطريقة صائبة ومثيرة للإعجاب، لأنها مملوءة من كل حكمة. ولكن أفكارنا المسبقة الخاطئة وتمرد شهواتنا الشديدة، يجعلها أمرا صعبا على أذهاننا أن نتممها. لذلك فهو إذ يعرف أن الإنسان النفساني لا يقبل هذه الأمور ويعتبر أن كلام الروح جهالة وغير ممكن تحقيقه، فهو يفصل هؤلاء (النفسانيين) عن أولئك الذين يستطيعون أن يسمعوا ويقول: أقول لكم أيها السامعون والمستعدون أن تتمموا كلماتي. لأن مجد الثبات الروحاني يظهر في التجارب والأتعاب، لذلك تمثلوا بالمسيح في هذه الأشياء، ” الذي حينما شتم لم يكن يشتم عوضا. وإذ تألم لم يكن يهدد، بل كان يسلم لمن يقضي بعدل ” (1بط 2: 23). ولكن ربما ستعترضون قائلين في داخلكم، “المسيح هو الله أما أنا فإنسان ضعيف وليس لي إلا عقل ضعيف وغير قادر أن يقاوم هجمات الشهوة والألم”. إنك تتكلم بصواب لأن عقل الإنسان ينزلق بسهولة إلى الخطأ، ومع . ذلك أقول إن الرب لم يتركك محروما من رحمته ومحبته. فأنت حاصل عليه في داخلك بواسطة الروح القدس، لأننا نحن مسكنه، وهو يسكن في نفوس أولئك الذين يحبونه. إنه يعطيك قوة لكي تحتمل بنبل كل ما يحل بك، وأن تقاوم برجولة هجمات التجارب. لذلك “لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير” (رو 12: 21). 

(لو 6: 29، 30) ” من ضربك على خدك فاعرض له الآخر أيضا، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضا. وكل من سألك فأعطه، ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه”

إن المسيح هو غاية الناموس والأنبياء هذا أمر أعلنه بولس الحكيم جدا في (رو 10: 4)، لأن الناموس خدم كمؤدب لكي يقود الناس إلى سر المسيح. وكما يقول بولس المبارك أيضا ” ولكن الآن بعدما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب” (غل 3: 25)، لأننا لم نعد أطفالاً في أذهاننا، بل بالعكس قد نمونا ” إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح” (أف 4: 12). لذلك فنحن لا نحتاج إلى لبن، بل بالحرى إلى طعام قوي حسب ما ينعم المسيح، بأن يضع أمامنا ذلك الطريق الذي يفوق قوة الناموس، لأنه هو نفسه قال للرسل القديسين ” الحق أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين فلن تدخلوا ملكوت السموات” (مت 5: 20). فهذا إذا ما هو ضروري أن نناقشه، ماذا يعني ” يزيد بركم على” فيما يخص البر بحسب رسالة الإنجيل المخلصة.

 الناموس المعطى لأولئك الذين في القديم بواسطة حدد العين بالعين والسن موسی بالسن، وبينما منع فعل الشر، فإنه لم يوص الذين يؤذون أن يحتملوا الأذى بصبر كما أوصى الإنجيل. لأنه يقول ” لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور ” (خر 20: 15)، ويضيف أيضا إلى هذا “عين بعين، ويد بيد، ورجل برجل، وجرح بجرح، ورض برض” (خر 21: 24 ، 25). مثل هذه الوصية تستلزم من الإنسان ألا يجرح الآخرين، وإذ تفترض أنه قد جرح فإن غضبه من الذي جرحه لا ينبغي أن يمتد أكثر من رد مماثل، ولكن المعنى العام لطريقة الحياة الناموسية لم تكن مرضية الله، لقد أعطيت هذه الطريقة للقدماء كمؤدب لكي تعودهم قليلاً قليلاً على بر مناسب، وتقودهم بلطف إلى امتلاك الصلاح الكامل، لأنه مكتوب ” أن تفعل البر هو بداية الطريق الصالح” (أم 16: 5)، ولكن في النهاية فإن كل كمال هو في المسيح وفي تعاليمه. لأن عنده ” من ضربك على خدك فاعرض له الآخر”. وفي هذا يشير لنا عن الطريق المؤدي إلى أعلى درجة من الصبر. وإلى جانب ذلك فهو يريد ألا نعطي اهتماما للغنى حتى أنه إن كان لابستا ثوب واحد فإنه لا ينبغي أن يحسبه شيئا غير محتمل أن يعطى معه رداءه أيضا لو احتاج الأمر إلى ذلك. ولكن هذه فضيلة ممكنة فقط لعقل تحول تماما عن الاشتهاء والطمع، لأنه يقول ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه، بل أعط كل من سألك. وهذا برهان بالحق على المحبة والاستعداد لأن تكون فقيرا. والإنسان الرحيم ينبغي بالضرورة أن يكون مستعدا أن يغفر، لكي يظهر أعمال محبة حتى لأعدائه.

(لو 6: 31) ” وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضا بهم هكذا “

قد كان محتملاً أن يفكر الرسل القديسون أن هذه الأشياء يصعب وضعها موضع التنفيذ، لذلك فإن ذاك الذي يعرف كل الأشياء يتخذ القانون الطبيعي لحب النفس كحكم لما يريد أي واحد أن يحصل عليه من الآخر. فهو يقول اعمل مع الآخرين ما ترغب أن يعمله الآخرون معك. فإن رغبت أن يكونوا خشنين، وبلا شعور وغضوبين ومنتقمين، ومتخذين موقفا معاديا فأظهر نفسك هكذا أيضا. ولكن على العكس إن رغبت أن يكونوا شفوقين وصفوحين فلا تظن أنه شيء لا يطاق أن تكون أنت كذلك. وفي حالة أولئك الذين يكون موقفهم هكذا فلا حاجة هناك إلى الناموس، لأن الله يكتب في قلوبهم معرفة مشيئته. إذ يقول الرب ” لأني في تلك الأيام سأجعل نواميسي في أذهانهم وأكتبها على قلوبهم” (إر 31: 32).

(لو 6: 36) “فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضا رحيم “.

عظيم هو مجد الرحمة، ولذلك فحق هو ما كتب أن ” الإنسان له قيمة عظيمة، والإنسان الرحيم هو مكرم جدا” (أم٢٠: ٦س)، لأن الفضيلة ترتنا إلى صورة | الله، وتطبع على نفوسنا صفات معينة كما لو كانت من الطبيعة السامية جدا.

(لو 6: 37) “ولا تدينوا فلا تدانوا. لا تقضوا على أحد فلا يقضى عليكم. اغفروا يغفر لكم “

الرب ينزع من أذهاننا شهوة قوية جدا وهي أصل ووالدة الكبرياء. فبينما هو واجب على الناس أن يفحصوا أنفسهم ويرتبوا سلوكهم حسب مشيئة الله، إلا أنهم يتركون هذا الأمر جانبا ويشغلون أنفسهم بأمور الآخرين. وهم إذ ينسون ضعفاتهم الشخصية، فإنهم إذا رأوا ضعفا في الآخرين يجعلونه مبررا لتصيد الأخطاء ووسيلة لتشويه السمعة. فهم يدينون الآخرين، غير عالمين أنهم لكونهم مصابين بنفس الضعفات بالتساوي مثل أولئك الذين ينتقدونهم، فإنهم يدينون أنفسهم، لأنه هكذا أيضا يكتب بولس الحكيم جدا: “لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها” (رو 2: 1). بل إنه من واجبنا بالحرى أن يكون لنا رحمة على الضعفاء، مثل أولئك الذين انغلبوا من هجمات الشهوات واصطيدوا داخل شباك الخطية، وأن نصلي لأجلهم ونعظهم، ونقيمهم إلى التعقل ونسعى نحن أنفسنا ألا نسقط في أخطاء مماثلة، لأن ” من يدين أخاه، ينم الناموس ويدين الناموس” (يع 4: 11)، كما يقول تلميذ المسيح، لأن واضع الناموس والديان هو واحد. لأن من يدين النفس الخاطئة ينبغي أن يكون أعلى من تلك النفس. ولكن حيث إنك لست كذلك، فإن الخاطئ سيعترض عليك في إدانتك قائلا: “لماذا تدين أخاك”. ولكن إن كنت تتجاسر وتدينه دون أن يكون لك سلطان على ذلك، فإنك أنت بالحري الذي سوف تدان، لأن الناموس لا يسمح لك أن تدين الآخرين.

لذلك فإن من ينقاد بإحساس صالح، لا ينظر إلى خطايا الآخرين، ولا يشغل نفسه بأخطاء قريبه، بل بالحري يفحص بدقة عن أخطائه الشخصية. هكذا كان المرنم المبارك ساقطاً بوجهه أمام الله ويقول بخصوص خطاياه ” إن كنت تراقب الآثام يا سيد فمن يحتمل؟” (مز 129: 3 س)، ومرة أخرى إذ يقدم ضعف الطبيعة البشرية كعذر فإنه يتوسل من أجل غفران معقول قائلاً: “أذكر أننا تراب نحن” (مز 102: 14). 

(لو 6: 39 ، 40) ” وضرب لهم مثلا: هل يقدر أعمى أن يقود أعمى؟ أما يسقط الاثنان في حفرة؟ ليس التلميذ أفضل من معلمه، بل كل من صار كاملاً يكون مثل معلمه “.

هذا مثل أضافه كملحق ضروري جدا لما سبق أن قيل. إن التلاميذ المباركين كانوا على وشك أن يصيروا متلمذي ومعلمي العالم، لذلك كان ضروريا لهم أن يبرهنوا أنهم يملكون كل شيء ضروري للتقوى، فينبغي أن يعرفوا طريق ومثال الحياة الإنجيلية وأن يكونوا عمالاً مستعدين لكل عمل صالح، وقادرين أن يمنحوا السامعين المتعلمين تعليما صحيحا ومخلصا يمثل الحق بدقة. هذا ينبغي أن يفعلوه باعتبارهم قد حصلوا أولاً على بصيرة، وعلى عقل مستنير بالنور الإلهي لئلا يصيروا قادة عميان للعميان، لأن الرجال الغارقين في ظلمة الجهل لا يستطيعون أن يقودوا أولئك الذين هم مصابون بنفس الطريقة إلى معرفة الحق، لأنهم إن حاولوا ذلك فإنهم سيسقطون كلهم إلى حفرة الفسق.

وبعد ذلك إذ يلقى جانبا شهوة الافتخار المتبجحة التي ينغلب منها معظم الناس، فلكي لا يسعوا بتنافس أن يتفوقوا على معلميهم في الكرامة أضاف: ” ليس التلميذ أفضل من معلمه”، حتى وإن كان البعض يتقدمون كثيرا حتى أنهم يصلون إلى فضيلة تعادل فضيلة معلميهم، فإنهم لن يحسبوا أنفسهم أعلى من مستوى معلميهم، بل يكونون متمثلين بهم. وبولس سيكون أيضا ضامنا لنا بقوله “كونوا متمثلين بي كما أيضا أنا بالمسيح” (1کو 11: 1)، ولذلك حيث إن المعلم لا يدين، فلماذا تدين أنت؟ لأنه جاء لا ليدين العالم، بل ليقدم رحمة، وبحسب الشرح السابق فإنه يقول إن كنت أنا لا أدين، فلا ينبغي لك أنت التلميذ أن تدين، ولكن إن كنت مذنبا بجرائم أردأ من التي تدين بها الآخر، فكيف تستطيع أن تحفظ نفسك من العار حينما توبخ عليها؟ وهذا ما يوضحه الرب بمثل آخر.

عظة (33) 
شر إدانة الآخرين، الشجرة التي تعرف من ثمارها

(لو6: 41-45) “لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟ أو كيف تقدر أن تقول لأخيك: يا أخي، دعني أخرج القذى الذي فـي عينـك وأنت لا تنظر الخشبة التي في عينك؟ يا مرائي! أخرج أولا الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى الذي في عين أخيك. لأنه ما من شجرة جيدة تثمر ثمـرا رديا، ولا شجرة ردية تثمر ثمرا جيدا. لأن كل شجرة تعرف من ثمرها. فإنهم لا يجنون من الشوك تينا، ولا يقطفون من العليق عنبا. الإنسان الصالح من كثر قلبه الصالح يخـرج الـصلاح، والإنسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر “.

لقد أوضح لنا الرب سابقا أن إدانة الآخرين هي شر فظيع وهي خطر، وتسبب دينونة نهائية، لأنه قال: ” لا تدينوا لكي لا تدانوا، لا تقضوا على أحد فلا يقضى عليكم”. وهو الآن يحثنا بكلمات حاسمة أن نتجنب مجرد الرغبة في إدانة الآخرين، ويدعونا بالحرى أن نفحص قلوبنا الخاصة ونحاول أن نحررها من الشهوات التي تسكن فيها ومن ضعفاتها، وذلك بطلب هذا من الله، لأنه هو الذي يشفى المنكسري القلب ويحررنا من أمراض النفس، فهو يقول إن كنت أنت نفسك مريض بأمراض أكثر خطرا وأكثر شدة من أمراض الآخرين فلماذا تهمل أمراضك وتبحث عن أخطاء الآخرين، وبينما أنت عندك خشبة في عينك، فإنك تبدأ اتهاما ضد أولئك الذين عندهم قذى في عيونهم؟ أخبرني بأي جسارة تفعل أنت هذا؟ أنقذ نفسك أولاً. العظيمة، ومن شهواتك الجامحة، وعندئذ يمكنك أن تصلح من هو مذنب في مجرد من جرا ائمك أخطاء بسيطة.

هل تريد أن تنظر الأمر بصفاء ووضوح، إذ أنه أمر كريه جدا للناس أن تنغلب من هذا الشعور؟ كان ربنا يسوع يسير مرة في يوم سبت وسط الحقول وقطف التلاميذ المباركون بعض السنابل، وكانوا يفركونها بأيديهم ويأكلون الحبوب. ولكن بعض الفريسيين اقتربوا وقالوا، هوذا تلاميذك يفعلون ما لا يحل فعله في السبوت! ومع ذلك فهم أنفسهم كانوا مذنبين بطرق متنوعة في التعدي على الناموس كلية، لأن إشعياء النبي صرخ ضدهم قائلاً “كيف صارت القرية الأمينة زانية. كانت ملانة حقا، وكان العدل يبيت فيها وأما الآن فالقاتلون. صارت فضتك زغلاً، وتجارك يغشون ذلك الخمر بالماء، رؤساؤك متمردون وشركاء اللصوص، يحبون الرشوة، ويتبعون العطايا، لا يقضون لليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم” (إش 1: 21 – 23 س). ومع ذلك فهؤلاء الرجال أنفسهم الذين وجهت إليهم هذه التوبيخات الشديدة جدا، اتهموا التلاميذ بكسر السبت!

 ولكن المسيح يوجه إليهم توبيخا عادلاً ويقول لهم “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تعشرون النعنع والشبت والكمون وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان. وأيضا ” أنتم الذين تصفون عن البعوضة وتبلعون الجمل” (انظر مت 32: 23، 24) لأنه بينما كان تعليمهم عن أمور تافهة، وكانوا يدينون الناس على أمور حقيرة، فقد كان لهم من الوقاحة أن ينظروا إلى تلك الجرائم الثقيلة بلا اهتمام، ولهذا فإن المخلص دعاهم ” قبورا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة” (مت 23: 27). وهكذا هو كل مرائي. وحينما يلصقون أي اتهام بالآخرين الذين استسلموا لأي ضعف في أمور صغيرة، فإنهم يستحقون أن يقال لهم: “أخرج أولا الخشبة من عينك وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى من عين أخيك “.

لذلك فالوصية، لا غنى عنها لكل من يريد أن يعيش بالتقوى، ولكن فوق الكل، لأولئك الذين قد اؤتمنوا على تعليم الآخرين. لأنهم كانوا صالحين وعاقلين ويحبون الحياة السامية، وليس مجرد أنهم يعلمون عنها، ولكنهم أيضا يمارسون الفنون الفاضلة ويضعون بسلوكهم نموذج الحياة المقدسة. إن كانوا كذلك فإنهم يستطيعون بوجه مكشوف أن يوبخوا أولئك الذين لا يفعلون نفس الشيء لأنهم لم يتمثلوا بهم، ولا طبعوا أخلاقهم الفاضلة على نفوسهم. ولكن إن كانوا (أي المعلمين) مهملين وينخدعون بسرعة باللذات لفعل الشر، فكيف يمكنهم أن يلوموا الآخرين حينما يكونون هكذا؟ لذلك كتب التلميذ المبارك بحكمة قائلاً: ” لا تكونوا معلمين كثيرين يا إخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم” (يع 4: 1). لأن المسيح، الذي هو موزع الأكاليل ويعاقب الذين يفعلون الشر، هو نفسه يقول ” من عمل وعلم فهذا يدعى عظيما في ملكوت السموات، أما من لم يعمل ولكنه علم يدعى أصغر في ملكوت السموات” (انظر مت 5: 19).

ولكنني أستطيع أن أتخيل واحدا يقول، كيف نستطيع أن نميز الإنسان الذي عنده خشبة في عينه وهو يلوم أولئك الذين عندهم قذي وهم ضعفاء جزئيا فقط؟ ولكن ليس هناك صعوبة في هذا لأنه يقول لكل من يريد، إنه يمكن أن يرى الأمر بسهولة إذ يقول ” لأنه ما من شجرة جيدة تصنع ثمرا رديا ولا شجرة ردية تصنع ثمرا جيدا، لأن كل شجرة تعرف من ثمرها”. لذلك فالحياة الفعلية لكل إنسان، هي التي تحدد ما هي أخلاقه، فإن جمال الحياة المكرمة الحقيقية لا يوصف بمجرد الزينات الخارجية أو الفضائل الزائفة، بل بالأعمال التي يفعلها الإنسان، لأن هذه هي ثمار العقل الذي يختار حياة بلا لوم لأجل محبة التقوى، لذلك ينبغي أن نرى من هو الإنسان المقبول ومن هو الذي ليس كذلك ليس بواسطة المظهر الخارجي بل بالأفعال. وأيضا يقول المسيح ” احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة” (مت 7: 15)، فانظروا أيضا إن المسيح يوصينا أن نميز أولئك الذين يأتون إلينا ليس بثيابهم، بل بما هم عليه حقيقة. إنه يقول” بأن كل شجرة تعرف من ثمارها “. لأنه كما أنه هو جهل وغباء أن نتوقع أن نجد الأنواع الجيدة من الثمار بين الأشواك مثل العنب أو التين، هكذا هو أمر سخيف بالنسبة لنا أن نتخيل أننا يمكن أن نجد في المرائين والنجسين أي شيء يستحق الإعجاب أو أي شيء نبيل. وأنا أعني أي شيء من الفضيلة.

هل تريد أن ترى حقيقة هذا الأمر ثانية؟ هل تريد أن ترى من هم الذئاب الذين  يأتون بثياب حملان؟ إذا فافحص كتابات الرسل القديسين واسمع ما يقولونه عن بعض الناس: ” لأنهم رسل كذبة، فعلة ماكرون يغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح، ولا عجب لأن الشيطان نفسه يغير نفسه إلى شبه ملاك نور. فليس عظيما إن كان خدامه أيضا يغيرون شكلهم كخدام للبر” (2 کو 11: 13 – 15). هؤلاء يمكن أن نسميهم هم أشواك وعليق، ومثل هؤلاء لا يوجد فيهم أي جزء من الحلاوة، بل كل ما هو مر ومن طبيعة شريرة، لأن التين لا ينمو من الأشواك ولن نجد بين الأشواك أي شئ مفرح، لأن العنب لا ينتج من العليق. إذا ينبغي أن نعرف حقيقة المعلم ليس من المظاهر، بل من أعماله وحياته.

وهذا يتضح أيضا بإعلان آخر يعلنه ربنا قائلاً: ” الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح”، أما من هو مختلف عن ذلك وقد صار عقله فريسة للاحتيال والخبث فإنه بالضرورة يخرج ما هو مخفي في أعماقه. لأن الأمور التي في العقل والقلب تغلب ويتقيأها الإنسان مع تيار الحديث المتدفق. لذلك فالإنسان الفاضل يتكلم بما يليق بأخلاقه، أما من هو غير مستحق وشرير فهو يتقيأ نجاسته الخفية. لذلك، فإن المسيح يعلمنا كل ما هو لمنفعتنا، ويطلب من تلاميذه أن يكونوا حذرين من الخداع وساهرين وحريصين. لأجل هذا السبب هو يريهم الطريق المستقيم، ويكشف لهم الخداعات التي تقود إلى الشر، لكي عن طريق الهروب من العثرات وبالثبات والرسوخ في العقل وتجاوزهم خطر الخطية، فإنهم يصلون بسرعة إلى المنازل العلوية ببركة المسيح، الذي به وله مع الله الآب التسبيح والربوبية مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمین.

عظة (٣٤)
طاعة الوصية

(لو6: 46ـ 49) ” ولماذا تدعوني: يارب، يارب، وأنتم لا تفعلون ما أقوله؟ كل من يأتي إلي ويسمع كلامي ويعمل به أريكم من يشبه. يشبه إنسانا بني بيتا، وحفر وعمـق ووضـع الأساس على الصخر. فلما حدث سيل صدم النهر ذلك البيت، فلم يقدر أن يزعزعة، لأنـه كان مؤسسا على الصخر. وأما الذي يسمع ولا يعمل، فيشبه إنسانا بنى بيته على الأرض من دون أساس، فصدمة النهر فسقط حالاً، وكان خراب ذلك البيت عظيماً”

يوجد رب واحد، ایمان واحد، معمودية واحدة” فهكذا يكتب بولس الحكيم (أف 4: 5)، لأن اسم الربوبية وحقيقتها كلاهما خاصين فقط بتلك الطبيعة التي تفوق الكل، وهي العالية جدا، وتحكم كل الأشياء. فهكذا يقول عنه بولس أيضا في موضع آخر: “لأنه وإن وجد آلهة كثيرون في السماء أو على الأرض، لكن لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له. ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به” (1كو 8: 5 ، 6). ولذلك حيث إننا نعترف بالله والكلمة وحده الذي يملك مع الله الآب، أي نعترف به بالطبيعة وبالحقيقة أنه الرب. فتبعا لذلك نحن نعطي هذا الاسم له. ولكنه هو يسأل ” لماذا تدعونني يا رب ولكنكم لا تفعلون ما أقوله؟” لأنه إن كان لا يملك سلطانا حقيقيا، ولا مجد الربوبية، بل على العكس إن كانت الربوبية ممنوحة له من الخارج ومعطاة له كنعمة، فعندئذ لا تقدم له خضوعك. وعندئذ ترفض خدمته، ولا تقبل أن تكون تحت سلطانه كرب لك. ولكن إن كان حقا بالمعنى الدقيق هو الرب، وكل طبيعة المخلوقات تنحني تحت صولجانه وهي مثل شيء موضوع تحت قدمي سيده، فحينئذ قدم له ما هو حق له. أقبل النير وقدم له طاعتك كحق له، لكي لا تسمعه يوجه لوما لك بالكلمات التي نطقها أحد الأنبياء القديسين للقدماء ” الابن يكرم أباه والعبد يكرم سيده. فإن كنت أبا فأين كرامتي، وإن كنت سيدا فأين هيبتي قال رب الجنود؟” (ملا1: 6).

بل تعالوا ودعونا نرى، بواسطة ما يحدث بيننا، اللوم الذي نصير معرضين له بسبب عدم الطاعة. فنحن أنفسنا متعودون أن نطلب من خدمنا طاعة ممزوجة بالخوف، وحينما يتمردون ويطرحون عنهم نير العبودية فنحن نخضعهم بالقيود والتعذيبات والجلد. لذلك، فإن كنا نحن الذين على الأرض ونحن بالطبيعة إخوة لأولئك الذين ينحنون تحت النير، لا نستطيع أن نحتملهم حينما يتمردون، فكيف سيحتمل الله تمردنا، وهو الذي تعبده الرئاسات، والعروش والربوبيات، والذي في حضرته يقف السرافيم الممجدون جدًا يقدمون له خدمتهم باستعداد؟ لأن داود الإلهي يقول عنهم في المزامير ” باركوا الرب يا جميع ملائكته، السامعين صوت كلامه. باركوا الرب، يا جميع جنوده، خدامه العاملين مرضاته” (مز 103: 20 ، 21).

لذلك فإنه خطر وأمر يستحق دينونة نهائية أن يكون الإنسان غير راغب في الخضوع للمسيح القدير. أما أولئك الذين يجلون خدمته فسينالون بركات ممتازة جدا. لأنه قد قال بواسطة أحد الأنبياء القديسين لأولئك الذين يهربون من نيره ولا يخضعون ليكونوا تحت سلطانه ” هوذا عبيدي يأكلون وأنتم تجوعون، هوذا الذين يطيعونني يترنمون من طيبة القلب وأنتم تصرخون من كابة القلب ومن انكسار الروح تولولون” (إش 65: 13 ، 14). فها أنت ترى أن تاج أولئك الذين يحملون النير، نير الخدمة هو جميل جدا، ويستحق أن يقتني، وهو ثمين جدا بينما الباقون يحكم عليهم بدينونة شديدة ومتنوعة.

وفي مكان آخر أيضا يمكنك أن ترى الخادم الحقيقي يزين بكرامة فائقة، بينما غير المطيع والمهمل فإنه يرفض بخزي، أو بالحرى يطرح إلى الظلمة الخارجية. لأن الذين أخذوا الوزنات وضاعفوا ما أعطى لهم فإن صاحب الوزنات كرمهم ومدحهم، لأنه قال لكل واحد منهم ” أيها العبد الصالح والأمين كنت أمينا في القليل فأقيمك على الكثير، أدخل إلى فرح سيدك” (مت 25: 23). أما الذي أخفى الوزنة في الأرض كغير محب للخدمة وكسلان فإنه حكم عليه بعقوبة شديدة لا مفر منها.

وفي موضع آخر قال أيضا ” فمن هو العبد الأمين الحكيم الذي أقامه سيده على خدمه ليعطيهم الطعام في حينه. طوبي لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا. الحق أقول لكم إنه يقيمه على جميع أمواله” (مت 24: 45 ، 46). لذلك فأولئك الذين يحفظون إرادة مخلصنا، يصيرون ممجدين، ويستحقون أن يحاكيهم الآخرون، وأن يزينوا بالمديح بسبب أمانتهم، بل وأكثر من ذلك فإنهم يحصلون على اسم يعطى لهم لأنه قد قال عنهم في موضع معين: “والذين يخدمونني سيدعى عليهم اسم جديد، الذي هو مبارك على الأرض” (إش 65: 15 س).

وتوجد أيضا نقطة أخرى أظن أنها ينبغي أن تضاف لما سبق أن قلناه، وهي أنه بالرغبة في الخضوع لكلمات مخلصنا وخدمته، فإننا سنربح في المقابل كرامة الحرية بقرار منه. لأنه قال لأولئك الذين يؤمنون به ” إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي وتعرفون الحق والحق يحرركم” (يو 8: 31 ، 32). لذلك فنحن نربح مجد الحرية بواسطة الخضوع، اي بهبوديتنا له. فهذا يجعلنا أبناء وورثة الله، وشركاء مع المسيح في الميراث الذي يشهد عنه المسيح نفسه قائلاً ” كل من يعمل الخطية هو عبد الخطية، والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، أما الابن فيبقى إلى الأبد، فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا” (يو 8: 34).

لذلك فالرغبة في الخضوع للرب هي التي تأتي بنا إلى الحرية، وإلى الكرامة التي هي امتياز الأبناء الخاص. أما عدم الطاعة فيضعنا وينزل بنا إلى عبودية وضيعة ومخزية حسب القول الحق الأكيد ” إن كل من يفعل الخطية هو عبد للخطية” (يو 34:8). ولكن قد يقول واحد، نعم إن الطاعة للمسيح هي أمر ممتاز جدا وتستحق أعلى تقدير لكنها ليست على أي حال أمر سهل، لأن هناك الكثير الذي يقف في طريقنا ويمكن أن يطفئ غيرتنا. وأنا أقول أيضا نعم لأنه أول كل شيء فإن الشيطان يقاوم كل ما هو جليل، والجسد في ميله إلى اللذة يحارب ضد الروح ” وهذان يقاوم أحدهما الآخر” حسب تعبير بولس الحكيم (غلا 5: 17). وناموس الخطية الذي في الأعضاء يقاوم بضراوة ومرارة. لأني أعرف أن بولس الذي كان متعلما في الناموس يناقش هذه الأمور بروعة، لأنه قال ” فإني أسر بناموس الله حسب الإنسان الباطن، ولكني أرى ناموسا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي” (رو 7: 22 ، 23). ويقول أيضا ” إذا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية” (رو 7: 25). وإلى جانب ذلك يوجد ميل قوي في عقل الإنسان يجعل الإرادة تضل وراء اللذات ويولد سرورا بالشهوات العالمية، ويبعد الإرادة عن حب التعب في سبيل الفضيلة، فهل بسبب هذا نرفض خدمتنا للمسيح؟ هل هو يأمر بأي شيء مستحيل ولا يمكن عمله؟ وهل يطلب منا شيئا يفوق حدود طبيعتنا؟ ومن الذي يتجاسر أن يقول هذا.

لأنه بالتأكيد يجعل كل ما يوصينا به، يتكيف مع عقولنا، لذلك حينما تخبرني عن صعوبة الطاعة، فإني أقول لك أيضا هل الأمور العظيمة والممتازة تأتي بسهولة؟ وهل أولئك الذين يسعون أن يقتنوها ينجحون بدون جهد؟ أم بالعكس فإن هذه الأمور يتم الوصول إليها بالجد والأتعاب؟ فمن هم الرجال الذين يربحون الإكليل عادة في جهاد المباريات؟ هل هم الذين كرسوا أنفسهم كلية للمهارة في فن الكفاح وقد اجتازوا في أتعاب مريرة، لأنهم يحتملون كل شيء حسب تعبير القديس بولس (1كو 9: 25)، أم على العكس هم الكسالي والمتنعمون الذين لا يعرفون بالمرة ما هو مناسب للرياضيين؟

ومن من أولئك الذين يفلحون الأرض تكون آلة الدراسة عندهم مملوءة بالحزم؟ هل هم أولئك الذين يهملون الحرث ولا يقومون بالتعب الشديد الذي للمعول، أم على العكس هم المجتهدون والكادحون الذين يلازمون الأتعاب الضرورية للحصول على محصول وفير؟ الجواب معروف، حتى لو لم ينطق به أحد، إنهم أولئك الذين لهم إرادة العمل وليس أولئك الذين يحبون الراحة، هم الذين تكون لهم حياة سعيدة ولا ينقصهم شيء لازم للحياة الهادئة. والمرنم أيضا يشهد لهذا في أحد الفقرات التي يذكر فيها الذين يفلحون الأرض كمثال لشيء آخر فيقول: “كانوا يسيرون بالدموع حاملين بذارهم ويعودون بالفرح حاملين حزمهم” (مز 125: 6 س). لذلك فالفرح هو ثمرة التعب.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الرب نفسه يحثنا على محبة الجهد في كل سعي يستحق المدح، إذ يقول ” ادخلوا من الباب الضيق لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة ” (مت 7: 13 ، 14). لذلك لاحظوا أن الطريق الضيق يؤدي إلى الحياة، بينما النزول السهل في الطريق الواسع يؤدي بالناس إلى اللهيب والعذابات التي لا تنتهي. لذلك فإن كنا ندعو المسيح مخلصنا جميعا، يا رب، فلنعمل الأشياء التي يقولها لنا. لأنه هو نفسه يعلمنا ما هي المنفعة من رغبتنا في أن نعمل ما أوصينا به، وما هي الخسارة الناتجة من رفضنا أن نطيع، لأنه يقول “كل من يسمع كلامي ويعمل به يشبه إنسانا يبني بيتا ويحفر ويعمق ويضع الأساس على الصخر”، أما الذي لا يطيع فهو مثل إنسان يبني بيتا ولكنه لم يعتن بثباته. لأن الذي يطيع ويخضع يكون له وضع ثابت في كل شيء كريم وصالح، لأنه لا يكون سامعا للناموس فقط، بل عاملاً به، لذلك فهو يشبه بيت مبني بثبات وله أساس لا يمكن أن يتزعزع حتى إن ضغطت عليه التجارب وحتى إن هاجمته الشهوات الساكنة فينا مثل سيل شتوي، أو مثل طوفان فإنه سوف لا يخسر. أما الذي يميل بسمعه فقط إلى ما يقوله المسيح ولكن لا يحتفظ بشيء في عقله ولا يعمل شيئا مما أوصى به، فإنه يكون مثل بيت مستعد للسقوط، لأنه سينحرف في الحال إلى أمور غير لائقة حينما تغريه اللذة وتقوده إلى مهاوي الخطية.

لذلك فإن طاعة المسيح كما نؤكد، تأتي بنا إلى كل بركة. وإن كنا نتممها بلا لـوم فإن المسيح سوف يتوجنا بنعمته، الذي به وله مع الله الآب التسبيح والسلطان مـع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

 

زر الذهاب إلى الأعلى