تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 14 للقمص متى المسكين
الأصحاح الرابع عشر:
4 – شفاء المستسقي (1:14-6)
القديس لوقا وحده
في هذا الأصحاح نجد الأعداد (1:14-24) تكون مجموعة واحدة في بيت الفريسي الذي دعا المسيح ليأكل عنده، وكأنه حديث المائدة المستديرة في عرفنا، وهي تخص انتقادات الفريسيين. وهي تبتدئ بشفاء الرجل المريض بداء الاستسقاء، والمحاورة قريبة من القصة السالفة التي ذكرناها في الأصحاح السالف (10:13-17).
1:14و2 «وإذ جاء إلى بيت أحد رؤساء الفريسيين في السبت ليأكل خبزاً، كانوا يراقبونه. وإذا إنسان مستسق كان قدامه».
لأول مرة نسمع بأن هناك صاحب منصب يسمى برئيس الفريسيين، ويبدو أنه حاكم تابع للفريسيين، والوليمة هي الأكلة الرسمية بعد صلاة السبت. ويبدو أن هذا الفريسي كان عضواً في السنهدرين، وبذلك ربما يكون البيت هنا في أورشليم، كما يبدو أن الوليمة كان يحضرها جماعة مـن الفريسيين. أما الرجل المستسقي فواضح أنهم جاءوا به ليصطادوا به المسيح وهو يكسر السبت. ومرض الاستسقاء (حيث كلمة ὑδρωπικὸς مشتقة من كلمة ماء) مرض يصاب فيه الجسم بارتشاح الماء في الأنسجة وفي تجويف البطن ويتورم الجسد، وغالباً ما يكون ذلك اختلال وظائف الكبد والكليتين وغيرها. وكان الربيون يعتبرون أن هذا المرض نتيجة خطيئة. أما المسيح فقبل التحدي الصامت الذي أبرزه الفريسيون في إحضـار هـذا الرجل داخل البيت. وهنا التفت المسيح لجماعـة الناموسيين والفريسيين الجالسين وسألهم:
3:14و4 «فأجاب يسوع وكلم الناموسيين والفريسيين قائلاً: هل يحـل الإبراء في السبت؟ فسكتوا. فأمسكه وأبرأة وأطلقه».
فلما بادرهم المسيح هكذا بالسؤال، سكتوا لأنهم يستحيل أن يجيبوا بنعم، وسكوتهم معناه انتظار ما سوف يعمله المسيح. وفعلاً أمسكه المسيح ولا نعرف كيف أبرأه، هل بوضع يده أم بكلمة واحدة أبرأه كالعادة.
أما تعليقنا على هذا فهو أن الله أعطى الإلهام لموسى أن يضع الناموس وذكر فيه أن ستة أيام فقط يجوز فيها العمل (خر 9:20)، فيجيئون فيها إلى المجمع ليستشفوا وليس في السبت، ولم يكن متجاوزاً ذلك عمل الرحمة، ولكن كان يربي هذا الشعب على احترام الله ووصاياه أكثر من منفعته وحياته وصحته. والمسيح الذي سأل سؤاله للفريسيين نعتقد أن الإجابة المتوقعة كانت بالنفي القاطع، فهل المسيح هنا يتجاوز الناموس ويخالف الوصية؟ نقول نعم وهو يعلم ذلك. ومن أجل ذلك سألهم لينبههم أنه يكسر الناموس أمامهم، ليوقظ فكرهم المعتم وقلبهم المسدود أنه هو واضع الناموس وهو الذي يكسره، فلا يمكن إلا أن يكون هو الله. لأن المسيح هنـا قـد يبدو كما يقول العلماء أنه يتحدى الفريسيين ويتحدى الناموس. أما نحن فنقول كلاً، هو لم يتحد الناموس بل جاء ليكمله ويلغيه، فبكسره للسبت أمامهم يكون قد نادى بعصر النعمة التي هي فوق الناموس والسبت. وأما ما هي النعمة، فهي العمل الذي عمله بأن شفى المريض بكلمة ليفهموا أنه فوق الناموس والسبت. لأنه ما قيمة الناموس والسبت إذا كان هذا وذاك عاجزين عن إعطاء الشفاء لمريض، فالمسيح جـاء هنا لينبه الناموسيين والفريسيين أن يستيقظوا مـن رقـادهم ويفهمـوا أن هنـا مـن هـو أعظـم مـن النـاموس والسبت (مت 5:12و6)، وبيده الصحة والعافية والقيامة من الموت. أما كان واجباً على الناموسيين والفريسيين بعد هذا العمل الذي يمجد الله أن يفهموا أنه هو “مسيا” الذي ينتظرونه لأنه عمل أعمال الله أمام أعينهم؟! فإذا كانوا قد انخرسوا ولم يسألوه من أنت فهذه جريمتهم لأنهم أدركوا أنه “مسيا”، ولكنهم خافوا لئلا يطردوا من المجمع. لقد تعمد المسيح دائماً أن يكسر السبت بشفاء المرضى وإخراج الشياطين لينبههم أنه “مسيا” وعلى مستوى يهوه يشفي ويحيي من موت ويأمر الشيطان بكلمة فيخرج صارخاً. ولكن طبيعة الفريسيين هي الجبن والرياء وهي التي حرمتهم من معرفة المسيح والإيمان به والشهادة له.
5:14و6 «ثم أجابهم وقال: من منكم يسقط حماره أو ثوره في بئر ولا ينشله حالاً في يوم السبت؟ فلم يقدروا أن يجيبوه عن ذلك».
وهنا أيضاً ولو أن المسيح يعلم تماماً أنه يكسر الناموس إلا أنه من وجه آخر يوضح لهم عماهم كونهم يصنعون الرحمة بالحمار، ولا يريدون الرحمة للإنسان المريض خلـوا مـن نـاموس ووصايا. أي كما يكسرون الناموس من أجل حمار كان بالأولى أن يتجاوزوه إذا رأوا المريض قد شفي في السبت . وهنا يكشف المسيح عن قصورهم وخوفهم وجبنهم المريع لأنه إن كان من الصعب عليهم الاعتراف بأن المسيح هو “مسيا فليعترفوا به أنه نبي الله القادر على عمل ما لا يعمله نبي!
5 – الجري وراء الكرامة (7:14-11)
القديس لوقا وحده
+ «كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع.» (لو 11:14)
ابتدأ المسيح يتكلم ويعلم بعد حادثة شفاء المستسقي، واختار ق. لوقا كلام المسيح على الجري وراء الكرامة بالمثل الذي قاله مبنياً على أساس أن الكرامة الحقيقية في الاتضاع، وأن الذي يطلب الكرامة لنفسه يوضعه الله. لأن المسيح لم يقصد بهذا المثل وهذا التمثيل كيفية الجلوس إذا دعيت إلى وليمة، ولكنه أراد أن يوجه نظرنا إلى أن الأوضاع الدنيوية سوف تنقلب لتأخذ صورتها العكسية في ملكوت الله. هذا هو الفكر الذي يلح على المسيح أن يوصله لنا لكي نتعلم من هنا كيف نختار المكان الأقل بين الناس في أي موضع وعلى كل حال. لأن الملكوت مبني على أساس الصليب، ومن يستصعب المرور على الصليب يستحيل عليه أن يبلغ الملكوت بأي حال. لأن المسيح افتتح لنا الملكوت بأخذه شكل العبد وانحنى وغسل أرجل تلاميذه قبل الفصح الأخير ثم أحنى ظهره للسياط، وانحنى تحت خشبة العار وقبل تخلي الآب، وشرب مرارة كأس الخطايا الأخير وقبل الموت كمستضعف وخاطئ. وهذا بحد ذاته كان عبوراً بنا في جسده على هذه المراحل كلها لكي يعطينا القوة والشجاعة والإيمان أن نجوزها برضى وفرح، كما جازها هو بنا هكذا نجوزها نحن به لأنه وعد أنه لن يتركنا. فأساس الخلاص كله تم بانحناء الظهر وحمل أثقال الآخرين وضعفاتهم وخطاياهم. فإذا لم يكن الإنسان على مستوى المسيح في تحقيقه للخلاص فكيف يخلص؟ «أنتم تدعونني معلماً وسيداً وحسناً تقولون لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض لأني أعطيتكم مثالاً حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً.» (يو 13: 13-15).
وفي الحقيقة أنه بهذا المثل أصبح علينا إن لم يكن ممكناً أن نغسل أرجل الناس، أن ننحني على الأقل انحناءة المسيح لكـل أحـد، كبـر أم صغر، عالمين أن الاتضاع أصبح جزءاً لا يتجزأ مـن الخـلاص، والمكان الأخير صار باباً للملكوت.
7:14و8 «وقال للمدعوين مثلاً، وهو يلاحظ كيف اختاروا المتكات الأولى قائلا لهم: متى دعيت من أحد إلى غرس فلا تتكئ في المثكا الأول، لعل أكرم منك يكون قد دعي منه».
يلاحظ في هذا القسم من الأصحاح (7-14) أن الذي يربطه ببعضه كلمة واحدة وهي الفعل κληθῇς وتعني: “يدعو”، فقد تكررت فيه تسع مرات، وهي فعلاً تصح أن تكون مفتاح هذا القسم، لأن كـل دعـوة وراءهـا تقـديـم كـرامـة. والمسيح هنـا يكـلـم المدعوين الذين تسابقوا على المتكا الأول أي: مجلس الشرف والأولوية، أو امتياز الشرف في تلك الأيام، وكان يعتمد على درجة الشخص ووظيفته وامتيازه في المجتمع وكذلك السن. وكان المركز المتميز في نهاية المائدة إذا كانت مستطيلة وفي وسط المتكا إذا كان مستديراً. وقد حدث مع التلاميذ أنهم تشاحنوا معاً على من يجلس في المتكا الأول بعد المسيح عن اليمين، وعلى أكثر الظـن كانت المشاجرة بين يهوذا وبطرس أكبر التلاميذ سناً، ولكن يهوذا كان أكثر جاها وكان لصاً يسرق ما في الصندوق. وهنا أيضاً لاحظ المسيح التنافس على المتكا الأول (24:22).
10,9:14 «فيأتي الذي دعاك وإياه ويقول لك: أعط مكاناً لهذا. فحينئذ تبتدئ بخجل : تأخذ الموضع الأخير. بل متى دعيت فاذهب واتكئ في الموضع الأخير، حتى إذا جاء الذي دعاك يقول لك: يا صديق، ارتفع إلى فوق. حينئذ يكون لك مجد أمام المتكئين معك».
في الآية الأولى اختار الإنسان المتكا الأول وهو على غير كفاءة له فأنزله صاحب الوليمة إلى ما دون، وفي الآية الثانية اختار الإنسان المتكا الأخير فرفعه صاحب الضيافة إلى المتكا الأول.
في هذين المثلين كان الذي اختار المتكا الأول غير كفء له، وفي المثل الثاني كان المكان نفسه غير كفء له، لذلك حصل نزول وطلوع لكي تتناسب كفاءة الإنسان لكفاءة المكان. والمسيح يطلب ما هو أكثر من هذا: يطلب أن الإنسان يعتبر نفسه كفأ للمكان الأخير لا ادعاء بل من صميم قلبه ونيته ويتشبث بالأخير مهما كان، لأنه يشعر شعوراً صادقاً أنه كفء فقط للمكان الأخير وغير كفء إطلاقاً للمكان الأعلى أو اللقب الأكبر.
بمعنى أن المسيح يسعى ليكون لنا قلب الإنسان وضميره وفكره الذي لا يتناسب إلا مع الأقل. فلا يختار المكان أو اللقب الأقل بل يطلبه عن قناعة ويرفض غيره. والقطب الجاذب لهذا الفكر هو المسيح سواء في صليبه أو في غسله لأرجـل تلاميذه، فالمسيح لم يغسل أرجـل تلاميذه باتضـاع كـاذب أو كمن يعطي المثل وهو أعلى منه، بل الذي نزل من عرشه وأخذ شكل العبد عمل عمل العبد، فالذي يغسل أرجل الناس هو العبد. يعني أن المسيح مارس صليبه في غسيل أرجل تلاميذه؛ بل مارس تحشده وإرساليته كلها. والذي يجعل هذا الشرح صعباً على النفس هو لأننا تعودنا على اختيار المكان الأول أو على الأقل جداً المكان المناسب لنا، ولكن المسيح أخذ باختياره المكان الدون ومارس عمله الدون بناء على قناعة أنه من هنا يستطيع أن يؤدي رسالته على الصليب. فالذي قال له «احمل صليبك واتبعني» يتحتم عليه أن يكون له هذه القناعة وإلا استحال عليه حمل الصليب!!
11:14 «لأن كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع».
هذه الآية يستحيل علينا فهمها إلا إذا فهمنا ما عمله الله مع المسيح هكذا:
+ «لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم … »(في 2: 7 -9)
هنا المسيح أخذ أولاً صورة عبد لذلك استطاع أن يضع نفسه ويطيع حتى الموت: وهذا أعظم عمل عمل باسم البشرية وجسدها، فكان في مقابله أن رفعه الله ومعه جسد البشرية أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم. وهذا هو أعظم عمل عمل من أجل البشرية. هنا وقياساً على الآية السالفة (لو 11:14) لم يضع المسيح نفسه ليرفعه أبوه، لأنه وضع نفسه حتى الموت، بمعنى أن عمله انتهى بالموت، وحينئذ بدأ عمل الله في المقابل أن رفعه الله وأعطاه اسماً فوق كل اسم.
إذن، يتحتم علينا أن نشرح الآية بحسب ما فهمنا الآن أن الإنسان عليه أن يضع نفسه إلى النهاية غير منتظر إطلاقاً أن يرتفع أو يرفعه أحد. فإن كان صادقاً في ذلك فالله حتماً يتمم عمله بأن يرفعه إلى ما عنده، لأنه لا توجد رفعة للإنسان إلا بأن يقبله الله عنده.
أما الجزء الأول من الآية: «لأن كل من يرفع نفسه يتضع» فليس أمامنا صورة لمن رفع نفسه أمام الله إلا الشيطان: «أهبط إلى الهاوية فخرك … كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم. وأنت قلت في قلبك أصعد إلى السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقصى الشمال، أصعد فوق مرتفعات السماء أصير مثل العلي. لكنـك انحدرت إلى الهاوية إلى أسفل الجـب» (إش 14: 11-15). لذلك فالشيطان هـو القطب الجاذب لنفس الإنسان إلى التعالي، وإذ لا يستطيع أن يحتفظ بها في الغلا تسقط.
6 – ولائم المساكين (12:14-14)
القديس لوقا وحده
الرب يختار المساكين ضيوفاً أعزاء عنده ليكونوا على ولائم الناس الأثرياء، فهو يوصينا بدلاً من ندعو الأقارب والأصدقاء والعظماء فيردون لنا الوليمة أو ما يماثلها، فهو يعيّن لنا المختارين عنده للأكل على موائد أبناء الله المقتدرين أنهم الذين ليس لهم ولا عندهم ما يردون ذلك، وبهذا تحفظ الصدقة كاملة لحساب الله الذي يستطيع أن يردها بالكيل الملبد المهزوز الفائض (لو 38:6). يفتح كـوى السماء لتفيض (مل 10:3) حتى نقول كفى كفي. هذه تُحسب موائد محبة للذين ليس لهم. ولكن هذه الموائد لا تمنع موائد المحبة التي يصنعها أولاً الله للمحبين لأن فيها تتقابل القلوب والأفكار والأعمال لخير الشعب. غير أن ولائم المساكين هي ضريبة الله على الأغنياء، أما موائد المحبة لجمع شمل الأسر والأحباء والمقتدرين فهي ضرورة تحتّمها حاجة الجماعة إلى القلب الواحد والفكر الذي يعمل لخير الجميع.
12:14 «وقال أيضاً للذي دعاة: إذا صنعت غداء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء، لئلا يدعوك هم أيضاً، فتكون لك مكافأة».
الدعوة قد تكون على المائدة المبكرة (غذاء) أو الرئيسية بعد الظهر (عشاء). والمدعوون المذكورون هنا على أربع درجات: إما أصدقاء أو إخوة أو أقارب أو جيران. والمدعوون إما على مستوى الضيوف وهؤلاء ليس لدعوتهم عائد سماوي، وإما على مستوى الإكرامية hospitality ، وهؤلاء هم الفقراء الذين لهم عائد سماوي لأنهم لا يستطيعون أن يردوا الجميل على الأرض ولكن يردونه من نصيبهم الأكبر في السماء.
13:14و14 «بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين: الجدع، العرج، العمي، فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافوك، لأنك تُكافي في قيامة الأبرار».
يلاحظ أن المسيح مدعو (الآن) عنـد رئيس الفريسيين، وكانت وليمـة فاخرة لعليـة القـوم، فشاركهم المسيح في أكل الخبز ثم بدأ يوجه نظر المضيف فقط إلى الإخوة الأصاغر المحرومين. لأن المساكين وهم الفقراء، والجدع وهم الذين بلا ذراع أو بلا ذراعين، والعرج ذوو الساق الواحدة، والعمي الذين فقدوا الإبصار، هؤلاء تكون دعوتهم مقبولة عند الله ويجازي عنها في قيامة الأبرار وهي القيامة الأولى التي قال عنها سفر الرؤيا (6:20).
وكانت الكنيسة القبطية بالذات تهتم بموائد الأغابي للفقراء فعلاً حتى ربما إلى مائة سنة مضت فقط. ولكن المدنية طغت على عادات الآباء الأوائل. ولكن لا تزال حتى الآن بعض البيوت تعمل هذه الأغابي بالإضافة إلى عادة التوزيع على البيوت الفقيرة وهي التي نشطت جدا هذه الأيام كما نشطت بعض الجمعيات لعمل هذه الأغابي مرة أخرى.
7 سر العشاء العظيم (15:14-24)
(مت 1:22-10)
يحكي هنا المسيح قصة ويحبكها حبكاً بديعاً لتعطي لنـا صـورة وليمة الملكوت إنما بإتقان بليغ. وفحواهـا أن إنساناً ذا شأن صنع عشاء عظيماً ودعـا كثيرين، وأرسـل عـبيـده سـاعة العشاء ليقـول للمدعوين تعالوا لأن كل شيء معد، فاستعفوا جميعاً لأسباب واهية مما أغاظ صاحب الوليمة، فأرسل عبيده إلى شوارع المدينة وأزقتها ودعا المساكين وذوي العاهات، ولكن البيت لم يمتلئ. فقال السيد لعبيده أن اخرجوا خارج السياجات أي خارج أسوار المدينة حيث أصحاب المساكن العشوائية غير المعدودين كبني آدم من سكان المدينة، وقال لعبيده ألزموهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي، وحرم الرجال المدعوين أصحاب العشاء الأصليين.
وهكذا انكشفت وليمة الملكوت واستعلن سرها، فالمدعوون الأصليون هم اليهود أصحاب الملكوت بحق العهد والوعد الذي لإبراهيم، الذي قطع السيد الرب أن لا يذوقوه. وأما الذين في الشوارع والأزقة وأصحاب العاهات فهم مساكين الشعب اليهودي الذين ليس لهم ضلع في جريمة الجلجثة. أما أصحاب المساكن العشوائية الذين ليسوا مسجلين في مواطنة المدينة فهم الأمم الذين استكثروا على أنفسهم أن يدعوهم (كأنجاس أو كلاب) فألزمهم بالحب أن يدخلوا ويكونوا هم أصحاب الملكوت ويملأوه.
ولكن الذي جعل المسيح يقول هذه القصة هو رجل من المدعوين، كان يستمع إلى المسيح وهو يحكي عن أصول الدعوة وكيف ينبغي أن تقام من أجل المساكين وذوي العاهات، فرفع صوته وقال: طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله» وهكذا قال المسيح هذه القصة ليوضح لمن تكون هذه الطوبى في أكل خبز الملكوت.
ولكن ينبغي أن نفهم أن هذه القصة طبقت تماماً بواسطة الكنيسة الأولى لما خرج الرسل – وخاصة القديس بولس ـ يدعون اليهود فرفضوا وآذوا الكنيسة وأتلفوها، فاعتمدت الكنيسة أولاً على فقراء اليهود والمحرومين منهم، ثم امتدت الدعوة للأمم الذين ألزمهم ق. بولس بالدخول، ولا تزال الدعوة لهم قائمة والبيت لم يمتلئ بعد!!
عن 15:14 «فلما سمع ذلك واحد من المتكئين قال له: طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله».
هذا الرجل انفعل جداً بكلام المسيح الذي يعطي أولوية الدعوة للوليمة للمساكين وذوي العاهات. وقد أحس الرجل من القول: «فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافوك، لأنك تكافي في قيامة الأبرار» (لو 14:14) أن المسيح يتكلّم عن الملكوت. وهذا يشبه المرأة التي لمها سمعت المسيح يتكلم بكلام الله رفعت صوتها أن «طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما» فرفع المسيح هذه الطوبى إلى من يسمع كلام الله ويحفظه، الذي لا يخرج كثيراً عن صاحب البطن والثديين، لأن القديسة العذراء مريم سمعت كلام الله وحفظته في قلبها (لو 19:2)!! وهنا مع هذا المدعو حدث ذات الشيء، إذ لميا قال طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله كشف المسيح لمن هذه الطوبى ومن هـم الأكلون خبز الملكوت. وهكذا قدرة المسيح المدهشة للانتقال من صور السماء إلى صور الأرض في يسر وإبداع.
16:14و17 «فقال له: إنسان صنع عشاء عظيماً ودعا كثيرين، وأرسل عبده في ساعة العشاء ليقول للمدعوين: تعالوا لأن كل شيء قد أعد».
يقدم المسيح هنا صورة أرضية وبشرية لصورة أخرى سماوية حيث الإنسان هنا هو الله أو المسيح هناك. والعشاء العظيم هو بعينه مائدة الملكوت، عشاء الله، أما الدعوة فهي بحكم عمومية الملكوت لأنه ليس خاصاً لأحد، فالدعوة عامة للجميع ولكن أصلاً بحسب ما يعتقد الإنسان إنها خاصة بشعب الله . وأما أن كل شيء معد فهو كمال عمل الفداء والخلاص اللازم جداً الإيمان به لحصول المدعو عليه.
20-18:14 «فابتدأ الجميع برأي واحد يستعفون. قال له الأول: إنّي اشتريت حقلاً، وأنا مضطر أن أخرج وأنظره. أسألك أن تعفيني. وقال آخر: إني اشتريت خمسة أزواج بقر، وأنا ماض لأمتحنها. أسألك أن تعفيني. وقال آخر: إني تزوجت بامرأة، فلذلك لا أقدر أن أجيء».
الدعوة قدمها المسيح لشعب إسرائيل، فسدوا آذانهم وأغمضوا عيونهم حتى لا يروا ولا يسمعوا فيتوبوا ويؤمنوا. فالرفض أو الاستعفاء هنـا عـن إرادة، وبذلك فضلوا حياتهم وأعمالهم . عن أن يأتوا ويسمعوا ويتوبوا ويشفيهم. هؤلاء هم الكتبة والفريسيون والناموسيون والكهنة ورؤساء الكهنة وبقية علية القوم من الأثرياء وذوي السلطان والجاه.
21:14و22 «فأتى ذلك العبد وأخبر سيدة بذلك. حينئذ غضب رب البيت، وقال لعبده: اخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقتها، وأدخل إلى هنا المساكين والجدع والعـرج والعمي. فقال العبد: يا سيد، قد صار كما أمرت، ويوجد أيضاً مكان».
واضح هنا من هو العبد – تبارك اسمه ـ إذ هو يسوع العبد المتألم الذي جال كل شوارع المدينة وأزقتها ودعا إليه المساكين وبشرهم، وكذلك العشارين والخطاة والزواني وكل صعاليك الأرض. فسمعوا واستجابوا وآمنوا بدعوة السيد ودخلوا بالإيمان”. ولكن العشاء عظيم وكان أصلاً لشعب بأكمله، فاشتكى العبد أنه لا يزال هناك مكان شاغر.
23:14 «فقال السيد للعبد: اخرج إلى الطرق والسياجات والزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي».
واضح هنـا مـن هـو العبد الآخر الذي تخصص للطرق وخارج أسوار المدن وداخلها، وهـو بـولس السليح الذي أخذ يتفاوض معهم ويرغبهم في العشاء فرضوا وآمنوا وألبسهم حلة العرس جميعاً. وهـم الأمم الذين جمعهم من أقطار الأرض وأصبح لهم شكل المدعوين : تماماً. وهكذا انفتح الملكوت على آخره ليستوعب الذين يأتون حسب المواصفات، حتى اليوم.
24:14 «لأني أقول لكم إنه ليس واحد من أولئك الرجال المدعوين يذوق عشائي».
وهؤلاء الرجال المدعوون الذين استعفوا ولا يزالون مستعفين هـم أصـلاً أصحاب الوعـد والعـهـد أولاد إبراهيم وكل الذين يرفضون الدعوة حتى اليوم.
وأما عشائي” فهو عشاء الخروف: «وقال لي اكتب طوبى للمدعوين إلى عشاء عرس الخروف »(رؤ 9:19). ونصيبنا فيه محجوز: «لنفرح ونتهلل ونعطه المجد لأن عرس الخروف قد جاء وامرأته (الكنيسة) هيأت نفسها وأعطيت أن تلبس بڑا نقيباً بحيا. لأن البز (البوص وهو الكتان الأبيض لبس الكهنة) هو تبررات القديسين.» (رؤ 19: 7و8)
ولكن الذي يهمنا من هذه القصة التوضيحية لأسرار عشاء الخروف، هو أن العرس قائم والدعوة قائمة ولا يزال الذين يستعفون مصرين على أسباب طلب الإعفاء من زراعة أرض وتربية بهائم ومشاغل الزوجية وطلباتها إلى ما استجد من الحرف والأعمال التي لا نهاية لها بنفس أسلوب استعفاء شعب إسرائيل الذي وصفه المسيح، وذلك غير مبالين بتهديد المسيح القاطع أنهم لن يذوقوا ملكوته. فهل ستتكرر حرب تيطس وخراب المدينة وحرق الهيكل؟ …
8 – شروط التلمذة للمسيح (25:14-35)
(مت 37:10و38)
موضوع التلمذة للمسيح يستغرق كثيراً من اهتمام ق. لوقا، فنجده في الأصحاح التاسع (57-62) وفي (18: 24-30). وإذا قورنت شروط دخول الملكوت بشروط التلمذة للمسيح نجد التلمذة أصعب. فالذي يجزع من شروط الملكوت كيف يقبل شروط التلمذة. فشروط الملكوت تتوقف على الإيمان بالمسيح لقبول الخلاص حيث الإيمان هو شرط الملكوت الأساسي، أما شروط التلمذة للمسيح فهي حمل صليبه واتباع خطواته:
+ «فابن الإنسان ليس له أين يسند رأسه» (58:9)،
+«دع الموتى يدفنون موتاهم وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله» (60:9)
+ «ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله.» (62:9)
مضافاً إليها :
+ «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله!» (24:18)،
+ «ليس أحد ترك بيتاً أو والدين أو إخـوة أو امرأة أو أولاداً من أجل ملكوت الله إلا ويأخذ في هذا الزمان أضعافاً كثيرة وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية.» (18: 29و30)
هذا بجانب ما ورد في هذا الأصحاح الرابع عشر ابتداء من العدد (18) وهي شروط المدعوين إلى العرس. أما هنا في (14: 25-35) فهي شروط تبدو أصعب، إذ يلزم الإنسان أن يقوى على قطيعة أهل بيته جميعاً قطعاً إن وصل إلى حد البغضة فقد وصل. ثم يدعوه الرب إلى حمل صليبه ويأتي وراء المسيح، ويلزمه قبل أن يعزم على التلمذة أن يجلس ويحسب مع نفسه النفقة، أي يقيم الموقف وإمكانياته. وأن يصالح كل من كان ليس معه صلح، وأن يترك جميع أمواله وأن يعد نفسه كأنه ذاهب إلى الملكوت فعلاً.
26,25:14 «وگان جموع كثيرة سائرين معه، فالتفت وقال لهم: إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته، حتى نفسه أيضاً، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً».
لا يزال المسيح صاعداً في الطريق إلى أورشليم، ويبدو أن السائرين معه قد تكاثروا، ويبدو أيضاً أنهم كانوا متحمسين له، لذلك اضطر أن يكشف لهم عن نفقة السيرمعه أو وراءه. وابتدأ بأهل البيت، وأهل البيت هم فعلا المحك الأول والأكبر للذي يريد أن يكون للمسيح تلميذاً ويتبع خطواته وتعليمه ووصاياه في أي طريق يختاره أو حياة يحياها. لأن اتباع المسيح تماماً هو إهمال العالم تماماً، والعالم أكبر قوة تربط الإنسان فيه هي قوة اللحم والدم والأسرة والأقارب، هؤلاء لهم جذب في النفس شديد لأنه ولد بينهم وتربي وتكونت العواطف الطبيعية العنيفة وتغلغلت النفس، خاصة عواطف الارتباط بالأب والأم لأنهم يمثلون تربة العالم التي نبت فيها وتغذى منها وعليها. والأب والأم أيضاً هما قاعدة الربط الشديد للغاية بين الإنسان وماضيه وأسلافه، لذلك هما يورثانه ماضيهما كاملاً ومواصفاتهما التي دخلت في صميم كيانه الجسدي. لذلك حينما يقول المسيح شارطاً شرطاً أنه إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه (وبقية التوابع) لا يقدر أن يكون لي تلميذاً!! فذلك لأن المسيح يمثل الحياة الأبدية أو هو الحياة الأبدية وهو الملكوت، وهذا هو العالم الروحي الآخر الذي لا يمت بعالمنا الأرضي في شيء؛ بل هناك تنافر شديد من جهة الطبيعة. فطبيعة الجسد من طبيعة العالم وطبيعة العالم غريبة ومضادة لطبيعة الروح والسماء والله : «الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد. وهذان يقاوم أحدهما الآخر» (غل 17:5). فعند أول قرار بترك الأهل تنبري الرباطات العالمية الطبيعية تقاوم بشدة، لذلك يلزم أن يكون في مواجهتها نفس تواقة بالروح إلى الله وتعلق إيماني بالمسيح واتكال شديد على الله ورغبة للانتماء إلى الحياة الروحية. كل هذا يلزم لكي يستطيع الإنسان أن يفك ربطه الجسدية من العالم التي يمثلها الأهل والأقارب الجسديون. كل هذا لشرح كلمة المسيح: «أن يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه» (المربوطة بالعالم). فالبغضة التي يقصدها المسيح هي بعينها فك الربط الطبيعية التي تربط الإنسان بالعالم بواسطة الأهل والأقارب، والبغضة التي يطلبها المسيح لا تُفهم أنها كره أو تعال ولو أنها تنظر من الناس هكذا، ولكنها عملية فك ربط شديدة.
ولكن لكي تتسع مداركنا لفهم هذا الواقع، علينا أن نتذكر أننا حتماً سنقطع هذه الربط بالموت، فهي ربط كذابة فانية وزائلة بزوال الجسد، ولكن الربط الروحية التي ستنشأ مباشرة وتبعاً لفك أو قطع الربط الجسدية لا يمكن مقارنتها من حيث القيمة والسعادة والخلود. فالمقارنة تكون كما إذا قارننا آلام المخاض التي تجوزها الوالدة، بالفرح الذي يكون لها بعد أن ترى ولدها بين يديها ـ ولكن أكثر بكثير ذلك. وهذا المثل الذي أعطيته حينما نفسره روحياً يكون مطابقاً بشدة، فالإنسان الذي ينطلق في الحياة الروحية مع الله والمسيح يحس بتفاهة الربط التي كانت تربطه بالعالم كمن ولد جديداً وترك وراءه خياله الذي كان يدعى الجسد، وكل الأقارب تبدو حقا كقول المسيح عالم أموات (60:9)، ويتمنى أن من يصيروا جميعاً مثله.
لذلك أشبه من ترك الأهـل والعـالم وانطلق يحيا الله في أي دعوة اختارها ويكون له صلات وثيقة بالأهل واهتمام دائم، بحالة ولادة متعسرة يعيشها على الدوام، لا يتمتع فيها بمولوده الجديد التي هي نفسه الروحانية الجديدة. والمسيح الذي أعطى هذه الوصية، وصية البغضة، هو بحسب ما رأينا وتحققنا جراح ماهر يعرف كيف يخرج النفس من بطن العالم.
وإن كان الذي ترك أباه ليحمل صليبه ويذهب وراء المسيح، فالذي ترك أمه وحضنها الدافئ ليسير في الطريق الضيق، فله في العذراء القديسة مريم حضناً آخر أكثر راحة وإسعاداً. فروح الأم التي افتقدها الخارج للسير في طريق الملكوت الوعر يتلقفها روح الأمومة العليا في شخص العذراء مريم لتحنو وتترفق وتريح بأضعاف مضاعفة. فإن كان المسيح يعتبر الأب الحقيقي والنور الأبدي للذين خرجوا من بيوتهم ولا يعلمون أين يذهبون يتبعون المسيح كيف شاء الله؛ فالعذراء القديسة مريم هي من واقع خبرتنا الأم الحقيقية المرشدة والمترفقة بالسائرين في وعر الطريق إلى أن يشتد عودنا فتتلقانا أذرع المسيح الأبوية.
27:14 «ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً».
إن شكل هذه الوصية مرعب، ولكن جوهرها مضيء هادئ، يجعل النفس ترتاح وتستمتع بدعوتها. لأن الصليب هنا لا يزيد عن الإيمان بالمسيح، ولكن إيمان المسيح هنا هو إيمان حقيقي، أي إيمان بموته على الصليب وقيامته من القبر. والإيمان بموت المسيح يستحيل أن يتشكل داخل النفس إلا إذا فهمناه ومارسناه. وإن كان شرحنا لفهم الإيمان بموت المسيح يحتاج منا صفحات ولكن نكتفي بكلمات . فموت المسيح لم يتم صورياً بل بالفعل والحق، مات على الصليب آخذاً عقوبة كاملة وباستحقاق لأنه «حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة» (1بط 24:2). والمسيح كابن الله مات بالجسد والجسد هو البشرية، وإذ حمل خطايانا في الجسد أصبح الجسد هو البشرية الخاطئة، لذلك اعتبر أنه مات بنا أو مات من أجلنا، فأنا وأنت متنا مع المسيح وبالتالي قمنا معه في ذات الجسد الذي له الذي هو نحن. بمعنى أن إيماني بموت المسيح هو موتي أنا أيضاً وقيامتي أنا أيضاً معه. وبذلك نكون قد تقبلنا عقوبة الموت واللعنة على الصليب ودفنا . وقمنا معه معه في مجده.
هذا هو الإيمان بموت المسيح وقيامته، وهذا هو الصليب المطلوب مني ومنك أن نحمله. انظر الآن ما هو الصليب الذي عليك أن تحمله وتسير به وراء المسيح. هو حكم براءة من عقاب الموت واللعنة التي ورثناها من آدم، مع علاقة اتحاد بالمسيح بالجسد في قيامته الممجدة. فحمل صليب المسيح هو أن أحمل صليبي الذي أخذت به شركة في موت وقيامة المسيح لحياة أبدية. هذا هو جوهر صليب المسيح. انظر الآن كم هو مضيء ومجيد، وتحسّس نفسك الآن وانظر مقدار الراحة والهدوء والفرح.
إذن، فمنطوق الآية الذي يظهر وكأنه يحمل لنا ثقلاً هائلاً يصعب ويستحيل حمله، هو في جوهره أعظم هدية أهدانا إياها الله في شخص ابنه يسوع المسيح الذي سمح أن يصلب من أجلنا بالجسد.
على أننا بهذا الإيمان المسيحي وضع لنا أن نشهد به، ولأن الناس لا يعرفون الصليب على حقيقته لذلك يكرهونه جداً، مع أن معنى الإيمان بالمسيح وحمل الصليب أننا غلبنا الموت، وقمنا مع المسيح فيستحيل أن نموت بعد لأننا أحياء بحياة المسيح، ولكن الذي يموت هو جسد الموت. ونحن بالموت نأخذ بالفعل جسد القيامة في المسيح لنحيا بحياة المسيح والله الآب إلى الأبد. وبهذا يكون تهديد الموت الذي يمثل عنصر الثقل في الصليب هو ثقل وهمي ظاهري وحقيقته حياة أبدية.
علماً بأن الذي استطاع أن يقطع صلته بالعالم يصبح من السهل جداً عليه بل وعن فرح ومسرة أن يحمل الصليب، لهذا كان ق. لوقا حكيماً جداً في أن يعطي درس بغضة الأهل قبل حمل الصليب .
30-28:14 «ومن منكم وهو يريد أن يبني برجاً لا يجلس أولاً ويحسب النفقة، هل عنده ما يلزم لكماله؟ لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل، فيبتدئ جميع الناظرين يهزأون به، قائلين: هذا الإنسان ابتدأ يبني ولم يقدر أن يكمل».
بناء النفس، أساسه الأول الذي ينبغي علينا أن نحفر ونعمق لكي نضعه، هو تسليم النفس للتعليم والتهذيب الروحي، وهذا بحاجة عظمى للطاعة والتواضع واحتمال الأتعاب والمهانات، لأن هذه الصفات بعينها الحجر المرصوص على بعضه، هي المداميك التي ترتفع بها النفس إلى فوق، وكل طبقة تؤسس أساساً لطبقة فوقها. فطبقة الطاعة هي أول وأهم مدماك الذي يبشر بحمل البرج كله، حيث يسلم الإنسان نفسه للمعلم والإنجيل والله تسليماً هادئاً، ويصبح وكأنه باع نفسه للمعلم والإنجيل والله. وأقول المعلم والإنجيل والله هذه الثلاثة فإذا غاب واحد منها امتنع البناء، فالمعلم مطاع بقدر ما يقول الإنجيل والإنجيل هو قول الله. لهذا تلزم الطاعة لله والإنجيل ثم المعلّم.
والطاعة بدون تواضع تخيب ولا تصلح لشيء، لأن عجرفة النفس بحد ذاتها يستحيل أن تسمح بالبناء عليها. والتواضع لا يحتمل المعارضة ولا يحتمل الملاججة في التعليم ولا التشكك. فالمتواضع سهل التسليم بالحقيقة.
واحتمال الأتعاب هو الذي يرتفع بالبرج سريعاً وبصورة مبهجة لأن صاحبه دائـم الفـرح مسرور، وجهه لا يعبس.
واحتمال المهانات ضمان أخير لعدم سقوط البرج، فهو بمثابة التسليح في الخرسانة.
نعم هذه هي التكلفة التي يطلبها المسيح لبناء البرج وما أثمنها وأعظمها تكلفة وهي التي تهييء للروح القدس التدخل لضمان ارتفاع البرج بدون خطر.
31:14و32 «وأي ملك إن ذهب لمقاتلة ملك آخر في حرب، لا يجلس أولاً ويتشاور: هل يستطيع أن يلاقي بعشرة آلاف الذي يأتي عليه بعشرين ألفاً؟ وإلا فما دام ذلك بعيداً، يرسل سفارة ويسأل ما هو للصلح».
المعنى هنا يتركز بشدة في كيفية الخروج من تحت سلطان رئيس هذا العالم للانطلاق لتكريس الحياة للمسيح. فالإنسان حتماً يواجه موقعة عنيفة وحرباً علنية، لأن العداوة التي يحملها الشيطان ضد المسيح يصوبها حتماً على كل من يريد أن يفلت من تحت سلطانه للسير وراء المسيح. والإنسان على جميع الأحوال ليس كفوا أن يواجه هذه المعركة الشرسة. فالعالم يطالب بكل ما له عند الإنسان من علاقات أسرية إلى كرامة إلى أموال إلى مقتنيات، هذه يستخدمها الشيطان لعرقلة خروج الإنسان. وهنا يتحتّم على من يريد الإفلات من العالم أن يقبل بكل الغرامات والإهانات والبهدلة بكل أنواعها حتى يفلت من المعركة. وهكذا يستطيع أن يحصل على وثيقة صلح مع رئيس العالم وإخلاء طرف رغماً عن أنفه. وهذه تكون بمثابة إخلاء طرف مع توبيخ ولعنات من رئيس هذا العالم، لأن خروج مواطن عالمي من تحت سلطان رئيس هذا العالم هي بمثابة احتقار وازدراء لكل سلطانه.
33:14 «فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله، لا يقدر أن يكون لي تلميذاً».
بهذه الآية وفي مقدمتها كذلك” يعطي الإنجيل إشارة انتهاء الدرس، ولكن يعود ويعقب على حساب النفقة، “فنعم” للمسيح يتقدمها “لا” للعالم، والعالم لا يتركنا بسهولة، فلابد أن نعطيه كل ما أخذناه منه. فأعط العالم حسابه أولاً قبل أن تعلن الكفر به.
فانظر عزيزي القارئ حكمة ق. لوقا في ترتيب المعارف لنخرج منها بدروس لا يستهان بها.
34:14و35 «الملح جيد. ولكن إذا فسد الملح فبماذا يصلح؟ لا يصلح لأرض ولا لمزبلة، فيطرحونه خارجاً. من له أذنان للسمع فليسمع!»
هنا تعقيب أخير على كل هذه الحكمة البالغة القوة والترتيب. إذ أسماها “الملح”. أي أن تعاليم المسيح هذه هي بمثابة ملح العالم ونور العالم، فالملح هو المصلح والمطهر للغذاء الجسدي. هكذا الملح الروحي وهو تعاليم النعمة فإذا لم يتناولها طالب الملكوت أو التلمذة أو البناء الروحي بحذر ويحترس أشد الاحتراس في ممارستها، تفسد التعاليم. وإذا فسدت التعاليم أخرجت جيلاً لا يصلح لشيء. عجيب هذا الإنجيل!
تفسير إنجيل لوقا – 13 | إنجيل لوقا – 14 | تفسير إنجيل لوقا | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل لوقا – 15 |
القمص متى المسكين | ||||
تفاسير إنجيل لوقا – 14 | تفاسير إنجيل لوقا | تفاسير العهد الجديد |