تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 24 للقمص متى المسكين

الأصحاح الرابع والعشرون :

2 – النسوة والقبر الفارغ (1:24-12)

(مت 1:28-10)
(مر8-1:16)
(يو 1:20-10)

أرادوها له موتاً ودفناً، وختموا القبر
عليه فترك لهم القبر
فارغاً وقام.

آیات كثيرة عملها المسيح أمامهم
ولكن قيامته كانت هي
الآية الكبرى.

إن قصة النسوة اللاتي ذهبن إلى القبر باكراً جداً لها ظروف أبدع في وصفها ق. يوحنا، كيف أنهن قمن والظلام باق وأتين وقد صار النهار والشمس مشرقة إذ أن نظام فتح باب المدينة الغربي يكون دائماً بعد شروق الشمس. لذلك ولو أنهن قمن والظلام باقي إلا أنهن لم يأتين إلى القبر إلا والشمس قد أشرقت . لذلك يقول ق. مرقس إنهن اشترين الحنوط بعد انقضاء السبت وأتين إلى القبر إذ طلعت الشمس. ولكن ق. لوقا يقولها باختصار إن النسوة أتين في أول الأسبوع أول الفجر حاملات الطيب. أما إنجيل ق. مرقس فيقول إن النسوة وقفـن يقلن: من يدحرج لنـا الحـجـر؟ والقديس لوقا يختصرها ويقول: وجدن الحجر مدحرجاً عن فم القبر، فدخلن ولم يجدن جسد يسوع ورأين ملاكين كرجال ذوي ٹیاب براقة، أما في إنجيل ق. مرقس فخلة الملاك بيضاء، وهما ملاكان في إنجيل ق. لوقا.

ولنا تعليق على هذه الاختلافات، وهو أن رؤية ملاك أو ملاكين تحتاج إلى عاملين: الأول انفتاح بصيرة الشخص الذي يرى، فربما اثنان : واحـد يـرى والثاني لا يرى، والعامل الثاني رغبة الشخص السماوي، سواء كان المسيح أو ملاك، في أن يظهر ذاته أو أن يلغي ظهوره؛ فله قدرة على ذلك. لذلك لا يمكـن الـتحكم في منظـر روحـي واحـد من شخص واحـد، وحتى هـذا ربمـا يـرى أو لا يرى بحسب رغبة الملاك. والملاكان أخبرا النسوة أن لا يطلبن الحي بين الأموات ليس هو هنا بل قام حسب ما قاله لهن سابقاً.

 أما النسوة فذهبن يخبرن الأحد عشر ولكنهم لم يصدقوهن، غير أن ق. بطرس ذهب وحده، وق. يوحنـا يذكر في إنجيله أنه كان معه التلميذ الآخر الذي يحبه يسوع، ونظر بطرس الأكفان موضوعة وحدها فذهب متعجباً.

 

1:24 «ثم في أول الأسبوع، أول الفجر، أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه، ومعهن أناس».

نذكر في آخر الأصحاح الثالث والعشرين أنه انتهى بآية: «وفي السبت استرحن حسب الوصية »(راجع خر 10:20، تث 14:5). وكان هذا السبت هو آخر سبت يسمع عنه في العهد القديم الذي مضى في ظلمة القبر والجسد مسجى فيه، ويبتدئ العهد الجديد بيوم أول الأسبوع، في أول الفجر أي فجر الأحد، ليكون هو يوم الرب أي ذكرى يوم قيامة المسيح من بين الأموات. وكلمة أول الفجر تعني والظلام باقي، ولكن القول باكراً جداً يعني قبل طلعة الشمس.

6-2:24 «فوجدن الحجر مدخرجاً عن القبر، فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع. وفيما هن محتارات في ذلك، إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة. وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض، قالا لهن: لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟ ليس هو ههنا لكنه قام! أذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل».

 يبدو أن الملاكين هما اللذان دحرجا الحجر تسهيلاً على النسوة الآتيات في الفجر. والحجر الذي يغلق به باب القبر المنحوت في الصخر يكون مستديراً ليسهل دحرجته بالنسبة لرجلين، وهو ليحفظ الجسد من تعدي الوحوش. والخبر الوحيد الذي تقوم عليه القصة بأكملها أنهن لم يجدن جسد الرب يسوع. ورواية ق. لوقا تمتاز بقول الملاكين للنسوة: «لماذا تطلبن الحي بين الأموات» وهو قول بديع يعطي المسيح لقب “الحي” مع أنه قد مات. كذلك في الرواية مقابلة بين أن النسوة: و”جدن” و”لم” يجدن، «وجدن الحجر مدحرجاً» «ولم يجدن جسد يسوع».

ويلاحظ أن ق. لوقا يعطي للمسيح لقب رب: «الرب يسوع» وهو نفس اللقب الذي نجده في سفر الأعمال يتكرر كثيراً: (21:1 و33:4 و16:8)، وهو نفس اللقب الذي استخدمه ق. يوحنا (2:20). وهنـا عـن وعي كبير يعطي ق. لوقا لقب “رب ليسوع بعد القيامة مباشرة، وهـذا مـن الدلائل الواضحة أن ق. لوقا يكتب عن وعي واضح بلاهوت المسيح. كذلك فإن ق. لوقا يعطي تصويراً مناسباً للحالة بالنسبة للنسوة: «وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض» خائفات من واقع المكان ومنكسات الوجه حشمة مع رهبة أمام الملاكين.

وكون ق. لوقا يحتفظ لروايته بوجود ملاكين للقيامة يتناسب مع وجود ملاكين عند الصعود (أع 10:1)، وهذا يوافق رواية ق. يوحنا (12:20).

12-7:24 «قائلاً: إنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة، ويصلب، وفي اليوم الثالث يقوم. فتذكرن كلامه، ورجعن من القبر، وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله. وكانت مريم المجدلية ويونا ومريم أم يعقوب والباقيات معهن، اللواتي قلن هذا للرسل. فتراءى كلامهنّ لهم كالهذيان ولم يصدقوهن. فقام بطرس وركض إلى القبر، فانحنى ونظر الأكفان موضوعة وحدها، فمضى متعجباً في نفسه مما كان».

ما أقرب اليوم بالبارحة. إن الحوادث التي تجري أمامنا الآن رآها ووصفها المسيح كلمة كلمة. وكم كرر الرب قوله: «وقلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون» (يو 29:14). نعم فقد سبق الرب وأعلن ما سيكون، وها هو أمامنا كائن. ولكن المذهل للعقل أن يكون رد فعل التلاميذ أنه هذيان، وكأن المسيح ما قال وما حذر وما وعي. ولكن علينا أن لا نبالغ في اندهاشنا لأن الأعمال التي عُملت بالمسيح في الصلب لا يكاد إنسان واحد في الوجود يصدقها: أن المسيح ابن الله يؤلم هكذا ويصلب ويموت!! ولكن أن يقوم من الأموات فهذا يكون المقبول والصحيح والمناسب، ولكن أن يبدو خبر القيامة كالهذيان فهنا إشارة خفية عن غياب الروح القدس الذي وحده سيفتح وعي التلاميذ ليدركوا كل شيء على حقيقته. وهذا مطبق إلى الآن، فالمسيحيون يؤمنون بالموت والقيامة بغاية اليقين، أما غير المسيحيين فمن العسير أن يؤمنوا بذلك لغياب الروح القدس.

أما قيام بطرس وحده وركضه السريع ليتحقق الأمر فلأن موضوع إنكاره للمسيح دوخ نفسه وهو الآن يتشوق بشدة أن يعرف ماذا تم للمسيح، هل قام حقا؟ ولكن كان لا يزال إلى تلك اللحظة ركيك الإيمان إذ لميا نظر الأكفان وحدها كان عليه أن يعلم أنه قام، فجسد القيامة روحي وهو لا يحتاج إلى أكفان!! لقد ترك الأكفان في القبر تحكي أنه كان هنا!!

وما يهمنـا جـداً أنه بعد النسوة جاء ق. بطرس وشهد القبر فارغاً، فهنا شهادة جديدة ومهمة للغاية. صحيح أنه لم يبلغ إلى إيمان القيامة ولكن وصل إلى أنه وجد القبر فارغاً.

3 – في المسيرة إلى عمواس (13:24-35)

القديس لوقا وحده

صديق البشرية العجيب رافقهم في المسيرة
ليعرف ما رأيهم فيه بعد أن صلب ومات ودفن؟
ووبخهم كثيراً لبطء إيمانهم، ولم يستطع أن يمنع
نفسه عنهم، فعند كسر الخبز ظهر ثم اختفى.

 

قصة تلميذي عمواس لا تقل جمالاً عن قصة الميلاد، وكلاهما للقديس لوقا فقط. يضاف إليهما قصة ق. بطرس وكرنيليوس (أع 10) في سفر الأعمال. هنا يقدم لنا ق. لوقا حادثة فريدة عن القيامة انفرد بما هو وحده دون جميع الأناجيل، وهي قصة تلميذي عمواس. فتلميذا المسيح ـ أحدهما اسمه كليوباس كانا عائدين من أورشليم بعد هذه الأخبار المذهلة قاصدين قريتهما عمواس، وإذ بهما يجدان من يفاجئهما ويسألهما عما يتباحثان، فراجعاه في حزن واندهاش: وأين كنت أنت؟ هل كنت متغرباً وحدك في أورشليم؟ ألم تسمع بالأهوال التي حدثت؟ وهنا يحدث العجب، فالمسيح يظهر لهما بهيئة رجل غريب متغرب كان في أورشليم ويسألهما عما حدث. والقصة تحوي أهم حدث بالنسبة لفهم مسيح القيامة، فهو قادر أن يظهر وقادر أن يلغي ظهوره، يقابل ذلك عين الإنسان التي ترى فهي قد تنفتح من قبل الله لترى ما لا يرى، أو تنغلق فلا ترى شيئاً من أمور الروح. ولكن المسيح لم يكن مسروراً أبداً لما وجدهما متعثرين في قبول خبر القيامة الذي أتت به النسوة رسمياً لتخبرن به التلاميذ والرسل، حتى أنه من حزنه نعتهما بالغباء وبطء الإيمان بالقلب. وعليه أخذ يفتح فهمهما قليلاً قليلاً من موسى والأنبياء والمزامير، نبؤات تحكي عن كل ما سمعاه ورأياه من جهة المسيح. ولما دخلا القرية ترجياه أن يأتي ويبيت معهما، فوافق وعند كسر الخبز أعلن شخصه وفي الحال اختفى عنهما.

هذه القصة يقدمها ق. لوقـا كـدرس تعليمي للكنيسة كيف انعمى الشعب ولحكامه وصلبوا من أتاهم بملكوت الله وهم لاهون، بل كيف أعثر فيه تلاميذه أنفسهم وجميع الرسل الموجودين في أورشليم ولم يدركوا رسالته التي سبق وعلم بما، كما عيرهم حبقوق النبي في ذلك الزمان: «انظروا بين الأمم وأبصـروا وتحيّروا حيرة لأني عامـل عمـلاً في أيامكم لا تصدقون به إن أخـبـر بـه» (حـب 5:1).

يلاحظ القارئ كيف وقفت النسوة “محتارات”، وهو نفس الحال الذي سبق وأنبأ به حبقوق: «انظروا … وتحيّروا حيرة» إنه عجب أن يكون تطبيق النبوة حرفياً. والقديس لوقا لم يأخذ هذه القصة عن أحد الإنجيليين بل هي من تحقيقاته والتي بمقتضاها يظهر بوضوح أن القيامة جاءت كنور يضيء كل الماضي ويجعله مقروءاً اليوم في حوادث الموت والقيامة. فلولا القيامة ما عرفت النبوات عن من هي؟ وإلى أين؟ ففي القيامة تكميل جميع الكتب والوعد. هذه القصة بالذات تشرح ذلك شرحاً.

وقد التقطت الكنيسة من هذه القصة مفهوم حضور المسيح في الإفخارستيا في لحظة كسر الخبز، وهي أقدس اللحظات في القداس. وهي بالتحديد أثناء القسمة حيث يقسم الكاهن القربانة (القسمة الأولى). وتقسيم القربانة فن كهنوتي يسلم بتسليم السر، لأن تقسيم القربانة يتبع تفصيل جسم الذبيحة المذبوحة حيث يستلمها الكاهن بحسب أصول التسليم الموروثة والموضح مضمونها في شرح تقديم الذبيحة في العهد القديم، إذ بعد أن يقسم الكاهن الجسم تقسيماً فنياً يعود ويضعه على مذبح النحاس ويعود بأقسام الجسم إلى وضعها الصحيح قبل التقسيم بضم الأجزاء على بعضها قبل أن يشعل النار لتلتهمها النار ويصعد دخانها إلى الله. هكذا يعمل الكاهن في الطقس القبطي بدقة: فبعد أن يقسم القربانة حسب أصول الكهنوت (في القسمة الأولى التي يقسّم فيها القربانة إلى الثلث والثلثين) يعود ويضمها جميعاً صحيحة كما كانت ويطلب حلول الروح القدس (الإبيكليسيس). هنا حضور الرب واستعلانه للعيون التي تبصر. وبعد تمام القسمة الثانية يصلي الكاهن صلاة الاعتراف العلني.

 

13:24–16 «وإذا اثنان منهم كانا منطلقين في ذلك اليوم إلى قرية بعيدة عن أورشليم ستين غلوة، اسمها عمواس. وكانا يتكلمان بعضهما مع بعض عن جميع هذه الحوادث. وفيما هما يتكلمان ويتحاوران، اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما. ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته».

كان التلميذان يسردان معاً أخبار قيامة المسيح بعد الصلب وكان ذهنهما منشغلاً حزيناً، وإذا بالمسيح يمشي بجوارهما ثم ينضم إليهما ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته. وهنا في الحقيقة ينبغي أ أن نوعي القارئ بما يحدث عند ظهور المسيح أو عدم ظهوره. فالأمر يتعلق بقدرة الوعي الذاتي للإنسان على الانفتاح لاستخدام رؤيته الروحية الممنوحة له من الله. فالمسيح ممكن أن يظهر ذاته أو يلغي هذا الظهور بناء على قدرته في ذلك، ولكن يمكن أيضاً أن يفتح وعي الإنسان أو يغلقه هو بحسب إرادته كمـا حـدث هنـا مـع تلميـذي عـمـواس، إذ حـدث ظهـور المسيح وعـدم فـتـح الـوعي عنـد التلميذين، وعند كسر الخبز فتح أعينهما ليرياه حاضراً بصفته في وضع القيامة، وفي الحال اختفى. « حقاً أنت إله محتجب يا إله إسرائيل المخلص.» (إش 15:45)

17:24- 20 «فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارخان به وأنتما ماشيان عابسين؟ فأجاب أحدهما، الذي اسمه كليوباس وقال له: هل أنت متغرب وحدك في أورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام؟ فقال لهما: وما هي؟ فقالا: المختصة بيسوع الناصري، الذي كان إنساناً نبيا مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب. كيف أسلمة رؤساء الكهنة وحُكامُنا لقضاء الموت وصلبوه».

كان كليوباس مندهشاً كيـف أن إنساناً في أورشليم لم يعـرف مـا حـدث مـن جهـة “يسـوع الناصري”، وهـو كان في عُرفهما نبيا مقتدراً في الفعـل والقـول أمام الله والناس. والعجيب أن نفس التلميذين لا يعرفان معنى الذي حدث ولا سببه بالنسبة للحكم بالموت والصلب، ومن كلامهما يتضح لنا أن شيئاً مهماً جداً قد حدث ولكن لا يعلمان كيف؟! وهنا واضح اتهام رؤساء الكهنة والحكام بما حدث لنبي مقتدر قولاً وعملاً أمام الله والناس.

24-21:24 «ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل. ولكن، مع هذا كله، اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك. بل بعض النساء منا حيرننا إذ كن باكراً عند القبر، ولما لم يجدن جسده أتين قائلات: إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حي. ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر، فوجدوا هكذا كما قالت أيضاً النّساء، وأما هو فلم يروه».

إن كلام التلميذين يحسب تسجيلاً صادقاً لمشاعر التلاميذ حتى تلك اللحظة. ويعود كليوباس ليقول نفس المشاعر التي قالتها النسوة، «قد حيرننا» على نفس مستوى نبوة حبقوق: «انظروا بين الأمم وأبصروا وتحيّروا حيرة لأني عامل عملاً في أيامكم لا تصدقون به إن أخبر به» (حب 5:1). وحيرة التلميذين وبقية التلاميذ معهما هي نوع من قساوة القلب بحسب كلام المسيح، لأنه كان واجباً عليهم أن يفتشوا الكتب ليعرفوا ماذا يحدث أمامهم. وبالرغم من رؤيتهم القبر فارغاً بما لا يعطي للشك مكاناً أنه قام، إلا أنهم لم يمتد إيمانهم ليكتشفوا الحقيقة. أما الكلمة الفاصلة في هذا القول فهي ما جاء في الآية (21): «نحن كنا نرجو أنـه هـو المزمع أن يفدي إسرائيل»!! لذلك كان حزن التلميذين شديداً، فهو رجـاء خـاب وأمنية سقطت بدون تحقيق. وهكذا تبدأ دينونة التلاميذ في نظر المسيح، ونعتهمـا بالغبـاء وقساوة القلـب في الإيمان، لأن التعلـيـم كـلـه عـن الـفـداء يقـوم أساساً علـى القيامة، والقيامة أُذيعت أول ما أُذيعت بواسطة الملاك عند القبر للنسوة ويشهد بذلك القبر الفارغ. فكان المسيح ينتظر أن يؤمن التلاميذ بالفادي الذي مات على الصليب أمامهم ودفن وقام. لأن تحقيق الرؤيا العينية ليس أساساً للإيمان: «طوبى للذين آمنوا ولم يروا» (يو 29:20)، فكان مفروضاً أن يؤمن ق. بطرس بما رأى وبما عاين وما سمع، وكذلك النسوة وبقية التلاميذ لأن الإيمان القلبي لا يطلب العيان، فانتظار الرؤية العينية يضعف مستوى الإيمان.

27-25:24 «فقال لهما: أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟ ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب»

مال إلي قبل أن يميل النهار.
دعوته ليبيت عندي ليستريح
في قلبي من وعثاء السفر.

فمهما اظلمت الدنيا فهو نور في قلبي يقيم.
وعندما تركني كل صحبتي
وجدته كل صباح في صحبتي!!

 توبيخ المسيح العنيف لهما يظهر لنا بوضوح فعلاً أن مستوى إيمانهما مع بقية التلاميذ كان منحطاً جداً. فكل ما سبق من تعاليم المسيح التي علم بما عما سيكون وتوضيح عمليات الآلام والتسليم والصلب والموت التي أوضحها عدة مرات؛ ثم كل الحوادث التي يقولون عنها سبق وقال لهم، كيف حينما أتت لا تكون هي بحد ذاتها كفيلة أن تحرك إيمانهم؟ ثم بقية الكتب والآيات التي فتح المسيح سرها لهم كيف ولا آية منها توقظ قلوبهم وتفتح عيونهم؟ هذا الشيء أحزن قلب المسيح جداً.

ولكن من كلام المسيح هنا ننتبه نحن أيضاً جداً إلى أهمية ما قاله الأنبياء وما سلّمه الله لموسى من جهة الآتي بعده، وكل الوحي والعلامات التي ساقها على الأنبياء بتدقيق حتى لا يوجد عمل أو قامة للمسيح إلا ويكون قد سبق وتنبأ عنها الأنبياء.

وربما كلمهـم المسيح عن معنى مسيانيته وتوضيحها في الأنبياء، وعـن اسمه عمانوئيل ومـا يـعـني (إش 14:7)، وغصن البر لدى إرميا الذي يحكم بالبر والعدل (إر 23: 5و6)، والحجر الذي قطع بغير يد الذي صار جبلاً يملأ الأرض كلهـا عنـد دانيال (دا 2: 34و35). وهو إسرائيل الجديد عنـد هوشع لينمو كالسوسن في الوادي ويضرب أصوله كأرز لبنان (هو 5:14)، وملجأ الشعب عند يوئيل (يؤ 16:3)، ومظلة داود الساقطة المقامـة مـع ردمهـا والـتـي تبـنى لمـدى الــدهـر عنـد عـاموس (عا 11:9). وأيامه الحلوة حيث يدرك الحارث الحاصد، ودائس العنب باذر الزرع، وتقطر الجبال عصيراً وتسيل جميع التلال (عا 13:9)، والنجاة مـن فـوق جبل صهيون مع القداسة عند عوبديا (عو 17)، والذي يفـدي الشـعب مـن يـد أعدائه ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل عند ميخا (مي 4: 10، 2:5)، والمبشر بالسلام على الجبال عند ناحوم (نا 15:1)، والمسيح الخارج لخلاص (مي شعبه الذي غنّى له حبقوق (حب 13:3) وذلك الذي يحضر الشفاه (لغة) نقية لكل الشعوب ليدعوا كلهم باسم الرب ليعبدوه بكتف واحدة عند صفنيا (صف 9:3)، وزربابل الحقيقي الذي يبني بيت الرب إلى الأبد عند حجي. وهذا الفجر الجديد حينما تعم القداسة حتى إلى أجراس الخيل عند زكريا (زك 14: 20و21). وشمس البر التي تشرق والشفاء في أجنحتها كحلم ملاخي (مل 2:4)!! وكثير كثير جداً وليت الله يعطيني عمراً جديداً لأتبع صـوت الرب في جميع ما قال المسيح وعلم تلميذي عمواس!!

وقول ق. بطرس المشهور عن أهمية النبوات ليس هو منه بل بتوبيخ من المسيح مرات ومرات :
+ «ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء، إذ كنا معه في الجبل المقدس. وعندنا الكلمة النبوية، وهي أثبت، التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها، كما إلى سراج منير في موضع مظلم، إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم، عالمين هذا أولاً: أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص. لأنه لم تأت نبؤة قط بمشيئة إنسان، بل تكلـم أنـاس الله القديسون مسوقين من الروح القدس.» (2بط 1: 18-21)

وقيامة المسيح بالذات أخذت من الأنبياء الشيء الكثير خاصة إشعياء بعد وصف الآلام بتدقيق (إش 53 كله)؛ ولكن في الحقيقة من تصرف المسيح مع التلميذين وبقية التلاميذ ينكشف عذر واضح في تعوق التلاميذ لإدراك ما في الكتب من نبؤات عنه، لأنه جاء في نهاية الإنجيل وقال: «هذا هو الكلام. حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب» (لو 24: 44و45). إذن فدراية التفسير للنبوات كانت تحتاج إلى ذهن مفتوح بعطية خاصة. كذلك ما هو واضح لنا الآن أن التلاميذ بمجرد أن حل علـيـهـم الـروح القدس طفـقـوا يتكلمون بالنبؤات بطلاقة وكأنهم يحفظونها عن ظهر قلب، مع أنهم لم يحفظوا!! وهذا واضح حينما عاد الرسل بعد أن هددوهم في السنهدرين يصلون ويتحققون مما حدث للمسيح تحقيقاً لما جاء في المزمور الثاني (أع 25:4)، وفي (أع 35:8) يشرحون أقوال إشعياء النبي، وفي (أع 3: 22و 23) يذكرون قول موسى عن إقامة الآتي بعده (تث 15:18). أما قيامة المسيح فحققهـا ق. بطرس في (أع 2: 26-32). وهكـذا فالقيامـة تغطـي جميـع النبــوات في كـل الكتب. لذلك تعتبر لحظة حديث المسيح مع تلميذي عمواس بخصوص الأنبياء والنبوات هي بداية الشرح المسياني! الذي اهتمت به الكنيسة بنوع خاص جداً في ليتورجيتها وطقوسها بعد عيد القيامة مباشرة كدروس للمؤمنين وقراءات من كافة الكتب .

31-28:24 «ثم اقتربوا إلى القرية التي كانا منطلقين إليها، وهو تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد. فالزماه قائلين: امكث معنا لأنه نحو المساء وقد مال النهار. فدخل ليمكث معهما. فلما اتكاً معهما، أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما. فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما».

مسیح معه هذه الآيات القليلة فتحت عندنا طاقات غير متناهية لتدخل لنا النور السماوي ليمسح من عيوننا البكاء على إسرائيل وما عملته إسرائيل في عريسها. هنا تعود إسرائيل وتبرز لنا عينات من شعبها التقي البسيط الحلو المعشار والودود، كيف بحبهم وسخاء بذلهم ألزماه!! ألزماه حقا ألزماه. ألزما الرب الإله يسوع المسيح، ألزمـاه بالدخول إليهم فدخل. وهكذا أعطى المسيح لأول مرة قيادته لآخر ليلزمه بالدخول وقبول الضيافة، وكأن المسيح كان عطشاناً إلى هذا السلوك والوعي البسيط المبارك، فقبل في الحال ودخل وبارك أول بيت مسيحي في العالم حينما كسر فيه الخبز فاستُعلن مسيح الله لأول مرة في الإنجيل!! «هنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى وهو معي» (رؤ 20:3). هذا الحبيب وقد بدأت حلاوة حبه ووداعة ألوهيته تتبين لمحبيه. ولكن لابد أخيراً من أن يختفي!!

وكانت هذه العزومة هي أول مائدة أغابي فيها سر المسيا وإعلانه.

أما اختفاؤه فهو الوجود السري السمائي الذي تنعم به أرواحنا دون رؤية، هنا عمل ابن الله الحقيقي من فوق، حيث لا يزال هو الراعي الصالح والدجاجة التي احتفظت بأولادها الصغار تحت أجنحتها السماوية!!

35-32:24 «فقال بعضهما لبعض: ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟ فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم، ووجدا الأحـد عشـر مجتمعين، هم والذين معهم وهم يقولون: إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان! وأما هما فكانا يخبران بما حدث في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز».

وصـار للتلميذين خبرة روحية ينقلانهـا بهـدوء عجيب إلى قلوبنـا وأفهامنا، كيـف أحسا بحضـور المسيح وحديثه من الكتاب المقدس. وكيف التهب قلبهما بحضوره السري غير المعلن ولا منظور، فأصبحت خبرة الكنيسة الأولى بحضور الرب وممارسته تعليمه لقلوب أولادها. ولم يحتمل التلميذان بعد أن نالا أول اختبار لعمل القيامة الجديدة وهو شرح الكتب المقدسة، فقاما وأسرعا وأخبرا وبشرا. هذا درس ق. لوقا للكنيسة الساهرة، لأن أول اختبار تلقته الكنيسة من القيامة هو من إنجيل ق. لوقا ومن تلميذي عمواس. إذ ذهبا مسرعين إلى أورشليم وبشرا الكنيسة المجتمعة في العلية، وبمناسبة مجيء التلميذين إلى أورشليم تلقينا أول إشارة لظهور الرب لسمعان أولاً وسلّما الكنيسة هذا الخبر: «وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب، وأنه ظهر لصفا ثم للاثني عشر …» (1کو 15: 4 و5)

4 – الظهور للتلاميذ (36:24-43)

(مر14:16)
(يو20,19:20)

كان لابد أن يسلم سر قيامته المقدسة لتلاميذه،
فبعد أن قام أظهر ذاته بجسد البشرية الجديد
واستعلن جراحه ليؤمنوا أن بصليبه أظهرت
الحياة، وبموته كانت القيامة وكان استعلان
ابن الله.

لقد تعلمنا من قصة ق. لوقا عن تلميذي عمواس أن حضور الرب هو الذي ينشئ الخبر ثم ينشئ البشارة. وعجيب حقا أن يظهر المسيح كالمعلم من جديد ليرافق هذين التلميذين التقيين ويفرحهما باستعلان نفسه قائماً من الأموات، في الوقت الذي كان لا يزال لم يعلن نفسه للتلاميذ الأحد عشر. ويهتم ق. لوقا أن يتبع الظهور لتلميذي عمواس بالظهور للتلاميذ الأحد عشر ومن معهم، ضاغطاً بشدة على استعلان القيامة منظورة ومسموعة يسبقها ظهور خاص لسمعان. 

وهنا وبدون مقدمات يظهر المسيح فجأة للأحد عشر المجتمعين في حالة ترقب وربما بيقين ظهوره فظهر. ولكن وبالرغم من حالة الخوف التي نازعتهم بسبب ضعف إيمانهم رفع عنهم المسيح هذا الخوف والشك بأن أعلن نفسه لهم بأكثر وضوح، ليس كروح كما ظنوا ولكن بلحمه وعظامه. وإذ وجد أنه لا يزال بعضهم يشك في أمر وجوده الشخصي كيسوع، طلب طعاماً وأكل قدامهم كما يأكلون. وهنا ولأول مرة نأخذ ملامح واضحة لمعنى وحقيقة جسد القيامة، فالمسيح هنا يظهر كمسيح السماء وليس مسيح الأرض بعـد، ولـو كـان عـلـى الأرض. فكـان كـل هم المسيح أن يجعلهم يدركون معنى القيامة وحقيقتها الملموسة إن صح هذا القول. ولكن لا يظن أحد أنه حينما جعلهم يجسون لحمه وعظامه أن جسد القيامة فيه لحم وعظام، ولكن هو بإرادته يكثف نفسه حتى يتوافق مع طبيعتنا إلى لحظة ثم يسحب التكثيف الذي أجراه على نفسه فلا يعود يُرى وبلا لحم وعظام يحيا في السماء لأن «لحماً ودماً لا يرثان ملكوت الله» (1کو 5:15). فالمسألة مجرد قدرة على الظهور وقدرة على سحب الظهور من تحت العيان ليمارس وجوده السمائي. والذي ينبغي أن نقوله عن ق. بولس أن جسم القيامة شيء وجسم الطبيعة على الأرض شيء آخر، هذا جسم روحاني سمائي، وهذا جسم ترابي مادي أرضي (1كو 15: 40 و44). والمهم الذي يلزم أن نعرفه أن جسم القيامة لا يرى بالعين ولا يسمع بالأذن وهو لا يعمل بالعين ولا بالأذن، ولكن يتفاهم الإنسان مع الإنسان ومع المسيح في القيامة بالتخاطب الفكري دون كلام، حيث الفكر مكشوف للفكر، وهو أقوى وأصدق من الكلام بالفم والسماع بالأذن.

وظهـور الـرب للتلاميذ في إنجيل ق. يوحنا والأبواب مغلقة (19:20-23) يماثل قصة تلميذي عمواس، فهو تقليد اختباري واحد ليكشف قدرة المسيح المقام أن يظهر بكامل هيئته الأولى ثم ينسحب من الوجود المحسوس.

وفي هذا الجزء الأخير من الإنجيل يكدس ق. لوقا التعليم الخاص الذي لقنه المسيح للأحد عشر، ليكون إيمان الكنيسة الثمين جداً لتحفظه في خزانة قلبها وترضعه لأولادها جيلاً بعد جيل. وتأكيد كل الملابسات على وضوح رؤية المسيح بالعين وسماعه بالأذن، هو لرفع العمى والصمم الذي أصـاب إسرائيل على طـول المـدى الـذي أوصلها إلى الهاوية، وليجعل الأسفار المقدسة مفهومة ومحسوسة ومسموعة بالروح.

43-36:24 «وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم، وقال لهم: سلام لكـم! فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحاً. فقال لهم: ما بالكم مضطربين، ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟ أنظروا يدي ورجلي: إني أنا هو. جسوني وانظروا، فإنّ الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مصدقين من الفرح، ومتعجبون، قال لهم: أعندكم ههنا طعام؟ فناولوه جزءاً من سمك مشوي، وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدامهم».

واضح أن ظهور المسيح للأحد عشر هو توثيق للظهورات الفردية التي ظهر فيها، وتخصيص الكنيسة المجتمعـة بظهـوره ووجـوده بقـوة قيامتـه وفعلهـا وامتدادها لتـدخل كيـان الكنيسـة كـفـعـل دائـم.

فظهوره هنا للأحد عشر هو تدشين أول كنيسة روحية على الأرض تجتمع مع عريسها السمائي الذي أعطاها لحمه وعظامه وقوة قيامته. وصارت بذلك الكنيسة هي نفسها جسد المسيح السري. وواضح من بقية الآيات أنه سلم الكنيسة تحقيق وجوده السمائي ملموساً ومحسوساً ومنظوراً. فلما خافوا وظنوه روحاً كملاك مثلاً، أفهمهم أن الخلائق السمائية ملائكة وغير ملائكة ليس لها جسم ولا لحم ولا عظام كما هو كائن أمامهم باعتباره الابن المتجسّد هو هو، ولم يقل شيئاً بل زاد أنه امتد بوجوده الجسدي بالقيامة إلى السماء. ولكن وجوده السمائي هو بالجسد الروحاني وليس بالجسد الأول، ولكن الجسد الروحاني الجديد بالنسبة للمسيح له استطاعة أن يكون مرئياً ومحسوساً، كما أن له استطاعة أن يسحب وجوده المنظور ليصبح موجوداً كما كان تماماً ولكن غير منظور وغير محسوس. 

وهو حينما يكثف ذاته ليكون موجوداً بجسده الأول يمكنه أن يأكل بصفة استثنائية لكي يؤمنوا أنه هو هو. ولكن في السماء أي بوجوده الروحاني في القيامة لا يأكل ولا يشرب .

وحينما ألح عليهم أن يجشوه وينظروا يديه المجروحتين وقدميه المجروحتين، كان ليؤكد لهم موته وصلبه الذي جازه من أجل البشرية التي فيه، التي أخذها لنفسه ليصنع فيها ولهـا وجـوداً جديداً قائماً . الأموات بواسطة موته بها وقيامته بها. فصارت البشرية لها ما للمسيح من موت سابق وقيامة حاضرة ووجود سمائي دائم. من

5 – آخر وصية للإرسالية (44:24-49)

(مت 18:28-20)
(مر18-15:16)
(يو23-21:20)

ذهبوا إلـكـل بلاد العالم حاملين الإنجيل باستعداد سفك الدم،
فزرعوا بدمائهم كنائس بلا عدد.

كل الأناجيل تحتفظ بهذا الجزء من ختام الإنجيل بوصية الإرسالية. وكل إنجيلي يضع هذه الوصية بأسلوبه، وهنا في إنجيل ق. لوقا يراجع المسيح معهم ما سبق وعلمهم : به. وكيف أن الأسفار كلها ستكمل بواسطة إرسالية التلاميذ كجسـم واحـد متـحـد بـه وفيـه، الذين سيحملون مفتاح المعرفة ليدركوا معنى ومبنى كل ما جاء بخصوص العمل المسياني في جميع الكتب، كما سبق وأوضح لتلميذي عمواس. بمعنى أن ظهور المسيح سـواء للأفراد أو للأحد عشر مجتمعين كان مخصصاً بالدرجة الأولى لتسليم التلاميذ أول كل شيء سر فهم الأسفار بانفتاح ذهنهم، وثانياً لإدراك وتتميم كل ما جاء في الكتب لتكميل العصر المسياني الذي لازلنا نسعى فيه لنكمله. على أساس أن الأسفار وانفتاح فهم الذهن لمطالب العصر المسياني يعمل كله للبشارة والكرازة بكل وسائلها لجميع الأمم. وقد حمل التلاميذ رسالته ليكملها معهم بوعد دائم. فبقدر ما يشهدون له يعطيهم المزيد من المعرفة لمزيد من الشهادة، وينالون قوة من الأعالي حتى يستطيعوا بها أن يواجهوا كل العواصف وخاصة مقاومة الحق.

والقديس لوقا يشترك مع ق. متى في الوصية بالذهاب إلى “جميع الأمم، والقوة الإلهية الممنوحة لهم. كما يشترك مع إنجيل ق. يوحنا في الوعد بالروح القدس وسر غفران الخطايا. وهذا كله صار تقليداً كنسياً يدخل في صميم التعليم. وهو يقوم أساساً على الوصية بالذهاب بعيداً لتسليم الأخبار السارة وغفران الخطايا وإعطاء القوة السمائية لكل من يعمل لاسم المسيح.

ويلزم أن نفهم أن ق. لوقا ليس هو الذي سلّم هذا التقليد للكنيسة بل استلمه وسجله للأجيال القادمة.

49-44:24 «وقال لهم: هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم، أنه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب. وقال لهم: هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث، وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم، مبتدأ من أورشليم. وأنتم شهود لذلك. وها أنا أرسل إليكم موعد أبي. فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي».

المسيح يطبق موته مع آلامه ثم دفنه ثم قيامته على ما سبق أن قاله لهم، وما سبق أن تنبأ به الأنبياء كما جاء في الكتب عما حدث له في الحوادث الأخيرة. هنا تطبيق علم على عمل، نبؤة على واقع، تعليم على تنفيذ، حتى يصير كل ما حدث هو موضوع المعرفة، كما يصير هو موضوع العمل بالمعرفة. ونستشف من ذلك أن المسيح الآن يميز في تعليمه بين ما قاله وهو معهم سابقاً وما هو الآن بالروح، بمعنى أنه أصبح للمسيح وجودان متميزان من صميم التعليم: وجوده الأرضي ووجوده السمائي، وهذا وذاك أكملهمـا في تعليمـه السـابق واللاحـق، وأعطـى توجيهـاً لدراسـة مـوسـى والأنبيـاء والمزامير لندرك هذه الرسالة العظمى في واقعها الأرضي ووجودها السمائي.

ولكي يجعل الأسفار مضيئة في أذهان تلاميذه أيدهم بانفتاح ذهنهم للمكتوب، لكي يستطيع الذهن إدراك ليس مجرد ما هو في الأسفار وإنما السر الروحي العميق الذي وراء كل ما كتب عن المسيح. والقول الذي سبق المسيح وقاله: «لكم قد أُعطي أن تعرفوا أسرار ملكوت الله» (لو 10:8)، هنا دخل هذا الوعد حيز التنفيذ. فهنا الذهن المفتوح يبدأ يشتغل لحساب سر الله والحياة الأبدية في كل الأسفار ولكل الناس إلى مدى الأيام.

ثم وضع النقط على الحروف بالنسبة لابن الإنسان الذي طالما كان يذكره، فهو هنا مسيًا بكامل سره وقوته لأن المسيح كان دائماً حينما يتكلم عن آلامه وموته وقيامته ينسبها لابن الإنسان، هنا كشف سر ابن الإنسان أنه مسيا الدهور.

ثم نفس هذه الآلام والصلب والموت والقيامة التي سلمت للكنيسة هي بعينها التي تحوي القوة للتوبة ومغفرة الخطايا. فاسم المسيح الذي يحمل كل ما أكمله من موت وآلام وقيامة، ثم محد القيامة، هذا كله لحساب توبة الإنسان ومغفرة خطاياه!! هذه هي القوة المذخرة لحساب الكنيسة الكارزة بالاسم المبارك الذي يحمل لها قوة ونفاذ عملها وصلواتها من أجل الخطاة الذين يطلبون التوبة وينالون غفران الخطايا، لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم. لذلك أوصى تلاميذه أن لا يبرحـوا مـن أورشليم حتى يلبسوا قوة من الأعالي، وهي بعينها القوة الحاملة لسر الإرسالية والمفتوحة على ملكوت الله. لقد أرسى المسيح بانفتاح ذهن التلاميذ على الأسفار وبمنحهم قوة من الأعالي، أرسى ملكوت الله لكي يكملوا ما ابتدأه المسيح، وسيكمله المسيح بإرسال الروح القدس: «وها أنا أُرسل إليكم موعد أبي» ليؤازر هذه الإرسالية بقوة عظيمة لا تهدأ حرارتها حتى يأتي المسيح!

6 – صعود المسيح (50:24-53)

القديس لوقا وحده

• صعد حاملاً البشرية الجديدة فيه ليقدمها إلى الآب
كثمرة حبه للعالم، وعمل دم صليبه!!       
• وأعطاهم قرباناً لأبيه (القداس الإلهي).

يقف المسيح وقفة الكاهن الأعظم فارداً ذراعيه ليعطي الكنيسة ممثلة في تلاميذه البركة الأخيرة قبل صعوده إلى السماء ليتولى من فوق تدبيرها الإلهي الفائق، ولكن بعد أن يبثها روحه: روح المعلم الصالح، ويبثها رسالة المسيا ونعمته كابن الله: «وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء» هذه هي البركة الأخيرة التي احتفظت بها الكنيسة لتبارك بها شعبها كل صباح وكل مساء، بعد كل ليتورجية سواء للقراءة أو القداس، وهي التي تسلمها لكل روح تولد في معموديتها لتقبل روح التبني وتدخل بها في عداد الأمة المباركة وشعب الاقتناء.

وبينما كان الرب يبارك كان التلاميذ ساجدين له، وبعدما أصعد رجعوا هم إلى أورشليم بفرح عظيم، فرح شركتهم المقدسة التي صارت مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح (1يو 3:1). والتصقوا بالهيكل في بادئ خدمتهم يشاركون الهيكل صلواته ويسبحون مع المسبحين ويباركون الله.

50:24 «وأخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم».

رفع اليدين بالبركة هو طقس هاروني: «ثم رفع هارون يده نحو الشعب وباركهم …» (لا 22:9). وهكذا وبروح الكاهن الأعظم رفع يديه ليجمع الشعب غير المنظور عبر جميع أجيال الكنيسة ليتلقوا من المسيح البركة الدائمة التي ستدوم في فم كل كاهن إلى جميع الأجيال. لقد ورثت الكنيسة هذه البركة ككنز سماوي توزع منه على شعبها إلى مدى الأيام:
+ «وأما رأس الكلام فهو أن لنا رئيس كهنة مثل هذا، قد جلس في يمين عرش العظمة في السموات خادماً للأقداس والمسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا إنسان.» (عب 8: 1 و2)

51:24 «وفيما هو يباركهم، انفرد عنهم وأصعد إلى السماء».

هذا الصعود هو نفسه المذكور في بداية سفر الأعمال، ولكنه ذكره هنا ليختم به إنجيله كوضع حتمي لانتهاء كل ما يتعلق بالمسيح على الأرض، وهذا لا يمنع أن يذكره مرة أخرى في بداية سفر الأعمال الذي يكمل به ق. لوقا عمل المسيح الأول على الأرض، فسفر الأعمال يبدأ بصعود المسيح ليتولى زمام تدبير خدمة الكنيسة منذ اليوم الأول لها بعد حلول الروح القدس. وصعوده إلى السماء هنا مبني للمجهول ليعطي للآب والروح القدس فرصة الاشتراك في هذا الصعود.

وفي الحقيقة لم يكن إنجيل ق. لوقا قائماً بمفرده هكذا في البداية إذ كان يكمله مباشرة سفر الأعمال ككتاب واحد. ولكن لما رأت الكنيسة أنه يلزم أن تجمع الأناجيل الأربعة معاً كوحدة واحدة يأتي بعدها سفر الأعمال، انفصل إنجيل ق. لوقا عن توأمه سفر الأعمال فعملت له هذه الخاتمة الموازية لبداية سفر الأعمال بقلم ق. لوقا.

ويلاحظ هنا في خاتمة إنجيل ق. لوقـا عـدم الاستطالة في ذكر إعطاء الروح القدس بل الاكتفاء بالوعد به (49:24) لأنه أفرد لذلك فصلاً في بداية سفر الأعمال، من حيث الوعد به ومن حيث التحقيق في اليوم الخمسين من القيامة وبعد الصعود بعشرة أيام (أع 1و2)، وقد انفرد إنجيل ق. لوقا بهذا التحضير لحلول الروح القدس (49:24) كما هو مذكور بأكثر تفصيل في بداية سفر الأعمال إذ وضع له مقدمة خاصة:

+ «وفيما هو مجتمع معهـم أوصاهم أن لا يبرحـوا مـن أورشليم، بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني، لأن يوحنا عمد بالماء، وأما أنتم فستتعمدون بالروح القدس، ليس بعد هذه الأيام بكثير … لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض. ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون. وأخذته سحابة عن أعينهم …» (أع 1: 4-9)

وهنا كشف ق. لوقا تدبير الله من حيث إعطاء الكنيسة وصية الاجتماع والصلاة الدائمة كجماعة مشفوعة بالصوم. وهكذا أعطى الله بهذا توجيهاً دائماً للكنيسة ولكل مؤمن إن أراد قبول الروح القدس أن يعد نفسه له بالصوم والصلاة الدائمة.

52:24 «فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم».

هنا ولأول مرة في إنجيل ق. لوقا يذكر أن التلاميذ سجدوا أو عبدوا المسيح، وبما يكون الاعتراف الكامـل بربوبيـة المسـيح كإلـه. وهكـذا ومع السجود الفـرح العظيم، هـذا الفـرح يكشـف أنـه حدث حقا حالة شركة سرية بين التلاميذ والمسيح وهي التي أعطتهم هذه الفرحة السماوية التي قال عنها المسيح إنه لا يمكن أن تنزع منهم (يو 22:16) لأنها علامة القبول ملكوت الله: «وأما شركتنا نحـن فـهـي مع الآب ومع ابنـه يسوع المسيح، ونكتـب إلـيـكـم هـذا لكـي يـكـون فـرحـكـم كـاملاً »(1يو 1: 3و4). وكلمـة كـاملاً هنـا باليونانية: “peplhrwmsnh” وتعني: محققاً = fulfilled أو مكملاً = complete”، لأنه من حيث تحقيق هذا عملياً معروف أنه في اجتماع المؤمنين في شركة الرب بالصلاة والتسبيح والتناول تظهر في الحال حالة فرح طاغ تعم الجميع. هذا ، ا هو الفرح الكامل بصفته أنه تحقق وأنه كامل بالآب والابن والروح القدس. وصفة الفرح التي أعطاها ق. لوقا للسجود وعبادة الرب يسوع هي فرح عظيم، وهذه الصفة سماوية وهي تعبر عن منتهى الفرح الذي هو الفرح الكامل.

53:24 «وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله. آمین».

وهكذا يختم ق. لوقا إنجيله بمنظر تسبيحي يملأه الفرح داخل الهيكل، وهكذا بدأ الهيكل يحتضن الكنيسة إلى حين. ولكن هذه هي أول مرة في تاريخ الهيكل الطويل أن تحدث عبادة داخله بفرح عظيم. ويبدو أن ق. لوقا يدخل قليلاً الآن في سفر الأعمال لأن الفرح العظيم هو من عمل الروح القدس بكل تأكيد. وهكذا تم كلام الرب يسوع أنه سيبني هذا الهيكل جـديـداً عـوض القديم. وهكذا بدأت أول علامات الهيكل الجديد بالرسل يعبدون الرب بفرح عظيم! الذي سينتهي بهم إلى الخروج خارج الهيكل لهدمه على يد تيطس في الوقت الذي فيه الكنيسة تبتدئ أن تعلو ورأسها سامقة نحو السماء.

والآن نأتي إلى ختام شرح إنجيل القديس لوقا الذي استحوذ على قلبنا وفكرنا، فكنا نتأمل ونكتب وكأننا نرافقه ونستمع إليه، وما كنّا نود أن ننتهي منه، فجوعنا إلى كلمة الإنجيل لا يقبل الشبع منها أبداً. 

الأحد 10 ديسمبر     
سنة 1995       
30 هاتور سنة 1712 ش.

تفسير إنجيل لوقا – 23 إنجيل لوقا – 24 تفسير إنجيل لوقا تفسير العهد الجديد فهرس
القمص متى المسكين
تفاسير إنجيل لوقا – 24 تفاسير إنجيل لوقا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى