تفسير سفر ملاخي 4 للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الرابع
إشراق شمس البرّ
في الأصحاحات الثلاثة السابقة (1، 2، 3) مزج الاتهامات الثمانية الموجهة ضد شعبه، خاصة الكهنة، بالرجاء في مجيء المسيا لكي يطَّهر ويقَّدس ويقيم من مؤمنيه خاصةً له. الآن يعلن عن يوم مجيء المسيا بكونه إشراق لشمس البرّ يبدد الظلمة التي سادت على الأمم، وأفسدت الأرض كلها.
في الأصحاح السابق أبرز الرب اهتمامه الشخصي بالبشرية. فيرسل ملاكه ليُعد له الطريق، ويأتي بنفسه ليقيم هيكله المقدس من البشرية. يأتي كنارٍ تحرق الشر والفساد، وتنقي وتطهر. إنه يشتهي أن يرجع إلى قلوب البشر، في إخوته الأصاغر، مع التمتع بمفاهيم سليمة عن العبادة، والسلوك بروح التمييز. الآن يختم السفر، بل ويختم أسفار العهد القديم بالكشف عن مجيء الرب للخلاص، فيشرق بنور برِّه على الجالسين في الظلمة، ويهب الشفاء لمؤمنيه، حتى يذكروا الشريعة بمفهومٍ روحيٍ عميقٍ، روح الحب والسلام كأسرة واحدة مقدسة.
1. يوم ناري 1:
تحدث في الأصحاح السابق عن روح التمييز الذي به ندرك أن الله أبونا، فهو يشفق علينا كأبناءٍ له، أرسل كلمته متجسدًا ليضمنا إليه برجوعنا بعمل نعمته. لكن يليق أيضًا أن ندرك أنه القدوس الذي لا يُهادن الخطية، بل يحرقها كما في التنور (فرن). جاء ليبسط يديه بالحب لكل البشرية، فإن صمم إنسان على كبرياء قلبه وفعل الشر يلقي بنفسه تحت الدينونة الأبدية فيهلك.
فَهُوَذَا يَأْتِي الْيَوْمُ الْمُتَّقِدُ كَالتَّنُّورِ
وَكُلُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَكُلُّ فَاعِلِي الشَّرِّ يَكُونُونَ قَشًّا،
وَيُحْرِقُهُمُ الْيَوْمُ الآتِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ،
فَلاَ يُبْقِي لَهُمْ أَصْلًا وَلاَ فَرْعًا. [1]
يتنبأ ملاخي النبي عن يوم مجيء الكلمة المتجسد ليحقق الخلاص، فإنه وإن كان يبسط ذراعيه لكل البشرية، إلا أنه جاء ليلقي نارًا. فمن يؤمن به يتمتع بالحياة الأبدية، أما الذي يتشامخ عليه ويرفضه فيحترق كالقش وسط النار. هذا ما تنبأ عنه المرتل عن المسيا: “تجعلهم مثل تنور نارٍ في زمان حضورك؛ الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار” (مز 21: 9).
الله الذي يعرف القلوب هو وحده يقدر أن يفرز القش عن الذهب، المتكبرين عن المتواضعين. الأولون يُحسبون فاعلي شر يحترقون بالنار، فلا يبقي لهم أصلًا ولا فرعًا، والأخيرون يزدادون بهاءً ونقاءً.
لقد سبق فطوّب البعض المستكبرين لأنهم سعداء في هذا العالم (3: 15)، الآن تظهر حقيقتهم أنهم قش يحترق في التنور، فيصير رمادًا.
لعله يقصد بالمتكبرين هنا من هم على شاكلة جماعة الفريسيين الذين كانوا متشامخين بمعرفتهم وبرِّهم الحرفي، فقاوموا السيد المسيح، وفي مقاومتهم صاروا كالقش الذي لا يحتمل مواجهة لهيب النار. أما فاعلو الشر فيقصد بهم بقية اليهود الرافضين للمخلص.
لم يُبقِ الرب لهم أصلًا ولا فرعًا حيث سمح لتيطس فيما بعد بهدم أورشليم وإبادة الهيكل تمامًا. هذا يتحقق في صورة كاملة يوم مجيء السيد المسيح الأخير لدينونة الأشرار ومكافأة المؤمنين الحقيقيين، خائفي الرب ومتقيه.
* ولكن متى يأتي يوم الانتقام الإلهي للدم البريء، هذا يعلنه الروح القدس بملاخي النبي: “هوذا يأتي يوم الرب، المتقد كالتنور...” (مل 4: 1)[134].
القديس كبريانوس
* ستكون الأرض كلها كرصاصٍ ينصهر في النار، عندئذ تُكشف أعمال الناس الخفية والعلنية[135].
المدعو إكليمنضس الروماني
* المجيئان له: واحد بالحقيقة فيه صار إنسانًا يخضع للجلدات… والثاني فيه سيأتي على السحاب (دا 7: 13)، حيث يأتي باليوم الذي فيه يحرق كنارٍ (مل 4: 1)، ويضرب الأرض بسيف فمه (إش 11: 4)، ويقتل الأشرار بنسمة شفتيه، ومعه نفخة في يديه، وينقي بيدره، ويجمع الحنطة في جرنه بالحق، ويحرق القش بنارٍ لا تُطفأ (مت 3: 12، لو 4: 17)[136].
القديس إيرينيؤس
* ينبئ الرب أن المخالفين سيحترقون ويهلكون، إذ هم غرباء عن الجنس الإلهي، مُدنِسون للمقدسات، هؤلاء الذين لم يُولدوا من جديد روحيًا ويصيروا أولاد الله. فإن هؤلاء وحدهم يمكنهم أن يهربوا: الذين ولدوا من جديد، وسيموا بعلامة المسيح. يقول الله في موضع آخر عند إرساله ملائكته لهلاك العالم وموت الجنس البشري، مهددًا بأكثر رعبٍ في الزمن الأخير: “اعبروا في المدينة وراءه واضربوا، لا تشفق أعينكم ولا تعفوا، الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء، اقتلوا للهلاك، ولا تقربوا من إنسانٍ عليه السمة” (حز 9: 5). علاوة على هذا: ما هي هذه السمة، وفي أي جزء من الجسم موضعها…؟ هذا أوضحه الله في موضع آخر، قائلًا: “أعبر في وسط المدينة في وسط أورشليم، وَسيم سمة على جباه الرجال الذين يئنون ويتنهدون على كل الرجسات المصنوعة في وسطها” (حز 9: 4). أما كون العلامة تخص آلام المسيح ودمه، وأن كل من توجد فيه هذه العلامة يُحفظ في أمانٍ ولا يصيبه ضرر، فتؤكده أيضًا شهادة الله: “ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر” (خر 12: 13). ما قد سبق حدوثه قبلًا في رمزٍ بذبح الحمل تحقق في المسيح، الحق الذي جاء بعد ذلك، وكما أنه عندما ضُربت مصر لم يكن ممكنًا لليهود أن يهربوا إلا بدم الحمل وعلامته، هكذا عندما يبدأ العالم في الدمار ويُضرب، من يوجد فيه دم المسيح وعلامته هو وحده يهرب (حز 9: 4، رؤ 7: 3، 9: 4)[137].
القديس كبريانوس
2. إشراق شمس البرّ 2:
لئلا يسقط أحد في اليأس بسبب خطاياه يعلن الرب عن مجيئه كشمس البرّ، يشرق على النفوس فيبدد ظلمتها، لكن ليس قسرًا بغير إرادتها. إنه الطبيب السماوي الإلهي الذي ينزل إلى مرضاه، فيشفيهم أن قبلوا عمله فيهم.
وَلَكُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ الْبِرِّ،
وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا.
فَتَخْرُجُونَ وَتَنْشَأُونَ كَعُجُولِ الصِّيرَةِ. [2]
كما جاء السيد المسيح ليلقي نارًا تنقي المؤمنين به، وتحرق الجاحدين، المصرين على جحودهم حتى النفس الأخير، فإنه يكون نورًا لكل إنسان يقبله، ويُحسب خائف الرب ومتقيه. أشرق على العالم في مجيئه الأول كما بجناحين ليشفي كل نفسٍ مريضةٍ، ويشرق بنور بهائه في مجيئه الثاني ليهب خائفيه شركة أمجادٍ أبدية. هذا اليوم يكون يوم ظلامٍ وقتامٍ لرافضيه ويوم عرسٍ مبهج ونورٍ لا ينقطع لمن آمن به وتمتع بالحياة الجديدة فيه.
“تخرجون” إذ يتمتع المرضى بشمس البرّ، وينالون الشفاء يخرجون كما إلى أعمالهم. عوض الرقاد الطويل في عجز عن العمل لحساب ملكوت الله، يخرجون للشهادة ولبنيان النفوس في الرب المخلص.
“تنشأون” أو “تنمون”، إذ تعود إليهم الصحة، فيتحركون متقدمين في النعمة والمعرفة والحكمة الإلهية، لعلهم يبلغون إلى قامة ملء المسيح، إلى “إنسانٍ كاملٍ” (أف 4: 13).
يشبههم هنا “بعجول الصيرة” أو عجول المعلف، التي سرعان ما تنمو وتقوى وتصير نافعة لأصحابها. يرى البعض أن الإنسان الذي يتمتع بنور شمس البرّ ينطلق كما إلى الحقل كعجل المعلف الذي يثب في الهواء الطلق في مرحٍ، يقفز فرحًا.
يرى القديس هيبولتيس أن السيد المسيح شمس البٌر لا يترك كنيسته في أيام الشدة العظيمة، في وقت ضد المسيح، إنما يشرق عليها بنوره… [هذا الذي يبسط يديه على الخشبة المقدسة، يفرد جناحيه، اليمين واليسار، ويدعو إليه كل الذين يؤمنون به، ويغطيهم كما تفعل الدجاجة بفراخها. فيقول بفم ملاخي هكذا: “ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البٌر، والشفاء في أجنحتها” (مل 4: 2)[138]].
* هوذا قد جاء الآن مخلصك ليخلصك، والمسيح شمس البٌر قد قام إليك لكي ينيرك[139].
أعمال فيلبس
* يُفهم القمر رمزيًا أنه الكنيسة، لأنه ليس لها نور من ذاتها، إنما تستنير بابن الله الوحيد، الذي ذُكر عنه في مواضع كثيرة في الكتاب المقدس رمزيًا أنه الشمس (مل 4: 2 إلخ)[140].
* متى يمجد قرن شعبه؟ عندما يأتي الرب، وتُشرق شمسنا، ليست الشمس التي تُرى بالعين، والتي تشرق على الصالحين والأشرار (مت 5: 45)، وإنما تلك التي قيل عنها: إليكم يا من تسمعون الله “تشرق شمس البٌر والشفاء في أجنحتها” (مل 4: 2). هذه التي يقول عنها المتكبرون والأشرار فيما بعد: “نور البٌر لم تضئ علينا، وشمس البٌر لم يشرق علينا” (الحكمة 5: 6)[141].
القديس أغسطينوس
* (مريم) هي الباب الشرقي الذي تحدث عنه حزقيال النبي أنه دائمًا مغلق ودائمًا مُشرق، وهو مختوم أو معلن لقدس الأقداس، خلالها دخل وخرج “شمس البِر” (مل 4: 2)، رئيس على رتبة ملكي صادق (عب 5: 10)[142].
القديس جيروم
* إن كان الإنسان الأعمى يعاني من عدم رؤيته الشمس المادية، فإنه يصيب الخاطئ حرمانًا من عدم تمتعه بالنور الحقيقي؟[143]
القديس باسيليوس الكبير
* يهب خدامه شركة في اسمه، فكما أنه هو النور، يدعو قديسيه نورًا، إذ يقول: “أنتم نور العالم” (مت 5: 14)، ويدعو خدامه بكونه هو “شمس البٌر” (مل 4: 2) “حينئذ يضيء الأبرار كالشمس” (مت 13: 43)[144].
ثيؤدورت أسقف قورش
* لم تُصنع سفينتنا من ألواح خشبية، بل تكوَّنت وتجمعت سريعًا بالكتاب المقدس. لا تقودنا النجوم التي في السماء في رحلتنا، بل يقود سفينتنا شمس البرّ في طريقها. فإننا إذ نجلس بجوار ذراع الدفة لا ننتظر نسمات الرياح بل نترقب نسمة الروح الهادئ[145].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لا تضع ثقتك في الشمس دون اعتبارات، فإنها بالحق هي عين العالم، بهجة النهار، جمال السماوات، فتنة الطبيعة، روعة الخليقة. عندما تتطلع إليها تتأمل موجدها. عندما تعجب بها تمجد خالقها. إن كانت الشمس كمرافقٍ للطبيعة ومساهمة فيها هكذا مُبهجة، فكم يكون الصلاح الذي في شمس البرّ؟ إن كانت الشمس هكذا سريعة وبدورتها السريعة بالنهار والليل قادرة على اجتياز كل الأشياء، كم بالأعظم ذاك الذي يملأ كل الأشياء على الدوام وفي كل مكان؟[146]
القديس أمبروسيوس
* من الشرق جاءت الكفارة إليكم، فمن هناك جاء إنسان يدعي “الشرق“، صار وسيطًا لله والبشرية، لذلك أنتم مدعوون بهذا أن تتطلعوا دومًا إلى الشرق، حيث يشرق عليكم شمس البرّ، حيث يولد النور لأجلكم، حتى لا تسلكوا بعد في الظلمة، ولكي ما لا تمسك بكم الظلمة في اليوم الأخير. لذلك لا يحل بكم ليل ضباب الجهل، بل تُوجدون دومًا في نور المعرفة، ويكون لكم على الدوام نهار الإيمان، وتحفظون دومًا نور الحب والسلام[147].
* عندما يتجلى يشرق وجهه كالشمس، حتى يُعْلَنْ لأبناء النور الذين يخلعون أعمال الظلمة ويلبسون سلاح أبناء النور (يو 12: 36؛ رو 13: 12، 13)، ولم يعودوا بعد أبناء ظلمة ولا أبناء ليل، بل أبناء نهار ويسلكون بأمانة كما في النهار (رو 13: 13؛ 1 تس 5: 5). فإذ يكشف عن ذاته، يشرق عليهم ليس كالشمس العادية بل بكونه شمس البرّ[148].
* لم يكن ليل في بطرس حين اعترف: “أنت هو المسيح ابن الله الحيّ” (مت 16: 16)، عندما أعلن له الآب السماوي ذلك. ولكن كان فيه ليلٍ في لحظة إنكاره (مت 26: 79-74). وفي المثال الحاضر عندما استلم يهوذا اللقمة خرج في الحال (يو 13: 30)، لأن الذي يُدعى “الشروق” لم يكن حاضرًا معه، إذ ترك شمس البرّ خلفه عندما خرج. ويهوذا الذي امتلأ بالظلمة طارد يسوع، لكن الظلمة التي اقتناها لم تدرك النور المُطارد. لهذا أيضًا عندما قال كلمة تبرير: “أخطأت، إذ سلمت دما بريئا” (مت 27: 4) “مضى وشنق نفسه” (مت 27: 5)؛ فإن الشيطان الذي كان فيه قاده إلى الشر وخنقه، إذ لمس الشيطان نفسه في ذلك الحين. إذ لم يكن الرب قادرًا أن يقول للشيطان لصالحه ما قاله لصالح أيوب: “أما نفسه فلا تمسها” (أي 1: 12؛ 2: 6)[149].
العلامة أوريجينوس
* حينما تعدي الإنسان الوصية ألقى الشيطان على النفس حجابًا مظلمًا. وإذ تأتي النعمة تزيل الحجاب تمامًا، حتى إذ تصير النفس نقية وتستعيد طبيعتها الأصلية، وتُعتبر صافية بلا عيب، تنتظر دائمًا بصفاء -بعينها النقية- مجد النور الحقيقي وشمس البرّ الحقيقية ساطعة بأشعتها داخل القلب نفسه[150].
* ليس فقط إلى اليوم الذي جاء فيه آدم الأخير بل وحتى إلى اليوم، فإن الذين لم تشرق عليهم “شمس البرّ”، أي المسيح، والذين لم تنفتح عيون نفوسهم وتستنير بالنور الحقيقي لا يزالون تحت نفس ظلمة الخطية، وتحت نفس تأثير الشهوات، وهم تحت العقاب بعينه، إذ ليس لهم إلى الآن عيون لينظروا بها الآب[151].
القديس مقاريوس الكبير
* هو شمس البٌر، معلن من السماء، مُحاط بطبيعته المنظورة، ويعود إلى ذاته[152].
القديس غريغوريوس النزينزي
* إذ نعرف أن المسيح هو النور الحقيقي (يو 1: 9) لا يُقترب إليه من الباطل نتعلم من هذا ضرورة استنارة حياتنا بالنور الحقيقي. لكن الفضائل هي أشعة شمس البرّ تتدفق لاستنارتنا خلالها نطرح أعمال الظلمة (رو 13: 12) لكي نسير كما يليق بالنهار (رو 13: 13) ونجحد خفايا الخزي (2 كو 4: 2). إذ نفعل كل شيء في النور نصير النور ذاته، يشرق على الغير (مت 5: 15-16)، النور الذي له صبغته الخاصة[153].
القديس غريغوريوس النيسي
* ولكن عندما دعانا ابن الله الوحيد نفسه إلى هذه البنوة، إنما دعانا للتشبه به لذلك قال: فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين. ولكن ما هي هذه الشمس؟! إما أن تكون شمسًا غير منظورة للعين الجسدية، أي تلك الحكمة التي قيل عنها أنها “ضياء النور الأزلي” (حك 7: 26)، كما قيل عنها “شمس البرً تشرق عليَّ” وأيضًا: “لكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البرّ” (مل 4: 2).
وبالمثل يكون المطر غير منظور، قاصدًا به تعاليم الحق وإروائها لنفوسنا، لأن السيد المسيح جاء للصالحين والأشرار، وبُشّر به للأبرار والظالمين.
* إما أن تكون هي تلك الشمس المنظورة التي تراها جميع المخلوقات، كذلك المطر يكون هو ذلك المطر المنظور الذي عليه تنمو النباتات التي تقّوت الجسد. وهذا التفسير أظنه أكثر احتمالًا، لأن الشمس الروحية لا تشرق سوى على الصالحين والقديسين، إذ نرى في سفر الحكمة الأشرار يبكون قائلين: “لم تشرق علينا الشمس” (حك 5: 6)، كما لا يروي المطر الروحي غير الصالحين، لأنه قصد بالشرير تلك الكرمة التي قيل عنها: “وأوصي الغيم أن لا يمطر عليهِ مطرًا” (إش 5: 6)[154].
* “لا تغرب الشمس على غيظكم” (إف 4: 26)، ومع هذا فقد غابت الشمس مرارًا كثيرة. اتركوا غيظكم أيضًا، حيث نحتفل الآن بأيام الشمس العظيم، هذه الشمس التي يقول عنها الكتاب المقدس “لكم … تشرق شمس البرّ، والشفاء في أجنحتها” (مل 4: 2). ماذا يقصد ب “في أجنحتها”؟ أي في حمايته، إذ قيل في المزامير: “وبظل جناحيك استرنيّ” (مز 17: 8). وأما أولئك الذين يندمون في يوم الدينونة، ولكن بعد مضي الوقت، والذين سيحزنون ولكن بلا فائدة، فقد سبق أن تنبأ في سفر الحكمة عن ما سيقولونه عندما يندمون ويتأوهون من عذاب الروح “فماذا أنفعتنا الكبرياء، وماذا أفادنا افتخارنا بالغنى. قد مضى ذلك كالظل، لقد ضللنا عن طريق الحق، ولم يضئ لنا نور البرّ، ولم تشرق علينا الشمس” (حك 5: 6، 8، 9). تلك الشمس تشرق على الأبرار فقط، وأما هذه الشمس التي نراها يوميًا، فإن الله يشرق شمسه على الأشرار والصالحين” (مت 5: 45). يطلب الأبرار رؤية تلك الشمس وهي تقطن في قلوبنا بالإيمان. فإن كنتم تغضبون لا تدعوا هذه الشمس تغرب في قلوبكم على غيظكم “لا تغرب الشمس على غيظكم”. لئلا تكونوا غاضبين، فتغرب شمس البرّ عنكم، وتمكثون في الظلام[155].
القديس أغسطينوس
* هذا ينطبق على المجيء الأول لمخلصنا والمجيء الثاني- أشرق في مجيئه الأول مثل نوع من الشمس بالنسبة لنا نحن الجالسين في الظلمة والظلال، ويحررنا من الخطية، ويهبنا شركة في البرّ، ويغطينا بهبات روحية كأجنحةٍ، ويهبنا شفاء لنفوسنا. وفي مجيئه الثاني فإنه بالنسبة للذين تعبوا في الحياة الحاضرة يظهر لهم إما كما يتفق مع إرادتهم أو ضدها؛ وكديانٍ عادلٍ يقضي بالعدل ويهب الخيرات الموعود بها. كما أن الشمس المادية في إشراق تيقظ من قبض عليهم النوم ليقوموا للعمل، هكذا في مجيئه يقيم الذين في قبضة النوم الطويل للموت.
ثيؤدورت أسقف قورش
* حيث أن الله هو نور روحي (1 يو 1: 5)، ويُدعى المسيح في الأسفار المقدسة شمس البٌر (مل 4: 2)، وانبلاج الصباح (الفجر)، فإن الشروق هو الاتجاه الذي يلزم تعيينه لعبادته[156].
الأب يوحنا الدمشقي
3. شمس البرّ واهب الغلبة 3:
وَتَدُوسُونَ الأَشْرَارَ،
لأَنَّهُمْ يَكُونُونَ رَمَادًا تَحْتَ بُطُونِ أَقْدَأمِكُمْ،
يَوْمَ أَفْعَلُ هَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. [3]
سرّ فرحهم ومرحهم هو تمتعهم بالنصرة على عدو الخير وملائكته الأشرار، الذين يصيرون رمادًا تحت أقدامهم. ينضمون إلى موكب النصرة تحت قيادة المسيح الرأس القائل: “ثقوا أنا قد غلبت العالم” (يو 16: 33). إنهم يحققون الوعد “تقدموا وضعوا أرجلكم على أعناق هؤلاء الملوك” (يش 10: 4).
* إننا نثق في ذاك الذي قال: “افرحوا، أنا قد غلبت العالم” (يو 16: 33)، لأننا ننال النصرة على عدونا إبليس، بمعونته وحمايته[157].
* لماذا يقول لنا: “افرحوا” إلاَّ لأنه قد غلب لأجلنا، وحارب لأجلنا؟
فإنه أين حارب؟ لقد حارب بأن أخذ طبيعتنا له…
لقد غلب من أجلنا نحن الذين أظهر لنا قيامته…
التصق يا إنسان بالله، هذا الذي خلقك إنسانًا. التصق به جدًا، ضع ثقتك فيه.
أدعه، ليكن هو قوتك. قل له: “فيك يا رب قوتي”.
عندئذ تتغنى عندما يهددك الناس، وأما ما تتغنى به يخبرك الرب نفسه: “إني أترجى الله، لا أخشى ماذا يفعل بيّ الإنسان” (مز 56: 11)[158].
القديس أغسطينوس
* يسمح لنا نحن أيضًا أن نغلب، متطلعين إلى رئيس إيماننا، ونسير في ذات الطريق الذي قطعه من أجلنا… أننا لسنا مائتين بسبب صراعنا مع الموت، بل نحن خالدون بسبب نصرتنا… هل يفسد الموت أجسامنا؟ ما هذا؟ أنها لن تبقى في الفساد، بل تصير إلى حال أفضل…
إذن لنغلب العالم، لنركض نحو الخلود، لنتبع الملك، لنُعِد النصب التذكاري للغلبة، لنستخف بملذات العالم. لسنا نحتاج إلى تعب لإتمام ذلك.
لنحول نفوسنا إلى السماء، فينهزم كل العالم! عندما لا تشتهيه تغلبه؛ إن سخرت به يُقهر.
غرباء نحن ورُحَّل، فليتنا لا نحزن على أي أمورٍ محزنة خاصة به[159].
القديس يوحنا الذهبي الفم
4. رؤية جديدة للشريعة 4:
ظن اليهود أنهم حافظون للشريعة الموسوية بتقديمهم تقدمات وذبائح كثيرة معيبة. الآن يطالبهم أن يذكروا الشريعة على المستوى الروحي لكي يصيروا هم أنفسهم بلا عيب، فيقبل الله تقدماتهم.
اذْكُرُوا شَرِيعَةَ مُوسَى عَبْدِي
الَّتِي أَمَرْتُهُ بِهَا فِي حُورِيبَ عَلَى كُلِّ إِسْرَائِيلَ.
الْفَرَائِضَ وَالأَحْكَأمَ. [4]
العبارات التالية (4-6) هي خاتمة لا لسفر ملاخي وحده بل للعهد القديم كله. فقد جاءت هذه الخاتمة تهييء الشعب لانتظار مجيء السيد المسيح، بفحص الشريعة الشاهدة للسيد المسيح، أو للناموس الذي يقودنا إليه، وكما يقول القديس بطرس: “وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منيرٍ في موضع مظلمٍ إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم، عالمين هذا أولًا أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسيرٍ خاصٍ، لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسانٍ، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2 بط 1: 19-21).
* غاية النبي أن يتعلم القرّاء أن يعطوا تفسيرًا روحيًا للشريعة، فيجدون فيها المسيح الديان، الذي يميز الصالحين عن الأشرار. فإنه ليس بدون سبب قال المسيح لليهود: “لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عنيّ” (يو 5: 46). بالحقيقة بسبب تفسيرهم الحرفي وحده للشريعة وعجزهم عن إدراك أن وعودها الوقتية ليست إلا رموزًا للمكافآت الأبدية، سقطوا في امتعاضٍ يحمل تمردًا، فقالوا: “عبادة الله باطلة، وما المنفعة من أننا حفظنا شعائره…” (مل 3: 14-15)[160].
القديس أغسطينوس
* هذه الشريعة مقدسة جدًا وصالحة، حتى أن مخلصنا في وقت معين إذ شفى أبرص وشفى بعد ذلك تسعة برص قال للأول: أذهب، أرِ نفسك لرئيس الكهنة، وقدم القربان الذي أمر به موسى شهادة لهم” (مت 8: 4؛ مر 1: 44). فإنه لم يبطل الناموس في أي موضع[161].
الدسقولية
* أول علامة للطاعة تنالونها هي قبول مجيء المسيح الرب، الذي جاء لخلاص كل الشعب. أنه يأتي بالشريعة إلى غايتها ويوضح طريقه للكمال. لذلك فإنه من الصالح لكم أن تؤمنوا به عند ظهوره وتعرفوا أنه هو ذاك الذي تنبأ عنه موسى والأنبياء أنه يتمم غاية الناموس ويعلن عن خلاص الكل عامة[162].
ثيؤدور أسقف المصيصة
5. مجيء إيليا النبي 5-6:
أرسل الرب ملاكه -القديس يوحنا المعمدان- قبل مجيئه الأول لتقديم الخلاص. جاء القديس يوحنا المعمدان بروح إيليا الناري، وسيرسل إيليا مع أخنوخ في أيام ضد المسيح ليهيء الطريق لمجيئه الأخير.
هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ
قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ [5]
طالبهم بالرجوع إلى الناموس وفحص الشريعة حيث تتوقف إرسالية الأنبياء إلى حين مجيء من له روح إيليا وغيرته ليهييء الطريق لمجيء الرب (لو 1: 17).
انقسم مفسرو اليهود إلى فريقين في تفسيرهم لهذه العبارة، فريق ظن أن إيليا نفسه يأتي إلى العالم ليهيئ الطريق للمسيا. وآخرون حسبوا أن إنسانًا يأتي بروح إيليا.
هل جاء إيليا النبي ثانية؟
عندما سُئل القديس يوحنا المعمدان إن كان هو إيليا أجاب بالنفي (يو 1: 22)، بينما قال السيد المسيح: “إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا، كذلك ابن الإنسان أيضًا سوف يتألم منهم (مت 17: 12)، “حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان” (مت 17: 13). ويعلل القديس أغسطينوس إنه كان يجب أن يأتي قبل المجيء الأول للسيد المسيح وأيضًا الثاني. في المجيء الأول لم يأتِ إيليا بشخصه، وإنما حمل القديس المعمدان فكره وأسلوب حياته، لذلك قال عنه السيد المسيح أنه إيليا وقد جاء (مت 11: 14)، ولكن لم يأتِ بشخصه، لذلك قال يوحنا المعمدان إنه ليس بإيليا. أما في مجيء السيد المسيح الثاني والأخير فيسبق إيليا حيث يأتي بشخصه ويشهد على ضد المسيح ويستشهد[163].
* حيث أن المخلص هو بدء قيامة كل الشعب، كان لائقًا أن الرب وحده يلزم أن يقوم من الأموات، الذي به أيضًا يدخل القضاء العالم كله، حتى يتكل المجاهدون المستحقون بواسطته بالوسيط الشهير، فإنه هو نفسه تمم الطريق وقُبل في السماوات، وجلس عن يمين الله الآب، وسيعلن مرة أخرى في نهاية العالم بكونه الديان. إنه موضوع لدور معين، وأن السابق له يلزم أن يظهر أولًا كما قال بملاخي والملاك: “هاأنذا أرسل إليكم إيليا التشبيتي قبل مجيء الرب العظيم، والمخوف؛ فيرد قلوب الآباء على الأبناء، والعصاة لحكمة الأبرار، لئلا آتي واضرب الأرض تمامًا” (راجع مل 4: 5-6). إذن هذه ستأتي وتعلن عن ظهور المسيح من السماء. وستحدث آيات وعجائب، حتى يخجل الناس ويعودوا إلى التوبة عن شرهم العظيم[164].
القديس هيبوليتس الروماني
* ما هو مصدر اعتقادكم بأن إيليا القادم سيُعمِد؟ فإنه لم يعمد الخشب الذي على المذبح في أيام آخاب، عندما احتاج إلى حميم مياه حتى يحترق عندما ظهر الرب في النار (1 مل 18: 21-38). لقد أمر الكهنة أن يفعلوا هذا، ليس مرة، بل يقول: “ثنوا فثنوا” وأيضا: “ثلثوا فثلثوا” (1 مل 18: 34). إذن كيف ذاك الذي لم يعمد في ذلك الحين بل أعطى للآخرين ذلك أن يعمد عندما يأتي عند إتمام الأمور التي يتحدث عنها ملاخي؟[165]
العلامة أوريجينوس
* “ورأيت ملاكًا آخر صاعدًا من الشرق، له ختم الله الحيّ”. إنه يتحدث عن إيليا النبي، الذي هو النذير في أيام ضد المسيح، وذلك لإصلاح الكنائس وتثبيتها في مواجهة الاضطهاد العظيم المفرط. نقرأ أن هذه الأمور تُنبئ عنها في فاتحة العهد القديم والعهد الجديد؛ إذ يقول بملاخي: “هاأنذا أرسل إليكم إيليا التشبيثي، ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء، حسب وقت الدعوى، ليرد اليهود إلى إيمان الشعب الذي خلفه[166].
فيكتورينوس أسقف بيتوفيم
* عند اقتراب نهاية الأزمنة، سيُرسل نبي عظيم ليحول البشر إلى معرفة الله، وسينال قوة لعمل عجائب. وإذ لا يسمع له الناس سيغلق السماء، ويجعلها تمنع مطرها، وسيحول ماءهم إلى دمٍ، ويعذبهم بالعطش والجوع. وإذا سعى أحد لأذيته تخرج نار من فمه وتحرقه[167].
لاكتانتيوس
* إنه لأمرٍ محتمٍ أن البشيرين (السابقين) لمجيئه يجب أن يظهرا أولًا كما قيل بواسطة ملاخي والملاك (بشارة زكريا الكاهن بميلاد يوحنا السابق)… إنهما (إيليا وأخنوخ) سيأتيان ويعلنان عن ظهور المسيح أنه سيكون من السماء، وسيعملان آيات ويردان الذين غُلبوا بالشر وعدم التقوى إلى التوبة[168].
القديس هيبوليتس
فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ،
وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ.
لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ. [6]
يرى الأب فيكتورينوس في هذه العبارة إشارة إلى أن عددًا كبيرًا من اليهود سيقبلون الإيمان بالسيد المسيح خلال شهادة إيليا النبي في الأزمنة الأخيرة عند مجيء ضد المسيح[169].
من وحي ملاخي 4
لتشرق بنورك في أعماقي
* جئت إلى عالمنا لتبدد كل ظلمةٍ،
تشرق في كل نفس فتقيمها كوكبًا منيرًا.
تحوّل ظلمتنا إلى نورٍ،
وعارنا إلى مجدٍ.
* من يرفض نورك يفقد بصيرته،
وتخيم ظلمة الجهالة على عقله،
ويصير يوم مجيئك الثاني بالنسبة له رعبًا.
* لتدخل يا شمس البرَّ في أعماقي،
وتقيم مملكتك في داخلي،
فأصير ذهبًا مصفى بالنار،
ولا يكون للزغل موضع فيّ.
* تنزع أيها الطبيب السماوي مرضي،
وتهبني شفاءً أبديًا.
تحول حياتي إلى تهليل لا ينقطع.
أثب فرحًا بين السمائيين.
* أتمتع بنصرتك وغلبتك،
فلا يكون لإبليس موضع في داخلي،
بل بنعمتك ليّ يصير تحت الأقدام.
ليس له سلطان عليّ بعد!
* إني في انتظارك يا واهب المجد.
لترسل إيليا وأخنوخ ليحطما قوة ضد المسيح،
ولتُعد العالم كله للتمتع بخلاصك.
أعماقي تصرخ إليك:
نعم، تعالْ أيها الرب يسوع!