تفسير إنجيل مرقس أصحاح 1 – كنيسة مارمرقس مصر الجديدة
الأَصْحَاحُ الأَوَّلُ
بدء خدمة المسيح
(1) يوحنا المعمدان ومعمودية المسيح (ع 1-11):
1 بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ، 2 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: «هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي، الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. 3 صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً». 4 كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. 5 وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ. 6 وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ الإِبِلِ، وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ، وَيَأْكُلُ جَرَادًا وَعَسَلًا بَرِّيًّا. 7 وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلًا: «يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. 8 أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ». 9 وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ وَاعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي الأُرْدُنِّ. 10 وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ الْمَاءِ رَأَى السَّمَاوَاتِ قَدِ انْشَقَّتْ، وَالرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلًا عَلَيْهِ. 11 وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ: «أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ».
ع1: أشار القديسان متى ولوقا إلى بعض الأحداث المتعلقة بالميلاد الجسدي للمسيح، وأشار القديس يوحنا إلى الميلاد اللاهوتي للابن من الآب. أما القديس مرقس، فأخذ مدخلا مباشرا، بالإعلان في أول كلماته أن كتابه هو البشارة بيسوع المسيح ابن الله، وركّز على بدء خدمة المسيح، دون ذكر أية أحداث تسبقها.
“يسوع”: معناه الله يخلّص، وأصلها العبري يهوشوع، وتطورت إلى يشوع، ثم ’’يسوع‘‘ وكان هذا اسم الرب في تجسده.
“المسيح”: أي الممسوح ملكا، والمخصص لخلاص وتجديد البشرية بفدائها على الصليب.
“ابن الله”: أي الاسم اللاهوتي، والدال على ألوهية الكلمة ابن الله.
ع2-3: “كما هو مكتوب”: يشير القديس مرقس إلى نبوات (ملاخي 3: 1؛ إشعياء 40: 3) في العهد القديم، والتي أشارت إلى إرسال يوحنا المعمدان كملاك سابق للمسيح المخلّص، يهيئ النفوس لاستقباله – في العهد الروماني، كان لا بُد أن يسبق الرؤساء أو الأشخاص البارزين من يعلن عن قدومهم – فالعالم، في فساده، لم يكن مستعدا لقبول المسيح، فأرسل الله يوحنا يوبخ وينذر بالتوبة، ليعد له الطريق.
“أرسل… ملاكى”: التعبير الذي استخدمه ملاخي في نبوته عن يوحنا المعمدان.
“صوت صارخ”: التعبير الذي استخدمه إشعياء في نبوته عن يوحنا المعمدان، وتوضح صراخه في الشر والأشرار من أجل التوبة.
ع4-5: أما العمل الذي قام به يوحنا، فهو دعوة الناس إلى التوبة وترك الخطية. وكان اليهود من عاداتهم أن يختنوا من يهتدوا لليهودية من الأمم. وهكذا يكون يوحنا غيّر تلك العادة، وقد استخدم المعمودية علامة وختما لمن قدّم توبة (والماء يرمز للغسل والطهارة)، وقد استجاب الشعب لنداء التوبة، وخرجوا إليه من جميع الأماكن، وتم عمادهم.
ع6: “وَبَرَ الإبل”: لباس خشن ورخيص يلبسه الفقراء، ولبسه الأنبياء، مثل إيليا، ويرمز للتجرد وعدم محبة المال ورفاهيته.
“مِنْطَقَةً من جلد”: كما لبسها أيضًا إيليا (2 مل 1: 8)، وهي عبارة عن حزام جلدى عريض يشد الوسط، ويرمز للجهاد والعمل الجاد.
“يأكل جرادا وعسلا…”: الجراد هو الحشرة البرية القارضة المعروفة، ولم يكن أكله محرّما (لا 11: 22)، والعسل كان عسل نحل يوجد في شقوق الصخور بالبرية. ومن الناحية الرمزية، يمكن القول بأن الجراد يشبه اليهود الساقطين كالحشرات في خطاياهم، أما التوبة فتجعلهم عسلًا حلوًا عند المسيح.
ع7-8: وبجانب ندائه القوى بالتوبة، كان يكرز ويتنبأ عن قدوم المسيح. وفي اتضاع، وضّح الفرق بينهما، فوضع نفسه في صورة العبد المنحنى ليحل بيده سيور حذاء سيده، فرفع الرب هذه اليد ووضعها على رأسه عند المعمودية، ليعلّمنا جميعا أن الاتضاع هو الفضيلة التي ترفع الإنسان أمام الله… ولم ينس يوحنا أيضًا توضيح الفرق بين معمودية الماء التي ترمز للتطهير، ومعمودية الروح القدس التي أساسها المسيح.
† صديقى الحبيب، لا يمكن أن نترك شخصية يوحنا دون أن نتعلم منها الكثير:
أولًا: ترك العالم المريح إلى البرية الموحشة، التي ترمز إلى الشر، ليُقهرَ الشر بنداء التوبة.
ثانيا: تجرّد في أكله وشربه وملبسه، فأعطاه الله سلاما وقوة وشجاعة لم يعرفها العالم.
ثالثا: بالرغم من كلامه الجرىء والقوى، وعدم مهادنة الشر وتوبيخ الأشرار، إلا أن الجموع خرجت إليه. فلا تخف أبدا أن تتمسك بالحق مهما كان الشر المحيط بك، فالله هو العامل فيك وليس نحن.
ع9-11: في الزمن المعيّن قبلا من الله، ذهب المسيح إلى يوحنا عند نهر الأردن، ليعتمد نيابة عن البشرية الخاطئة، وليس عن احتياج لتوبة أو تطهير.
“ناصرة الجليل”: الجزء الشمالى من بلاد اليهودية، وهو المكان الذي قضى فيه المسيح أيام حياته منذ عودته من مصر طفلا، وحتى بداية كرازته.
“صاعد من الماء”: توضيح أن المسيح نزل وصعد، ولهذا تمارس كنيستنا سر المعمودية بالتغطيس، وليس بوضع الماء على رأس المعَمّد، وكلمة صاعد تشير إلى القيامة من الخطية بالمعمودية.
“السماوات قد انشقت”: صاحب معمودية المسيح إعلان من السماء، وكان أول إعلان واضح لعقيدة الثالوث الأقدس للبشرية، فالابن المتجسد يصعد من الماء، والروح القدس يأخذ شكل حمامة معلنا عن ذاته، وها هو الآب يعلن عن علاقته الأزلية بابنه، وأنه مصدر سروره بفدائه للبشر. ولهذا تعتبر كنيستنا عيد الغطاس عيدا سيديا كبيرا، وتسميه باسمه اللاهوتي ’’عيد الظهور الإلهي‘‘، لأنه الإعلان عن الثالوث الأقدس.
(2) تجربة البرية، وبدء الكرازة (ع 12-15):
12 وَلِلْوَقْتِ أَخْرَجَهُ الرُّوحُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، 13 وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ. 14 وَبَعْدَمَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللهِ 15 وَيَقُولُ: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ».
ع12-13: في إشارة واضحة لقيادة الروح للإنسان المسيحي بعد المعمودية، خرج الرب إلى برية التجارب، ليتعلم المؤمن أن الحياة الروحية لن تخلو من الحروب، ولكن علينا أن نغلب بالمسيح كما غلب هو الشيطان. وبالرغم من الوحوش التي ترمز إلى الشياطين في عددها وتنوّع حروبها، فملائكة الرب تخدم وتحفظ أولاده المجاهدين في شخصه. وهكذا يحيط الله كنيسته بعنايته ورعايته، التي تحفظنا وتعزينا في تجاربنا.
يلاحظ أن القديس مرقس لم يعرض لتفاصيل الحروب الروحية طوال الأربعين يوما، ولكن كل من متى ولوقا تكلما، في الأصحاح الرابع من بشارتيهما، عن تفاصيل ثلاث منها، كنموذج لما تعرّض له المسيح من هذه الحروب.
ع14-15: “وبعدما أُسْلِمَ”: أي بعد أن سجن هيرودس يوحنا المعمدان، الذي كان يقاوم شره بالتوبيخ، بدأ المسيح خدمته بالجليل شمال اليهودية (الناصرة وكَفْرَنَاحُومَ)، حيث نشأته الأولى. وفي حكمته، لم يبدأ بأورشليم، حتى لا يصطدم بهيرودس أو رؤساء الكهنة.
“كَمَلَ الزمان”: أي جاء زمان تحقيق كل النبوات التي كُتبت عنه في تجسده وفدائه للإنسان (تك 49: 10 ؛ دا 9: 24).
“واقترب ملكوت الله”: أي بدء الدعوة بالخلاص، وإظهار مجد الله واضحا، وقد جاء المسيح الذي طال انتظاره، وعلى الإنسان إعلان قبوله لهذه الدعوة بالتوبة والإيمان ببشارة المسيح.
† سيدى وإلهي ومخلّصى، لا زلت تدعونى لك ابنا لأرث ملكوت الحياة، ووضعت شرطا لحصولى عليه، وهو ثباتى دائما في التوبة…
أرجوك يا إلهي، أعطنى أيضًا قلبا تائبا ثابتا في هذه التوبة، فأنا لا أريد أن أفقد ميراثى…
(3) دعوة بعض التلاميذ، وشفاء مجنون بكَفْرَنَاحُومَ (ع 16-28):
16 وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 17 فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ». 18 فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ. 19 ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلًا فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، وَهُمَا فِي السَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ الشِّبَاكَ. 20 فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي السَّفِينَةِ مَعَ الأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَهُ. 21 ثُمَّ دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ، وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ الْمَجْمَعَ فِي السَّبْتِ وَصَارَ يُعَلِّمُ. 22 فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ. 23 وَكَانَ فِي مَجْمَعِهِمْ رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، فَصَرَخَ 24 قَائِلًا: «آهِ! مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ؟ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ!» 25 فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلًا: «اخْرَسْ! وَاخْرُجْ مِنْهُ!» 26 فَصَرَعَهُ الرُّوحُ النَّجِسُ وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَجَ مِنْهُ. 27 فَتَحَيَّرُوا كُلُّهُمْ، حَتَّى سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ: «مَا هذَا؟ مَا هُوَ هذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ!» 28 فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ فِي كُلِّ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْجَلِيلِ.
ع16-18: “بحر الجليل”: هو نفسه بحيرة طبرية وبحيرة جَنِّسَارَتَ، ويمثل الحدود الشرقية لبلاد الجليل.
“سِمعان وأندراوس”: صياديْن، أي من بسطاء القوم، فالله لا يريد أن ينسب نجاح الخدمة لإمكانيات الإنسان، بل لعمله هو من خلال الخادم البسيط المتضع.
وكان اسميهما يرمزان لصفات تؤهل الإنسان لخدمة الله، فسِمعان معناها: المستمع المطيع لكلمة الله، وأندراوس معناها: رجل حقا… أي الرجولة والجدية الروحية في الخدمة.
“هَلُمَّ ورائى”: أي تبعية المسيح، والتمثل به في كل صفاته وتعاليمه، فالخادم الأمين والمؤثر هو من يجعل المسيح قائد مسيرة حياته كلها، فيأخذ منه أولًا ليعطى الآخرين ثانيا.
“تركا شباكهما”: كانت استجابتهما فورية، وتركا ما يعطلهما عن تبعية المسيح، وهذه الاستجابة تعني الآتي:
* إيمانهما بالمسيح، * حبهما له، * استعدادهما لترك كل شيء من أجله.
ع19-20: يتكرر نفس الموقف مع يعقوب ومعنى اسمه “يتعقب”، في إشارة لسعى وجهاد الخادم، ويوحنا معناه “الله الحنّان على خليقته”. وكما فعل سِمعان وأندراوس، تركا أباهما في السفينة مع الأَجْرَى، وذهبا وراءه، في إشارة إلى أنهما كانا من الأغنياء الذين يستخدمون الأجراء في الصيد.
† صديقى العزيز، ألا تخجل معي من هؤلاء الذين تركوا كل شيء ليتبعوا النصيب الصالح؟ فماذا نترك نحن في هذا العالم من أجل الله؟ فلنبدأ بأقل الأمور، والله قادر أن يقيمنا على الأكثر بعد ذلك.
ع21-22: كانت كَفْرَنَاحُومَ من أكبر مدن الجليل على شاطئ البحر، والمجمع كان مكان العبادة الذي يجتمع فيه اليهود من أجل الصلاة وقراءة أسفار موسى وبعض النبوات. وكانت المجامع منتشرة في بلاد اليهودية، ولكن لا يوجد سوى هيكل واحد بأورشليم تقدم فيه الذبائح.
“صار يعلم”: أي قرأ بعض القراءات، ثم قام بالتفسير والوعظ. وكان تعليمه جديدا يحمل تأثيرا وسلطانا روحيا على مستمعيه، وليس كالكتبة الذين كانت مهمتهم تعليم الشعب ووعظه في ذلك الزمان.
“الكتبة”: ينتسبون لِعَزْرَا الكاتب، وهو أشهر من جمع ونسخ الأسفار المقدسة بعد عودة بعض الشعب من السبي لأورشليم، وكتب باسمه سفر عَزْرَا.
ع23-25: كان حاضرًا مع الجمع في المجمع إنسانا يسكنه الشيطان، الذي لم يحتمل كلام المسيح، وتعرّف على شخصه المبارك، فصرخ بجزع عظيم: إنى أعرفك، فأنت ابن الله القدّوس الذي بيدك وحدك سلطان إهلاكنا.
“فانتهره”: أي وبخه بحزم، وأمره بالخرس والخروج من هذا الإنسان. وهذا يوضح السلطان المطلق للسيد المسيح على مملكة الشر والشياطين كلها، وأن المسيح لا يقبل شهادة من الشيطان حتى لو كانت صحيحة، فلا شركة للنور مع الظلمة.
ع26-28: في آخر محاولات الشيطان اليائسة، أسقط الرجل مغشيا عليه، ولكنه لم يملك سوى الخروج والطاعة لأمر المسيح. وكان لخروج هذا الشيطان أثرا بالغا على المشاهدين من الجمع، فتعجبوا متسائلين عن شخص المسيح نفسه “ما هذا؟” ثم تعجبوا أيضًا من أسلوب تعليمه الذي بُهِتُوا منه ولم يسمعوا مثله قبلا، وأخيرا دهشوا من سلطانه على الأرواح النجسة الذي لم يروا مثله قبلا، وهم يرون الشيطان يخرج بكلمة واحدة من فمه.
وبالطبع، كان لهذا الحدث أثرا عظيما، فانتشر خبره، ليس فقط في كَفْرَنَاحُومَ، بل وفي جميع القرى بمنطقة الجليل وما حولها.
(4) شفاء حماة بطرس، والكرازة في مدن الجليل (ع 29-39):
29 وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْمَجْمَعِ جَاءُوا لِلْوَقْتِ إِلَى بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ مَعَ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، 30 وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ مُضْطَجِعَةً مَحْمُومَةً، فَلِلْوَقْتِ أَخْبَرُوهُ عَنْهَا. 31 فَتَقَدَّمَ وَأَقَامَهَا مَاسِكًا بِيَدِهَا، فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى حَالًا وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ. 32 وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ، إِذْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ وَالْمَجَانِينَ. 33 وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى الْبَابِ. 34 فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَلَمْ يَدَعِ الشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ. 35 وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ، 36 فَتَبِعَهُ سِمْعَانُ وَالَّذِينَ مَعَهُ. 37 وَلَمَّا وَجَدُوهُ قَالُوا لَهُ: «إِنَّ الْجَمِيعَ يَطْلُبُونَكَ». 38 فَقَالَ لَهُمْ: «لِنَذْهَبْ إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ لأَكْرِزَ هُنَاكَ أَيْضًا، لأَنِّي لِهذَا خَرَجْتُ». 39 فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي كُلِّ الْجَلِيلِ وَيُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ.
ع29: “بيت سِمعان وأندراوس”: خرج المسيح من المجمع، واتجه مع الأربعة تلاميذ إلى بيت سِمعان وأخوه أندراوس، وكان هذا البيت في كَفْرَنَاحُومَ، ويرى البعض أن بيت سِمعان بطرس هو الذي كان ينزل فيه المسيح دائما عند زيارته لكَفْرَنَاحُومَ.
ع30-31: كانت حماة سِمعان، التي تعيش معه، قد أخذتها حمى شديدة. وعندما أخبروه بهذا، تحنن عليها وأقامها ماسكا بيدها. وفي هذا الصدد، يقول القديس لوقا (لو 4: 39) “انتهر الحمى فتركتها، وفي الحال، قامت وصارت تخدمهم.”
† وهذا أيها الحبيب يعلّمنا شيئين:
(1) أن نطلب من المسيح، ليس من أجل أمراضنا فقط، بل نصلي من أجل آلام الآخرين كما فعل أهل بيت حماة سِمعان، وكما تعلمنا الكنيسة إذ تصلى للمرضى في كل صلواتها.
(2) أن المرأة عند شفائها، قدمت عرفانا بالجميل بخدمتها للجميع. فشكر الله ليس كلاما فقط، بل عملا أيضًا.
ع32-34: “… صار المساء، إذ غربت…”: احتراما لوصية السبت وعدم التنقل خلاله، انتظر الناس حتى انقضاء السبت بغروب الشمس، ثم اجتمعوا حول البيت، رغبة في شفاء مرضاهم، أو لمشاهدة معجزات الشفاء، وقد تم الشفاء لأعداد كبيرة، وكذلك إخراج الأرواح النجسة.
“لم يدع الشياطين…”: كان المسيح يفعل هكذا دائما، لأنه لا يقبل شهادة الشيطان له (راجع ع 25).
ع35: “باكرا… خلاء”: أي فجر الأحد وقبل أن يستيقظ أحد… والموضع الخلاء الغرض منه ألا يراه أو يسمعه إنسان.
† يعلمنا المسيح ويعطينا نموذجا للصلاة الهادئة التي ينفرد فيها الإنسان بالله، ويختلى به ليتحدث معه ويفرح بلقائه.
وإذا كان المسيح يا صديقى، وهو بلا خطية، يصلى… فما أحوجنا، نحن المثقلين بالخطايا والهموم، إلى الوقوف أمام الله لنحصل على راحتنا؟!
ع36-38: لغياب المسيح عن المنزل عند استيقاظ التلاميذ الأربعة، بحثوا عنه. ولما وجدوه، أبلغوه أن هناك العديد من الناس يطلبونه (بكَفْرَنَاحُومَ). إلا أن المسيح الذي خرج من السماء من أجل الكرازة وإعلان الملكوت، لم يدع شيئًا يعطله، فأخبر التلاميذ بوجوب ذهابه إلى القرى المحيطة لاستكمال عمله.
† وهنا، نتعلم من السيد المسيح درسا مفيدا، وهو ألا نجعل زحاما أو إلحاحا ينسينا أهدافنا الروحية، فما أكثر ما سوف نقابله من معطلات… فلا تسمح لها أيها الحبيب أن تحوّل نظرك عن عملك الروحي أو أبديتك.
ع39: سُمح للمسيح في أول الأمر بدخول مجامع اليهود في الجليل، ولكن في زياراته التالية، وبعد وشايات الكهنة ورؤساء اليهود، مُنع من الكرازة والتعليم في المجامع. ويلاحظ بذلك أن الإيمان به، بعد قبول تعليمه في المجامعكان يخرج الشياطين… فالإيمان دائما يسبق الشفاء.
(5) شفاء الأبرص (ع 40-45):
40 فَأَتَى إِلَيْهِ أَبْرَصُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ جَاثِيًا وَقَائِلًا لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي» 41 فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ وَقَالَ لَهُ: «أُرِيدُ، فَاطْهُرْ!». 42 فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَطَهَرَ. 43 فَانْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ، 44 وَقَالَ لَهُ: «انْظُرْ، لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئًا، بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُمْ». 45 وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَابْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيرًا وَيُذِيعُ الْخَبَرَ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِرًا، بَلْ كَانَ خَارِجًا فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ، وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ.
ع40: جاء الإنسان الأبرص ساجدا باحترام واتضاع لشخص المسيح. وبالرغم من رجائه واحتياجه للشفاء، إلا أنه يعلمنا درسا هاما في كيفية الطلب من الله، إذ جثا قائلًا له: “إن أردت”، أي “لتكن مشيئتك”.
† بالرغم من ثقتنا في قدرة الله على إجابة كل طَلِبَاتِنَا، إلا أنه علينا تقديم مشيئة المسيح فوق احتياجنا، لأنه يعرف الأصح والأفضل لنا.
ع41-42: “فتحنن… ولمسه”: يكشف لنا القديس مرقس هيئة قلب المسيح المملوء حنانا على خليقته، فبالرغم من أن كلمة المسيح فقط كانت كافية لشفائه، إلا أنه لمسه بيده، وهو شعور كان هذا الرجل محروما منه، إذ كانت الشريعة تُحرّم لمس الأبرص لنجاسته، فجاءت لمسة اليد حانية على هذا الجسد الذي نسى معنى أن يُرَبِّتَ عليه آخر بحنان من زمن طويل. وفي اللحظة التي قال فيها المسيح “أريد”، ذهب عنه البرص وَطَهَرَ.
† وهذا يعلمنا أنه عندما نشعر بالنفور نحو شخص ما، نتذكر حنان المسيح نحو الأبرص، وحنانه علينا نحن الخطاة.
ع43-44: “فانتهره”: ليس المقصود بها زجر الرجل، وهو المتحنن عليه، بل تأتي بمعنى ألزمه بعدم العودة للخطية التي كانت سببا لمرضه، وكذلك ألزمه بالذهاب للكاهن الذى، بحسب الشريعة، يفحص ويعلن شفائه، ويقبل الذبائح التي عليه تقديمها.
ويلاحظ هنا أنه بالرغم من إتمام الشفاء، إلا أن المسيح احترم النظام الذي وضعه الله، ودور الكاهن في ذلك، كما جاء في سفر اللاويين (ص 13، 14)، أنه عندما يُشْفَى الأبرص، كان عليه الذهاب للكاهن للفحص، ثم يقدم ذبيحة شكر في الهيكل.
وبالمثل، يمكننا القول أن هذا ما يحدث في سر التوبة والاعتراف، فالإنسان يتقدم للمسيح جاثيا ومقرا بخطاياه، فيقول له: أرفعها عنك. ولكن، اذهب وَأَرِ نفسك للكاهن، وقدّم هناك ذبيحة اعترافك.
“لا تقل لأحد”: أي لا تتباهى بشفائك، مدعيا أن صلاحك كان سببا له، بل حافظ على اتضاعك.
† ليتنا يا أخي الحبيب نتعلم أن نحيط معاملات الله الخاصة معنا بشيء من الحرص والكتمان، لئلا نصاب بالزهو والغرور… واجعل مرجعك في هذا أب اعترافك.
ع45: لكن الرجل، بسبب فرحه الشديد وانفعاله، أذاع خبر شفائه في كل الأماكن، حتى انتشرت شهرة الرب يسوع في البلاد المحيطة، ولم يستطع دخولها من الزحام، فبقى في الخلاء ليستطيع الكل مقابلته
تفسير مرقس – مقدمة | إنجيل مرقس – 1 | تفسير إنجيل مرقس | تفسير العهد الجديد | تفسير مرقس 2 |
كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة | ||||
تفاسير مرقس – 1 | تفاسير إنجيل مرقس | تفاسير العهد الجديد |