تفسير إنجيل متى أصحاح 1 للقمص متى المسكين

العهد الجديد ما هو؟

لأن العهد الجديد يبدا يإنجيل ق متي، رأينا ان نلقي نظرة على ما هو من حيث التحديد الكتابي:
من حيث الأسفار:
يحوي كل الأسفار المقدسة التي سجلت كل ما يختص بالعهد الجديد.
أين يبتدئ العهد الجديد؟
في اللحظة التي رفع فيها المسيح الكأس الرابعة للفصح وقل لتلاميذه: «اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت 26: 27و28). في هذه اللحظة توقف العهد القديم الذي كان بواسطة سفك دم الذبائح الحيوانية كما وصفها سفر العبر ائيين هكذ «فمن ثم الأول أيضا لم يكرس بلا دم، لأن موسى بعد ما كلم جميع الشعب بكل وصية بحسب الناموس، أخذ دم العجول والتيوس، مع ماء، وصوفا قرمزيا وروفا، ورش الكتاب نفسه وجميع الشعب، قائلا هذا هو دم العهد الذي اوصكم الله به» (عب 9: 18-20).

وواضح اشد الوضوح انه بسفك دم المسيح توقف العهد القديم بدم ذبائح حيوانية وبدأ العهد الجديد بدم ذبيحة المسيح. وهنا حذار الأخذ بمجرد الكلمات وكأن كلمة عهد لها ئفس المعنى في القديم والجديد، ففي دم العهد الجديد لاهوت وأسرأر ومعلن وأفعال تحكم أعظم العطايا للعهد الجديد كالكفارة والغفران والصفح والمصالحة مع الله والفداء الكامل والخلاص والتبني. لذلك من الصعب جداً أن ندعو العهد القديم “عهدا” لأنه نُقض من الطرفين. من الشعب الذي صنع له ومن الله الذي سمح هه. وبذلك من الأصلح أن يسمى معاهدة، لأن المعاهدة مربوطة بالتوافق والطاعة من المصنوع من أجله فإذا كسر الطاعة انكسرت المعاهدة حتما. ولكن الوحيد الذي يدعى عهداً جديداً حقا هو الذي صنعه المسيح بمفرده لكل من يؤمن به، فهو عهد قائم من الله لا يتغير ولا يتبدل ولا يفنى أو يزول، فهو عهد إلهي قانم على صدق الله المطلق وعلى غني نعمته الأزلية الأبدية: «الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته» (أف 1: 7).
والأسفار التي تحوي كل العهد الجديد نتقسم إلى قسمين: القسم الأول ويحوي الأناجيل الأربعة والرسل التي هي الأعمال والرسائل جميعاً، والقسم الثاني وهو رؤيا يوحنا اللاهوتي. ولماذا قسمين؟ بسبب أن الأول يحوي تاريخ حياة الرب وخدمه من بدء تسجده حتى صعوده، وهنا تدخل الكنيسة لتقدم تاريخها الداخلي بواسطة الرسل بعد الصعود.

وهكذا يقف سفر الرؤيا وحده زمنيا وتاريخيا وكنسيا ليؤرخ مستقبل الكنيسة وعمل المسيح فيها وكل العالم حتى نهاية كل الدهور. وباختصار نقول إن هناك أناجيل أربعة وسفر الأعمال للرسل ورسائلهم وسفر الرؤيا. أما الاتصال الوثيق والعلاقة القائمة بين هذه الأقسام، فالكتابات تقدّم برهاناً قاطعاً بكمالها معاً. والواقع أن هناك حدا واضحاً فاصلاً بين الأناجيل وبقية الأسفار والرسائل، هذا الحد رسمه المسيح نفسه بوضوح في إنجيل ق. يوحنا (12:16) «إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق.» (يو 13: 12 و13)

ومن الملاحظ أن من الأربعة أناجيل يوجد إنجيلان كتبا بيد رسولين هما القديسان متى ويوحنا والأول القديس متى يُقال إنه كتب إنجيله قبل الجميع كما يقول العالم بنجل:

[إن القديس مرقس يوعز لنا من نصوص إنجيله ما يؤكد لنا وجود إنجيل ق. متى قبل إنجيله، وقد اهتم بأن أضاف في إنجيله ما لم يذكره ق. متى، فلما جاء ق. لوقا أضاف ما لم يذكره ق. مرقس ولما جاء ق. يوحنا أضاف ما أسقطه الإنجيليون الثلاثة لأنه آخر من كتب. ولكن من المؤكد عندنا أن ق. متى كتب إنجيله أولاً ، ويؤيد ذلك أنه الوحيد الذي في رواية الآلام يعطي باستمرار لبيلاطس لقب “الوالي” 7 مرات بينما لا يذكر هذا اللقب أي أحد آخر من الإنجيليين، غير أن ق. لوقا ذكره مرة واحدة فقط (لو 1:3)]

وبذلك يكون ق. متى قد وضع أول وثيقة ذات سلطان لكل من ق. مرقس وق. لوقا. وقد أثبتت الأبحاث الحديثة جداً بحسب البردية التي اكتشفت في الأقصر وعولجت وفحصت في إبريل سنة 1996 أن البردية كتبت سنة 65م، فإذا أعطيناها 25 سنة على الأقل لتنتقل من اليهودية إلى الأقصر بمصر يكون زمن كتابة الإنجيل بحسب ق. متى لا يزيد عن سنة 40م، وهي نفس السنة التي أرحنا لها لكتابة إنجيل ق. مرقس أيضاً وذات زمن مبكر جداً . (انظر كتاب شرح إنجيل القديس مرقس للمؤلف صفحة 114 وصفحة 30 هامش 46).

على أننا نظن أن الكتابة المبكرة للقديس متى كانت هي اللوجيا Logia بالعبرية التي أخذ منها الإنجيليون جميعاً. ولكن هذا يضيف قدماً لكتابة اللوجيا العبرية لأن البردية التي وُجدت في الأقصر هي مخطوطة يونانية، لأن المعروف أن إنجيل ق. متى باليونانية قد ترجم بعد تأليف اللوجيا.

 

جدول أنساب المسيح [مت 1: 1-17]

1:1 «کتاب ميلاد يسوع المسيح ابن دَاوُدَ ابن إبراهيم».

‏كتاب میلاد  Βίβλος γενέσεως

وهو نفس العنوان الذي جاء في السبعينية (3 مرات) بمفهوم ” كتاب خلقة” في سفر التكوين (1:1، 4:2، 1:5). والقديس متى يمعن في تأكيد أننا نحن أمام سفر تكوين جديد فيه لا خلقة مادية لأرض وسماء، بل خلقة جديدة روحانية للإنسان أولاً، وبناءً على خلقة الإنسان الخلقة الجديدة الروحية تستعيد الأرض والسماء أيضاً خلقتها الروحية وتنعتق من عبودية الموت والفناء. وهو نفس الاصطلاح الذي سجلته النسخة السبعينية كعنوان لسفر التكوين والقديس متى لا يتبع أبدا بل يفتتح ويجدد، ففي عرفه أن خلقة السماء والأرض والإنسان هي أصلا قائمة بالمسيح وتستمد وجودها ومعناها من المسيح، فعند القديس متى يكون المسيح ليس آخرا أو الياء بل بالأولى البداية والألف والأول لكل شيء في السماء وعلى الأرض «فإنه فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض، ما يُرى (مادي) وما لا يُرى (روحي) سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل» (كو 1: 16 و 17) فسفر التكوين كان يخص الوجه المنظور والمادي في عمل المسيح المتسع. والآن كتاب ميلاد آخر يخص عمل المسيح الروحي في الأرض والسماء والإنسان والروح والخلود والذي يبتدئ بميلاد يسوع المسيح وهكذا تقدم تاريخ ميلاد العالم والإنسان فيه من التراب، عن حتمية أسبقية المادي على الروحاني، والموت على القيامة أو الخطية على الخلاص أو العبودية على الحرية !! وهنا يبدأ ق. متى إنجيله بمقدمة مختصرة وهي لا تتقدم الإنجيل ككل وإنما كمجرد جدول للأنساب الذي يفتتح به إنجيله ثم حوادث ميلاد المسيح الإعجازية فيقول: كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم باعتباره عنوان سجل تسلسل أنسابه وبداية ميلاده. وإذ يبدأ بإعطاء لقب “المسيح” ليسوع ليوضح ضمنيا أن جدول الأنساب الذي جمعه يضمن إثبات أن المسيح هو “المسيا”. وقوله: “ابن داود” التي كررها في إنجيله تسع مرات فهو يشير إلى ميراث مملكة داود، والتي تعطي الأنساب التي سيذكرها حق هذا الميراث، فهو تسلسل ميراث. وبين حقيقة أن يسوع هو “المسيا” وهو وريث مملكة داود ” تبرز وظيفة المسيح كملك ومخلص، لأن الممسوح ممسوح ملكا لعمل الخلاص المزمع أن يكمله. أما تأكيد .ق. متى منذ البدء بأنه ابن إبراهيم فهو لتحديد أنه “النسل الموعود الذي به تتبارك كل أمم الأرض. وبهذا التعريف يكون بميلاد المسيح قد بدأ التاريخ المقدس حسب وعد الله لإبراهيم: “وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض” (تك 3:12)، “ويتبارك في نسلك (Sperma بالمفرد) جميع أمم الأرض” (تك 18:22). وهكذا تم ، وختم .ق. متى إنجيله في النهاية فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (مت 19:28) وإذ يحدد القديس متى اسم المسيح وعلاقته بداود وإبراهيم يقدّم لنا صفته كما تحققت فيه جميع نبوات العهد القديم كملك ومخلص معاً. وبعد سرده لجدول الأنساب الذي ينتهي بمريم العذراء يبدأ يأخذ واقعه كمولود من الروح القدس ومريم العذراء ليستعلن أنه ابن الله ، وبعدها يدخل ق. متى إلى إنجيله بعد أن يكون قد أمد القارئ بكل ما يتعلق بمؤهلات المسيح اللاهوتية من واقع سجلات العهد القديم.

+ “ويكون متى كملت أيامك لتذهب مع آبائك أني أقيم بعدك نسلك الذي يكون من بنيك وأثبت مملكته، هو يبني لي بيتا وأنا أثبت كرسيه إلى الأبد. أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا ولا أنزع رحمتي عنه كما نزعتها عن الذي كان قبلك. وأقيمه في بيتي وملكوتي إلى الأبد. ويكون كرسيه ثابتاً إلى الأبد. فحسب جميع هذا الكلام وحسب كل هذه الرؤيا كذلك كلم ناثان داود.” (1 أي 17: 11-15)

 + «لأنه يولد لنا ولد ونعطي ابنا وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلها قديراً أبا أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد. غيرة رب الجنود تصنع هذا.» (إش 9: 6 و7)

+ «ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب. » (إش 11 1و2)

+ «ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن بر فيملك ملك وينجح ويجري حقا وعدلا في الأرض في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمناً. وهذا هو اسمه الذي يدعونه به الرب برنا.» (إر 23: 5و6)

+ «ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا قائلة: هكذا قال الرب إن نقضتم عهدي مع النهار وعهدي مع الليل حتى لا يكون نهار ولا ليل في وقتهما أي طالما بقي زمان على الأرض فإن عهدي أيضاً مع داود عبدي ينتقض فلا يكون له ابن مالكاً على كرسيه .» (إر 33 19-21)

+ «قطعت عهداً مع مختاري، حلفت لداود عبدي، إلى الدهر أثبت نسلك (بالمفرد) وأبني إلى دور فدور كرسيك.» (مز 4:89)

جدول الأنساب كما يقدمه القديس متى:

1: 2 إِبْرَاهِيمُ وَلَدَ إسْحَقَ وَإِسْحَقُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يَهُوذا وَإِخْوَتَهُ.

واضح أن ق. متى لا يتبع خط المواليد الطبيعية بل يستقصي عن إرادة الاختيار الإلهي الذي بدأ بإبراهيم صاحب الوعد والعهد، لأن سلسال الميلاد الذي بدأ من إبراهيم بإسحق كان أول معجزة الاختيار الفائق للطبيعة، فإبراهيم أخذ الوعد بميلاد إسحق وهو شيخ وامرأته فقدت القدرة على الإنجاب، فكان حبل سارة معجزة فائقة وإن كان يقلُّ في إعجازه عن حبل العذراء، وهذا يتجاوب مع ذاك ليعلن الله بهما سر النسل الموعود أنه “لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود” (زك 4: 6). وإبراهيم أخذ الوعد بميلاد إسحق ليكمل الله بهذا النسل مواعيده، فلم يكن نسل متعة وقرة عين بل نسلا تتم فيه مقاصد العلي. وعلينا أن لا ننسى أن ابن إبراهيم من الجارية إسماعيل لحي من النسل الموعود: «بل بإسحق يُدعى لك نسل» (رو 9: 7). علماً بأن أساس البركة التي حلت على إسحق كانت بركة لإيمان إبراهيم لأنه آمن بالله الذي وَعَدَه بالنسل وهو شيخ وامرأته قد ضمر جهاز تناسلها. فإيمانه حسب له برا و به دعي أباً للإيمان طرا، فجاء إسحق وارثاً للإيمان والعهد والبركة وبر الإيمان جميعاً. ويلاحظ أن ..ق. متى بعد ذلك كانت عينه ليست على الأبكار الذين يرثون المخصصات الطبيعية التي لآبائهم، بل كانت عينه مسلطة على الأبناء المختارين والذين ورثوا الملوكية بعد داود باعتبارهم حاملي بركة إبراهيم وبر إيمانه. ونحن نسمع على مدى هذين الألفي سنة من إبراهيم للمسيح دعاء موروثاً يقول: «الله يتراءف علينا ويباركنا ويُظهر وجهه علينا ويرحمنا. يا رب خلص شعبك وبارك ميراثك وارعهم وارفعهم إلى الأبد» (مز 67: 1، 9:28). وقد ورثته الكنيسة حيث يقول الكاهن بارك ميراثك على أساس دعاء ما قبل المسيح، بمعنى يبارك ورثة العهد والوعد والبركة وإيمان إبراهيم والكنيسة ورثت هذا الدعاء بالبركة تقوله في نهاية الخدمة الكنسية عندما يبارك الكاهن الشعب حسب أمر الرب لهارون (عد 6: 23 -26).

ولكن جملة “بارك ميراثك” تحمل معنى ميراث الله لإبراهيم الذي انتهى بالمسيح، وإن كان ولابد أن يكون لنا دعاء الآن بالميراث فكأولاد نرث الأب مع المسيح (رو 8: 17).

وإسحق ولد يعقوب إسرائيل الذي حمل بركة إبراهيم ولذا دُعي الله بإله إسرائيل كما دعي بإله إبراهيم وإله إسحق. ويعقوب ولد الأسباط الاثني عشر ولكن اختار الله منهم يهوذا وخصه بالبركة مع أن رأوبين كان البكر، غير أن النبوات تركزت على يهوذا ، بمعنى أن الاختيار والبركة لم تتبع خطأ بشريا: «ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل الله الذي يرحم» (رو (16:9). أما قول ق. متى «ولد يهوذا وإخوته» فهنا بنوع ممتاز ذكر بقية الأسباط لأنهم ورثوا بصفة جماعية نوعاً من الامتياز ليكونوا نواة شعب الله، الذين انفصل عن جميع شعوب الأرض وخصهم الله كجماعة بصفة البنوة الله «إسرائيل ابني البكر» (خر 4: 22). وهكذا أخذت الأمة “بنو إسرائيل” الصفة المسيانية التي ستُورثها للابن الوحيد.

3:1 «وَيَهُودًا وَلَدَ فارص وَزَارَحَ مِنْ تَامَارَ وَفارصُ وَلَدَ حَصْرُونَ. وَحَصْرُونُ وَلَدَ أَرَامَ».

وقد أمسك ق. متى بيهوذا دون جميع إخوته لأن النبوة عينته للاختيار الملكي: «يهوذا إياك يحمد إخوتك، يدك على قفا أعدائك، يسجد لك بنو أبيك. يهوذا جرو أسد … لا يزول قضيب (الملوكية) من يهوذا ومشترع من بين رجليه (نسله) حتى يأتي شيلون رجل السلام) وله يكون خضوع شعوب. رابطاً بالكرمة جحشه وبالجفنة مرادف آخر للكرمة ابن أتانه. غسل بالخمر لباسه وبدم العنب ثوبه …» (تك 49: 8-11)

وبالحق لا نستطيع أن نعبر على هذا النسل صامتين، فهنا صراخ للضمير وتعد وفضيحة فيهوذا لم يلد فارص (بيريز) وزارح من زوجة ، بل من كنته أي امرأة ابنه الذي مات وتركها وأهملها يهوذا، فتخقت وأتته على الطريق فحسبها زانية فدخل عليها دون أن يعلم فحملت بفارص فاضطر أن يأخذها زوجة. وهكذا وعن قصد لم يغفل ق. متى هذه النقيصة في الأنسال فسجلها ليكشف عن النقائص التي عبر عليها ابن الإنسان في انحداره من المجد الأسنى لما أخلى ذاته ليأخذ من البشرية نسباً ليدخل به إلى الصليب، لينقيه ويطهره إلى تمام التقديس !! وهكذا إن عَلِمْنَا هذا يصبح عمل ق. متى في جمع هذه النقائص في نسب المسيح بلا حرج نوعاً من سيرة الخلاص ومسيرة الارتقاء بالإنسان من الحضيض إلى سموات العلا !! إلى ميراث الله مع الابن الوحيد.

أما لماذا ذكر ولدين ليهوذا، فبدلا من فارص قال فارص وزارح، فلأنهما توأم وقد تزاحما على النزول من الرحم هكذا : «وكان في ولادتها أن أحدهما أخرج يدأ فأخذت القابلة وربطت على يده قرمزاً (قماشة حمراء) قائلة: هذا خرج أولاً. ولكن حين ردَّ يده إذا أخوه قد خرج فقالت: لماذا اقتحمت؟ عليك اقتحام. فدعي اسمه فارص (بيريز Perez) وبعد ذلك خرج أخوه الذي على يده القرمز. فدعي اسمه زارح (شروق).» (تك 38: 28 -30)

والمعروف أيضاً أن يعقوب وعيسو هما توأم وهنا الرب نفسه أعلن اختياره للأصغر ورفضه للأكبر بمقتضى قانون الاختيار الذي لا يُناقش فقال لها الرب (لرفقة) في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان شعب (إسرائيل) يقوى على شعب (أدوم). وكبير (عيسو) يُستعبد لصغير (يعقوب)» (تك 25: 23). وهكذا سقط اسم عيسو ولم يدخل قط في حبل (حدود) الميراث. وهكذا يصير الأولون آخرين والآخرون أولين.

4:1 «وَأَرَامُ وَلَدَ عَمِّينادَابَ. وَعَمِّينادَابُ وَلَدَ نَحْشُونَ. وَنَحْشُونُ وَلَدَ سَلَمُونَ».

بالرجوع إلى التحركات التاريخية والجغرافية لبني إسرائيل نكون نحن الآن في زمن الخروج من مصر وعلى صحراء التيه نعيش فعميناداب هو أبو الفتاة المدعوة اليشابع التي تزوجها هارون: «وأخذ هارون اليشابع بنت عميناداب، أخت نحشون، زوجة له فولدت له ناداب وأبيهو وألعازار وإيثامار» (خر 23:6). وقد ترأس نحشون ابن عميناداب وصار قائداً لسبط يهوذا – الذين كانت خيامهم نحو الشروق «وكلم الرب موسى وهارون قائلاً: ينزل بنو إسرائيل كلّ عند رايته بأعلام لبيوت آبائهم، قبالة خيمة الاجتماع حولها ينزلون. فالنازلون إلى الشرق نحو الشروق راية محلة يهوذا حسب أجنادهم. والرئيس لبني يهوذا نحشون بن عميناداب وجنده المعدودون منهم أربعة وسبعون ألفاً وست مائة» (عد 2: 1-4). ومن مميزات سبط يهوذا أنه كان له الأولوية في تقديم القرابين عند إقامة الخيمة لأول مرة:

+ «والذي قرب قربانه في اليوم الأول نحشون بن عميناداب من سبط يهوذا. وقربانه طبق واحد من فضة وزنه مئة وثلاثون شاقلا ومنضحة واحدة من فضة سبعون شاقلا على شاقل القدس كلتاهما مملوءتان دقيقاً ملتوتاً بزيت لتقدمة. وصحن واحد عشرة شواقل من ذهب مملوء بخوراً. وثور واحد ابن بقر، وكبش واحد وخروف واحد حولي لمحرقة. وتيس واحد من المعز لذبيحة خطية، ولذبيحة السلامة ثوران وخمسة كباش وخمسة تيوس وخمسة خراف حولية. هذا قربان نحشون بن عميناداب.» (عد 7: 12-17)

وعند بدء مسيرة الشعب بأسباطه كان يهوذا يسير في المقدّمة للقيادة فارتحلت راية محلة بني يهوذا أولاً حسب أجنادهم وعلى جنده نحشون بن عميناداب » (عد 10: 14)

ونحن الآن على أبواب أريحا، وسلمون بن نحشون أخذ راحاب جاسوسة الشعب في أريحا امرأة له. وقد كان سلمون بطل اقتحام أرض كنعان.

5:1 «وَسَلَمُونُ وَلَدَ بُوعَزَ مِنْ رَاحَابَ. وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ مِنْ رَاعُوثَ. وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى».

القديس متى هو الوحيد الذي يعرفنا أن راحاب كانت أماً لبوعز. وبذلك يكون سلمون وبوعز معاصرين لدخول أرض كنعان، والقارئ المتمرس لا يصدق نفسه هل من زمن راحاب ودخول الشعب أرض كنعان حتى زمن داود الملك ثلاثة جدود فقط بينما هذه الفترة تزيد على 480 سنة بحسب (1مل 1:6) هنا ق. متى حصر جدوله في الأعلام الكبرى المسموعة والمعروفة للقارئ إنما ليتأكد نوع الاختيار واختزال الشخصيات المرفوضة. فالقديس متى إنجيلي يجري وراء الخط الكريستولوجي وليس مجرد الأنسال والأنساب.

وأكيد أن القارئ المسيحي لم يكن سعيداً بالمرة بذكر ثامار وراحاب، ولو أن كاتب سفر العبرانيين جمل الأخيرة بالإيمان «بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاة إذ قبلت الجاسوسين بسلام» (عب 11: 31). وجاء يعقوب أسقف أورشليم وألبسها ثوب البر: «كذلك راحاب الزانية أيضاً أما تبررت بالأعمال إذ قبلت الرسل وأخرجتهم في طريق آخر» (يع 2: 25). ولكن ق. متى لم يكن مرغماً على الإطلاق أن يذكر هاته النسوة، ولكن أرغمه تعليمه اللاهوتي الذي يقوم على خلاص الإنسان كله من الحضيض. وق. متى كان أمامه أربع نسوة قديسات عظيمات أمهات رئيسيات لم يذكر إحداهن، وهُنَّ سارة امرأة إبراهيم، ورفقة امرأة إسحق، وراحيل امرأة يعقوب، وليئة أيضاً. فعين القديس متى في جدوله الإلهي على مواطن الضعف وليس القوة، فالمسيح لم يأت ليدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة. والقديس جيروم (72:1) يُلاحظ كيف أن في جدول الأنساب لم يذكر أسماء نساء قديسات ولكن ذكر من وقع عليهن اللوم ليوضح أن القادم قادم ليرفع الخطايا. والقديس يوحنا ذهبي الفم يقول في ذلك:

[لو كنا نؤرخ لمجرد إنسان لكان من الطبيعي أن نستحي من ذكر هذه الأشياء. ولكن حينما نتكلم عن الإله المتجسد ينبغي على العكس أن نفتخر بها لأنها تظهر عظم تحننه وقوته، بل إنه من أجل ذلك قد جاء ليس لكي يستعفي من زلاتنا بل لكي يرفعها ويلاشيها. فكما أن أعجب ما في موته ليس فقط أنه مات بل أنه احتمل عار الصليب، لأنه على قدر العار الذي احتمله من أجلنا تكون شدة محبته للبشر؛ هكذا أيضاً أعجب ما في ميلاده ليس فقط أنه أخذ جسداً وصار إنساناً بل أنه رضي بمثل هذا النسب ولم يستح من زلاتنا وهكذا أعلن لنا منذ مسبقات ميلاده المبكرة جداً أنه لا يستحي من حمل كل الذي لنا ] (عظة 3:3 على إنجيل ق. متى)

6:1 «وَيَسَى وَلَدَ دَاوُدَ الْمَلِكَ. وَدَاوُدُ الْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ الَّتِي لأوريا».

وهنا حط ق. متى رحاله، فقد بلغ بؤرة الإشعاع التي استمد منها النور الذي يمهد الطريق أمام المسيا. فكلمة “الملك” كصفة لازمة لداود من حيث الاختيار هي التي يجري عليها البحث، فنحن بصدد “ميراث مملكة أبينا داود، بالنسبة للمسيا ابن داود الوريث الشرعي الذي حفظ حقه هذه الألف سنة من فوق رؤوس أجيال ما قبل السبي وما بعد السبي !!

ولكن عسير علينا جداً أن نبلغ خطية داود ونمر من فوقها لنبحث عن أول وريث لملكه وهو سليمان. فسليمان مولود من التي لأوريا الحثي، أمرأة حثية كانت لزوج قتله داود بحيلة حربية ليقتنص امرأته، ولكن لم تمر هذه الكارثة عن عين الله :

+ فأرسل الرب ناثان (النبي) إلى داود، فجاء إليه وقال له: كان رجلان في مدينة واحدة، واحد منهما غني والآخر فقير. وكان للغني غنم وبقر كثيرة جداً، وأما الفقير فلم يكن له شيء إلا نعجة واحدة بتشبع امرأته صغيرة قد اقتناها ورباها وكبرت معه ومع بنيه جميعاً، تأكل من لقمته وتشرب من كأسه وتنام في حضنه وكانت له كابنة. فجاء ضيف إلى الرجل الغني (داود) فعفا أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيئ للضيف الذي جاء إليه فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيا للرجل الذي جاء إليه؟ فحمي غضب داود على الرجل جداً وقال لناثان حي هو الرب إنه يُقتل الرجل (داود) الفاعل ذلك ويرد النعجة وما ردَّها أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق – فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل!؟» (2صم 12: 1-7)

لم يجزع ق. متى ولم يجد حرجاً من أن يضع سليمان ضمن الأنساب! «لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة» (مت 13:9) من أجل هذا كان المسيح يتعامل مع الخطية كأعظم عدو قد واجهه الإنسان. وكان قلب الله قادراً أن يعفو ويتغاضي عن قبائح وفضائح مختاريه لسبب واحد وهو ما عقد عليه نيته في تقديم ابنه وحيده ذبيحة إثم، يغسل بدمه كل خطايا الإنسان بأثر رجعي، لذلك نسمع الله ونتعجب فيما نسمع: «وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع كل مشيئتي» (أع 22:13). وهكذا يسمو الاختيار فوق ضعف الإنسان وتتزكى سلسلة أنساب ق. متى بالرغم من كل ما حدث !!

7:1 «وَسُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحَبْعَامَ. وَرَحَبْعَامُ وَلَدَ أَبِيًّا. وَأَبِيًّا وَلَدَ آسَا».

يحتار الإنسان في أمر سليمان، فقد تلقى شهادة أكبر من حجمه، ففي آية واحدة نجده يميل بقلبه نحو الله وبالقلب نفسه يميل إلى الأصنام والخطية «وأحب سليمان الرب سائرا في فرائض داود أبيه، إلا أنه كان يذبح ويوقد في المرتفعات» (1مل 3: 3) «وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون موآبيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات (مثل أمه)» (1مل 11: 1) وبالرغم من شبابه الواعد بملك رصين مسنود من الله، إلا أن حياته سارت في مجون الغنى وفجر الملوك، ولم يبلغ قط منزلة أبيه في الروحيات، الذي ما فتئ حزيناً على خطيته حتى مات ويده على القيثارة وفمه ينطق بالإلهيات. ولو أن الشواهد كثيرة التي تحكي عن توبة سليمان خاصة بعد أن بنى هيكل الرب، فصلاته في الهيكل يوم تدشينه تحفة من أمجد وأطول الصلوات التي رفعت لله في بيته (1مل 8: 12 -54)، وتكلم كل كتبة العهد القديم والجديد يصفون حكمة وغنى سليمان، حتى المسيح وصف غناه ومجده وزركشة ملابسه، ولكن تبقى النساء داءه الوبيل الذي صار عاراً على التاريخ. وهكذا كان أول من أدخل عوامل الهدم والفساد في ملك داود، فبعد موت سليمان انقسمت المملكة وجاء بعده الملوك الذين سيذكرهم ق. متى، ولكن كانت المملكة قد تمزقت ولم يملك الملوك بعد ذلك إلا على سبطين من الاثني عشر سبطاً الأولى!!

ويرصد ق. متى ملوكاً مجدوا الله بحياتهم وأمانتهم مثل آسا و يهوشافاط وعزيا ويوثام وحزقيا ويوشيا، وفيما عداهم كانوا صانعي الشر في عين الرب، ولو أن منسى تاب في آخر أيامه، ومع مجيء يكنيا الملك أو يهوياكين زال المجد عن سبط يهوذا، وأسر الشعب كله وذاق الذل في الأسر كما سنقرأ في الآية (11): «ويوشيا ولد يكنيا وإخوته عند سبي بابل» !

8:1 «وَآسَا وَلَدَ يَهُوشافاط ويهوشافاط وَلَدَ يُورَامَ. وَيُورَامُ وَلَدَ عُزِّيَّا».

هؤلاء كلهم ملوك تتبعهم ق. متى من أسفار العهد القديم، ولكنهم أشخاص التقطهم بحذق ومهارة إذ أسقط في الوسط بعض أسماء لم ير فيها مسلسل الملوك الذي يُمهّد للمسيا، لأن بين يورام و عزيا أسقط ق. متى ثلاثة أسماء لثلاثة ملوك أخزيا (2 مل 25:8) ويهواش (2مل 21:11) وأمصيا (2مل 1:14). ويؤكد العالم وليم هندركسن أن ق. متى كانت لديه مراجع أوسع وكانت له خبرة فريدة بأسفار العهد القديم الأمر الذي يرجح قول العلماء أنه كان رابيا متمرساً ولاوياً محترفاً التوراة. فالأسماء التي اختارها لم تكن مجرد عينات بل ركائز ذات قوة دفع المسيرة الملوك الذين يمهدون بحياتهم للمسيا بحسب التاريخ والتقليد القديم المدروس والقارئ المتمكن يشعر من دراستنا هذه أن أمر جدول الأنساب ليس عملاً هينا بل ينم عن دراسة عميقة واختيار ملهم للإيفاء بمفهوم نسب المسيا ، وعليه أن يقف طويلا أمام كل اسم ليستجلي منه الحكمة التي دفعت الإنجيلي لتسجيله. وبقدر ما ندرس هذه الأنساب ندرك حقا أنها في تناسقها وجمعها تباعاً إنما تعطي الضوء لاقتراب المسيا كلما تقدمنا خطوة، فالمسألة تكاد تكون توقعات إلهامية بالملك الآتي، وطريق مُهّد له خصيصاً. وعلينا أن نلتفت إلى الحركات السياسية التي تمت من بعد سليمان الملك إذ انقسمت المملكة إلى سبطين يحكمها سبط يهوذا، وعشرة أسباط خرجت من تحت تاج داود وسليمان، فقوضت هيئة المملكة وفقدت بريقها السماوي، وزال مجد داود ومن بعده حكمة سليمان ومجده الذي لم يكن له مثيل بين الأمم. اسمع كيف تدخل الله بنفسه ليمزق المملكة بسبب شر سليمان:

+ «فقال الرب لسليمان من أجل أن ذلك عندك نساء يعبدن آلهة الأمم ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها فإني أمزق المملكة عنك تمزيقاً وأعطيها لعبدك. إلا إني لا أفعل ذلك في أيامك من أجل داود أبيك بل من يد ابنك أمزقها على أني لا أمزق منك المملكة كلها بل أعطي سبطا واحداً لابنك لأجل داود عبدي ولأجل أورشليم التي اخترتها.» (1مل 11: 11-13)

أما العشرة أسباط فأخذها عبد سليمان يربعام بن نباط وكان بأمر الرب على فم أخيا النبي الشيلوني ليربعام عبد سليمان: “هكذا قال الرب إله إسرائيل هأنذا أمزق المملكة من يد سليمان وأعطيك (ير بعام عبد سليمان عشرة أسباط ويكون له سبط واحد من أجل عبدي داود … لأنهم تركوني وسجدوا لعشتورت إلهة الصيدونيين … ولم يسلكوا في طرقي ليعملوا المستقيم في عيني وفرائضي وأحكامي كداود أبيه” (1مل 11: 31-33). وكانت حرب بين ابن سليمان رحبعام القائم ملكا على سبط يهوذا فقط وبين يربعام خادم سليمان القائم على عشرة أسباط إسرائيل كل أيام حياته (1مل 6:15).

والآن لينظر القارئ الفاهم، هكذا كسر الله المملكة بسبب الشر، لتدخل النعمة وتملك بواسطة هذا السبط الواحد الضعيف المستضعف !! سبط يهوذا الذي سيطلع منه الأسد المرتقب مسيا رجاء الشعوب، ولكن بعد أن يمحص بنار السبي المرير في بابل.

ويقف هنا آسا الملك ويهوشافاط الملك كمندوبي سلام وتقوى ومخافة الله ، يقف آسا ويصرخ إلى الله:

+ “ودعا آسا الرب إلهه وقال: أيها الرب ليس فرقاً عندك أن تساعد الكثيرين ومن ليس لهم قوة. فساعدنا أيها الرب إلهنا لأننا عليك اتكلنا وباسمك قدمنا على هذا الجيش. أيها الرب أنت إلهنا لا يقو عليك إنسان. فضرب الرب الكوشيين أمام آسا وأمام يهوذا فهرب الكوشيون.” (2أي 14: 11و12)

+ “وكان روح الله على عزريا بن عوديد فخرج للقاء آسا وقال له اسمعوا لي يا آسا وجميع يهوذا وبنيامين الرب معكم ما كنتم معه، وإن طلبتموه يوجد لكم، وإن تركتموه يترككم .” (2أي 15: 1و2)

 أما إسرائيل (العشرة أسباط) ولإسرائيل أيام كثيرة بلا إله حق وبلا كاهن معلم وبلا شريعة» (2 أي 15: 3) . أما يهوشافاط الملك “فوقف يهوشافاط في جماعة يهوذا وأورشليم في بيت الرب أمام الدار الجديدة وقال: يا رب إله آبائنا أما أنت هو الله في السماء وأنت المتسلط على جميع ممالك الأرض وبيدك قوة وجبروؤت وليس من يقف معك … يا إلهنا أما تقضي عليهم لأنه ليس فينا قوة أمام هذا الجمهور الكثير الآتي علينا ونحن لا نعلم ماذا تعمل ولكن نحوك أعيننا – لأن بني عمون ومواب وجبل سعير اجتمعوا على يهوذا للحرب والإبادة وكان كل يهوذا واقفين أمام الرب مع أطفالهم ونسائهم وبنيهم.» (2أي 20: 5-13)

وهكذا غلب سبط يهوذا بقيادة يهوشافاط وروح الرب ودخلوا أورشليم بالرباب والعيدان والأبواق إلى بيت الرب .» (2أي 28:20)

9:1 «وَعُزِّيًا وَلَدَ يُوثامَ. وَيُوتَامُ وَلَدَ أَحَازَ. وَأَحَارُ وَلَدَ حِزْقِيًّا».

+ «كان يوثام ابن خمس وعشرين سنة حين ملك، وملك ست عشرة سنة في أورشليم … وعمل المستقيم في عيني الرب حسب كل ما عمل عزيا أبوه.» (2أي 27: 1و2)

+ «هو بني الباب الأعلى لبيت الرب وبني كثيراً على سور الأكمة. وبنى مدنا في جبل يهوذا. وبنى في الغابات قلعاً وأبراجاً. وهو حارب ملك بني عمون وقوي عليهم.» (2أي 27: 3-5)

لذلك حسب في التاريخ أنه ملك مجدّد.

وهنا نجيء إلى زمن إشعياء النبي فقد كان صديقاً للملك حزقيا، وكانت أزمنة صعبة إذ أرسل سنحاريب ملك أشور يهدّد أورشليم ويهوذا وملكها حزقيا فصلى حزقيا الملك وإشعياء بن أموص النبي لذلك وصرخا إلى السماء فأرسل الرب ملاكا فأباد كل جبار بأس ورئيس وقائد في محلة ملك أشور. فرجع بخزي الوجه إلى أرضه . (2 أي 32: 20 و 21) وقد عاصر إشعياء النبي هؤلاء الملوك الأربعة لمدة 60 سنة من سنة 760 ق.م حتى سنة 700 ق.م. وعاصرهم كذلك النبي هوشع من سنة 786 ق. م – 724 ق.م، والنبي ميخا من 758 ق.م – 698 ق.م. وهذه النبوات كلها تحكي عن لماذا السبي وعن العزاء القادم. وقد تجمعت عندهم معظم النبوات الخاصة بالمسيح وكيفية ميلاده العذري وحكمه وملكه، وهي الآيات التي ستجيء في سيرة ميلاده.

10:1 «وَحِزْقِيًّا وَلَدَ مَنْسى وَمَنْسى وَلَدَ آمُونَ. وَآمُونُ وَلَدَ يُوشِيًّا».

ومنسى كان مثلا للسيرة الردية، وأدبه الله أدباً مريراً فقدم توبة وتضرعاً ولكن بعد فوات الأوان: «فجلب الرب عليهم رؤساء الجند الذين لملك أشور، فأخذوا منسى (الملك) بخزامة (التي توضع في منخار الجمل لقيادته) وقيدوه بسلاسل نحاس وذهبوا به إلى بابل. ولما تضايق طلب وجه الرب إلهه وتواضع جداً أمام إله أبائه. وصلى إليه فاستجاب له وسمع تضرعه وردَّه إلى أورشليم إلى مملكته فعلم منسى أن الرب هو الله» (2 أي: 33: 11-13) 

وهنا نأتي إلى إرميا النبي إذ كان صديقا ليوشيا الملك وتنبأ أربعين سنة من سنة 628 ق.م إلى سنة 588 ق.م.

أما يوشيا الملك فيُعتبر مجدّد الشريعة والتقوى والعبادة «ملك إحدى وثلاثين سنة في أورشليم وعمل المستقيم في عيني الرب وسار في طريق داود أبيه ولم يحد يميناً ولا شمالاً » (2أي 34: 1 و 2). أباد الأصنام وهدم مذابح البعليم وعمل إصلاحات ضخمة في الهيكل وأعاد نظام العبادة، وفي أيامه وجد سفر الشريعة وسلموه للملك، فلما سمع الملك كلام الشريعة مزق ثيابه، وأرسل إلى خلدة النبية يسأل عن مصير يهوذا والشعب، فأخبرتهم بالمصائب القادمة (سبي (بابل)، ولكنها أخبرته أن الله سيضمه إلى آبائه ولن يرى هذه الأيام. وعمل يوشيا فصحا للرب وأعاد العبادة وخدمتها في الهيكل. ولما جاء نخو ملك مصر ليحارب الكلدانيين عند الفرات أراد يوشيا أن يقابله للحرب ولم يسمع لنصيحة نخو ملك مصر فأصيب بسهم ومات «ورثى إرميا يوشيا.» (2) أي (25:35)

وبالتحام التاريخ العام بتاريخ الملوك مع النبوات يقدّم لنا العالم هندركسن كشفاً بالنبوات التي قالها الأنبياء عن المسيا في هذه الفترة كالآتي:

إشعياء النبي (14:7)، (8:8)، (1:9و2و6و7)، (11: 1-10)، (42: 1-7)، (49: 1-9)، (50: 4-9) (13:52-12:53)، (1:61-3)، (11:62). وتنبأ إشعياء 60 سنة من سنة 760 ق.م إلى 700 ق.م وت وتنبأ في أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا.

إرميا النبي: (5:23) (15:31) وتنبأ 40 سنة من 628 ق.م – 588 ق.م. وقد شاهد السبي وخراب الأرض والهيكل وتنبأ في أيام يوشيا ويهو آحاز ويهوياقيم وصدقيا (إلى سبي بابل).

هوشع النبي (1:11) وتنبأ في أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا على يهوذا من سنة 786 ق.م – 724 ق.م.

ميخا النبي (2:5) وتنبأ في أيام يوثام وآحاز وحزقيا من سنة 758 ق.م – 698 ق.م.

أما الحالة العامة للشعب وملوكه فقد انقطع من يصنع البر أمام الله وأخفقت إسرائيل ويهوذا بملوكهم،

وبطل الناموس أن يبرّر أحدا لأن ليس من يعمل به. وقد نجح ق. متى في أن يعطي صورة واضحة لحالة

إسرائيل ويهوذا بذكر أسماء ملوكها وما يقع في محيطها من اضمحلال ينطق بصراخ لطلب الوسيط بين الله والناس.

والآن نحن في سبي بابل

11:1 «وَيُوشِيًا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْي بَابِلَ».

لقد دام السبي سبعين سنة.

يكنيا الملك أو يهوياكين «ملك ثلاثة أشهر في أورشليم … وعمل الشر في عيني الرب حسب كل ما عمل أبوه في ذلك الزمان صعد عبيد نبوخذ ناصر ملك بابل إلى أورشليم فدخلت المدينة تحت الحصار …. فخرج يهوياكين ملك يهوذا إلى ملك بابل هو وأمه وعبيده ورؤساؤه وخصيانه وأخذه ملك بابل … وسبى كل أورشليم وكل الرؤساء وجميع جبابرة البأس عشرة آلاف مسبي وجميع الصناع والأقيان (الحدادين). لم يبق أحد إلا مساكين شعب الأرض.» (2مل 24: 8-14)

ويقول العالم هندركسون أن يكنيا أو يهوياكين بقي في ذل الأسر في أيام سوداء مدة 37 سنة معتمة: «وفي السنة السابعة والثلاثين لسبي يهوياكين ملك يهوذا في الشهر الثاني عشر في السابع والعشرين من الشهر رفع أويل مردوخ ملك بابل في سنة تملكه رأس يهوياكين ملك يهوذا من السجن وكلمه بخير وجعل كرسيه فوق كراسي الملوك الذين معه في بابل.» (2مل 25: 27 و 28)

ويلزم للقارئ أن يعرف أن السبي إلى بابل لم يتم مرة واحدة أو في فترة قصيرة، ولكن بدأ السبي في سنة 606 ق.م ثم لحقه تفريغ الأرض سنة 597 ق.م وامتد حتى سنة 580 ق.م وانتهى في سنة 536 ق.م، بمعنى أنه استمر سبعين سنة على فترات. وهذا الأمر سجله إرميا النبي هكذا :

+ «وتصير كل هذه الأرض خراباً ودهشاً وتخدم هذه الشعوب ملك بابل سبعين سنة. ويكون عند تمام السبعين سنة أني أعاقب ملك بابل وتلك الأمة يقول الرب على إثمهم وأرض الكلدانيين وأجعلها خربا أبدية.» (إر 25: 11 و12)

+ «لأنه هكذا قال الرب إني عند تمام سبعين سنة لبابل أتعهدكم وأقيم لكم كلامي الصالح بردكم إلى هذا الموضع.» (إر 10:29)

وهكذا يعود ق. متى ويتابع حالة الملوك بعد انتهاء السبي هكذا .

12:1 «وَبَعْدَ سَبْي بَابِلَ يَكُنْيَا وَلَدَ شَألَتِئِيلَ. وَشَأْلْتِئِيلُ وَلَدَ زَرَبَّابِلَ».

من المعروف أن يكنيا سُبي إلى بابل وهو صغير السن جداً لأنه تولى الملك: «ابن ثماني عشرة سنة حين ملك وملك ثلاثة أشهر في أورشليم … وعمل الشر في عيني الرب … في ذلك الزمان صعد عبيد نبوخذ ناصر … وجاء نبوخذ ناصر ملك بابل (2مل 24: 8-11). وتم سبي يكنيا والاستيلاء على كل مخصصاته وسبى كل أورشليم. وهذا لم يكن من بدء السبي ربما كان حوالي سنة 580 ق.م، فيكون يكنيا آنئذ ابن 18 سنة وانتهى السبي سنة 536 ق.م حيث يكون يكنيا ابن 18+44=62 سنة. ومعروف أن يكنيا في الأسر أنجب أولاداً وابنا يهوياقيم يكنيا ابنه وصدقيا ابنه، وابنا يكنيا أسير وشألتئيل ابنه» (1أي 3: 16 و 17). وهكذا بالرغم من أن يكنيا لم يعد إلى ملك أورشليم إلا أن ابنه شألتئيل دخل في مسلسل المسيا. وشألتئيل ولد زربابل.

ويذكر عزرا الكاهن أخبار شألتئيل هكذا : «وقام يشوع بن يوصاداق وإخوته الكهنة وزربابل بن شالتئيل وإخوته وبنوا مذبح إله إسرائيل … وأقاموا المذبح في مكانه … وأصعدوا عليه محرقات للرب وحفظوا عيد المظال … ابتدأوا من اليوم الأول من الشهر السابع (بعد عودتهم من السبي) … وفي السنة الثانية من مجيئهم إلى بيت الله إلى أورشليم في الشهر الثاني شرع زربابل بن شالتئيل … للمناظرة على عمل بيت الرب.» (عز 3: 2-8)

والقديس متى اهتم جداً بإيراد اسم شألتئيل وزر بابل، كذلك أيضاً .ق. لوقا في إنجيله لأن من هذين الشخصين بدأ خط أنساب استمده .ق. متى من يوسف خطيب مريم واستمده .ق. لوقا من مريم العذراء، ولو أن كلا من شألتئيل وزر بابل لم يجدا ما يملكان عليه فكانا يعتبران كولاة لإدارة شئون بناء بيت الرب وترميم مذابحه.

وفي ذلك الوقت تنبأ زكريا بنبوات قدوم المسيا:

+ «فاسمع يا يهوشع الكاهن العظيم أنت ورفقاؤك الجالسون أمامك لأنهم رجال آية لأني ها أنذا آتي بعبدي الغصن.» (زك 8:3)
+ «وكان إلى كلام الرب قائلاً: هوذا الرجل الغصن اسمه، ومن مكانه ينبت ويبني هيكل الرب فهو يبني هيكل الرب وهو يحمل الجلال ويجلس ويتسلط على كرسيه.» (زك 6: 9-13)
+ «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون بعد مرارة السبي اهتفي يا بنت أورشليم هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان.» (زك 9: 9)
+ «فقالت لهم إن حسن في أعينكم فأعطوني أجرتي وإلا فامتنعوا، فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة.» (زك 11: 12)
+ «وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إلي الذي طعنوه
وينوحون عليه.» (زك 12: 10)

والذي يهمنا أن زربابل نسل يكنيا عاد هكذا إلى الأرض التي انتزع منها أسلافه حتى من خط نسله وعلى التربة المقدسة يأتي يوسف ومريم كلّ في سلساله.

13:1 «وَزَرَبَّابِلُ وَلَدَ أبيهود. وأبيهُودُ وَلدَ اليَاقِيمَ وأَلِيَاقِيمُ وَلَدَ عَازُور».

وللأسف بعد سبي بابل أعقبه حكم دولة مادي وفارس (536-333 ق.م). وبعد حكم مادي وفارس أعقبهم حكم اليونان ومقدونيا (333-63 ق.م) بسيادة البطالسة في مصر والسلوقيين في سوريا. ولكن انتصر المكابيون (200-63 ق.م) وبعدهم روما !! ومعظم هذه الفترة القاتمة جاءت الآيات بأسمائها من آية (13-16) وهي تقع فيما يسمى ما بين العهدين. لهذا فإن الأسماء التي سجلها هنا ق. متى غير مذكورة في أي من الأسفار. وقد عاشوا في ظروف غاية في الصعوبة تحت حكم غرباء وبين جيران معاديين، حيث كان قد بلغ الاضطهاد أعنفه أيام حكم المكابيين وحروبهم.

ولكن الذي سربته لنا الأسفار أن زر بابل كان مدحه عالياً: «فتنبا النبيان حجي النبي وزكريا ابن عدو لليهود الذين في يهوذا وأورشليم باسم إله إسرائيل عليهم. حينئذ قام زربابل بن شألتئيل ويشوع بن يو صاداق وشرعا يبنيان بيت الله الذي في أورشليم ومعهما أنبياء الله يساعدونهما» (عز 5: 1و2)، وكان أمر بناء بيت الله بقوة إلهية وقد جاء أمر بذلك من كورش الملك: أمر كورش الملك من جهة بيت الله في أورشليم ليبن البيت الذي يذبحون فيه ذبائح ولتوضع أسسه، ارتفاعه ستون ذراعاً وعرضه ستون ذراعاً. بثلاثة صفوف من حجارة عظيمة وصف من خشب جديد. ولتعط النفقة من بيت الملك.» (عز 6: 3 و4) أما مديح زربابل فكان من قبل الله هكذا وصارت كلمة الرب ثانية إلى حجي في الرابع والعشرين من الشهر قائلاً : كلم زربابل والي يهوذا قائلاً : إني أزلزل السموات والأرض وأقلب كرسي الممالك وأبيد قوة ممالك الأمم وأقلب المركبات والراكبين فيها وينحط الخيل وراكبوها كل منها بسيف أخيه. في ذلك اليوم يقول رب الجنود آخذك يا زر بابل عبدي ابن شالتئيل يقول الرب وأجعلك كخاتم (في يدي) لأني قد اخترتك يقول رب الجنود …» (حج 2: 20-23)

وهكذا عين الله زربابل الخائف الله كوال على اليهودية تحت عناية الله الشخصية ليعمل في سلام وأمان الله. وهكذا بدت بوادر المعاملات المسيانية بوضوح تمهيداً للدخول في عصر المسيا. علماً بأن بدخول عصر العهد الجديد كانت جداول الأنساب محفوظة بدقة شديدة، لأنه في السبي كانت صناعة رجال الدين هي تدوين جداول الأنساب لكل الشعب خوفاً من ضياع نسب المسيا القادم. فنحن نعلم أن حنة النبية كانت من سبط أشير، وزكريا الكاهن من فرقة أبيًا، وأليصابات من بنات هارون، ويوسف من بيت داود، وبولس من سبط بنيامين. ونعلم أن يوسيفوس المؤرخ اليهودي كان يحتفظ بجدول نسبه ويقول في مذكراته أنه استخرجه من التسجيلات العامة. لذلك نحن نتتبع الآن خط القديس متى بكل ثقة ويقين أن هذا الإنجيلي الواعي كان دارساً ومدققا وعنده جداول الأنساب يختار منها ما يناسب نسب المسيا.

14:1 و 15 «وَعَارُورُ وَلَدَ صَادُوقَ وَصَادُوقُ وَلَدَ أَخِيمَ. وَأَخِيمُ وَلَدَ أَلِيُودَ. وَأَلِيُودُ وَلَدَ أَلِيعَازَرَ وَأَلِيعَازِرُ وَلَدَ مَتَّانَ. وَمَتَّانُ وَلَدَ يَعْقُوبَ».

كل هذه الأسماء لا يوجد لها أي ذكر في الأسفار لأنها تقع في الفترة المعروفة بـ بين العهدين” التي يصعب جداً أن نتتبع تاريخها.

16:1 «ويَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ».

في رقة وبساطة متناهية ودون ارتباك يقدّم ق. متى الميلاد العذراوي للمسيح، إذ يضع الميلاد من مريم = التي وُلِدَ منها المسيح دون يوسف كمضمون دون تعليق أو شرح، وكأنه يحكي لإنسان يعرف كل السر. فلو انتبه القارئ للأسلوب الذي ملأ به هذا الإنجيلي تلاوة جدول ابن الإنسان فلان ولد فلان، نجد أنه لم يقل إن يوسف ولد يسوع الذي يُدعى المسيح، إذ بحسب تداعي الألفاظ كان يتحتم من واقع الرواية أن يقول ويوسف ولد يسوع، ولكن قلب الرواية عن دراية وعن قناعة وعن دفاع مريم التي وُلِدَ منها يسوع». وهنا أيضاً لا يعدم هذا التعبير المستيكي من التلميح إلى عامل التوليد، فهي لم تلد يسوع بل ولد منها يسوع، وواسطة التوليد مضمر بالروح القدس. ولو أن ق. متى كتب حسب السجلات التي جاء يوسف والعذراء من أجل إعطاء بياناتها للمسئولين اليهود والرومان أن يوسف رجل مريم عاد مباشرة وشرح هذا البيان السجلي في بيان شرحي في (18:1) «أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا : لما كانت مريم” أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا (أي أثناء فترة الخطوبة قبل أن يتخذها زوجة رسمية له) وحدت حبلى من الروح القدس واستمر بعد ذلك يشرح الموقف السري الإعجازي حتى آخر الأصحاح الأول وأشرك فيه الملاك، وفيه مثل يوسف دور رجل العذراء مريم وكأنه أبو الولد في الاعتبارات الرسمية ولدى عامة الناس. وبسبب نسب يوسف لبيت داود انتقلت الوراثة لمملكة داود إلى ابن العذراء يسوع وبالتالي دعي المسيح بمعنى مسيح الرب المختار، وأعطي بناءً على هذا الاسم (يسوع) وهذا اللقب (المسيح) هو عمل مخلص الشعب من خطاياهم. فتعبير اسم يسوع هو مخلص، ومعنى لقب المسيح هو مختار الله الذي مسحه الله: «روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين.» (إش 61: 1)

17:1 «فجَمِيعُ الأجيال مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلى دَاوُدَ أربعة عشر جيلاً، وَمِنْ دَاوُدَ إِلَى سَبِّي بَابِلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جيلاً، وَمِنْ سَبِّي بَابِلَ إلى المسيح أَرْبَعَةَ عَشَرَ جيلاً».

هنا يقدم ق. متى ملخص لسجل قيد الأسماء التي أعطاها لتغطي هذه الأجيال. وهنا حسب ق. متى الجيل بالحقبة الزمنية التي تمضي بين أن يولد ولد إلى أن يكبر هذا الولد ليلد ولداً له وهي غير ثابتة، فقد تكون خلفة الرجل مبكرة جداً وقد تأتي متأخرة جداً كإبراهيم وكزكريا أبي المعمدان. وبالإضافة فإن ق. متى استخدم في كثير من الأسماء الانتقال من الأب إلى الحفيد وليس الابن وهذه توسع مسافة الجيل كثيراً.

نظرة عامة على فلسفة القديس متى في انتخاب أسماء السلسال الذي انحدر منه المسيح من إبراهيم وداود

هم في جملتهم حوالي أربعين اسماً، جمعهم معاً بأسلوب وفكر وتصميم ليشكل بهم في الحقيقة تعبيراً لاهوتيا عن طبيعة الله نفسه وقد أنهاها بالمسيح حيث بلغت طبيعة الله طبيعة الإنسان، وتعانقت معها عناق الأبد. ولو أعطينا هذه الأسماء الأربعين (تقريبا) ليد لاهوتي معاصر لأخرج لنا منها شبه مدينة أشباح أو صحراء لا تلتقي دروبها، ولكن وقعت هذه الأسماء في يد قديسنا ومعلمنا متى الرسول فحاك منها رقعة سماوية فيها نجوم تتلألأ وشموس وأقمار، وصورة مبدعة الله في رحمته، يحوطها هالة من العناية المضيئة، يعلوها عرض العدالة ويتخللها أمانة الوعد ودقة الميعاد. إنها نجوم أو لآلى تضيء سماء الله.

إذن ليست هي مجرد أسماء وسلسال منمق من الأرقام، ولكنها تصوير من بعد لما يحمله لاهوت الله من خطط إلهية أزلية تجليها السنين وتكشف عنها الأزمان، أدركها ق. متى بروحه وكشف سرها بروح الله.

فترتيب الأسماء تخلله حذف وإضافة وإسقاط وإعلاء، ومساقط وانحدارات لينجلي المنظر عن يد عليا إلهية نسقت تعاوناً من الأنبياء والرائين.

1 – لاهوت الرحمة (1:1-6)

كيف تتدخل رحمة الله وتصنع العجب العجاب في سيرة الآباء الأول وسيرة داود، ثم في أربع سيدات دخلن تحت الملامة والازدراء في عيون الناس والمؤرخين، أما في عين اللاهوت الخلاصي فهن أربع جواهر انتزعن من وحل الأمم لتزيّن صدر المسيح كفادي الخطاة وشفيع المذنبين والمذنبات. فلمثل هؤلاء جاء، وما جاء أبدأ لموسى ولا لإيليا ولا حتى لصموئيل. بل ونحى الصديقات سارة ورفقة وراحيل وليئة واستبدلهنَّ بهاته النسوة الأربع المرفوضات، ليؤكد أنه يعشق الذين خارج السياجات ويهوى سكان العشوائيات، وأن صليبه ارتبط بالخطاة والزناة.

وهكذا في عدم حديث ولا كثرة كلام بل في صمت خطر ذكر القديس متى أسماء هاته النسوة ليتحمل وزر تاريخهن وتسجيل أسمائهن، حتى يكشف لنا قلب الله الرحيم وسر صليب ابنه في صمت رهيب! ثم ألا ترى معي يا قارئي العزيز أن هذا الإنجيلي القديس الرسول قد استوعب الإنجيل واختبر المسيح والله قبل أن يتجرأ ويكشف بداية إنجيله ؟؟ ثم أليس هو لاهوتي ومدمن لاهوت؟ لقد نأى بالله والمسيح والإلهام والنبوة بعيداً حتى لا يحرج الله وعرض صدره لسهام الأعداء والنقاد والأطهار المتحذلقين ببرهم عبثا، وصنف من أسماء الزانيات عقداً من اللؤلؤ لا ينعم بمنظره إلا أصحاب العيون المفتوحة والقلوب الكبيرة ودارسي لاهوت الفدية والخلاص، تحيط بهن هالة من رحمة الله ورؤية اتساع الخلاص ليشمل كل أمم الأرض. لأن الأربع نساء لم يكن إسرائيليات بل أمميات.

2 – لاهوت العدل والقصاص والتأديب (7:1-11) إلى السبي

من مرتفعات رحمة الله على الآباء الأماجد، وتدفق الرحمة بصورة فائقة الوصف على داود وحتى على سلیمان، تهوى عصا التأديب بلا رحمة من ملك إلى ملك بقدر انغماسهم في العبادات ونجاسات الأمم، حتى أدخل الله الأمة كلها في عصر تأديب وتهذيب ونقمة بلا هوادة في نقع السبي تحت أيد غير رحيمة: فقدان الأرض والوطن والهيكل والملوكية وحجب كل مواعيد الله وعبر ق. متى عن تلوين جدول الأنساب بعصا التأديب أيضاً من جهته فأسقط أسماء أردأ الملوك أخزيا ويهواش وأمصيا. وهكذا أسقط ثلاثة أجيال من جدول أنساب ميلاد المسيح وتضم 60 سنة من سنة 842 ق.م إلى سنة 783 ق.م. إذ جعلها لا تستحق أن تذكر في تاريخ أنساب المسيح: «الرب طويل الروح كثير الإحسان يغفر الذنب والسيئة، لكنه لا يُبرِّئُ بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع.» (عد 18:14)

 

3 – لاهوت الأمانة وتحقيق الوعود (12:1-16)

الله حتما يبدأ بالرحمة الفائضة لأنها طبيعته الغالبة، ولكن لسوء استخدامها من قبل الإنسان يضطر لرفع عصا التأديب، ولكن حتمية النهاية هي تحقيق الوعد وتثبيت الأمانة بالأحضان المفتوحة والمقعد المعد على اليمين لأن من هو إله مثل إلهنا!! وهنا تنساب الأنسال بسرعة وعناية فائقة وحفظ إلى أن يرن الصوت من السماء هذا هو ابني الحبيب !! وهذه المراحل الثلاث يقدمها ق. متى لتدخل في صميم لاهوت المعرفة واستعلان طبيعة الله، وتنضم لخزانة الكنيسة.

ميلاد يسوع المسيح [1: 18-25]

18:1 «أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا : لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمَّهُ مَحْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعًا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحُ الْقُدُسِ».

«يسوع المسيح»:

ويتكون هنا من الاسم الأصلي واللقب، فالاسم يسوع ولقبه المسيح أي الممسوح.
«يسوع»: ومعناها بالعبرية: الله يخلص”، حيث “ياه ” باللغة العبرية اختصار يهوه الله”، و شوع Shua” معناها: يُخلص”، وقد فسرها الملاك وتدعو اسمه “يسوع” لأنه يخلص شعبه من خطاياهم (21:1). وهكذا أخذت الكنيسة معنى يسوع النهائي من هو وما عمله من هو: تضمرها كلمة لأنه، فعلى من تعود كلمة لأنه ؟ هل تعود على يسوع الاسم الكلي؟ أم على الله يهوه الذي هو مبتدأ الاسم “ياه ؟ ويتضح هذا لو وضعناها معا: “ياه يخلص”.

واضح هنا أن ق. متى وضع هذا الاسم المتحد والمنصهر بهدوء لندرك منه سر الاسم، فالشخص المولود هو ياه (يهوه) يخلص، أي الله يخلص. وهذه هي الحقيقة اللاهوتية، لأن الله وحده هو الذي يخلص، أو أن الخلاص هو عمل الله، أو كما قالها المزمور بالروح للرب الخلاص (مز 3: 8)، «وهو “يفدي” إسرائيل من كل آثامه» (مز 130: 8). والمعنى اللاهوتي الكنسي لاسم يسوع يصبح الله الفادي والمخلص تجسد، والتي اختصرها بولس الرسول إلى الله ظهر في الجسد (1تي 3: 16). وقد تنبأ عنها إشعياء النبي بالقول: “عمانوئيل”، اللقب الذي التقطه ق. متى واستند عليه بقوة ليظهر من هو يسوع” بتعليقه على قول إشعياء الذي تفسيره الله معنا (مت 23:1). وبهذا يكون ق. متى قد عبر عن إيمانه ومعرفته و علاقته معا بيسوع أنه هو الله جاء متجسدا لكي يخلص.

فيسوع بحسب اسمه لا يمكن أن يفهم أنه أداة يُخلص الله بها، بل هو هو الله جاء متجسدا يؤدي الخلاص بنفسه، حيث هنا يصبح الله يخلص بنفسه بالجسد أي بابنه بأن يموت الابن بالجسد، ويقوم الابن بالجسد، حيث الجسد في حقيقته هو البشرية في صورة ابنه التي جاء يفديها ويخلصها بنفسه، ويجلسها عن يمينه معطياً إياها صورة وميراث ومحبة ابنه.

فيسوع بالنهاية في الواقع اللاهوتي هو الله ظهر في الجسد البشري ليضم البشرية المفداة والمخلصة إلى نفسه «أنتم في وأنا فيكم» (يو 20:14)، «أنا والآب واحد» (يو (30:10) = «أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد» (يو 17: 23) فيسوع بمفهوم التوراة والإنجيل معا هو الله المخلص في هيئة الإنسان الجديد، جاء وأخذ لنفسه جسداً وصار هو البشرية الجديدة في مجملها المطلق على صورته كما كانت في البدء، والقصد والغاية أن يتبنى الله البشرية جديدة مقدسة في نفسه لنفسه لتصير واحداً مع ابنه.

ف “عمانوئيل” هو نظرتنا نحن للمسيح لأن فيه صار الله معنا حقا، أما من جهة نظرة الله من نحو المسيح فهو “الإنسان معنا” لأن فيه صار الإنسان مع الله حقا. وجاء إنجيل ق. يوحنا بأسلوبه الإلهامي الفائق الرؤيا والتحقيق والتدقيق ليصدق على رؤية ق. متى ويفردها إلى مفردات من نور وبهاء ومجد.

«وجدت حبلى من الروح القدس»

كان الحمل في العهد القديم نقطة خطيرة في بدء حياة المولود، وكانت نقطة بداية لتدخل الله بصورة حاسمة. فنسمع أول ما نسمع عن الحمل بتدخل الله الفائق في حمل سارة بقوة إعجازية ولكن عن طريق إبراهيم رجلها. وكان هذا الحمل بداية العهد القديم: وقف إبراهيم يعاتب الله :

+ «إنك لم تعطني نسلاً وهوذا ابن بيتي (خادمي اليعازر الدمشقي) وارث لي. فإذا كلام الرب إليه قائلاً: لا يرتك هذا بل الذي يخرج من أحشائك هو يرثك. ثم أخرجه إلى خارج عن الخيمة) وقال: انظر إلى السماء وكان ليلا وعد النجوم إن استطعت أن تعدَّها. وقال له: هكذا يكون نسلك. فآمن (إبراهيم) بالرب فحسبة له برا.» (تك 15: 3-6)

+ «وقال إبراهيم الله: ليت إسماعيل يعيش أمامك. فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابنا وتدعو اسمه إسحق وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده.» (تك 18:17و19)

+ «وقال (إبراهيم) في قلبه هل يولد لابن مئة سنة ؟ وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة؟» (تك 17: 17)

هذا المثل نقدمه للقارئ ليدرك كيف يتدخل الله في الحبل وفي الميلاد، وتدخله في أمر إبراهيم وسارة كان بمثابة خلق جديد من بعد موات، لأن سارة بنوع خاص فقدت القدرة على إنجاب النسل وكانت أصلاً عاقراً !! وهكذا نجد أن ميلاد إسحق بالنسبة للبشرية كان نوعاً من تجديد لنوع الإنسان بتدخل الله لإنجاب نسل على مستوى البركة، وصنع منه عهداً أبدياً وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده

كذلك نجد أن تقديس الله للإنسان يبدأ من الرحم كما حدث لإرميا النبي: فكانت كلمة الرب إليَّ قائلة: قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيا للشعوب» (إر 4:1و5).

هكذا يكشف الله عن قدراته الفئة لمعرفة الإنسان قبل أن يوجد وتقديسه وهو في الرحم، كما حدث أيضاً في بولس الرسول: «لما سر الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته …» (غل 15:1)

وبهذين المثلين نتقدم بكل خشوع وتقوى إلى حالة العذراء وميلاد المسيح، فالتقديس حدث فعلا في الرحم، ليس بمجرد مشيئة أو كلمة ، بل بحلول روح الله القدوس، ليصنع من العذراء القديسة حبلا إلهيا مقدساً ليخرج المولود والله أبوه ونبوة إشعياء صارخة بهذا المعنى: «ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل (الله معنا)» (إش 7: 14) ، ومعنى هذا بمنتهى البساطة أن الله “بروحه القدوس” صنع له وجوداً داخل الإنسان! هذا هو معنى “الله معنا”. وبهذا صار ميلاد يسوع المسيح ابن الله أقوى افتقاد افتقد الله به البشرية، وكان حتماً وبالضرورة عهداً جديداً بين الله والإنسان، حيث يدخل الله كشريك حياة مع الإنسان بوجود حي فعّال لا ينقطع !! هنا وبسبب دخول الروح القدس في عملية الحبل الإلهي والولادة يتحتم أن ترتفع حادثة ميلاد ربنا يسوع المسيح إلى مستوى “السر” في المسيحية، على أن الروح الذي كان عاملاً مع المسيح في خلق العالم منذ البداية والذي كان يرف على وجه المياه حل على المسيح كحمامة ترفرف في الأردن ليخلق بواسطته بشرية جديدة الله في نفسه.

+ «مخلوقين في المسيح يسوع.» (أف 10:2)
+ «وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق.» (أف 24:4)
+ «صار آدم الإنسان الأول نفساً حية، وآدم الأخير روحاً محيياً … الإنسان الأول من الأرض ترابي
الإنسان الثاني الرب من السماء. » (1کو 15: 45 و47)
+ «إذاً، إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة.» (2كو 5: 17)

أي أنه حتى اليوم يتصور المسيح فينا بالروح القدس ومخاض الولادة بالنعمة: «يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضا إلى أن يتصوّر المسيح فيكم» (غل 19:4). هذا تصوير بديع كيف تخلق جديداً ونصير خليقة جديدة في المسيح يسوع بالروح القدس بمخاض، أي آلام الولادة الثانية بالروح، التي نأخذ فيها صورة المسيح. وهكذا وباختصار شديد يكون بدخول الروح القدس أحشاء البتول لتكوين الحمل الإلهي في البطن المقدس، يكون قد دخل الإنسان عصر خلقته الجديدة في المسيح يسوع و على صورة المسيح في البر وقداسة الحق بحسب الله لميراث ملكوت السموات إلى الأبد، في مقابل خلقته الأولى من التراب التي تنتهي إلى التراب.

«الروح القدس»:

يُذكر الروح القدس في العهد القديم Ruah في صيغة المؤنث، والكلمة اليونانية Pne ama اسم محايد لا مذكر ولا مؤنث فهو يضمر she heit ، وفي العربية لا يُذكر إلا مذكرا وهذا جيد لأن وجوده في الثالوث وجود متساو في كل شيء مع الآب والابن لذلك وجب التنبيه.

19:1 «فيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًا ، وَلَمْ يَشأَ أَنْ يُشْهرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا».

ومع شديد احترامنا لبر يوسف إلا أننا نعاتبه، فأليصابات بمجرد أن سمعت سلام مريم ارتكض الجنين بابتهاج في بطنها، وصرخت قائلة: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي!! وأنت يا يوسف عوض الابتهاج بهذا الكنز الذي أصبحت فوجدته في حقلك، واللؤلؤة الحسنة الكثيرة الثمن تدخل تحت سقفك، تجري الظنون في قلبك بأنها لا تليق أن تكون لك أو توجد في بيتك؟ أمر اقشعرت له الملائكة وأسرعت توعي قبل أن يدنو منها بكلمة. فالمسيح منذ أن حبل به في البطن صار تحت حراسة ملائكية مشددة.

20:1 «وَلَكِنْ فِيمَا هُوَ مُتفكّر في هذه الأمور، إذا مَلاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لَا تَخَفْ أَنْ تَأخُذُ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأنَّ الَّذِي حُبلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوح القدس».

كلام الملاك في ظاهره توبيخ وتوعية، وفي باطنه تمجيد أيما تمجيد والكلام يعني أن بهذا الذي في بطن عذرائك المخطوبة لك وقد صارت من خاصتك وصرت لها خاصة، قد نلت بالانتساب إليها أن تكون وريث مملكة داود أبيك، لتنقل الوراثة رسميا إلى من أصبحت تمثله في سجلات اليهود والرومان. فكان كلام الملاك كمن يوقظه من نوم الغفلة ليسلمه تاج العرش وديعة ليضعه على رأس المولود تحت اسمه!!

وانعكس الحال فالأولاد يرثون كرامة ومجد أبيهم، وهذا ورث كرامة ومجد المولود في بيته!! يا يوسف ابن داود ! وتحسب لنا هذه الآية آية شهادة من السماء بأن المسيح مولود من الروح القدس والعذراء القديسة مريم على أنه بحسب جدول أنساب ق. لوقا يظهر أن مريم العذراء القديسة هي أيضا بنت داود. ونعلم من القديس بولس الرسول نسب المسيح الداود. دون أن يرجع إلى جداول الأنساب أو يؤكده عن أمه أو خطيبها “عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد.” (رو 3:1)

كذلك ما أورده .ق. يوحنا في إنجيله لما أراد أن يتكلم عن تجسد المسيح بعد أن أو في حقيقة سبق وجوده الأزلي ككلمة الله الذي كان في البدء وكان الله يقول: “والكلمة صار جسدا” (يو 14:1). هنا بناءً على الآية الأولى في إنجيله، يتكلم .ق. يوحنا عن “الله”: “وكان الكلمة الله” (يو 1: 1) أنه صار جسدا، هذا يُحتم أن هذه الصيرورة في الجسد الله هي من عمل الله وليس من عمل إنسان بأي حال وعلى أي وجه.

وكلمة ق. يوحنا وحل بيننا ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الأب (يو (14:1) هي بعينها كلمة إشعياء النبي ويُدعى اسمه عمانوئيل» التي تترجم: الله معنا !! فالله معنا لا يكون ولا يمكن أن يكون إلا بروحه القدوس.

والأمر الأكثر أهمية عندنا هو لماذا يتحتم أن يولد المسيح من عذراء ومن الروح القدس، ذلك لأن عملية الفداء تحتم أن المولود يكون قدوساً بلا أدنى عيب أو خطية، حتى يستطيع أن يحمل خطايا البشرية كلها ويموت بها، دون أن تكون له خطية واحدة وإلا يُحسب موته عن استحقاق له، وليس باستحقاق آخرين كما يتطلبه معنى الفداء. فكل عملية الفداء تتوقف على أنه مات بالجسد، أي بالبشرية، حاملا خطاياها ليصبح موته تكميلا لعقوبة الله على آدم ونسله. ثم إن قيامته تتوقف بالدرجة الأولى على لاهوته وبره الشخصي وقداسته المطلقة التي جعلت الموت عاطلا لا يقدر أن يُمسك به. إذن فولادته من عذراء قديسة ومن الروح القدس هو مطلب لاهوتي يقوم عليه الفداء ولا يصح إلا بمقتضاه. والآن يتحتم علينا أن نمتد بعمل الروح القدس هكذا في العهد الجديد، فعلى مثال العذراء التي قدسها الله ليتصور المسيح فيها ويولد منها، هكذا أصبح بمقتضى القول الإلهي إن الله صار معنا، أن يتصور المسيح ويحيا في كل من يقدسه الله:

+ “فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في” (غل 20:2)
+ “حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا.” (2كو
4: 10)
+ “إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضاً معه.” (2تي 11:2)

كذلك يلزم أن نقف عند الاصطلاح “الذي حبل به فيها هو من الروح القدس”  هنا الإشارة تبلغ قمتها الإلهية أن الروح القدس هو صاحب المبادرة ولم يكن للعذراء إلا الموافقة ليكن ليكقولك لذلك تحتم في التقليد والطقس أن نبدأ في التلاوة بالروح القدس وتجسد من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم. وبالتالي في اللاهوت يلزم أن يُقال إن اللاهوت اتحد بالناسوت، فهو صاحب المبادرة وليس العكس.

21:1 «فَسَتَلِدُ ابْنَا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ لأَنَّهُ يُخلَصَ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ».

“يسوع”: يأتي الاسم مختصراً في العبرية: Jeshua وأصلها العبري: Jehoshua (انظر شرح 18:1) ويعني: يهوه يخلص”. وفي الاسم المختصر Jeshua يأتي بصيغة الفعل، لذلك شرح الملاك معناه: «لأنه يُخلص شعبه من خطاياهم ولاسم الخلاص يسوع أضيف لقب المسيح أي الممسوح من الروح القدس كمختار الله. أو بمعنى المفرز أو المكرس ليحمل خلاص الإنسان: «روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق …» (إش 1:61)

ويُلاحظ القارئ أن الله لما يعيّن الاسم يعيّن سبق معرفته بعمل صاحب الاسم. فالخلاص الذي أكمله المسيح كان مرئياً لدى الله ومنه أعطي الاسم وصفته «الرب من البطن، دعاني، من أحشاء أمي ذكر اسمي.» (إش 49: 1)

«يخلص شعبه من خطاياهم»

يخلص شعبه لا من الرومان ولا من قسوة الزمان ولا من عبودية إنسان، بل يخلصهم من أنفسهم، من عيوبهم وخطاياهم وتعدياتهم وزناهم وفجورهم. وشعبه هنا هو كنيسته في شكلها الأول والأخير كل من آمن وعاش على الرجاء. حيث الخلاص من الأعداء هنا هو الخلاص من أنفسهم، خلاص من خطيتهم وليس من الخطاة هنا دعوة المسيح إلى نقد الذات ودينونة النفس ومحاكمة الضمير وإصدار الحكم العادل ضد النفس وفجورها قبل الدينونة التي لا ترحم وترسل إلى جهنم. هذا هو سر قول المسيح أنا لا أدين أحداً، أنا لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم، لأجعل كل إنسان يدين نفسه حتى أستطيع أن أبرئه أنا !! وهذا سر قول المسيح: «أحبوا أعداءكم»

22:1 و 23 «وهذا كُلَّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ القائل: هُوَذَا الْعَدْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنَا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ ( إيل = الله، عمانو = معنا) الَّذِي تَفْسِيرُهُ : اللَّهُ مَعَنَا».

يلجأ القديس متى هنا إلى العهد القديم ليكشف عن سبق معرفة الله وتدبيره الذي ألهم به أنبياءه لكي ينطقوه ويسجلوه في أوانه، ليصبح شهادة أزلية من السماء بالواقع الذي نراه ونسمعه في الزمن لعلنا نؤمن ونصدق. وعلى القارئ أن يراجع القول: لكي يتم ما قيل من الرب فالأنبياء لم ينطقوا إلا بما وضع الله في فمهم، فالمرجع هنا ليس مجرد نبوة أو نبوات بل صوت الله ومشيئته المعلنة منذ الدهر . ولهذا لا يستغرب القارئ حينما يحذف ق. متى اسم النبي ؟! فليس المهم هو من قال بل من الذي أعطى القول. والقول قاله إشعياء عن الله مباشرة وكأن الله هو المتكلم: ثم عاد الرب فكلم آحاز قائلاً: اطلب لنفسك آية من الرب إلهك عمق طلبك أو رفعه إلى فوق فقال آحاز (ونعم ما قال) لا أطلب ولا أجرب الرب. فقال اسمعوا يا بيت داود … يعطيكم السيد نفسه آية ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل» (إش 7: 14-10) الآية هنا آيتان الأولى: العذراء تحبل وتلد، والثانية: أن يصير الله معنا. هنا كلام الرب موجه لبيت داود، فالعذراء عذراء بيت داود حتماً !! وكون العذراء تحبل وتلد هي آية السيد الرب نفسه داخلة في مشورته وتدبيره وتنفيذه. بمعنى أن كل ما أحاط بحبل العذراء وولادتها كان تحت تدبير الله المتقن. فإن سمعنا بملاك يبشر ويوعي أو يرشد فهذا كله داخل في صميم تلك الآية الموجهة إلى بيت داود.

أما ملابسات آية إشعياء فهي أن آحاز ملك يهوذا وبيت داود هدَّده ملك إسرائيل فقح بن رمليا بالاتفاق مع ملك سوريا رصين لكي يخربوا بيت داود ويحطموا سبط يهوذا وأورشليم (إش 6:7). وهكذا كان الله بالمرصاد للذين أضمروا الشر لبيت داود مسيح الرب)، وقد أعطى الله وعوداً أنه يثبت مملكته إلى الأبد. فماذا يقول الله لآحاز الملك الخائف المرتعب والذي لم يكن يعلم أنه مجرد أمين على تنفيذ وعود الله لداود وبيته. هكذا جاءت الآية التي تكشف عن خطة الله الأزلية كيف سيثبت مملكة داود إلى الأبد رغم أنف الحاقدين والمضمرين الشر، بمجيء ابن داود يملك ويثبت ملكه إلى الأبد. وجعل الله حبل العذراء آية لآحاز ولجيل الأجيال، والذي يسبق الله ويقوله على فم الأنبياء هو بحكم النافذ تاريخيا. وهكذا صار هذا التصوير المسياني واقعاً بحذافيره في بيت داود وآية لبيت داود. وقد أبدع ق. متى إذ وضع آية إشعياء ليس فقط في موضعها بالضبط، بل وفي فاتحة قصة المسيا! لتسود وتمكن من كل ما جاء عن المسيا. علما بأن كافة النبوات إنما تحوم حول المسيا من جهة مجيئه وتجسده وحياته وفدائه.

والأمر الذي يلح علينا توضيحه هو أن الله في إشعياء هو المتكلم بنفسه، وهو الذي يقول بالنهاية: وتدعو اسمه عمانوئيل وكأنها منتهى مسرَّة الله أن يكون معنا!! واسم عمانوئيل بحد ذاته يتفق جميع الآباء (هيلاري، وذهبي الفم، وثيوذوريت ولكتانتيوس) على اعتباره توضيحاً للطبيعة الإلهية في المسيح. وهنا نرى أن بقبول العذراء الروح القدس فيولد لها ولد على خلاف الطبيعة بدون رجل وكل ما قدمته العذراء هو كامل مشيئتها الله ليكن لي كقولك تكون قد افتتحت العذراء أمام البشرية الولادة من الروح القدس بصورة سرية، التي ألمح إليها المسيح في قوله لنيقوديموس إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله (يو 5:3) ، ثم عاد المسيح وأوضح له الفارق بين الولادة من الجسد والولادة من الروح بقوله: “المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح” (يو 6:3). وإلى هنا يكون المسيح قد كشف إلى حد ما نوع ولادته، ولكن لم يشرح المسيح الولادة الروحانية من الروح القدس كأنها أمر خاص تخص إنساناً ولا تخص إنساناً، بل أعطاها حقيقة الحتمية حينما قال: «ينبغي must أن تولدوا من فوق» (يو 7:3). وبهذا يكون المسيح قد ربط ميلاده من الروح القدس بالميلاد الثاني الروحي للإنسان ووضع له الوسيلة والطقس: الماء والروح”. وهكذا أصبح سر المعمودية الذي أسسه المسيح بنفسه للكنيسة يستمد أصوله وسريته من ميلاده من الروح والعذراء مريم حيث “الماء” و “فوق” هو بمثابة بطن العذراء القديسة حيث بسر الماء والروح القدس والدعاء بالاسم نولد من فوق من رحم السماء !

فإذا أردنا أن نفحص سر كلمة عمانوئيل الله معنا نرى أن ق بولس يستخدمها بوعي روحي عميق دون أن يركز عليها، وفي معان متعدّدة فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في» (غل 20:2) حيث حياة المسيح في ق بولس تعبر تماماً عن الله معنا وأكثر من ذلك في قوله: «يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم» (غل 19:4)، فهنا المخاض للولادة والمسيح يتصور فينا هو تعبير عن الله معنا. كذلك: وأما من التصق بالرب فهو روح واحد» (1 كو 17:6) فهذا أيضاً يعبر عن اتحادنا بالمسيح وبالتالي يعبر عن الله معنا.

من هذا نفهم أن سر “عمانوئيل ” الله معنا الذي استلمه .ق. متى بالروح من نبوة إشعياء عن ميلاد المسيح بالروح دخل في صميم مسيحيتنا كسر حياتنا مع الله وحياة الله معنا.

على أننا لاحظنا في قراءات النبوة والإنجيل عن عمانوئيل وتسمية المسيح رؤية جديدة، فنبوة إشعياء عن النسخة العبرانية تجيء: «ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل» (إش 14:7) وتجيء هي نفسها في النسخة السبعينية اليونانية بصفة أمر للمخاطب المفرد وتدعو (أنت) اسمه “عمانوئيل” وهو نفس الأمر الذي أعطاه الملاك ليوسف النجار: “فستلد ابنا، وتدعو (أنت) اسمه يسوع” (مت 21:1). ولكن ق. متى بإلهام من الروح القدس يقولها مخاطباً الجمع الغائب الذي هو الكنيسة: ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا» (مت23:1) وأضاف هنا ق. متى شرحاً وتعريفاً لمعنى عمانوئيل التي هي أصلا إيل – عمانو (معنا) حيث . إيل ” هو الله ” كما دعاه المسيح على الصليب: «إيلي إيلي … أي إلهي إلهي …» (مت 46:27) وهكذا تأخذ كلمة “عمانوئيل عند ق. متى بإلهام الروح القدس وضع الله ” عن تحقيق، وعليه يصبح “يسوع” المولود صاحب اللقب اللاهوتي الله المتجسد !! فهذا هو نفس الذي رآه بولس الرسول: وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد (1تي 16:3). وكما عرفها ق. يوحنا: «في البدء كان الكلمة وكان الكلمة الله … والكلمة صار جسداً . » (يو 1:1و14)

ولكن هنا تحقيق آخر غاية في الخطورة والأهمية بآن واحد، وهو هل يؤخذ معنى القول “عمانوئيل الله معنا” ليعني أن الله حل في المسيح وهكذا صار الله معنا بالمسيح – وهذا فيه خطورة لاهوتية؟ أم أن المعنى يلتزم بالنص أن الله تجسد وصار معنا وهو نفسه شخص المسيح، وهذا يؤدي في الحال إلى أن الله هو المسيح” أو أن “المسيح هو الله معنا”.

وطبعاً يكون المفهوم الثاني لعمانوئيل الله معنا هو الأصح وذلك من واقع النص، ولو أن هناك تعبيرات لاهوتية توضح أن الله كان في المسيح أيضاً مثل:

+ “أي أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم.” (2 کو 19:5)
+ “ألست تؤمن أني أنا في الآب والاب في الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي
لكن الأب الحال في هو يعمل الأعمال صدقوني أني في الآب والاب في.” (يو 14: 10و11)

وقصد المسيح هنا هو وحدة الذات والأعمال بين الآب والابن. وهذا يزيد من قوة وامتداد لاهوت الابن. وهنا يتصحح الوضع بأن الحلول متبادل الأب في الابن والابن في الآب ليعبر تعبيراً قوياً عن “الوحدة الكاملة المطلقة “

سر الثالوث كان أول استعلانه من كلمة عمانوئيل:

كون الكنيسة تدخل بعد خبر ميلاد المسيح مباشرة في مفهوم أن الله معنا، صار هذا يعني أن المسيح هو الله. ولكن في التوراة قد ترسخ في ذهن البشرية أن الله الواحد الأحد هو الساكن العلا في نور لا يدنى منه، وها هو الله معنا هنا على الأرض لما تجسد من الروح القدس والعذراء القديسة مريم)؛ وهكذا بدأت الكنيسة تحس وتعي عمليا الأوجه الذاتية الثلاثة لله الواحد في اللاهوت، حيث الله ذات واحدة في أوجه أو أقانيم ذاتية ثلاثة.

ولكن الله المتجسد المعبر عنه بعمانوئيل الله معنا المحسوب أنه الأقنوم الذاتي الله المتجسد ثبت باعتراف الله في أثناء العماد في الأردن أنه ابنه الوحيد المحبوب، كما اعترف المسيح في الإنجيل كله أنه ابن الله وأن الله أبوه إذن، تحددت الأقانيم الذاتية أو الأوجه الذاتية الله بالآب والابن والروح القدس. حيث الوجه أو الأقنوم الذاتي المتجسد الله الذي هو الابن الوحيد المحبوب أصبح بالتجسد الله معنا، أما الآب وهو الوجه أو الأقنوم الذاتي الله الساكن في الأعالي و الذي لم يره أحد قط فهو الله العلي الساكن في نور لا يُدنى منه. أما الروح القدس فهو الوجه الذاتي الله الكائن في الآب وفي الابن، فهو روح الله، وهو الذي أرسله الآب بتوسط الابن ليمكث معنا ويكون فينا (يو 17:14) فالآب علينا “أبانا الذي في السموات والابن معنا «عمانوئيل» والروح القدس فينا أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم .» (غل 6:4)

ابن الله وابن الإنسان

لو جمعنا كل ما تحصل لدينا من قول الملاك وقول النبوة عند ق. متى عن “يسوع” وهو “عمانوئيل الله معنا”، وعند ق. لوقا: «القدوس المولود منك يُدعى ابن الله لو (35:1) ، يصبح عندنا في الحال تحقيق لاهوتي واضح وأكيد أن عمانوئيل نفسه الله المتجسد هو ابن الله.

على أن الأقنوم الذاتي المتجسد الله ، لما أخذ جسداً بشرياً بالروح القدس ومن مريم العذراء القديسة لم يكن ممكناً أن يُحسب ابناً لإنسان معين، بل استعلن أنه وهو الابن الوحيد المحبوب للآب صار ابنا للإنسان، بمعنى أنه يجمع البشرية كلها في شخصه دون الخطية، فكما هو حاصل على طبيعة الله بالمعنى المطلق هو حاصل أيضاً على طبيعة الإنسان بالمعنى المطلق والمقدس. والمعروف أن المسيح أعطى لنفسه هذا الاسم: ابن الإنسان ليخفي وراءه حقيقة ومجد بنوته الله حينما يتكلم عن نفسه. وقد أكد المسيح أن كل ما لله الآب هو له، وكما تأكدنا نحن أيضاً أن كل ما للإنسان كان له أيضاً ما عدا الخطية وحدها، لذلك قلنا إن ابن الله صار ابن بشر دون أن يفقد ما الله جملة وتفصيلا، الذي عبرت عنه الكنيسة القبطية أنه صاحب الطبيعة التي تحمل اللاهوت والناسوت معاً بلا اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير. كما أنه لا يُفضل أن يقال إنه إنسان كامل وإله كامل، ولكن الأصح هو أن يُقال: إنه يحمل البشرية بكاملها، فله كل ما للبشر ما عدا الخطية وحدها، واللاهوتية بكمالها، بنوة دون أبوة، في شخص واحد يعبر عن الله والإنسان معاً، تعبيراً كاملاً كليا مطلقاً لا يماثله في ذلك أحد. فهو وحده الذي ينفرد بالقول: “أنا الله” وبآن واحد “أنا الإنسان”.

أزلية الابن المتجسد:

وهنا يأتي السؤال الأخير وهو خطير : هل يسوع ابن الله المتجسد بدأ كيانه ووجوده عندما حبل به في البطن من الروح القدس وولد ؟ هنا الجواب سريعاً حاشا!

هنا انبرت الكنيسة المؤيدة بالروح القدس في آبائها وعلمائها القديسين تردّ منذ بدايتها أنه “مولود غير مخلوق”، «لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبه بابن الله (عب 3:7 ) ، أي كان كائنا قبل أن يولد: “في البدء كان الكلمة” (يو 1:1). وفي الحقيقة بعد أن أكمل ق. متى إنجيله ودفعه إلى خزانة الكنيسة ابتدأ الروح القدس يعمل بقوة بواسطة الرسل ليوفي هذه الحقيقة رسوخها في القلب والفكر، وعلى سبيل المثال يقول بولس الرسول:

+ “فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد.” (رو 3:8)
+ “ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس.” (غل 4:4)

وفي ملء الزمان استعلن لنا متجسّداً .

+ “الذي أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته، الذي لنا فيه الفداء، بِدَمِهِ غفران الخطايا الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كلّ خليقة. فإنه فيه خلق الكل: ما في السموات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به (بالابن) وله (للابن قد خلق الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل.” (كو 1: 13-17)

+ «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم.» (أف 1: 3و4)

كما أمد الروح القدس .ق. يوحنا بالمثل لينطق بالروح بحكمة بالغة القدر عن من هو المسيح وكيف تجسد هكذا .

+”في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله…. والكلمة صار جسداً وحل بيننا، ورأينا مجده، مجدا كما لوحيد من الآب، مملوءا نعمة وحقا.” (يو 1: 1و2و14)
+ “الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر” (يو 18:1)

تقديم العبادة اللائقة بالله للمسيح:

لقد وعت الكنيسة لاهوت المسيح وعياً عميقاً تأصل في كيانها الفكري والقلبي والحياتي فأصبحت كل صلاة وكل خدمة وكل عبادة تفتتح باسم الآب والابن والروح القدس، وبعدها تقدم العبادة والصلوات الله الواحد، وصورة المسيح باعتباره الله المتجسد تملأ الذهن والوعي والوجدان بيقين وإيمان أنه هو الذي يمثلنا لدى الآب والروح القدس.

+ “أنا هو الباب إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى.” (يو 9:10)
+ أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف.» (يو (11:10)
+ «خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها
أحد من يدي. » (يو 10: 27 و28)
+ «ليس أحد يأتي إلى الأب إلا بي .» (يو 6:14)

24:1 و 25 «فلما استيقظ يُوسُفُ مِنَ النَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاكُ الرَّبِّ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ. وَلَمْ يَعْرِفهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابنها البكر. وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ».

الذي يشرح معنى “أخذ امرأته” قول الملاك في السابق: “لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك” فهنا يوسف كما تقول الآية فعل كما أمره الملاك. أما قول ق. متى أن يوسف لم يعرف امرأته حتى ولدت ابنها البكر فهذا بحد ذاته إحساس منه أنه أخذ العذراء في بيته بأمر الملاك لكي يرعاها حتى تلد مخلصاً لشعب إسرائيل، فهذا ليس بعد مسألة زواج ومتعة وجنس، فأمامه عذراء قديسة حبل فيها من الروح القدس لتلد قدوساً مخلصاً لشعبه، كيف يتخذها زوجة؟ وقد صارت مخصصة للروح القدس والله الآب.

 

ويؤكد ذلك العالم أولزهاوزن

[إنه أمر واضح أن يوسف بعد هذه الاختبارات يكون عنده السبب الكافي ليؤمن أن زواجه من العذراء وهو ليس زوجاً) إنما يُقصد به غرض آخر غير خلفة الأولاد.] 

أما نحن فنطرح على الكنيسة كلها هذه الحقيقة وهي أن الحقيقة المطروحة أمامنا فوق دوام بتولية العذراء القديسة مريم هي دوام حلول الروح القدس ودوام قوة العلي التي ظللتها، فهذه المنح والمواهب والقدرات لم تمنح لأم حتى تلد ثم تنزع منها، بل منحت لأم لتلد وترعى مولودها القدوس ابن الله ولها من القدرة الإلهية الفائقة ما يمكن أن تمنحه لابنها، سواء في الرضاعة أو الطفولة العاجزة أو حتى الصبوة وربما الشباب، بل ربما حتى الصليب. وليس لأن كل أدوار وأعمال العذراء في تربية ابنها قد أسقطت من رواية الإنجيل فيجعلنا هذا أن ننكر هذه الأدوار والأعمال. فكما أن المسيح ظل ابنها الوحيد حتى إلى الصليب، ظلت هي بالتالي أمه. فلما سلمها للقديس يوحنا قائلاً: «هوذا أمك» (يو 27:19) كانت إشارة بليغة أن رعاية المسيح لأمه انتقلت إلى أأمن تلميذ يحبه. ثم قوله لأمه: يا امرأة هوذا ابنك» (يو 26:19) معناها في غاية البلاغة أن كل المحبة وكل العاطفة وكل العلاقات التي تربط الأم بولدها انتقلت إلى يوحنا فلا تحرم من مشاعرها ومواهبها كأم قديسة، إذ تظل تحتمي بيوحنا لصيانة مشاعرها كأم، لذلك نرى أن دوام بتولية العذراء مربوط ربطاً قوياً بإحكام مع دوام علاقتها السرية بالمسيح، فهو لم يكن ابنا وحسب بل “يا ابني  وإلهي!” ولم تكن مجرد أم لأولاد، حاشا بل أما لابن الله وكفى!!

وسؤال أخير: إن كان ق. يوحنا بسبب حبه للمسيح وحب المسيح له لم يكسر بتوليته بل كرس بتوليته

لحب المسيح والإنجيل، فهل العذراء القديسة مريم التي كرست بتوليتها على يد ملائكة وروح الله القدوس تكسر بتوليتها لتلد بنين وبنات؟؟

ويقيناً فإن أي محاولة للانحراف بدوام بتولية العذراء ينهي على مفهوم ولادة المسيح الفائقة للطبيعة ورسالته الفدائية وعمل الخلاص الذي عمل فقصة المسيح منذ بدايتها حتى نهايتها تقوم على قداسته المطلقة وعلى قداسة كل من اشترك في عمل المسيح: طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما . » (لو 27:11)

 

ملخص الأصحاح الأول:

الآن نستطيع أن نلقي نظرة شاملة على الأصحاح الأول حيث تتراءى لنا خطة ق. متى في تنسيق الأصحاح الأول منذ بدايته، سواء بجدول الأنساب أو بشرح ماذا تمّ في ميلاد يسوع المسيح. فالتركيز واضح على إثبات أن يسوع هو : “المسيا وريث مملكة أبينا داود سواء على مستوى الوعد الحر من قبل الله أو بإثبات الأنسال، أو بتدخل السماء بالأحلام والملائكة. فالتركيز يشتد جداً لمحاصرة القارئ بالنبوات حتى يكاد الإنسان يرفع يديه ويقول آمنت أن هذا حق وخاصة في قداسة العذراء والمولود منها بالروح القدس. وإن تدخل الله السابق في الإعداد للحوادث يكاد يسلب العقل، سواء على مستوى الطبيعة أو بتدخل الله الذي يخترق الطبيعة. فتسخير الزمن من عدة نواح ليلتقي في بؤرة واحدة من جهة تسلسل الأنساب والأشخاص، ومن جهة العد التنازلي لورثة مملكة داود، وتسخير الأشخاص حاملي السر المقدس وتدبير حركتهم من فوق وتحديد الأسماء ذات المعاني التي تحمل ضمناً حياة الأشخاص، كل هذا يتراءى بالنهاية كنسيج من عدة مئات من الخيوط ترسم الواقع لينطق بحكمة الله وسبق تدبيره الأزلي، حتى يكاد الإنسان يقرأ حركات الله على حركات التاريخ.

وبالنهاية نحن نسلّم أن ليس للقديس متى أي تخطيط شخصي كما يتراءى للعلماء والمفسرين المجتهدين بل هو سبق تخطيط الله أحسه .ق. متى وسار في تياره حتى وقعه بهذه الكلمات وهو أكثر اندهاشا منا. وإن بدت بعض المنحنيات غير مفهومة وربما غير مصدقة فهذا راجع لجهل الإنسان، الكاتب والقارئ معاً. كما أنه إن بدت بعض الحقائق شديدة الوقع على عقل الإنسان ووجدانه، فهو بسبب استعلان الفائق” داخل الزمن. فاللازمني صار زمنياً.

وأخيراً هذه هي أطراف الخيوط الأولى في قصة خلاصنا العجيب !! التي يتلاحم فيها الخلود مع الزمن والإلهي مع البشري، والقوة منتهى القوة مع منتهى الضعف لتحتوي كل الإنسان وما للإنسان وما في الإنسان، فكان التجسد !

ولكن كان للروح القدس في قصة الميلاد والإعداد لها منذ الأزل وفي صدور الأنبياء وحركات التاريخ والطبيعة الدور الأكثر سرية. فلو تأملت معي يا قارئي العزيز وجدت أن الروح القدس كان هو العامل الأول والأساسي في تجسد ابن الله من وضعه الفائق للزمن والمادة إلى وضعه تحت الزمن وثقل المادة. ثم وفي نهاية قصة الفداء والخلاص وبعد أن أكمل ابن الله موجبات الفداء والخلاص من تحمل خطايا وآلام وموت، نجد الروح القدس نفسه يضطلع بدوره التكميلي في رفع المسيح المتجسد من الموت ومن تحت الزمان والمكان وثقل المادة وجاذبيتها ليرتفع من القبر ومن بين الأموات، ويصعد إلى أعلى السموات ويجلس بجسده غير المنظور ولا محسوس عن يمين عرش الله ويستعيد المجد الذي له والذي أخلى نفسه منه بإرادته حتى يتراءى ويعيش بالجسد. فبحسب قانون الإيمان الرسولي الذي تبته مجمع نيقية في الكنيسة نقرأ ونحفظ: نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد … الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء وتأنس (صار إنسانا) وطلب من أجلنا … وتألم وقبر وقام – وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم رو (11:8)-… في اليوم الثالث …وصعد إلى السموات وجلس عن يمين أبيه … إلخ .

وبهذا يكون الروح القدس في إيماننا اللاهوتي الكنسي هو العامل الأول في تجسد المسيح كبشر منظور وملموس: «الله ظهر في الجسد» (1 تي 16:3)، «لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس» (مت 20:1)، وهو نفسه العامل الأول في إقامة المسيح من الأموات كرب غير منظور ولا ملموس رفع في المجد» (1 تي 16:3). لذلك يقطع بولس الرسول بالقول: «ليس أحد يقدر أن يقول يسوع “رب – (أي الله) – إلا بالروح القدس (1كو 3:12) حيث يصبح الإنسان قادراً بالروح القدس أن يعيش في روح التجسد وروح القيامة معاً ليدرك قوة ومعنى الخلاص لأن الروح القدس هو الوحيد الذي يمنحنا حضور المسيح فينا

+ “ومتى جاء المعزّي (الروح القدس – الباراكليت الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق، الذي من عند الأب ينبثق ، فهو يشهد لي أنا المسيح).” (يو 26:15)

+ “في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم في، وأنا فيكم .” (يو 20:14) 
+ ذاك يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويُخبركم . (يو 14:16)

وهو نفس الخبر اليقين الذي أبلغه المسيح نفسه لتلاميذه:
+ لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كل
اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض.» (أع 8:1)

زر الذهاب إلى الأعلى