تفسير سفر ميخا ٥ للقمص تادرس يعقوب


 
اَلأَصْحَاحُ الْخَامِسُ
من مثلك راعٍ إلهي!

في الأصحاح الرابع يعلن عن قيام مملكة روحية مجيدة، الكنيسة الجامعة من كل الشعوب، الجنة الروحية الفريدة، جيش الله الروحي الذي لن تهزمه قوات الظلمة. ولكن كيف تقوم هذه الكنيسة؟ بالمخلص الذي يتسلط على إسرائيل الروحي الجديد، مولود بيت لحم، الراعي الإلهي الذي يتمجد إلى أقاصي الأرض.

بدأ ميخا النبي سفره بالنبوات عن سبي السامرة وأورشليم، ومدى ما يحل بالمملكتين من خراب بسبب الإصرار على الشر، ثم عاد فأبرز مملكة جديدة هي كنيسة العهد الجديد. وتحدث عن شر القادة وفسادهم، فصاروا علة مرارة للمملكتين، والآن عوض القادة الأشرار يتنبأ عن القائد الفريد، المسيا الملك والراعي الصالح.

 

 

1. ملك منهار 1:

اَلآنَ تَتَجَيَّشِينَ يَا بِنْتَ الْجُيُوشِ!

قَدْ أَقَامَ عَلَيْنَا مِتْرَسَةً.

يَضْرِبُونَ قَاضِيَ إِسْرَائِيلَ بِقَضِيبٍ عَلَى خَدِّهِ. [1]

تُوجه الدعوة إلى أعداء صهيون الذين كانت لهم جيوش تود الانتصار على إسرائيل ويهوذا، فتحاصر مدنها كله بسماحٍ إلهي لتأديب شعبه.

يتحول ميخا النبي إلى ما سيحل بإسرائيل حيث يسبيها أشور، أما يهوذا فتصمد أمام حصار أشور المتكرر، حتى يتم سبيها على مراحل ينتهي بواسطة بابل في أيام الملك صدقيا ويتحقق خرابها التام على يد تيطس عام 70م.

انشغل الملك والنبلاء والقادة الدينيون بالغنى والسلطة، وظنوا أنهم في أمان داخل أسوار أورشليم الحصينة، ولم يدركوا أنها ستُحاصر وتُدمر، ويعجز قاضيها أو ملكها (صدقيا) عن حمايتها. كان صدقيا – آخر ملك من نسل داود – يجلس على كرسي أورشليم حين استولى نبوخذ نصر عليها (2 مل 25: 1).

v   هكذا يقول أن السامرة ستُحاط وتُحاصر بشعوب معادية. ليس فقط يَضربون خدَّها برؤوسهم، الأمر الذي يمكن احتماله، وإنَّما سيسحقونها بالعصيَ، الأمر الذي يحمل قسوة خاصة. هذا يعني محنة السبي المهينة البائسة، فإنَّه دون جدالٍ أن ضربْ الخد فيه إهانة خاصة. لاحظوا أنَّهم يضربونها أيضًا بالعصيّ، فيسبِّبون متاعب عنيفة مع إهانة. لقد أُهينت السامرة حيث حكمها سبط أفرام. كانت في عارٍ وتحت الآلام. على أي الأحوال ستتوقَّف الأيدي الضاربة، فلا نذوق بؤسًا إن كنَّا نبذل ما في وسعنا أن ننزع غضب الرب عن الكل بسبب العصيان، وارتكاب الخطايا بتلهُّفٍ، الأمر الذي يبغضه الرب. إن كنَّا نكرِّمه بالحياة الفاضلة عوض هذا، فإنَّنا نتمتع بالرخاء ونحيا حياة مفرحة جديرة بالإطراء[79].

القدِّيس كيرلس الكبير

يرى البعض أن ميخا النبي يوجه حديثه هنا إلى جيش تيطس الروماني الذي حاصر أورشليم، لأنها ضربت قاضيها رب المجد يسوع على خده، وأهانته، قائلة: “تنبأ من ضربك؟”

2. ميلاد الملك الأزلي 2-3:

أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ،

وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا،

فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِيّ الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ،

وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ. [2]

إذ يعجز الملك عن حماية أورشليم فلا يقدر أن يخلصها، يقوم ملك عجيب في قرية صغيرة يُظن أنها غير مُعتبرة بين ألوف قرى يهوذا، ملك أزلي يدخل التاريخ البشري، قادر أن يخلص إلى التمام، الأول يموت ويزول في عارٍ وخزي، والثاني يملك إلى الأبد في السماويات، ملكوته لا يزول.

تعبير “مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل” ينفرد به السيد المسيح وحده، بكونه المولود أزليًا كابن الله الوحيد الجنس. لهذا يقول: “قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” (يو 8: 58). ويقول المرتل: “منذ الأزل إلى الأبد أنت الله” (مز 90: 2).

ربما يتساءل البعض: كيف يقول: “يكون متسلطًا على إسرائيل” بينما حكمت عليه إسرائيل بالصلب، ولم يقم نفسه ملكًا على إسرائيل؟ لقد قال: “مملكتي ليست من هذا العالم” (يو 18: 36)، فقد ملك على إسرائيل الجديد، الكنيسة المقدسة، بكونه “رأسًا فوق كل شيء للكنيسة” (أف 1: 22). لقد أبرز سلطانه على الطبيعة، وعلى الموت والأمراض، فهل كان يعجز عن أن يملك على إسرائيل؟ لقد أرادوا أن يقيموه ملكًا، فاجتاز من وسطهم ولم ينظروه!

إن كان كلاً من إسرائيل ويهوذا يسقطان في السبي، إلا أن الإصلاح الحقيقي يتم على يد مولود بيت لحم أفراثه، ربنا يسوع المسيح. إنه يولد في هذا الموضع المتواضع، في قرية لسلفه داود العظيم.

حاول البعض أن ينسب هذه النبوة لزربابل، لكن القديس يوحنا الذهبي الفم يوضح أنها لا تنطبق عليه. فمن جهة لم يقل النبي “يسكن في بيت لحم” بل “منك يخرج“، ومن جهة أخرى فإن زربابل مخارجه ليس “منذ القديم منذ أيام الأزل“، إنما تنطبق على يسوع المسيح كلمة الأزلي[80].

في حوار العلامة ترتليان مع اليهود يستند على هذه النبوة التي تحققت حرفيًا في شخص يسوع المسيح، وانه الآن لم يعد أحد من سبط يهوذا من بيت لحم لكي تتحقق النبوة في آخر[81].

v   السلام لبيت لحم، بيت الخبز، الذي فيه وُلد الخبز النازل من السماء (يو 6: 51).

السلام لأفراتة، أرض الإثمار والخصوبة، التي ثمرتها هي الرب نفسه.

تنبأ عنكِ ميخا في القديم: “وأنتِ يا بيت لحم لستِ الصغرى بين ألوف يهوذا…” (مت 2: 6). ففيكِ وُلد الرئيس، المولود قبل لوسيفر. هذا الذي مولده من الآب قبل الزمن، ومهد جنس داود استمر فيكِ حتى أنجبت البتول ابنها، والبقية من الشعب الذي آمن بالمسيح عادوا إلى أبناء إسرائيل يكرزون لهم بحرية بكلمات كهذه: “كان يجب أن تُكلموا أنتم أولاً بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية، هوذا نتوجه إلى الأمم” (أع 13: 46)[82].

 القديس جيروم

v   لقد أظهر الحق كما هو مكتوب عن يسوع المسيح “وهو الغني افتقر”، لهذا اختار أمًا فقيرة وُلد منها، ووطناً فقيراً[83].

العلامة أوريجينوس

v   ليس اللاهوت هو الذي آتى من بيت لحم بل الناسوت، لكنه لم يقف عند هذا الحد، بل بالحري انطلق من هناك بلاهوته كما جاء في الكلمات “مخارجه منذ القديم منذ الأزل“[84].

القديس يوحنا ذهبي الفم

v   بتعيين موقع بيت لحم، كان (اليهود) مثل الذين بنوا فلك نوح، يمدُّون الآخرين بوسائل الهروب، أمَّا هم أنفسهم فهلكوا في الفيضان. ومثل المعالم التي تُظهر الطريق، لكنَّها عاجزة عن السير فيه. لقد سُئلوا: أين يولد المسيح؟ أجابوا: “في بيت لحم اليهوديَّة، لأنَّه هكذا مكتوب بالنبي” (مت 2: 5). لقد كرَّروا من الذاكرة ما قد كُتب عن هذا بميخا: “وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منكِ يخرج مدبِّر يرعى شعبي إسرائيل” (مت 2: 6)[85].

القدِّيس أغسطينوس

v   ذاك الذي قبل الأزمنة، هذا الذي كان مع اللَّه من البدء، الذي هو اللَّه الكلمة، أصله منذ البدء، تقبَّل ميلادًا حسب الجسد فيكِ (يا بيت لحم) فجعلكِ مشهورة وبرَّاقة، مع أنَّك لستِ بذات أهميَّة بين ألوف يهوذا[86].

v   يذكرنا الرسول الطوباوي ببركة يهوذا، مشيرًا كيف بلغت كمالها: “فإنه واضح أن ربنا قد طلع من سبط يهوذا” (عب 7: 14). هكذا أيضًا النبي والإنجيلي متى. فالأول تكلم متنبأً والأخير ربط النبوة بقصته. أي شيءٍ غريب هو هذا، إذ يقول إن الأعداء الظاهرين ضد الحق أخبروا بوضوح هيرودس أن المسيح يُولد في بيت لحم، إذ هو مكتوب: “وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منكِ يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل” (مت 2: 5-6). لنضف ما حذفه اليهود بسبب حقدهم فجعلوا الشهادة غير كاملة (إذ لم يذكروا هيرودس تكملة النبوة). لأن النبي بعد قوله: “يخرج ليّ الذي يكون متسلطًا على إسرائيل“، أضاف “ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل” (مي 5: 2) [87].

v   بقوله: “فمنك يخرج مدبرًا يوضح تدبير التجسد، وبإضافته: “ومخارجه منذ القديم من الأزل” يعلن عن لاهوته، وأنه مولود من الآب قبل الدهور[88].

ثيؤدورت أسقف قورش

لِذَلِكَ يُسَلِّمُهُمْ إِلَى حِينَمَا تَكُونُ قَدْ وَلَدَتْ وَالِدَةٌ،

ثُمَّ تَرْجِعُ بَقِيَّةُ إِخْوَتِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. [3]

سلمهم الرب للضيق حتى يترقبون مجيئه مولودًا من العذراء حسبما تنبأ عنه إشعياء النبي المعاصر لميخا النبي، وقد حدد الأخير بلدة ميلاده.

بمجيء الملك المخلص ترجع البقية الباقية المؤمنة لإقامة كنيسة العهد الجديد، إسرائيل الجديد. هذه البقية المقدسة التي تقبل المسيّا المخلص، إنما تسلك بروح الآباء رجال الله القديسين. وهكذا “يرد قلب الأبناء على آبائهم” (مل 4: 6).

يرى البعض أن “البقية” هنا لا تُشير فقط إلى المؤمنين من اليهود بل وأيضًا من الأمم، حيث ينضم الكل إلى رعوية “بني إسرائيل الجديد” وكما يقول الرسول بولس: “فجاء وبشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين، لأن به لنا كلينا قدومًا في روحٍ واحدٍ إلى الآب، فلستم إذًا بعد غرباء ونزلاء، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله” (أف 2: 17-19).

وكما يُجمع اليهود مع الأمم في إيمانٍ واحدٍ، فيصيرون إخوة بعضهم لبعض، “فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة” (عب 2: 11).

v   إنه يميز بين “البعيدين والقريبين” (أف 2: 17). هذا يُشير إلى الأمم واليهود. فإن اليهود بكل وضوح هم قريبون والأمم بعيدون. إلاَّ أن المخلص نفسه أحضر الإنجيل للأمم. يُشير بولس هنا أولاً أن المسيح بمجيئه كرز بحق بالسلام للبعيدين، أي للأمم، كما يظهر من شواهد كثيرة. فإن الذين جاءوا إلى الإيمان من أصل أممي كان لهم استحقاق أعظم أن يدعوا أبناء عن الذين من أصل يهودي. ولكن لا يمكن إنكار نوال الآخرين ذلك، لهذا أضاف “والقريبين”[89].

ماريوس فيكتورينوس

3. راعي قدير 4:

وَيَقِفُ وَيَرْعَى بِقُدْرَةِ الرَّبِّ،

بِعَظَمَةِ اسْمِ الرَّبِّ إِلَهِهِ وَيَثْبُتُونَ.

لأَنَّهُ الآنَ يَتَعَظَّمُ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ. [4]

إنه يقوم بالرعاية بنفسه باسم الله الآب، حيث لهما الإدارة الواحدة، فيتمجد اسم الرب يسوع ويبلغ إلى أقاصي الأرض.

يرى النبي في هذا الملك راعيًا صالحًا يرعى شعبه بقدرة الرب، وقد قيل عن السيد المسيح: “كان يعلم كمن له سلطان وليس كالكتبة” (مت 7: 9).

v   كان سلطان تعليمه عظيم جدًا حتى أمسك بكثيرين منهم ودفع بهم إلى دهشة عظيمة. بسبب بهجتهم بما قاله سألهم يسوع إلاَّ ينصرفوا حتى نهاية حديثه. فإنه ليس فقط بعدما نزل من الجبل لم يتركه السامعون، بل تبعته كل الجماعة بسبب عظمة الحب الذي أظهره في حديثه. أغلبهم دهشوا بسبب سلطانه. فإنه إذ تحدث عن تلك الأمور لم يشر إلى آخر كما فعل موسى النبي، وإنما في كل موضع أظهر أنه هو صاحب السلطان ليعطي القرار. وعندما وضع الشرائع أضاف يسوع: “أما أنا فأقول لكم” (مت 5: 22، 28، 32، 34، 39، 44). وعندما كان يذكرهم عن يوم الدينونة الأخير أظهر أنه هو الذي سيحقق العدالة سواء بالعقوبات أو الكرامات. هذا ما سبب هياجًا في وسطهم[90].

القديس يوحنا ذهبي الفم

قبل صعوده تقدم يسوع وكلَّم تلاميذه، قائلاً: “دُفع إليَّ كل سلطانٍ في السماء وعلى الأرض” (مت 28: 18).

إن كان ملوك مملكتي إسرائيل ويهوذا وأمراءها وجيوشها لم يستطيعوا حمايتها، فإن الراعي الإلهي يضمن سلام مملكته، ويحفظ شعبه، لا من أشور أو بابل، بل من إبليس وكل قوات الظلمة.

إنه الراعي العجيب الذي يُقيم رعاة، ويهبهم ذاته ليعمل فيهم وبهم حتى يتحقق السلام الكامل خلال ذبيحته المقدسة.

4. رعاية فعّالة 5-6:

وَيَكُونُ هَذَا سَلاَماً.

إِذَا دَخَلَ أَشُّورُ فِي أَرْضِنَا،

وَإِذَا دَاسَ فِي قُصُورِنَا نُقِيمُ عَلَيْهِ سَبْعَةَ رُعَاةٍ وَثَمَانِيَةً مِنْ أُمَرَاءِ النَّاسِ [5]

الآيتان 5 و6 عبارة عن قطعة شعرية ذات عشرة أبيات تصور الغزو الآشوري الذي به يُقام عدد من الأمراء الوطنيين في مواجهته، سبعة رعاة وثمانية أمراء، فيرتد الغازي إلى بلاده خائبًا. هؤلاء الأمراء يتحدون معًا ليظهر رئيس واحد يخلص من أشور.

يدعى السيد المسيح “السلام” (أف 2: 14)، حيث يحقق السلام بين الإنسان والآب، كما يهب سلامًا للنفس مع الجسد، وسلامًا بين البشر، كما بين الأمم. يرى القديس هيبوليتس أن أشور هما يشير إلى ضد المسيح[91].

كانت أشور أخطر عدو في ذلك الحين، وهي هنا تُشير إلى إبليس، عدو الخير، المقاوم لكنيسة المسيح، لكن عدو الخير حتمًا سينهزم، وتكون النصرة لكنيسة المسيح.

من هم السبعة رعاة والثمانية أمراء الذين يقيمهم الملك الجديد من الناس؟ يُشير رقم 7 إلى الكمال في هذا العالم، ويُشير رقم 8 إلى الدخول في ما وراء الزمن والعبور إلى الأبدية. وكان خدام المسيح يليق بهم ان يكونوا رعاة كاملين في الرب، وملوكًا سماويين لا يسحبهم مجد العالم وغناه. أما ناموسهم فهو “السلام الإلهي”، إذ يكون الرب نفسه سلامهم. لقد قال السيد المسيح: “سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أنا أعطيكم. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب” (يو 14: 27).

لا يكف عدو الخير عن أن يقتحم بكل وسيلة أرضنا الداخلية، لكي يغتصبها له، فتصير مملكة الظلمة عوض مملكة النور. إنه يود أن يدوس في قصورنا، فينجس قلوبنا التي هي هيكل الله وروح الله ساكن فيها. فالحرب قائمة بين الله وإبليس، وأرض المعركة هي أعماقنا الداخلية، فإن قبلنا رعايته حتمًا نتمتع بغلبته.

لقد صور لنا إشعياء النبي عمل هذا الملك الراعي ورعايته خلال خدامه فقال: “هوذا بالعدل يملك ملك، ورؤساء بالحق يترأسون، ويكون إنسان كمخبأ من الريح” (إش 32: 1-2). وكأن هذا الملك السماوي الذي صار إنسانًا قد فتح لنا جنبه كي نختبئ فيه عندما تهيج رياح وعواصف إبليس علينا! هو حصننا الحصين، وملجأ لنا وسط التجارب.

يرى ثيؤدورت أسقف قورش في تفسيره إشعياء (32: 1) أن هذا النص لا ينطبق على حزقيا أو يوشيا أو زربابل. [يلزم للشخص أن يفهم الملك أنه المسيح سيدنا، والأمراء الرسل القديسين ومن خلفوهم، إذ سيموا لتوجيه الكنائس. أعلن الطوباوي داود عنهم: “عوضًا عن آبائك يكون بنوك تقيمهم أمراء في كل الأرض” (مز 45: 16)].

v   يبدو ليّ أنه يُشير إلى الرسل، الذين صاروا معلمين فيها (في الكنيسة). وبوصف سلطانهم وقوتهم ومجدهم يقول: “تقيمهم أمراء في كل الأرض” (مز 45: 16)… لتتذكروا أن الرسل جالوا في العالم كله، وصاروا أمراء أكثر سيادة من كل الحكام الآخرين، وأكثر سلطانًا من الأباطرة. فالأباطرة لهم سلطانهم وهم أحياء ولكن إذ يموتوا لا يكون لهم بعد، أما الرسل فلهم سلطان وهم أحياء، تزايد بالأكثر عند موتهم. وبينما قوانين الأباطرة لها قوتها داخل حدود بلادهم، فإن أوامر صيادي السمك تمتد إلى كل موضع في العالم. لا يقدر الإمبراطور الروماني أن يصدر قوانين للفارسيين، ولا الفارسيون للرومان، بينما هؤلاء الفلسطينيين شرعوا قوانين للفرس والرومان وأهل تراثيا والسكيثيين والهنود والمغاربة وكل العالم. قوانينهم بقيت بقوتها ليس فقط حينما كانوا أحياء، بل وبعد موتهم، والذين خضعوا لهم فضلوا أن يفقدوا حياتهم عن أن يرتدوا عن هذه القوانين[92].

القديس يوحنا الذهبي الفم

فَيَرْعُونَ أَرْضَ أَشُّورَ بِالسَّيْفِ،

وَأَرْضَ نِمْرُودَ فِي أَبْوَابِهَا،

فَيَنْفُذُ مِنْ أَشُّورَ إِذَا دَخَلَ أَرْضَنَا وَإِذَا دَاسَ تُخُومَنَا. [6]

“أرض نمرود” اسم آخر لأشور، هنا يرمز إلى كل الأمم الشريرة.

يرى الأب فيكتورينوس أسقف بيتو Petau أن نمرود يُشير إلى ضد المسيح، وأن السيد المسيح يرسل سبعة رعاة وهم السبعة رؤساء الملائكة العظماء ليضربوا مملكة ضد المسيح[93].

إن كان العدو قد دخل أرضنا وداس تخومنا، فخلال رعاية السيد المسيح المباشرة، ورعايته خلال رسله تتحول المعركة لصالحنا، فتنهار مملكة إبليس كما بسيف، ونفلت نحن من يده مرددين قول المخلص: “ثقوا أنا قد غلبت العالم”.

5. امتداد مسكوني للرعاية 7:

وَتَكُونُ بَقِيَّةُ يَعْقُوبَ فِي وَسَطِ شُعُوبٍ كَثِيرِينَ،

كَالنَّدَى مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ،

كَالْوَابِلِ عَلَى الْعُشْبِ الَّذِي لاَ يَنْتَظِرُ إِنْسَاناً،

وَلاَ يَصْبِرُ لِبَنِي الْبَشَرِ. [7]

إذ تحدث عن الراعي الصالح الذي اختار تلاميذه ورسله للعمل بهم، وكيف تحولت المعركة إلى نصرة لنا وانهيار لمملكة إبليس، يقدم لنا النبي صورة رائعة للكنيسة وعملها على مستوى مسكوني.

إنها “بقية يعقوب“، القلة القليلة التي قبلت الإيمان بالسيد المسيح، وتمتعت بحلول روحه القدوس عليها يوم الخمسين لتكون الخميرة التي تخمر العجين كله. إنها تنطلق “وسط شعوب كثيرين” تعمل بروح الرب لخلاص الكثيرين من كل الأمم والألسنة والشعوب. تتبعثر وسط العالم لتكون ملحًا له، ونورًا. بهذا تقوم مملكة المسيح الروحية.

إنهم “كالندى من عند الرب“، لا يعملون بفكر بشريٍ متعصبٍ، بل بفكرٍ سماوي نازلٍ كالندى من عند الرب. لقد وُلدوا من فوق، فيقدمون السماويات لعل الجميع يشاركونهم عذوبة الحياة الجديدة السماوية.

إنهم “كالوابل (الأمطار) على العشب، لا ينتظر إنسانًا، ولا يصبر لبني البشر“، أي لا يعتمدون على سند بشري بل على نعمة الله المجانية. يروون الآخرين بمياه الروح، كمطرٍ سماويٍ من عند الرب، لا فضل لإنسان فيه.

إذ يحدثنا عن القطيع الجديد تحت رعاية الراعي الإلهي يعلن عن النصرة الروحية المملوءة عذوبة، فتصير الكنيسة في العالم كالندىٌ من عند الرب وكالوابل الصيفي جمالاً ورقة وإنعاشًا وإشراقًا.

بقية يعقوب هو إسرائيل الروحي، أو جماعة المؤمنين الحقيقيين، يكونون كالندى الإلهي، سرّ بركة ونمو لكثيرين. هذه البركات لا تأتي من عند البشر بل هي “من عند الرب“.

6. رعاية منتصرة 8-15:

وَتَكُونُ بَقِيَّةُ يَعْقُوبَ بَيْنَ الأُمَمِ فِي وَسَطِ شُعُوبٍ كَثِيرِينَ،

كَالأَسَدِ بَيْنَ وُحُوشِ الْوَعْرِ،

كَشِبْلِ الأَسَدِ بَيْنَ قُطْعَانِ الْغَنَمِ الَّذِي إِذَا عَبَرَ،

يَدُوسُ وَيَفْتَرِسُ وَلَيْسَ مَنْ يُنْقِذُ. [8]

في العبارة السابقة صٌَور الكنيسة في رقتها نحو الشعوب لأنها تقدم الشركة الحية مع الله، غير أنها قوية في الروح تحطم حصون الظلمة وتبددها.

شبَّه النبي المؤمنين تارة بالندى الذي يلطف وينعش النبات في جو من الهدوء، كما يشبههم بالأمطار التي تروي الحقول، والآن بالأسود بين وحوش البرية التي يخشاها الكل.

يتسم المؤمن بالحب الخالص الصادر من الأعماق كعطية الروح القدس له، وبالحزم ضد الشر والفساد والخطأ. لهذا يدعو الرسول بولس تلميذه تيموثاوس أن يجاهد كجندي صالح ليسوع المسيح، ويُشير السيد المسيح إلى قوة المؤمنين في الحق، قائلاً: “لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها” (لو 21: 15). ويتحدث الرسول بولس عن مقاومة المؤمنين لإبليس وجنوده: “أسلحة محاربتنا… قادرة بالله على هدم حصون” (2 كو 10: 4-5).

لِتَرْتَفِعْ يَدُكَ عَلَى مُبْغِضِيكَ،

وَيَنْقَرِضْ كُلُّ أَعْدَائِكَ! [9]

تتحقق النصرة لإسرائيل الجديد، فيكون كالأسد، كمحارب قدير يحطم أعداءه الروحيين. هذه المعركة تكمل عندما يضع الله كل الأعداء تحت قدميّ المسيح رأس الكنيسة (1 كو 15: 25-28).

يرى المرتل جموع الشياطين المنهارة أمام كنيسة الله، فيترنم قائلاً: “شعوب تحتك يسقطون” (مز 45: 5).

وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقُولُ الرَّبُّ:

أَنِّي أَقْطَعُ خَيْلَكَ مِنْ وَسَطِكَ،

وَأُبِيدُ مَرْكَبَاتِكَ. [10]

إذ يسكن الرب في القلب ويملك لا نحتاج إلى قوة عسكرية، بل إلى قدرة الله العظيمة. نردد بكل قوة: “إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرًا لأنك أنت معي” (مز 23: 4).

سٌر قوة الكنيسة هو الرب القدير لا الذراع البشري والقدرة البشرية، لذا يقطع الرب الخيل من وسطها ويبيد مركباتها، لكي تتمتع بروح الرب الذي يرفعها من مجد إلى مجد، وتسلك في العالم كمن تصعد في مركبة نارية.

تتمتع الكنيسة – إسرائيل الجديدة – ببركات إلهية كثيرة:

  1. نزعْ أدوات الحرب المادية من خيول ومركبات [10]، حتى لا تعتمد الكنيسة على أمور مادية بل على نعمة الله الفائقة. “أقطع المركبة من أفرايم، والفرس من أورشليم” (زك 9: 10).
  2. يقطع عنها مدن الأرض ليهبها مدنًا سماوية، ويهدم حصونها الزمنية ليكون هو سور نار لها [11].
  3. نزع العبادة الباطلة بكل متعلقاتها من سحر وعيافة [12].
  4. إزالة كل معبود في القلب، ليقيم الرب عرشه فيه ويحتله بالكامل [13].
  5. يسقط عدو الخير وجنوده تحت الغضب الإلهي [15].

وَأَقْطَعُ مُدُنَ أَرْضِكَ،

وَأَهْدِمُ كُلَّ حُصُونِكَ. [11]

ينزع الرب عن كنيسته أرضها، إذ يجعلها سماء ثانية يسكن فيها. ويهدم كل حصونها الزمنية ليكون هو سور نارٍ حولها. وكأن مدنهم تتحول من مدن عسكرية إلى مدن للسكن، ويقوم الرب بحراستها إذ هو “صخرتهم وحصنهم ومنقذهم” (مز 18: 2).

وَأَقْطَعُ السِّحْرَ مِنْ يَدِكَ،

وَلاَ يَكُونُ لَكَ عَائِفُونَ.

وَأَقْطَعُ تَمَاثِيلَكَ الْمَنْحُوتَةَ وَأَنْصَابَكَ مِنْ وَسَطِكَ. [12]

ينزع الرب عنها كل سحرٍ وعيافة (التكهن أو ادعاء التنبوء بأمور مستقبلية بقوة الشيطان)، ويفتح عينها بروحه القدوس فتتعرف على الأسرار الإلهية عوض العمال الشيطانية!

فَلاَ تَسْجُدُ لِعَمَلِ يَدَيْكَ فِي مَا بَعْدُ. [13]

وَأَقْلَعُ سَوَارِيَكَ مِنْ وَسَطِكَ وَأُبِيدُ مُدُنَكَ. [14]

يُزيل الرب السواري، أي الأعمدة الخشبية المنصوبة رمزًا لعشتاروت إلهة الكنعانيين.

وَبِغَضَبٍ وَغَيْظٍ أَنْتَقِمُ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا. [15]

يختم حديثه بالتحذير لمن يرفض الإيمان بالمخلص راعي النفوس، فإنه يسقط تحت الغضب ولا يتمتع بالبركات السماوية.

++++

  من وحي ميخا 5

من ليّ يرعاني سواك!

v   تُرى من يرعى نفسي سواك!

ليس من يحبني، ويبذل ذاته عني غيرك!

رعاية البشر بدونك دمار لنفسي!

رعايتك فريدة وعجيبة!

v   أتيت إليَّ في بيت لحم، فجعلته بيت الخبز السماوي!

من يأكل منك لن يجوع،

ومن يشرب من حبك لن يعطش إلى الأبد!

أتيت إلينا يا قديم الأيام، أيها الأزلي،

لكي تحملني معك إلى أبديتك!

v   وُلدت من عذراء يا خالق المسكونة!

وأقمت مني أنا العبد أخًا صغيرًا،

ووهبتني البنوة لأبيك القدير!

v   اخترت لك تلاميذ ورسلاً،

أقمتهم أمراء ورعاة يحملون روح رعايتك!

أراك متجليًا فيهم،

وأتمتع بعملك العجيب من خلالهم!

وهبتهم سلطانًا على قوات الظلمة.

بك سحقوا إبليس تحت أقدامهم!

v   وهبتهم روحك القدوس ليرعوا شعبك.

فاجتذب نفوسًا من كل الأمم والألسنة والشعوب.

صاروا ندى للعالم، يقدمون كل لطفٍ أبويٍ!

صاروا كالمطر يحول البراري إلى جنة سماوية.

v   قبلوا أن يكونوا حملانًا بين ذئاب،

تفترسهم الذئاب فتصير حملانًا وديعة!

وهبتهم روح القوة لمواجهة الضلال،

فصاروا أسودًا لا ترتعب!

v   برعايتك وهبت شعبك سلامك الفائق!

قطعت خيلهم من وسطهم وأبدت مركباتهم،

إذ صرت لهم سور نارٍ سماوي يحفظهم!

قطعت كل سحر وعيافة،

إذ كشفت لهم أسرار سماواتك!

يا لك من راعٍ إلهيٍ عجيبٍ!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى